من عمر إلى غسان: كنا نداً
التاريخ: 
20/09/2024
المؤلف: 

لطالما ألهمتنا القصائد والأشعار، وتغنينا بالنصوص الثورية التي كان يشدو بها غسان كنفاني ومحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد وغيرهم، إلى أن صارت بعض الجمل والأبيات الشعرية منارة للشعب الفلسطيني الذي يتحدى هذا العدو الكولونيالي الإحلالي الغاشم.

ولعل ما رأيته أمس، عندما هرعت برفقة الجيران لإنقاذ الشبان الذي استهدفتهم مسيّرة إسرائيلية في مخيم الشاطئ، بلوك 1، المحاذي للبيت الذي أنزح فيه، جعلني أدرك فعلاً أنه يجب ألاّ يموت الفلسطيني قبل أن يكون نداً؛ فهؤلاء الشبان الذين قُتلوا وهم في ريعان شبابهم يحلمون بالحياة الكريمة، ويرغبون في وقف هذا العدوان السافر بالتحدي والصمود، ثم خرج السكان لإنقاذهم تحت أعين الطائرات في الأعلى، وَهُم لا يهابون الموت، ثم مع إشراقة الصباح يحضر أبطال آخرون لتنظيف الشوارع وإزالة الركام، كي تعود الشمس إلى سمائنا بلا عثرات أو معيقات، ولتلتحم الأسطورة مع الحقيقة، فيصبح الشارع المدمر أيقونة لشعب لا يستسلم أو ينهزم، ولوحة فنية لجيل ترعرع على أنغام القذائف والصواريخ، كي يرسم لاحقاً النصر الذي ينتظره كل إنسان حر.

ولأن عمر أبو مسامح (23 عاماً) لا يقبل الموت قبل أن يكون نداً، فقد سافر عالياً إلى الله، برفقة هؤلاء النفر الذين يخبئ كل واحد فيهم قصة مليئة بالأحلام والقصائد، بهتت ملامحها خلال هذه الإبادة ثم اختفت مع انطلاقهم في سباق المسافات الطويلة صعوداً نحو السماء، لاجتياز حواجز الخوف والألم والحزن.

ولأن عمر يعني لي فكرة كاملة، بكل تفاصيلها العالقة في ذاكرتي، استيقظت لأشارك في الجنازة باكياً، ثم عدت لأكتب شيئاً مما أحفظه عن هذا الإنسان العظيم، الرجل الذي كان طفلاً مدللاً، تحبه أمه وتخاف عليه من الهواء، لأنه كان يعاني جرّاء نوبات كهرباء تؤدي إلى الصرع، الأمر الذي عرفته بسبب هذه المشكلة.

إذ كنت قد تجهزت للسفر إلى ماليزيا للمشاركة في مؤتمر النهضة من أجل فلسطين، فقررت مساء ذلك اليوم التوجه إلى مخيم الشاطئ، وتحديداً إلى بقالة الحاج أبو بشير، تلك البقالة المعروفة في المخيم، واشتريت منها ما يلزم ثم عدت إلى بيتي، لكنني في أثناء الطريق فوجئت بطفل ممدد على الأرض قريباً من بوابة المسجد الأحمر (الغربي)، فتركت الأكياس وهرعت نحوه، وسألت الأطفال الذين يلعبون معه عن سبب إغمائه، فقالوا إنه يمزح، لكن الخوف استبد بي، فصرخت لأي من الجيران كي يحضر طبيباً، حتى جاء رجل ما زلت أذكر تفاصيل وجهه جيداً، وقال: "لا تقلق، سيفيق بعد قليل." ثم طلب إحضار قنينة ماء من الجيران، ومسح على وجهه، ثم طلب مني ومن الأطفال ألاّ نخبره بما جرى معه، لأن زيادة الكهرباء تجعله يتشنج ويغيب عن الوعي، ثم يستيقظ وكأن شيئاً لم يكن.

وبعد أن أفاق الطفل الجميل، حملت الأغراض ويده بيدي، وتوجهنا إلى بيتهم في بلوك 2 في المخيم، وطلبت منه أن ينادي أباه، فقال: "أبي ميت"، وقد عرفت لاحقاً أن والد عمر توفي بسرطان الدم (لوكيميا) وهو يعيش في كنف أمه، فقررت تحمُّل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية بالتكفل بهذا الطفل؛ علاجه وتعليمه، على نفقتي الخاصة، ثم سافرت إلى ماليزيا في رحلة امتدت لأكثر من شهر، وحين عدت من هناك، حملت معي حقيبة مليئة بالألعاب والهدايا لهذا الطفل، وزرته في بيته، وتعرفت إلى أمه التي كنت أتواصل معها كل فترة لمتابعة حالته الصحية، كما تواصلت مع الطبيب المعروف في مدينة غزة، الدكتور عايش سمور لمتابعة مستجدات وضعه الصحي، حتى شفي بالكامل، وكبر فجأة، وصار شاباً يافعاً، يعودني كل فترة على زيارتي في بيتي في حي النصر، فنتناول الطعام برفقة العائلة، ونلعب تنس الطاولة، ونتحدث في كل شيء عن أحلامه وطموحاته.

وكي لا أنسى، فإن عمر ترك الدراسة لأنه يرغب في امتهان حرفة الكهرباء وتمديد الشبكات، فساعده في ذلك صديقي محمد حمزة صلاح (47 عاماً) الذي فقد ابنه عمر غرقاً في البحر، فقرر أن يستعيض عن عمر الابن بعمر أبو مسامح المتبنى، إذ ساعده قي تعلم تمديد شبكات الكهرباء، لأن الأستاذ محمد صلاح لديه محل متواضع في المخيم لبيع الأدوات الكهربائية، وكان عمر يعمل حارساً أميناً فيه، ويستعين بأستاذه على احتراف تلك المهنة الكريمة. وكنت في بداية كل شهر أذهب إلى محمد لأعطيه مبلغاً متواضعاً يساهم في بناء حياته المهنية لأنه الأقدر على متابعة الطفل مني وأنا البعيد عنه في السكن، لكن القريب من القلب. حتى فوجئت ذات مرة بعمر أبو مسامح يلبس البزة العسكرية، ويمشي مختالاً في المخيم. فرحت وشعرت بسعادة غامرة، وسألته عن ذلك، فأخبرني أنه تم ترشيحه للعمل في جهاز الشرطة بتوصية من المنطقة التي رأت فيه شاباً فعالاً، وصاحب همة كبيرة نعرفها جميعاً.

وقبل الحرب بشهرين، قرر عمر الزواج، فبحثت أمه عن عروس تليق بهذا الشاب الحسن البنية والمظهر، فخطبت له فتاة نزحت مع أهلها في بداية الحرب إلى جنوب قطاع غزة، وبقي قلبها معلقاً بهذا الشاب المناضل، الذي يتوق لأن يبصر القدس، حتى صرت كلما رأيته أمازحه بشأن عدم مشاركتي العائلة في اختيار العروس، فيضحك كثيراً ويقول: "كأنك كنت موجود يا عم أبو أنس." واتفقنا على أنه حالما تنتهي سيتزوج بسرعة، وستكون الحفلة متواضعة لأن الحرب سرقت كل فرحة في قلوب سكان القطاع.

كل هذه الأحلام تبخرت ليلة البارحة، وتحديداً يوم الثلاثاء، 17 أيلول/سبتمبر 2024، إذ انفجر صاروخ مسيّرة إسرائيلية في الغرفة التي يسهر فيها بعض الأصدقاء؛ محمد القوقا الذي استشهد أبوه قبل 6 أشهر خلال نزوحه في دير البلح، وعمه الذي استشهد برفقة عائلته في الشاطئ الشمالي، وخالته وعائلتها أيضاً، ومحمد غبن، الشاب الساخر من الحياة كنكتة سمجة، ورجل طاعن في الحزن من آل أبو ستة. كلهم غابوا عن مشهد الحياة البائس برفقة عمر أبو مسامح.

عندما وقع الانفجار كنت أجلس برفقة زوجتي، نستمع إلى أخبار الأهل في لبنان، وجريمة اغتيال الشبان هناك بواسطة تفجير أجهزة اللاسلكي (البيجر)، ونحلل الشؤون السياسية بعد أن صارت السياسة فاكهة أي مجلس، لأي زوجين أو طفلين أو حتى الباعة في الطرقات. وفجأة ونحن في غمرة الحديث، وقع انفجار هز أرجاء الغرفة، إلى درجة أننا شعرنا معها بأن البيت الذي أنزح فيه هو المستهدَف، فقمت وخرجت على عجل، وكان الشارع مغبراً، والناس تهرول في الاتجاهات الأربعة، تبحث عن مصدر الصراخ، حتى اهتدى أحدهم إلى المصدر وقال: "إنه بيت أبو عاطف القوقا."

فأسرعت لأستطلع الوضع، وأساعد الجيران كالعادة في نقل الجرحى إلى العيادة الخارجية في مستشفى الشفاء، المكان الذي تم افتتاحه حديثاً من أجل الإسعافات العاجلة ثم تحويل المصابين من هناك إلى مستشفى المعمداني.

كانت الأجساد غارقة في دمها، ويعلوها الركام، وهواتف الشبان تشعل كشاف الإنارة كي نبصر الفاجعة بصورة أوضح، فحملنا الشبان ولم أعرف أن هذا عمر، الطفل الذي كبر كأحد أبنائي، إلاّ عندما قال أحدهم إن هذا عمر أبو مسامح، فصرخت لنحمل الجسد وهو في الرمق الأخير، ويشخر وقد جاءت سكرة الموت، فوصلنا المستشفى وقد سكنت الروح إلى الأبد، وصعدت إلى بارئها، تحمل مظلمة عظيمة عن أمة لا تحرك ساكناً ودولة مارقة احتلت الأرض وقتلت كل شيء، حتى الأطفال والنساء، لعل الله وحده من ينتصر لتلك الجراح والآهات. سكنت روح عمر إلى الأبد، بأحلامها الصغيرة المتواضعة، ولحظاتها الجميلة الخاطفة، وقسوة الأيام الكبيرة، ورحلت وأم علي تندب الحظ وتلعن الحرب وتبكي طفلاً صار رجلاً يشبه الأبطال الخارقين، لكنه تبخر فجأة وأصبح ذكرى.

في مقبرة حي الشيخ رضوان، التي أُغلقت منذ سنوات، لكنها ما زالت تستقبل الجثث، تم دفن الشهداء داخل قبور لأجداد وأعمام تحللت أجسادهم وتمت إزالة العظام ووضعها داخل القبر في الزاوية، كما اعتاد الفلسطينيون أن يفعلوا نظراً إلى عدم توفر مقابر في قطاع محاصر لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، لذلك فكل قبر يحتوي على 3 جثث على الأقل.. إنها أجيال متعاقبة تنام في السرير والقبر نفسه.

غابت شمس عمر ومحمد ومن معهما من المناضلين الشباب، لكنهم جميعاً تركوا وراءهم رسالة لنا جميعاً؛ إن الفلسطيني سليل العنقاء، سينبعث من الرماد ليصنع النصر، ولن يستسلم لهذا الاحتلال المجرم، وسيظل نداً طالما الاحتلال جاثم على أرضنا المباركة.

عن المؤلف: 

يسري الغول: روائي فلسطيني يعيش في غزة.

أنقاض المباني المدمرة في بيت لاهيا، 15 مارس/آذار 2025، شمال قطاع غزة/فلسطين المحتلة. (تصوير سعيد جراس /الشرق الأوسط/ عبر Getty Images)
جواد العقاد