العائدون إلى الحياة بعد الموت: كيف عاد هؤلاء إلى الحياة بعد قصف بيوتهم وانتشالهم كأموات؟
التاريخ: 
18/09/2024
المؤلف: 

في مخيم خان يونس جنوبي قطاع غزة، حيث وُلدت وأمضيت سنوات عمري الأولى، لم يتوقف السكان عن حكاية الجدة التي عادت من الموت أكثر من ثلاث مرات، حتى أُطلق عليها اسم "حي موت"، لأنها في كل مرة كانت تُحمل على الأكتاف بعد تكفينها، كانت تستيقظ فجأة وتصرخ مطالبة بأن يعيدوها إلى بيتها، ويحدث ذلك قبل أن تصل إلى المقبرة، وتقريباً قبل أن يغادر بها المشيّعون آخر أعتاب المخيم.

ولشدة حبي لجدتي التي توفيت فجأة ومن دون مرض، إذ عدت من المدرسة لأجدها أصبحت في القبر، ظل هاجس أنها دُفنت حية يراودني، ولولا خوفي من الذهاب إلى المقابر، لكنت ذهبت ونبشت قبرها، وخصوصاً أنه في ذلك الوقت سَرَتْ شائعة قوية عن امرأة دُفنت وهي حامل، وفي المساء، سمع حارس المقبرة صوت بكاء مولود يشق هدوء الليل، فأسرع نحو قبرها ونبشه ليجد المرأة المتوفاة جلست لترضع وليدتها.

وفي الحرب الطاحنة، أو المقتلة إذا ما توخينا الوصف، سمعت بقصص العائدين إلى الحياة، وكانت معظمها لقصص متشابهة؛ فيتعجل المشيّعون في حمل القتلى ودفنهم بسبب كثافة القصف حولهم وكثرة عدد الضحايا، بحيث لا تستوعب المستشفيات أعدادهم كبيرة، ومع نقص الإمكانات الطبية، يسرع ذوو الميت في وضعه في ثلاجة الموت انتظاراً لجمع عدد من القتلى وتشييعهم دفعة واحدة، وأحياناً يتم دفنهم في مقابر جماعية بسبب كثرة الأعداد أيضاً وقلة المساحة المتوفرة، وفي كثير من الأحيان، تتحول ساحات المستشفيات ونواصي الشوارع وكذلك الحدائق العامة إلى مقابر بسبب صعوبة الوصول إلى المقابر الأساسية، إذ دأب الناس في قطاع غزة على تخصيص مقابر لكل قرية مهجرة، فيتم دفن أهلها فيها، ولذلك، فهناك في الشمال الغربي لمدينة خان يونس مقبرة مخصصة، وعلى سبيل المثال، فإن للموتى المنحدرين من قرية حمامة مقبرة، وهي مسقط رأس أبي وجدي، وهي قرية صغيرة كانت تجاور مدينة المجدل المحتلة.

ولهذه الأسباب، فقد جرت حوادث كثيرة أدت إلى التعجُل في تشييع بعض الأشخاص الذين ظن أهلهم أنهم أصبحوا في عداد الأموات، لكن شاءت الأقدار أن يتم إنقاذهم. ومن أولى القصص التي حدثت، في إبان مجزرة "الهوجا" في مخيم جباليا، كما عرف عنها، وقد حدثت في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين أُصيب أحد الأشخاص في صدره، وتم انتشاله من الأنقاض، واعتقد الجميع أنه فارق الحياة، وتم وضعه في الثلاجة مع نحو 300 شهيد، منهم العديد من الأشخاص من عائلته، في انتظار تشييعهم في جنازة جماعية. وبعد أن أمضى نحو ساعتين في ثلاجة الموتى في المستشفى الإندونيسي، تم فتح باب الثلاجة لتشييعهم والتوجه بهم إلى أماكن الصلاة والدفن، وهنا سمع المحيطون به صوته وهو يسعل، وظل يسعل لمدة طويلة، فأسرع أهله نحوه، ونادوا الأطباء الذين حملوه إلى غرفة العناية المكثفة، وقدموا الإسعافات الأولية إليه، واستخرجوا الشظايا من صدره. كُتب هذا الشاب، ابن الـ 33 عاماً، وهو أب لعدة أطفال، بين الأحياء بعد أن كاد يُدفن حياً.

أمّا أحد الأطفال الذين تم إطلاق الرصاص عليهم عن قرب، فبعد أن كان مسجى في غرفة العناية المكثفة في المستشفى المعمداني في غزة، وفي أثناء اقتحام الجنود للمستشفى، ظن المتواجدون أنه لقي حتفه بسبب إصابته البليغة لاحقاً، ثم إطلاق الرصاص عليه عن قرب وبصورة متعمدة، فتم لفه بالكفن الأبيض استعداداً لتشييعه ودفنه، لكنه حين وُضع على الأرض بين عدد كبير من الجثامين، فإذا به يتحرك ويفتح الغطاء عن وجهه معلناً أنه لا يزال على قيد الحياة.

أمّا الشاب الذي تأهب ذووه في مخيم خان يونس لدفنه ووضعه جانباً، وبعد أن اختطفوا جثمانه من ساحة مستشفى ناصر، وأُعلن مقتله، وذهب بعضهم لإحضار أمه من خيمة في مواصي خان يونس لتلقي نظرة الوداع عليه، فقد فتح عينيه بعد أن وصلت أمه وهي تبكي وتنوح، وألقت نفسها فوقه، ليعلن أنه لم يمت، وعاد به المشيعون إلى نقطة طبية لعلاجه في منطقة المواصي، إذ كان من الصعب الرجوع به ثانية إلى مستشفى ناصر. والمفارقة هنا أنه ذهب إلى المستشفى حاملاً صديقه المصاب على كتفه، وهناك أطلق عليه الجنود النار، فسقط في جوار صديقه الذي ظل ينزف من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه حتى فارق الحياة.

وفي منطقة معن شرقي مدينة خان يونس، توافد الناس لتشييع عدد من أفراد الحي، ومنهم طفلة بُترت ساقها، وكانت تنزف بغزارة، واعتقد الجميع أنها فارقت الحياة، إذ لم تكن تظهر عليها أي علامة حيوية، وبسبب تعذُّر الوصول بها إلى المستشفى القريب، أعلن الأهالي باجتهادهم الشخصي وفاتها، وقرر والدها دفنها خوفاً منه على جثمانها من أن تنهشه الكلاب والقطط، وحين تلقى الأهالي أوامر بإخلاء المنطقة ولم يشأ الأب أن يترك جثمان ابنته من دون تكريم بدفنها في أسرع وقت، وحين أعد الأهالي قبراً في باحة واسعة، قرر الأب أن يقبّل طفلته القبلة الأخيرة، ووضع ذراعها في جوارها، وإذا به حين يقترب من وجهها يسمع أنيناً خافتاً، فصاح بكل قوة: "بنتي عايشة......... بنتي ما ماتت."

وبدورها تتحدث إحدى الأمهات الخمسينيات عن قصة مؤثرة؛ حين ظنت أن حماتها، أي جدة أولادها، قُتلت في أثناء قصف بيتهم شرق خان يونس، وظلت على اعتقادها، وتلقت العزاء من الجيران والأقارب حين نزحوا من شرق المدينة إلى غربها، وظلت لنحو 10 أيام وهي تعتقد أنها ماتت، إلى أن وصلت إليهم الأنباء بأنها لا تزال على قيد الحياة، إذ عثر عليها أحد اللصوص عالقة تحت أنقاض بيتهم، وقد مال فوقها أحد الجدران من جهة، وخزانة ملابس ضخمة من جهة أُخرى، وهو ما شكّل حماية لها على شكل خيمة، فلم تُصب إلاّ بحالة إغماء نتيجة الخوف والصدمة وارتجاج المكان، وحين خرج الجميع من تحت الأنقاض، وظلوا ينادون عليها بكنيتها ولم يسمعوا أي استجابة، اعتقدوا أنها ماتت تحت الأنقاض، إلى أن جاء أحد اللصوص، فوجدها تتنفس ببطء، فوضع قنينة ماء على فمها، فشربت منها، وأطلقت زفيراً طويلاً، وطلبت منه أن يحملها، ويأخذ كل ما تملك من مصاغٍ في يدها وحول عنقها، ففعل ذلك، وحملها إلى أن أوصلها إلى طريق مطروق، وتركها هناك حيث أخبرت أحد المارة باسمها واسم عائلتها، وسرعان ما تم الوصول إليها وإعادتها إلى أرملة ابنها التي سعدت بها أيّما سعادة، هي وأحفادها الصغار.

ولأن الموت أصبح في غزة أكثر من الحياة، فقد أصبح المفقودون يُعدون أمواتاً، ومن القصص المؤلمة زواج إحدى النساء بشقيق زوجها، وبعد انقضاء عدتها الشهرية البالغة 4 أشهر و10 أيام، وحين استقر بها الحال مع أهل زوجها في إحدى مخيمات النزوح، فوجئ الأهل بالإفراج عن ابنهم الذي اعتقدوا أنه مات لأنه ظل مفقوداً لأشهر طويلة من دون أي معلومات عنه، لكنه كان معتقَلاً في أحد سجون الاحتلال. وتبقى الكلمة الأخيرة في هذه الحادثة الصادمة لأهل الشرع والقانون.

عن المؤلف: 

سما حسن: كاتبة من غزة.

Photo depicts press vests on the ground in Washington, DC with names of martyred Palestinian journalists from Gaza during rally at the White House Correspondents Dinner in April. Photo: Laura Albast.
أسماء بركات
A Palestinian activist holding a national flag towards a bulldozer damaging a street during an Israeli raid in the centre of Jenin in the occupied West Bank on September 2, 2024. (Photo by RONALDO SCHEMIDT/AFP via Getty Images)
نادين صايغ, شمس هنية