منذ أكثر من عام، والروائي والناقد الياس خوري يقضي حياته بين المستشفى والبيت وكتابته. وخلال هذه المدة، أمضى أوقاتاً في العناية المركزة، لكن لم تنقطع مقالته الأسبوعية التي تُنشر كل ثلاثاء في جريدة "القدس العربي" إلاّ مرات قليلة، كما لم يتوقف عن اهتمامه ومتابعته لعمله في مجلة "الدراسات الفلسطينية". وخلال زيارة له في المستشفى، قابلت عائلته، وعلمت من ابنته عبلة أنها كانت تدخل إليه لتقرأ له، ولم أسألها ما الذي تقرأه له، لكنه يريد أن يقرأ، لكن في وضعه الصحي، فابنته تقرأ، وهو يستمع.
إن هذا الرجل الذي كان يستعد للاحتفال بعيد ميلاده الخامس والسبعين، في 12 حزيران/يونيو السنة الماضية، مرض فجأة، وعانى في مرضه جرّاء ألم كبير، ولعل بعضنا قرأ مقالته "عامٌ من الألم"،[1] الذي قال فيه: "أتخيل أمامي بحراً من الألم، بحراً يهوج بي ويضربني في كل أنحائي وأنا أصرخ." وفيها قال أيضاً: "كان الألم وجعاً لا سابق له، ولم أكن أتخيل وجوده بهذه الوحشية، لكنه كان هناك يتربص بي. كان ذلك ليلة عيد ميلادي، وكانت ابنتي قد أعدت عدة العيد، وفجأة تحول العيد إلى عكسه، وصار عرس الألم هو البديل." وختم مقالته هذه بـ "كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟ غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضاً، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة."
الياس خوري، زميلنا في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بصفته رئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية"، وقد انطلق معها سنة 2010، وهو بذلك لم يكن قد انتقل من مكان إلى آخر، وإنما عبر إلى محطة فلسطينية عربية جديدة، قدم فيها مقولته وموقفه الأدبي والفكري والسياسي، ورعى خلالها شباباً فلسطينياً وعربياً يكتب ويجرب تقديم مقولة في الثقافة والمعرفة وقضايا الحق، وعلى رأسها كانت وظلت فلسطين. وفي سنوات عمله التي امتدت لـ 14 عاماً في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نشر عشرات المقالات والدراسات التي تناول فيها "ذاكرة الحاضر" الفلسطيني، وساهم عبرها في تقديم قراءة جديدة للقضية الفلسطينية. وإنه بما أنتج عبر تلك السنوات، فقد استمر في نهجه الواضح نحو فلسطين، فلم يغير في وجهته الوطنية/النضالية، إنما طورها بحسب بعض المتغيرات. ودائماً، ومهما يكن الحدث، فقد كانت الكتابة الأدبية إحدى الأساليب المسعفة له للإجابة عن أسئلة السياسة، ولعل القراءة في روايته تؤكد ذلك، وأيضاً في دراساته التاريخية والسياسية التي إن لم يحضر فيها الأدب مباشرة، حضر في صيغة النص التي تسهل على أي قارئ تناوله وفهمه والاستنتاج منه، وبالتالي، تكون قد تحققت الغايات الأُخرى من النص، وهي تقديم الفهم العميق للجميع؛ الفهم الوطني والسياسي للحظة السياسية الفلسطينية، ولحظة الشعب المناضل من أجل مستقبله في فلسطين.
هذه فلسطين التي كتبها في أدبه ودراساته الكثيرة، قد شغلته منذ صغره؛ ففي أوائل وعيه تفتّح عليها، وانتمى إلى القضية التي ذاب فيها تماماً، حتى صار أحد الأصوات المعبرة عنها عربياً وعالمياً أو ربما أهمها، في الأدب على الأقل. هذا عدا عن مفهوم النكبة المستمرة الذي نحته، وكتب عنه كثيراً في "الكرمل" و"الدراسات الفلسطينية"، وتكلم عنه في ندوات ومؤتمرات ومحاضرات في العالم العربي والعالم أجمع، حتى بات المصطلح الأكثر تعبيراً عن فلسطين وشعبها؛ الشعب الذي يحبه، كما يقول ويمارس دائماً. هذا المصطلح المعبر الذي لا يقل أهمية عن مصطلح النكبة، الذي وضعه المعلم قسطنطين زريق، صار عنوان آخر كتب الياس خوري، والذي صدر في أواخر السنة الماضية عن دار الآداب اللبنانية.
الياس المولود سنة 1948 في الأشرفية - بيروت، عاش عمره فلسطينياً، كما عاش عمره لبنانياً وعربياً، ومع كتابة روايته الشهيرة "باب الشمس" (دار الآداب، بيروت 1998) صار مواطناً أممياً بهوية عربية فلسطينية. فقد قدمت هذه الرواية فلسطين إلى العالم، بالحدث الذي جرى ويجري في مخيمات الشتات في لبنان، فالنكبة والقضية مستمرتان. وعلى لسان "الدكتور" خليل، حكى ليونس، أو أعاد سرد الحكاية الفلسطينية كلها، ولعل عودة خليل في "رجل يشبهني" (دار الآداب، بيروت 2023) هي العودة لما كان يجب أن يقال فلسطينياً، على صعيد الثورة والسياسة، والتطورات التي بتنا نعيشها في النضال الوطني من أجل الحرية والعدالة في فلسطين والعالم العربي والعالم أجمع. فيونس الذي كان في الكومة، لا يزال فيها، وفلسطين الحاضر التي تستيقظ وتغفو، وتستيقظ وتغفو، تنتظر معجزتها للظهور كـ "عنقاء الرماد من الدمار"، وقد ظهرت، بإرادة الشعب الذي لطالما آمن الياس خوري بحتمية انتصاره. ومن أجله، روى حكاية أُخرى، لم تكن حكاية الماضي الفلسطيني فقط، بل أيضاً حكاية الحاضر، والمشي نحو النصر.
ولما كانت فلسطين حكايته التي يحكيها، فإنه في محاولة مستمرة لإظهار صورة الصراع والنضال، ووضعها في إطارها الحر الذي يجب أن تكون عليه، فقد كتب، هو دون غيره ممن كتبوا عن فلسطين، عن فلسطين والفلسطينيين معاً، وآمن بمقولة الشعب، ولأنه عند مستوى قوله ومقولته، فقد عرى كلاماً عن حب فلسطين لم يترجم حباً للفلسطينيين، فمن منا لا يتذكر الصدمة التي أعلنها يوم قال: "أنا لا أحب فلسطين. أنا أحب الفلسطينيين."[2]
ولأن الياس كذلك، فقد لملم الزوايا التائهة والضائعة والمضيعة في الزمان والمكان العربي، ليس لأنه يرى أكثر من غيره، وإنما لأنه تعلّم انتشال المعنى من الانحدار إلى اللامعنى الذي أصابنا جميعاً، وأصاب العالم أجمع، ذلك الانحدار الذي أجهض الولادات الممكنة للنهوض من جديد، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فبات هناك من يختلف في مقولة النضال من أجل الحق، ويختلف في أحقية الفلسطينيين بأرضهم. والمعنى الذي ينتشله الياس خوري دائماً هو ما يمكن تسميته فلسطين الصافية النقية الخالصة لأهلها من شعبها وممن ينتمون إليها قلباً وقالباً. كما أنه بين قلة قليلة، يعرف كيف يجرد فلسطين عن كل التجاذبات السياسية، وعن الأخذ والرد، والمهاترات والمزايدات، ويعرف كيف يراها كأم حسن ونهيلة ويونس وخليل في "باب الشمس"، فهؤلاء الذين كتبهم من الواقع، ومن خياله، ومن هم مثله لم يدخلوا يوماً في صراعات القوى الفلسطينية ولا مشكلاتها: "لم أدخل في هذه النزاعات لأنّ المشكلة كانت واضحة بالنسبة لي، للفلسطينيين الحق في بلدهم وللاجئين حق في العودة إلى أرضهم. الصراع لا يزال في الأساس مسألة أخلاقية بالنسبة لي. حين يكون هناك ضحيّة أمامك، عليك أن تتماثل مع الضحية، وليس فقط أن تتضامن معها."[3] كان مقاتلاً في سبيل انتصار قضية الشعب الفلسطيني وأديباً، وصار أخاً للفلسطينيين ورفيقاً لهم، وصار فلسطينياً، ومع الوقت، صارت رؤاه الفلسطينية للصراع من محددات الفهم الصحيح له، والبوصلة التي لا يضل اتجاهها، وقد حدث هذا كله، بينما كان الياس خوري اللبناني البيروتي من الأشرفية يتفرج على المشهد العربي كيف ينهار، ويصرخ بقلمه "انتبهوا"، "فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ"، ويقول: "كان للموضوع علاقة بالمحيط الذي أعيش فيه. كبرت في الأشرفيّة، في بيروت الشرقيّة، في بيئة مسيحيّة بحتة. مسيحيّة بمعنى أنّها تأخذ حبّ الآخر والإهتمام بالفقير بغاية الجدّية. حين كنت طالباً في الجامعة اللبنانية في السّتينات، شاركت مع مجموعات مسيحيّة، مع أنّنا بالطّبع كنّا نطلق على نفسنا لقبي ’الماويين‘ و’الجيفاريين‘ وندعم فيتكونج. لكن عام 1966، قامت قوى الأمن اللبنانية بقتل الفدائي الفلسطيني ’جلال كعوش‘ - هناك مقطع في ’الوجوه البيضاء‘ يشير إلى هذا- فقام الطلّاب بمظاهرة. كانت تلك هي المظاهرة الأولى في حياتي. الجيش أطلق علينا النار وقتل العديد من النّاس. لكن، كنت أقول حينها أنّ مشاعر تعاطفي مع الفلسطينيين كانت أساساً أخلاقيّة، وتجريديّة بعض الشّيء.
بعد نكسة 1967، شعرت أنّه علينا أن نقوم بالمزيد. الحرب خلقت موجة من اللاجئين الهاربين من الضفة الغربيّة. معظمهم اتجهوا إلى الأردن، وقامت مجموعة بنصب مخيّم خارج عمّان، في مكان يدعى ’البقعة‘. قام مجموعة منّا، طلاب مسيحيّون من لبنان، بزيارة المخيّم. وقد كانت الأحوال هناك سيّئة بشكلٍ مبكٍ. فبقينا للمساعدة، تحضير وجبات، بناء بيوت، تنظيف."[4]
صرخة الياس خوري الأخلاقية لم تتوقف يوماً، إنما ظل يصرخ كتابةً أمام كل قضايا الشعوب العربية، وبذلك يمكننا أن نفهم كيف نظر إلى لبنانه، لبنان الجماهير الذي انتمى إلى صوتها وقضاياها، وإلى باقي قضايا الأمة العربية. أو بدقة أكثر، فإن مقالات الياس خوري كافة، هي استمراره بسرد الحكاية – حكايتنا - حكايته العربية التي يحكيها منذ روايته الأولى في الرابعة والعشرين، وحتى آخر كلمة كتبها.
ما يكتبه الياس خوري عن بلادنا وعن المقاومة والتطبيع والذاكرة والهوية، أدباً ومقالةً ودراسةً ورؤيةً، جعل منه محارباً لم يعرف الراحة، وأظن أنه لن يستريح، حتى لو استراح الجسد، ولن ينكس الرايات، ولن يعلن الهزيمة، وإن أعلنها الجميع، ولن يعلن النصر، إلاّ إن كان النصر نصراً. وهذا سيحدث ويبقى طالما هناك من يقرأ.
الياس خوري الذي ستحتضنه مدينته بيروت قرر أنه لن يزور فلسطين إلاّ محررة، والطريق إليها أوضحه في إحدى المرات، في مقال أو مقابلة أو ندوة، فلن يضلها أحد، وسنعبر يوماً إلى البلاد، ونعلي اسمه في قرانا، وليس في قرية "باب الشمس" وحدها التي أقامها شباب فلسطيني سنة 2013، ومنحوه فيها صفة المواطن الأول.
نحبك الياس خوري في حضورك وفي هذا الغياب، ونحبك أكثر وأنت باقٍ في ضمير فلسطين، البلد الذي انتميت إليه وإلى شعبه، فهو البطولة لنا ولك، والكتابة سفينتك التي تذهب بها إلى البلاد وتعود منها لتحكي لنا ماذا رأيت، لنتعلم منك تلاوة الحكاية.
[1] الياس خوري، "عام من الألم"، "القدس العربي"، 15/7/2024.
[2] مازن معروف، "الياس خوري: الكاتب الحقيقي يكتب بوصفه قارئاً"، جريدة "الأخبار"، 21/5/2016.
[3] "الياس خوري لـ ’ذا باريس ريفيو‘: حين يحتلون بلدك تقاوم(2/1)"، "رمان"، 6/9/2017.
[4] المصدر نفسه.