الرياضة هي أحد عناصر الثقافة الفلسطينية، وجزء لا يتجزأ منها، وكان لها دائماً دور في إغناء الثقافة وإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى أنها كانت على الدوام وسيلة عظيمة من أجل تربية الأجيال وشحنهم بروح العطاء والعمل الطوعي ونكران الذات والتزام القيم الأخلاقية وحب الوطن. وليس من المبالغ فيه أنه لم يؤدِّ أي نشاط آخر (باستثناء النشاط الكشفي) هذا الدور الذي أداه النشاط الرياضي في تعميق الحس الأخوي بين أبناء فلسطين، وفي تقاربهم، منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن. وما يميز الرياضة الفلسطينية هو شتاتها ومرونتها وتداخلها مع كل أوجه الحياة؛ الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، وغيرها. وقد كان للأوضاع التي مر بها شعبنا انعكاساتها في نمو الحركة الرياضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، برزت الرياضة كقوة ناعمة، وأدت دوراً إيجابياً إلى حد ما في المسار السياسي الفلسطيني.
لمحة تاريخية
من الجدير بالذكر أن الرياضة ليست ظاهرة جديدة في فلسطين بصورة عامة، وفي غزة بصورة خاصة، إنما بدأت بالنشوء منذ عشرينيات القرن الماضي، وهذا أحد الأخبار التي نُشرت في صحيفة "فلسطين" عن إحدى المباريات في أيار/مايو 1927 بين النادي الأرثوذكسي في يافا ونادي الرياضة في غزة، وهو أحد الأندية الرياضية الأولى التي تأسست في فلسطين:
"إن ما حدث في غزة مؤخراً كان من أبرز مظاهر هذه النهضة [الرياضية]، فقد كانت روحهم الوطنية وتقاربهم واضحَين في أثناء المباراة وبعدها."[1]
في سنة 1934، تأسس نادي غزة الرياضي، وبعدها تأسست بعض الأندية في غزة وخان يونس في الأربعينيات. أمّا في الخمسينيات، فقد قامت وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بافتتاح مراكز خدمات في جباليا، ورفح، وخان يونس، والشاطئ، والنصيرات، والبريج، والمغازي، والتي أصبحت أندية لها فرقها الخاصة، وشاركت في البطولات المحلية والعربية، وقامت بدور كبير في تطوير الرياضة في القطاع، وبلغ عدد الأندية الرياضية في القطاع قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نحو 58 نادياً، بفرقها الكروية ذات الدرجة الممتازة والأولى والثانية والثالثة.[2]
وليس من باب المبالغة أن الرياضة في قطاع غزة تميزت من مثيلاتها في مناطق الشتات، ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه بعد النكبة، انتقل مركز ثقل الحركة الرياضية الفلسطينية من مدينة يافا إلى قطاع غزة، التي شهدت تحت الإدارة المصرية تطوراً ملحوظاً في مجالات عديدة، منها الرياضية (التي احتفظت بهويتها الفلسطينية). وفي سنة 1962، أعيد تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني –لجنة كرة القدم في قطاع غزة– وكان مركزه في نادي غزة الرياضي. في تلك الفترة، سعى الناشطون الرياضيون الياس مَنّة، وزكي خيال، وصبحي فرح (الذين كانوا ناشطين في الحركة الرياضية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي)، وغيرهم، إلى تشكيل اتحادات رياضية متعددة لمعظم أنواع الرياضة التي كانت تمارَس في تلك الفترة. أيضاً، جرت محاولات لتشكيل اللجنة الأولمبية الفلسطينية التي أرسلت طلباً للانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية، مرفقة فيه كل متطلبات اللجنة الدولية.[3]
ومن المعروف أنه من أجل الانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية، فإنه يتوجب على الجهة المقدمة للطلب أن يكون لديها على الأقل خمسة اتحادات رياضية منضمة إلى الاتحادات الدولية، ومع الأسف، فإن معظم الاتحادات الدولية رفضت طلب انضمام الاتحادات الفلسطينية، والتي تتضمن اللجنة الأولمبية الفلسطينية، واتحاد كرة القدم الفلسطيني (باستثناء كرة الطاولة وكرة السلة، فقد تم الاعتراف بهما سنة 1964، وألعاب القوى سنة 1965) تحت حجة أنه ليست هناك دولة اسمها فلسطين (بعد استشارة الأمم المتحدة)، وأن الوضع القانوني (Status) لقطاع غزة هو أنه كان يخضع للإدارة المصرية، وليس دولة مستقلة.[4]
وكانت مشاركة فلسطين في دورة الألعاب العربية الأولى سنة 1953 في الإسكندرية، وفي الدورة الثالثة في المغرب سنة 1961، مؤشراً واضحاً على ما وصلت إليه الحركة الرياضية الفلسطينية في تلك الفترة. وكانت أول مشاركة لفلسطين على الصعيد الدولي في سنة 1966 في بنوم بنه في دورة الصداقة، أو كما كانت تسمى بألعاب القوات الجديدة الناشئة (جانيفو GANEFO). وترأّس البعثة القيادي البارز في الحركة الرياضية الفلسطينية زكي خيال، والإداريون زهير الدباغ، والياس منّة من قطاع غزة. وكان يتم تجميع عناصر المنتخب الفلسطيني من الداخل (قطاع غزة) ومن الشتات (مصر، وسورية، ولبنان).[5]
في نهاية السبعينيات، تأسست رابطة الأندية في القطاع، وكان هناك تعاون وثيق مع رابطة الأندية في الضفة الغربية، تمثل في لقاءات كروية بين أندية الجانبين. وبعد توقيع اتفاقات أوسلو، أصبح مركز ثقل الحركة الرياضية في غزة، إذ أصبحت الرياضة الفلسطينية ترتكز على مؤسسات "دولة" تنظم عملها، وتوجه عمل الاتحادات الفرعية، وترعى العلاقات مع الاتحادات الرياضية الدولية. وهكذا استمرت الرياضة الفلسطينية في النمو، على الرغم من العوائق التي كان يضعها الاحتلال، والتي تمثلت في اعتقال الرياضيين، ومنْع سفرهم وعرقلة تنقلهم، إلى أن بدأ الحصار على القطاع الذي فرضته إسرائيل منذ سنة 2007 -بالإضافة إلى حالة الانقسام- وهما الأمران اللذان كانت لهما آثارهما السلبية في مسيرة الحركة الرياضية في القطاع وتطورها.[6]
حرب الإبادة ودمار البنية التحتية للرياضة
لا تقتصر الإبادة الجماعية فقط على القتل والمجازر والتعذيب والتجويع، بل أيضاً تشمل محو التاريخ والهوية، والقضاء على كل هذا الميراث الثقافي الذي يتضمن الرياضة الفلسطينية، والتي بدورها تشكل إرثاً ثقافيا منذ نحو قرن من الزمن. ومن المعلوم والواضح أن الرياضة الفلسطينية كانت، وما زالت، تشكل كابوساً يؤرق مضاجع إسرائيل منذ فترة الأربعينيات من القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر، وذلك لما تحمله من اسم فلسطين وعلم فلسطين وشعب فلسطين، فخصمنا هذا يدرك أهمية الرياضة جيداً، وينظر إليها على أنها نشاط سياسي وفكري أكثر منها ترفيهي، ويدرك ما تحمله في طياتها من إمكانات، وأهمية وطنية وفكرية وأخلاقية وتربوية وصحية وغيرها.
لا تختلف آثار هذا الدمار الذي ألحقه الإرهاب الصهيوني بقطاع غزة عن دمار نكبة 1948؛ فقد شمل الدمار المنشآت، والرياضيين، والمدربين، والقياديين الرياضيين، والصحافيين الرياضيين. وكما هو معروف، فإن الاحتلال كان يستهدف هذه المنشآت والرياضيين في فترة الحصار، مدعياً أن الصواريخ كانت تطلَق من هذه المنشآت. وتشير التقارير إلى تدمير خمسين منشأة رياضية، واستشهاد أكثر من 410 رياضيين. وبحسب بعض الإحصاءات، فقد تم تدمير أكثر من 70% من المنشآت الرياضية في قطاع غزة (90% في المحافظات الجنوبية)، وطبعاً، ناهيك بالشلل الكامل للنشاطات الرياضية.[7]
ومع الأسف، بسبب الأوضاع الصعبة التي يمر بها القطاع، فإنه لا توجد بيانات دقيقة عن حجم الدمار الذي لحق بالمنشآت الرياضية، إلاّ إن هناك بعض التقديرات والبيانات التي تم الحصول عليها من بعض الزملاء العاملين في قطاع الرياضة في غزة (على الرغم من صعوبة الإنترنت ووسائل الاتصال مع العالم الخارجي وندرتها)، ومن المجلس الأعلى للشباب والرياضة، ومن الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، وبعض الوكالات الإخبارية.
الشهداء
منذ بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ارتقى أكثر من 410 شهداء من الحركة الرياضية (الجزء الأكبر منهم من لاعبي كرة القدم) والكشفية. وأشار الاتحاد الفلسطيني في بيانه الأخير، بشأن عدد الشهداء الرياضيين، إلى أن 79 طفلاً رحلوا شهداء من العدد الكلي، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إذ استهدف الاحتلال عدداً منهم في الملاعب أو في مراكز الإيواء،[8] ومن ذلك ما وثّقه أحد المقاطع المصورة التي بثّتها قناة "الجزيرة" في 10 حزيران/يونيو الماضي، عندما قصفت قوات الاحتلال مجموعة من النازحين في أثناء لعبهم كرة القدم في ساحة مدراس العودة في منطقة عبسان الكبيرة.
وكانت عشرات الأندية الغزية قد نعت كوادرها ولاعبيها ومدربيها وصحافييها، هذا بالإضافة إلى التعاطف الرياضي العربي، وخصوصاً نادي الوحدات الأردني الذي نعى الشهيد محمد بركات، لاعب الأهلي الفلسطيني، ناهيك بتكريم خاص للشهيد هاني المصدّر، اللاعب والمدرب المساعد السابق للمنتخب الأولمبي الفلسطيني في شهر حزيران/يونيو الماضي.
وبشأن استشهاد الرياضيين وتعذيبهم، فإن هناك المئات من الأمثلة على وحشية الاحتلال، منها إعدام فريج الحلاق، وهو رياضي مخضرم كان يعاني جرّاء مرض الزهايمر، بدم بارد من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي أمام مستشفى الشفاء، وتركوه ينزف لفترة طويلة. كما استشهدت بطلة الكاراتيه الفلسطينية وعضو المنتخب الوطني الفلسطيني نغم أبو سمرة نتيجة قصف منزلها في مخيم النصيرات بعد إصابتها بشظايا ودخولها في غيبوبة، كما توفي في غزة العدّاء لمسافات طويلة ماجد أبو مراحل، أول فلسطيني يتنافس في الألعاب الأولمبية سنة 1996، نتيجة الحصار الإسرائيلي اللاإنساني، وتدمير النظام الصحي في غزة.
وقبل أن يرتقي شهيداً، قام محمد بركات، النجم السابق للمنتخب الفلسطيني لكرة القدم، ببث وصيته عبر فيديو نشره على منصات التواصل الاجتماعي في الوقت الذي كانت تشهد مدينة خان يونس اشتباكات وغارات كثيفة: "أرجو المسامحة والدعوات، أمي وأبوي والله إنكم حبايبي وغاليين عليّ، استودعكم عند الله..... لعلها تكون آخر كلمات، وآخر ما تشوفونا فيه، نحن في موقف صعب، لكن لا يحدث في ملك الله إلا ما أراد الله." ثم واصل حديثه بتلاوة بعض الآيات القرآنية.[9]
الأندية
تشير التقديرات إلى أن 50 نادياً تم تدميره بالكامل، سواء عبر القصف الجوي أو المدفعي أو بعد الدخول البري لمختلف مناطق قطاع غزة؛ ففي محافظة غزة، أصبحت مقرات 12 نادياً في الأرض ومن دون أي أثر لها، على غرار 7 أندية في شمال القطاع اختفت أماكنها تماماً جرّاء تجريفها. أمّا في المنطقة الوسطى، فقد تعرضت مقرات 5 أندية للقصف الهمجي مباشرة، بينما دمرت آليات الاحتلال 6 مقرات للأندية في خان يونس خلال الاجتياح البري للمحافظة.[10]
وكان نادي غزة الرياضي (عميد الأندية في القطاع، تأسس سنة 1934) قد تم تدمير مقره بالكامل، ومعظم مرافقه التي شملت ملعب كرة القدم والتنس الأرضي والصالة المغطاة المتعددة الأغراض. أيضاً، وجرّاء القصف، فقد تم تدمير مقر نادي فريندز للفروسية، ونادي خدمات جباليا، بالكامل،
كما دفع أيضاً نادي الصداقة الرياضي في مدينة غزة ثمناً باهظاً خلال حرب الإبادة الحالية على الشعب الفلسطيني، إذ دمر الاحتلال ملعبه الأساسي، وصالته الداخلية، ومقره الرئيسي، وقدّم 20 شهيداً جرّاء القصف، بينما فقد نادي اتحاد الشجاعية مقره في قصف إسرائيلي خلّف 15 شهيداً.[11]
الملاعب
ذكر المجلس الأعلى للشباب والرياضة أن أبرز الملاعب التي تم تدميرها في غزة والشمال هي ملعب فلسطين واليرموك وبيت حانون البلدي وبيت لاهيا ونادي غزة الرياضي. كما قصفت طائرات الاحتلال ملعب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في رفح. كما شهدت الرياضة أيضاً تدمير ملعب خان يونس البلدي والمدينة الرياضية، بالإضافة إلى ملعب النصيرات البلدي وملعب البيسبول والسوفتبول في مخيم الشاطئ. وتحول ملعب رفح البلدي إلى مستشفى ميداني، وأصبح مقر نادي خدمات رفح مركزاً لتوزيع المساعدات على النازحين.[12]
وتشير الصحافية الرياضية نيلي المصري إلى أنه فجأة "تحول ملعب الشهيد محمد الدرة وسط قطاع غزة، الذي كان شاهداً على تسجيل أهداف نجوم كرة القدم واحتفالاتهم وسط صخب الجماهير المؤازرة والمشجعة من دون سابق إنذار إلى مأوى للنازحين بعد الحرب التي ما زال يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فصمتت المدرجات وحناجر المشجعين اختفت، وأُسدل الستار عن مظاهر الحياة الكروية والانتصارات، وعلت أوجاع النازحين وأنينهم، الذين أُجبروا على ترك منازلهم، ولجأوا إلى هذا الملعب ليواجهوا أقسى أوضاع الحياة."[13]
من المعروف أيضاً أن إسرائيل حولت ملاعب كرة القدم في قطاع غزة إلى سجون ومراكز تعذيب وإعدامات، وهذا ما حدث في ملعب اليرموك في غزة؛ إذ أجبر العشرات من المدنيين على خلع ملابسهم في العراء، كما أن عدداً من الملاعب الترابية في قطاع غزة تحول إلى مقابر جماعية، ومنها أحد الملاعب الملاصقة للمستشفى الإندونيسي شمالي غزة، وذلك نتيجة العدد الكبير من الشهداء الذين ارتقوا في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني. ولم يقتصر هذا الدمار على الأندية والملاعب فقط، بل أيضاً تعداها ليشمل مقرات اللجنة الأولمبية الفلسطينية، والاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، والمجلس الأعلى للشباب والرياضة.
الآثار المدمرة الأُخرى
بحسب إحصاء للمجلس الأعلى للشباب والرياضة، فإن الخسائر المادية للرياضة وصلت إلى نحو 20 مليون دولار (ويمكن أن يصل هذا الرقم حتى نشر هذا التقرير إلى الضعف)، وذلك عقب تدمير الملاعب والمرافق الرياضية المتعددة. كما أسفرت حرب الإبادة هذه عن توقف النشاط الرياضي وشلله بالكامل، وهو ما أسفر عن فقدان أكثر من 6000 لاعب ومدرب وكادر رياضي مصدر رزقهم الوحيد، فمن المعروف أن النشاط الرياضي يساهم في إعالة الآلاف من الأسر الذين أصبحوا بلا مصدر رزق بسبب حرب الإبادة على قطاع غزة، وهذا يعني عدم قدرتهم على توفير متطلبات الحياة في ظل الأزمة الإنسانية الكبيرة التي يعيشها المواطنون جرّاء نقص الغذاء والدواء. كما حرمت الحرب لاعبي ومدربي وكوادر الأندية تمثيلَ فلسطين في البطولات العربية والدولية الأخيرة.[14]
ويشار إلى أن آلاف الرياضيين حالهم كغيرهم؛ نزحوا من مناطق سكنهم بعد تعرض منازلهم للتدمير الكلي في مختلف مناطق قطاع غزة، وهو ما يعكس حالة التشرد وانعدام الأمن في ظل العدوان الهمجي والإبادة الجماعية. ويقول لاعب كرة القدم محمد سلمي، الذي لعب مع النادي الأهلي المصري واتحاد الشجاعية ونادي اتحاد بيت حانون، في حديث له مع الصحافية نيللي المصري: "أُجبرت على النزوح من بيتي في حي الشجاعية في مدينة غزة في ظل الحرب المشتدة، ولم أكن أتخيل أنني سوف أنزح إلى المكان الذي عشت فيه أجمل لحظات حياتي، وهو المكان الذي سجلت فيه الأهداف، واحتفلت فيه مع الجماهير، والآن أصبحت كلما دخلته أشعر بالضيق والمعاناة."[15]
ويضيف سلمي: "حين بدأت الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كانت بطولة الدوري الممتاز لكرة القدم لا تزال في البداية، في الأسبوع السابع، وآخر مبارة كانت ضد فريقي السابق نادي اتحاد الشجاعية، وكانت هذه المباراة بالنسبة إليّ خاصة جداً، وامتزجت فيها مشاعر الحزن بسبب فريقي السابق الذي قضيت معه أجمل أيامي، لأنني سجلت فيها هدفاً، وبعد ذلك تحطمت كل أحلامي وطموحاتي، وتأثرت نفسياً وبدنياً وجسدياً."[16]
وبشأن النزوح للمرة السادسة برفقة عائلته بين مدينة غزة وأماكن في المحافظة الوسطى، يقول سلمي: "استقر الأمر بي في نهاية المطاف في ملعب الدرة وسط القطاع، وكان همي الوحيد في بداية الأمر أن أوفر خيمة لعائلتي، واستطعت توفير واحدة، وبعض الحاجات البسيطة التي تقينا البرد في فصل الشتاء من أجل حماية أطفالي أيضاً."[17]
طرد إسرائيل من الاتحاد الدولي بسبب الإبادة الجماعية
لقد دفعت حرب الإبادة هذه الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم إلى مطالبة الاتحاد الدولي "الفيفا" واللجنة الأولمبية الدولية بضرورة اتخاذ موقف عاجل تجاه هذا الانتهاك، وإخضاع الاحتلال الإسرائيلي للمساءلة القانونية. وقام الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بإرسال مسودة إلى كونجرس "الفيفا" في 17 أيار/مايو في بانكوك، تضمنت تحميل إسرائيل مسؤولية انتهاكات الحقوق الرياضية الفلسطينية، وطردها من الاتحاد الدولي لكرة القدم، وقال جبريل الرجوب، رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، في بيان على موقع الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم: "قدمنا مشروع قرار إلى كونجرس الـ ’فيفا‘ لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للرياضة الفلسطينية، وخصوصاً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023."[18]
غير أن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو رفض الدعوات إلى التصويت الفوري على طرد إسرائيل من الـ "فيفا" قائلاً إنه سيتم إجراء تقييم قانوني بمجرد انعقاد مجلس الـ "فيفا" في أواخر تموز/يوليو لمناقشة الاتهامات. طبعاً، يمكن للمرء أن يتوقع أنه لن يتخذ الاتحاد أي قرار يدين إسرائيل ويقر بطردها في اجتماع مجلس الـ "فيفا" القادم، وهو أمر غير مفاجئ مطلقاً. وكان الاجتماع قد تأجل إلى نهاية شهر تموز/يوليو، ثم إلى ما بعد أولمبياد باريس، ثم إلى 31 آب/أغسطس، ثم إلى تشرين الأول/أكتوبر القادم. وهذا يعني أن الاتحاد قام بإرجاء مراجعة هذا الطلب 4 مرات، وما هذا إلاّ مراوغة من جانبه، ومحاولة للتهرب من اتخاذ قرار عادل لمصلحة الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وتدعي الـ "فيفا" دائماً أنها تأخذ موقفاً محايداً من الصراع في المنطقة، والذي يتضمن حرب الإبادة، فمن البديهي جداً أن تأخذ أي جهة موقفاً محايداً بشأن هذه الحرب، هو بحد ذاته تواطؤ مع إسرائيل وحرب الإبادة التي تشنها على القطاع.
وتتهم الـ "فيفا" وإسرائيل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم باستخدام الرياضة لأغراض سياسية. أولاً، الرياضة والسياسة لا ينفصلان، فهناك علاقة وثيقة ومتداخلة بينهما؛ ففي كثير من الأحيان يظهر النشاط الرياضي كنشاط سياسي، وليس من المبالغ فيه أنه لا يوجد نشاط يستطيع أن يؤجج المشاعر القومية والوطنية كالرياضة. ثانياً، هذا الادعاء مستمد من النفاق فقط، فكلاهما يستخدمان الرياضة في السياسة عندما تخدم مصالحهما، وفي الوقت نفسه، ينتقدان الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عندما يستخدمها بطريقة تضر بمصالحهما.
كان الصهيونيون أول من سخر كل الجهود التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي من أجل استخدام الرياضة لأغراض سياسية ووطنية في المقام الأول، وخلال عشرينيات القرن العشرين، تظاهرت منظمة بيتار شبه العسكرية بأنها منظمة رياضية لإخفاء طبيعتها الحقيقية. وخلال الثورة العربية سنة 1936، حافظت الفرق الرياضية الصهيونية على علاقة وثيقة مع البريطانيين من أجل سحق الثورة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت لدى عدد من المنظمات الرياضية اليهودية علاقات قوية مع المنظمات الإرهابية الصهيونية شبه العسكرية، كالهاجاناه، والبالماخ، والإرجون، وليهي، وغيرها.[19]
الخاتمة
إن السؤالين اللذين يطرحان نفسهيما هنا الآن هما؛ أولاً، هل سيكون من السهل إعادة بناء ما تدمر من البنية الرياضية التحتية؟ ثانياً، هل ستعود الرياضة في قطاع غزة كما كانت عليه من قبل بعد سقوط أكثر من 400 شهيد رياضي وقيادي رياضي، ووقوع تدمير كلّي للبنية التحتية الرياضية؟ طبعاً الإجابة صعبة عن هذين السؤالين. نعم، لن تعود الرياضة كما ما كانت عليه من قبل، لكن التجارب السابقة علّمتنا أنه في ظل الحصار الذي فُرض على القطاع، كان هناك تراجع نسبي في النمو الرياضي بسبب العراقيل. ثانياً، إن ما يتميز به شعبنا الفلسطيني هو مرونتة في العودة إلى الوضع السابق للضربات القاسية. ثالثاً، الرياضة في قطاع غزة لها تاريخ وجذور تمتد إلى عقود عديدة من الزمن، ووهو ما يجعلنا نجزم بأن استعادة شفاء الحركة الرياضية في قطاع غزة ستكون صعبة، لكن لن تكون مستحيلة. رابعاً، سوف يكون للتعاطف الدولي وتعاطف الشعوب العربية مع معاناة شعبنا في القطاع دور كبير في إعادة بناء الحركة الرياضية الفلسطينية وبنيتها التحتية هناك. خامساً، يُعتبر هذا الدمار الذي تلحقه إسرائيل بالرياضة الفلسطينية مصدر إلهام للرياضة الفلسطينية لتظل قادرة على المنافسة في المستقبل.
وتؤكد لنا التجارب السابقة أن الرياضة الفلسطينية تتميز بالقدرة على الصمود والتعافي بسرعة من الصعوبات، وهذا ما رأيناه في قطاع غزة بعد النكبة. أيضاً، وبعد قبول فلسطين في عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم، فقد كان ترتيب فلسطين في الـ "فيفا" سنة 1999 (أي بعد قبولها في الـ "فيفا" بعام واحد - 1998) 191، ليرتفع إلى المرتبة 73 سنة 2018، ويصل في وقتنا الحاضر إلى المرتبة 94. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من حرب الإبادة هذه، فقد نجح منتخب فلسطين الأول لكرة القدم في الوصول إلى الدور الثاني من بطولة كأس آسيا قطر 2023 لأول مرة في تاريخه، والوصول إلى الدور الثالث (الحاسم) من تصفيات كأس العالم لأول مرة في تاريخه أيضاً. هذا بينما شاركت فلسطين في أكبر بعثة رياضية في تاريخها خلال أولمبياد باريس 2024، التي تأهل إليها اللاعب عمر إسماعيل حنتولي، في لعبة التايكواندو، كثاني لاعب فلسطيني يضمن الحضور في الأولمبياد عن طريق التصفيات والنقاط تاريخياً.
[1] ينظر؛ عصام الخالدي. مئة عام على كرة القدم في فلسطين: منذ مطلع القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر. عمان: دار الشروق. 2013.
[2] المصدر السابق.
[3] للمزيد حول تاريخ الحركة الرياضة الفلسطينية، أنظر الرابط الإلكتروني.
[4] المصدر السابق.
[5] ينظر، عصام الخالدي، مصدر سابق.
[6] ينظر، المصدرين السابقين.
[7] عوض الرجوب. "الرياضة الفلسطينية.. 400 شهيد وتدمير 70% من الأندية والملاعب". الجزيرة نت. 3/8/2024.
[8] انظر الرابط الالكتروني.
[9]انظر الرابط الالكتروني.
[10] ينظر توثيق الانتهاكات الإسرائيلية في مجال الرياضةعلى الرابط الالكتروني.
[11] المصدر السابق.
[12] انظر موقع المجلس الأعلى للشباب والرياضة على الرابط الالكتروني.
[13] نيللي المصري. "الملاعب لم تشفع لنجومها". الجزيرة نت. 30/8/2024.
[14] انظر موقع المجلس الأعلى للشباب والرياضةعلى الرابط الإلكتروني.
[15] نيللي المصري. "الملاعب لم تشفع لنجومها". مصدر سابق.
[16] المصدر السابق.
[17] المصدر السابق.
[18] " "الفيفا" يناقش مشروع قرار بشأن انتهاكات إسرائيل بحق الرياضة الفلسطينية". وكالة وفا. 9/5/2024.
[19] ينظر، عصام الخالدي، مصدر سابق.