واقع القطاع الزراعي في الأغوار بعد السابع من أكتوبر 2023
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
عدد الصفحات: 
12

مقدمة

تُعتبر الأغوار الفلسطينية جزءاً لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية وأحد أعمدة الاقتصاد الوطني. فالأغوار، التي تشكل حوالي 28.5% من مساحة الضفة الغربية (مركز الإحصاء الفلسطيني، 2023)، هي السلة الغذائية الرئيسية للفلسطينيين والمساحة الزراعية الأهم التي تُمكّن الفلسطينيين من تحقيق سيادتهم الغذائية. تمتد الأغوار على مساحة تُقدر بـ 720 ألف دونم (مركز الدراسات الإقليمية، 2023)، وتتمتع بتربة خصبة ومناخ ملائم للزراعة على مدار العام، مما جعلها ركيزة أساسية في الصراع الدائر حول السيطرة على الموارد والاستقلال الاقتصادي (وزارة الزراعة الفلسطينية، 2023). وإلى جانب أهميتها الزراعية، تمثل الأغوار حاجزاً جغرافياً استراتيجياً يفصل الضفة الغربية عن الأردن، ما يُضفي على المنطقة بعداً جيوسياسياً مهماً في أي تسوية سياسية مستقبلية (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2023).

 

 

يعتمد القطاع الزراعي في الأغوار على زراعة محاصيل أساسية مثل الخضروات (البندورة، والخيار، والباذنجان، والبطاطا)، بالإضافة إلى المحاصيل الاستراتيجية، كالقمح والشعير، إلى جانب الفواكه، مثل العنب والتمور. وتساهم الأغوار بحوالي 60% من إنتاج الخضروات في الضفة الغربية، و30% من إنتاج الفواكه (وزارة الزراعة الفلسطينية، 2023)، ما يجعلها عنصراً حاسماً في الاقتصاد الفلسطيني. ومع ذلك، فإن المزارعين يواجهون تحديات هائلة في تصريف منتوجاتهم، إذ تفرض سلطات الاحتلال قيوداً صارمة على حركة البضائع عبر الحواجز والمعابر، ما يؤدي إلى تأخير أو إتلاف المنتوجات الزراعية، ويُكبّد المزارعين خسائر سنوية تُقدر بـ 50 مليون دولار (الأونكتاد، 2023). وتؤدي هذه السياسات إلى تقويض قدرة المزارعين الفلسطينيين على المنافسة في السوق، وتضعف فرص تصدير المنتوجات الزراعية إلى الأسواق الإقليمية والدولية.

إلى جانب الزراعة، يشكل قطاع الرعي جزءاً مهماً من اقتصاد الأغوار، إذ يعتمد العديد من السكان المحليين على تربية الماشية في المراعي الطبيعية. ويقدَّر عدد رؤوس الأغنام والماعز في الأغوار بحوالي 40,000 رأس (منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، 2023)، بيد أن السياسات الاستيطانية الإسرائيلية تهدف إلى تهجير الرعاة الفلسطينيين من أراضيهم، إذ يستولي الاحتلال على حوالي 60% من مساحات المراعي لصالح المستوطنات والبؤر الاستيطانية (بتسيلم، 2023). هذه السياسات تُجبر الرعاة على العمل في مساحات ضيقة وغير صالحة للرعي، ما يُهدد مصدر رزقهم ويُعزز الفقر والتهجير القسري بين العائلات الرعوية.

في ظل هذه الظروف القاسية، تؤدي المؤسسات الفلسطينية، مثل اتحاد لجان العمل الزراعي واتحاد الإغاثة الزراعية وغيرها، دوراً محورياً في دعم صمود المزارعين والرعاة. وتعمل هذه المؤسسات على توفير المساعدات اللوجستية والفنية من خلال توزيع المدخلات الزراعية، مثل البذور والأسمدة، وتقديم الدعم الفني لإعادة تأهيل شبكات الري التي دمرتها قوات الاحتلال، كما تسعى إلى توثيق الانتهاكات الإسرائيلية والمساهمة في الدفاع القانوني عن حقوق المزارعين والرعاة. علاوة على ذلك، تدير هذه المؤسسات مشاريع تنموية مستدامة تهدف إلى تعزيز القدرات الإنتاجية ودعم الصمود في مواجهة التحديات المتصاعدة.

قبل عام 1967، كانت الأغوار موطناً لحوالي 320 ألف فلسطيني، إلاّ إن هذا العدد تقلص بشكل كبير بسبب سياسات التهجير القسري المستمرة التي ينفذها الاحتلال. اليوم، لا يتجاوز عدد الفلسطينيين في الأغوار الـ 65 ألفاً موزعين على 27 تجمعاً سكانياً (مركز الإحصاء الفلسطيني، 2023). في المقابل، تضاعف عدد المستوطنين الإسرائيليين ليصل إلى أكثر من 15 ألفاً يعيشون في 37 مستوطنة تسيطر على ما يزيد على 50% من الأراضي الزراعية (بتسيلم، 2023). وتهدف هذه التحولات الديموغرافية إلى تغيير التركيبة السكانية للأغوار وتسهيل السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.

ازدادت التحديات التي تواجه القطاع الزراعي والرعوي في الأغوار منذ السابع من أكتوبر 2023، نتيجة حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وحملات التهجير العرقي المنظمة في الضفة الغربية؛ فقد شهدت الأغوار في هذه الفترة تصاعداً غير مسبوق في الاعتداءات على المزارعين والرعاة، بما في ذلك تدمير المحاصيل، وقطع الأشجار المثمرة، وطرد الرعاة من المراعي. ووفقاً لتقارير حقوقية، تم تهجير أكثر من 30 تجمعاً فلسطينياً بين تشرين الأول/ أكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر 2023، ما أدى إلى نزوح مئات العائلات (مؤسسة الحق، 2023؛ تقرير الأمم المتحدة، 2023). ولا تهدف هذه الهجمات إلى تقويض الزراعة والرعي فحسب، بل تسعى أيضاً إلى إفراغ الأغوار من سكانها الفلسطينيين وتحويلها إلى منطقة استيطانية خالصة.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، الأغوار ليست مجرد أراضٍ زراعية، وإنما هي خط الدفاع الأول عن السيادة الوطنية والاقتصاد الفلسطيني، والسيطرة عليها تعني التحكم في 40% من الموارد المائية في الضفة الغربية (الأونكتاد، 2023)، وفقدان الأغوار يعني فقدان مصدر رئيسي للمياه والزراعة، ما يهدد الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني، ويجعل المنطقة محوراً أساسياً في الصراع السياسي المستمر.

الأطراف الفاعلة واستراتيجيات الهيمنة على الأغوار

إن السياسات التي تُنفَّذ في الأغوار الفلسطينية تكشف عن تداخل معقد للأهداف والمصالح بين الأطراف الفاعلة، التي تتمثل في الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لتعزيز نفوذه الاستعماري، والسلطة الوطنية الفلسطينية صاحبة الأرض التي تجد نفسها عاجزة أمام هذا التوسع، والمجتمع الدولي الذي يكتفي غالباً بالإدانة اللفظية من دون اتخاذ خطوات عملية. وفي خضم هذه الصراعات، يبقى المزارعون الفلسطينيون هم الحلقة الأضعف، إذ يواجهون يومياً تهديدات وجودية لأمنهم الغذائي ولقدرتهم على الاستمرار في زراعة أراضيهم.

سنستعرض فيما يلي دور كل طرف وتأثير سياساته في واقع الأغوار الزراعي والسياسي.

الاستعمار الاستيطاني في الأغوار: منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأغوار، كان الهدف واضحاً، وهو السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض والموارد، وتفريغ المنطقة من سكانها الفلسطينيين. في الفترة الأخيرة، ومع انشغال العالم بحرب الإبادة في غزة، كثّف الاحتلال سياساته التوسعية، مستغلاً هذا الظرف لتعزيز مشروعه الاستيطاني في الأغوار، حيث استولى الاحتلال على حوالي 60% من الأراضي الزراعية المتبقية في الأغوار منذ بداية عام 2023، إمّا عن طريق المصادرة المباشرة، وإمّا من خلال إغلاق الأراضي بحجج أمنية واهية، وبالتالي منع أو تضييق الوصول إلى هذه الأرضي، وإمّا من خلال زيادة الخطر على الوصول إلى هذه الأراضي بفعل إرهاب المستوطنين (بتسيلم، 2023). ولا تقتصر هذه السياسات على تغيير الواقع الديموغرافي للمنطقة فحسب، بل تهدف أيضاً إلى إحكام السيطرة على الموارد الطبيعية الحيوية، وخصوصاً مصادر المياه التي تُعتبر شريان الحياة للمزارعين الفلسطينيين. وما يسعى إليه الاحتلال هو فصل الأغوار تماماً عن بقية الأراضي الفلسطينية، وتهيئة المنطقة لضمها رسمياً إلى دولة الاحتلال، ما يعني نسف أي إمكانية مستقبلية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضيها ومواردها (الأونكتاد، 2023).

السلطة الوطنية الفلسطينية وفشل المسار السياسي: منذ توقيع اتفاق أوسلو الشهير، كان هناك أمل في أن تؤدي العملية السياسية إلى تعزيز حقوق الفلسطينيين في أراضيهم، بما في ذلك الأغوار، لكن الواقع أثبت عكس ذلك؛ فقد أظهرت السنوات التي تلت الاتفاق أن السلطة الفلسطينية عاجزة تماماً عن حماية الأغوار من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، إذ تعاني السلطة جراء نقص حاد في الموارد المالية والسياسية، ما يعوق قدرتها على تنفيذ سياسات فعالة لدعم المزارعين الذين يواجهون التهجير وفقدان أراضيهم. في عام 2023، تم تخصيص أقل من 10% من ميزانية وزارة الزراعة لدعم الأغوار، وهو مبلغ غير كافٍ لمواجهة التحديات الهائلة التي يفرضها الاحتلال (وزارة الزراعة الفلسطينية، 2023). وعلى الرغم من الجهود المحدودة لتقديم بعض مدخلات الإنتاج الزراعي، فإن هذه الجهود تبقى رمزية في ظل الحاجة الماسة إلى استثمارات حقيقية في البنية التحتية الزراعية، والتي يعرقل الاحتلال تنفيذها بشكل منهجي. إن فشل أوسلو ليس مجرد فشل في السياسة، بل هو فشل في حماية الأرض والإنسان الفلسطيني في مواجهة استعمار استيطاني لا يعرف حدوداً.

المجتمع الدولي ودوره الخجول: إن ردة فعل المجتمع الدولي على السياسات الإسرائيلية في الأغوار، وخصوصاً تلك المتعلقة بالاستيطان، تتسم بالخجل والتردد. وعلى الرغم من الإدانات المتكررة التي تصدر عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن هذه المواقف غالباً ما تبقى حبراً على ورق، من دون أن تتحول إلى إجراءات فعلية تضغط على "إسرائيل" لتغيير سياساتها. ففي عام 2023، أشار تقرير للأمم المتحدة إلى أن غالبية قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين لم تُنفَّذ أو يُلتَزم بها (تقرير الأمم المتحدة، 2023)، وما نشهده هو أن المجتمع الدولي يكتفي بإصدار التصريحات، تاركاً الأغوار ساحة مفتوحة لتنافس السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى السيطرة الكاملة على المنطقة ومواردها. لذلك تبقى الأغوار رمزاً لصراع لم يُحسم بعد بين المطالب الفلسطينية بالسيادة والاستقلال والتحرر والسياسات الإسرائيلية التوسعية الاستعمارية.

المزارعون الفلسطينيون ضحايا الاستعمار المستمر: المزارعون الفلسطينيون في الأغوار هم الضحية المباشرة للسياسات الاستعمارية الإسرائيلية، ذلك بأنهم يواجهون قيوداً متزايدة على حركتهم، وصعوبات كبيرة في الوصول إلى أراضيهم ومصادر المياه، ما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بصورة خطرة. ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، تراجعت الإنتاجية الزراعية في الأغوار بأكثر من 50% خلال النصف الأخير من عام 2023 في بعض المناطق، ويعكس هذا التراجع مدى التدمير الذي تسببه السياسات الإسرائيلية، إذ أظهرت التقارير أن 70% من المزارعين لم يتمكنوا من الوصول إلى أراضيهم خلال موسم الحصاد الأخير بسبب القيود المفروضة من جانب الاحتلال (بتسيلم، 2023). والهدف من هذه السياسات واضح، وهو تهجير السكان الفلسطينيين من الأغوار بشكل قسري، وتحويل المنطقة إلى مستعمرة إسرائيلية بالكامل، ما يهدد الأمن الغذائي الفلسطيني ويزيد من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل.

مصير الأغوار: مستقبل مظلم تحت تهديد الاستيطان والتطهير العرقي الإسرائيلي

في ظل حكومة الاحتلال الحالية، التي تُعد الأكثر تطرفاً وإرهاباً في تاريخ دولة الاحتلال، تتجه الأغوار الفلسطينية نحو مستقبل قاتم إذا استمر الوضع الحالي على ما هو عليه. فمن المتوقع أن تواصل حكومة الاحتلال تنفيذ خططها التوسعية بلا هوادة، حيث ستشهد الأغوار تكثيفاً لعمليات الاستيطان التي تستهدف ابتلاع مزيد من الأراضي الفلسطينية. وبحسب تقارير اقتصادية، تُشكل منطقة الأغوار حوالي 50% من المساحات الزراعية في الضفة الغربية، ويُقدَّر أن نحو 100 ألف فلسطيني يعتمدون بشكل مباشر على الزراعة في هذه الأغوار كمصدر أساسي للدخل (الأونكتاد، 2023). وفي حال استمر التوسع الاستيطاني وسياسة المصادرة، فمن المتوقع أن يخسر الفلسطينيون نحو 60% من ناتجهم الزراعي السنوي، ما سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واسع النطاق وزيادة معدلات الفقر والبطالة بشكل غير مسبوق.

إلى جانب ذلك، يتوقع أن تُصَعِّد "إسرائيل" من سيطرتها على الموارد المائية في الأغوار، حيث تشير البيانات إلى أن حوالي 85% من المياه الجوفية في الأغوار تسيطر عليها "إسرائيل"، وتُخصَّص للاستخدام الإسرائيلي فقط (بتسيلم، 2023). ومن شأن هذا الوضع أن يؤدي إلى شحٍ مائي حاد قد يحرم أكثر من 60% من الأراضي الزراعية الفلسطينية في الأغوار من الري، ما سيجعلها غير صالحة للزراعة بحلول عام 2025 إذا استمرت هذه السياسة بلا رادع. كما سيؤدي فقدان القدرة على ري الأراضي إلى تقليص الإنتاج الزراعي بنسبة قد تصل إلى 70%، وهو ما سيضع الفلسطينيين في موقف بالغ الصعوبة، ويزيد من تبعيتهم الاقتصادية لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

في ظل هذه السياسات الإسرائيلية التوسعية، تتفاقم معاناة الفلسطينيين بشكل متزايد، ذلك بأن تصاعد عمليات الاستيطان والتهجير القسري لا يترك أي مجال للتوازن أو المساواة في الأغوار. فما نشهده هو عملية تطهير عرقي ممنهجة تستهدف اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، بهدف تحويل الأغوار إلى منطقة استيطانية خالصة، إذ تتعدى هذه السياسة في خطرها الوجود الفلسطيني في الأغوار، إلى تدمير كامل لنسيج الحياة الزراعية والاجتماعية الذي كان يشكل أساساً لاستقرار الأغوار. واستمرار هذه السياسات من دون أي تدخل دولي فعّال سيؤدي إلى إفراغ الأغوار من سكانها الفلسطينيين، الأمر الذي يعزز المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، ويضعف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.

 

 

استراتيجية الاستيطان الإسرائيلي وأهدافه

الهدف الواضح من هذه السياسات هو تحويل الأغوار إلى منطقة استيطانية خالصة، تخدم مصالح إسرائيل وتمنع أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، فالتوسع الاستيطاني المتسارع لا يهدف إلى السيطرة على الأرض والمياه فحسب، بل يسعى أيضاً إلى تغيير التركيبة السكانية بشكل جذري، من خلال اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتجريدهم من وسائل العيش المستدامة. وهذه الاستراتيجية ليست وليدة اللحظة، وإنما هي جزء من مشروع استيطاني طويل الأمد يسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض، يكون فيه الفلسطينيون مجرد أقلية محاصرة في جيوب معزولة.

دور القطاع الخاص الفلسطيني في الأغوار وتقاسم الأدوار

من الممكن أن يؤدي القطاع الخاص الفلسطيني دوراً حيوياً في دعم الزراعة في الأغوار، على الرغم من التحديات التي يفرضها الاحتلال، إذ قُدرت قيمة استثماراته بحوالي 150 مليون دولار حتى نهاية عام 2023، كما تمكّن هذا القطاع من توفير آلاف فرص العمل، الأمر الذي ساهم في تحسين الظروف المعيشية وتعزيز عناصر الصمود الفلسطيني في الأغوار (مركز الإحصاء الفلسطيني، 2023). ومع ذلك، يواجه القطاع الخاص قيوداً كثيرة، مثل صعوبة الحصول على التراخيص، والقيود على حركة البضائع. وبعد السابع من أكتوبر 2023، شهدت المشاريع الزراعية تهديدات متزايدة نتيجة تصاعد هجمات المستوطنين، ما جعل استدامة هذه المشاريع أكثر تحدياً. لذلك، يتطلب الوضع الحالي تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب الدعم من المؤسسات الدولية، لضمان استمرار الزراعة في الأغوار، والحفاظ على الأمن الغذائي والاستقلال الاقتصادي للفلسطينيين في هذه المنطقة الحيوية.

المبادرات الشعبية وصمود الفلسطينيين أمام محاولات الاقتلاع بعد السابع من أكتوبر

بعد السابع من أكتوبر 2023، تصاعدت محاولات الاقتلاع والتطهير العرقي في الأغوار الفلسطينية بشكل غير مسبوق، ما استدعى استجابة فورية وواسعة من أهالي الأغوار لمواجهة هذا التهديد الوجودي، وأبرز هذه المبادرات كان تكوين لجان محلية للدفاع عن الأراضي، والتي نظمت حراسات ليلية لحماية القرى والمزارع من هجمات المستوطنين الذين صعّدوا من اعتداءاتهم بهدف تهجير السكان الفلسطينيين. ونجحت هذه اللجان في صد العديد من الهجمات، وأثبتت قدرتها على تعزيز روح التضامن والتكاتف بين سكان الأغوار.

كذلك انطلقت مبادرات لتأمين وصول المزارعين إلى أراضيهم التي تم تقييد حركتهم إليها بفعل الحواجز العسكرية والمستوطنين. وشملت بعض هذه المبادرات تنظيم قوافل زراعية، بالتنسيق مع المؤسسات الحقوقية والأهلية، لتأمين الحماية للمزارعين في أثناء حصاد محاصيلهم، بالإضافة إلى إطلاق حملات لزراعة الأراضي التي تم تدمير محاصيلها كنوع من التحدي لسياسات الاحتلال.

وما زال هناك العديد من المبادرات التطوعية الواسعة لإعادة بناء البنية التحتية الزراعية التي تضررت، مثل إصلاح شبكات الري المدمرة، وحفر آبار جديدة في المناطق التي يمنع الاحتلال الوصول إلى مصادر المياه الرئيسية فيها. ولم تقتصر هذه المبادرات على الجانب المادي فحسب، بل حملت أيضاً بعداً معنوياً ورسالة تحدٍّ للاحتلال، إذ أكدت أن الفلسطينيين في الأغوار لن يتخلوا عن أرضهم مهما تتصاعد وتيرة الاقتلاع.

دور المنظمات غير الحكومية وسياسات السلطة الفلسطينية في الأغوار بعد السابع من أكتوبر

بينما استمرت المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية في تقديم الدعم الإغاثي والتوثيقي للمجتمعات الفلسطينية في الأغوار بعد السابع من أكتوبر، أصبح واضحاً أن هذه الجهود تفتقر إلى خطة استراتيجية متكاملة تتجاوز ردة الفعل اللحظية إلى بناء قوة مستدامة على الأرض؛ فالمبادرات الدولية، وعلى الرغم من أهميتها، تعاني من فشل في التأثير الطويل المدى في السياسات الإسرائيلية، إذ يستمر الاحتلال في توظيف القوانين المحلية والإقليمية للالتفاف على الضغوط الدولية. وهذا يطرح تساؤلات بشأن مدى فعالية الأدوات الحالية، ويشير إلى الحاجة إلى تطوير تحالفات جديدة مع الدول والمؤسسات المؤثرة، وبناء شبكات دعم تمتد إلى خارج إطار المساعدات الإنسانية التقليدية، بما يشمل حملات قانونية دولية تستند إلى توثيق الانتهاكات واستخدام المحاكم الدولية كأداة ضغط.

على صعيد السلطة الفلسطينية، نجد أن السياسات اللفظية أصبحت جزءاً من استراتيجية تكتيكية تفشل في موازاة التغيرات السريعة على الأرض؛ فبدلاً من التصريحات التقليدية، يتطلب الوضع الراهن تحركاً فعلياً على مستوى إعادة هيكلة الدعم للمزارعين، وتوجيه ميزانيات أكبر نحو الاستثمار في البنية التحتية الزراعية المقاومة للصدمات. ويشكل غياب خطة وطنية شاملة للتصدي للاستيطان والتهجير فجوة حقيقية في الأداء السياسي، إذ يجب أن تشمل السياسات المستقبلية تقديم الدعم القانوني للمزارعين من خلال تعزيز قدرات المجتمع المحلي في مقاومة المصادرة، وإعادة النظر في التنسيق الأمني الذي يعزز الهيمنة الإسرائيلية.

يتطلب المستقبل مقاربة أكثر تكاملاً، حيث تكون السلطة الفلسطينية فاعلة بشكل مباشر في قيادة تحركات جديدة على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والقانونية، مدعومة بتحالفات دولية وشبكات ضغط تستطيع تحويل الدعم اللفظي إلى أدوات فعالة للتغيير.

ما العمل؟ خطوات عملية لاستعادة الأغوار وضمان الصمود

في ظل التهديد الوجودي الذي يواجه الأغوار بعد السابع من أكتوبر، تتطلب الإجابة عن سؤال: "ما العمل؟" تغييراً جوهرياً في طريقة التعامل مع الواقع، وليس فقط اتباع استراتيجيات تقليدية. لقد حان الوقت للانتقال من الاستجابة اللحظية إلى بناء رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تتشابك فيها جهود المقاومة الشعبية والدبلوماسية والاقتصاد المقاوم.

أولاً، على المستوى المحلي، يجب تبني مفهوم الصمود الجماعي المُمأسس، بحيث لا تقتصر المقاومة على المبادرات الفردية أو الموقتة، بل تتحول إلى برنامج وطني شامل يرتكز على تمكين المجتمعات الزراعية، وتدريب الشباب على تقنيات الزراعة المستدامة، وربطهم بمصادر دعم دائمة من خلال شبكات محلية ودولية. كما يجب تعزيز التعاون بين المزارعين على مستوى الموارد والمعرفة، وإنشاء صناديق دعم مجتمعي للوقوف في وجه الهجمات المستمرة.

ثانياً، دور السلطة الفلسطينية يجب أن يتجاوز البيانات السياسية إلى قيادة حملة وطنية ودولية مدروسة لإعادة الزخم إلى قضية الأغوار في الساحة الدولية، إذ يجب أن تستثمر السلطة في بناء تحالفات جديدة مع دول الجنوب العالمي، التي لا تزال متمسكة بمبادئ التحرر الوطني، وتعزيز العلاقات الاقتصادية معهم عبر مشاريع زراعية مشتركة. علاوة على ذلك، ينبغي على القيادة الفلسطينية أن تعيد النظر في دورها داخل المجتمع الدولي، وأن تحول ملف الأغوار إلى قضية قانونية مستدامة من خلال تقديم دعاوى قضائية على المستوى الدولي لملاحقة الانتهاكات الإسرائيلية.

ثالثاً، اقتصادياً، الزراعة ليست مجرد مصدر للعيش بل هي وسيلة للبقاء، ويمكن أن تحول السلطة الأغوار إلى نموذج للاقتصاد المقاوم عبر استثمارات ذكية في الزراعة المستدامة، مستفيدة من الخبرات العالمية التي أثبتت نجاحها في ظل بيئات قاسية. وبدلاً من انتظار الدعم الخارجي، يجب أن تتجه السلطة والشركات المحلية إلى بناء شراكات دولية تُشرك المستثمرين من البلدان المتعاطفة مع القضية الفلسطينية في مشاريع تعيد الحياة إلى الأراضي الفلسطينية وتجعلها مصدراً للإنتاج الزراعي الذي يغذي الداخل ويخلق فرص اكتفاء ذاتي.

أخيراً، يجب أن يتجاوز دور المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، العمل الإغاثي إلى تبني مقاربات جديدة تركز على تمكين الفلسطينيين في الأغوار من بناء مستقبلهم. وبالتالي، تحتاج هذه المنظمات إلى التركيز على بناء قدرات محلية تمكّن الناس من تحدي الواقع المفروض عليهم بطرق مبتكرة ومستدامة، كالاستثمار في مشروعات الزراعة المستدامة، وتدريب المزارعين على الاستخدام الفعال للموارد الشحيحة، والعمل على بناء هياكل اقتصادية تمكّن الفلسطينيين من الاعتماد على أنفسهم في مواجهة التهجير والتطهير.

 

المراجع

  • الأمم المتحدة. "التقرير الدوري لمجلس الأمن حول فلسطين" (نيويورك، 2023).

  • الأونكتاد. "التقرير الاقتصادي عن فلسطين" (جنيف، 2023).

  • بتسيلم. "تقرير حول الانتهاكات الإسرائيلية في الأغوار" (2023).

  • اللجنة الدولية للصليب الأحمر. "تقرير حول الأوضاع الإنسانية في الأغوار" (جنيف، 2023).

  • مركز الإحصاء الفلسطيني. "التقرير السنوي للسكان والمساكن" (رام الله، 2023).

  • منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة .(FAO) "تقرير حول الزراعة في فلسطين" (روما، 2023).

  • مؤسسة الحق. "التقارير السنوية لحقوق الإنسان في فلسطين" (رام الله، 2023).

  • مؤسسة الدراسات الفلسطينية. "دراسات حول الأبعاد الجيوسياسية للأغوار"، 2023.

  • Israeli Annexation of the Jordan Valley”. PASSIA - Palestinian Academic Society for the Study of International Affairs.

1
عن المؤلف: 

فؤاد أبو سيف: باحث متخصص بقضايا الزراعة البيئية والتنمية المستدامة، ومدير اتحاد لجان العمل الزراعي.