في ظل الأوضاع الصعبة والأحداث المؤلمة التي نشهدها في قطاع غزة، تتجلى معاناتنا بصورة مبكية ومؤثرة على جميع الأصعدة؛ من موت، وتجويع، وتشرّد، ونزوح، وانتشار للأمراض، وغيرها من الكوارث. وبين هذه المعاناة التي ثقل علينا تحمّلها، نجد طلبة الطب الذين يواجهون تحديات استثنائية، ليس فقط في تحقيق أحلامهم الأكاديمية والمهنية، بل أيضاً في فقدانهم أحباءهم ومحاولاتهم البقاء على قيد الحياة في ظل واقع الإبادة الجماعية.
ومن هؤلاء الطلبة، أحمد بائع الشراب المثلج! وكان يتجول بين الخيام بلباس نظيف ومرتب، مصطحباً معه الطفل مصطفى ذا الثمانية أعوام، يبيعان الشراب المثلج للأطفال، والكبار أيضاً، ليخفف عنهم حر الخيام التي تصل حرارتها إلى 40 درجة مئوية، كالدفيئات الزراعية.
عندما وصل أحمد إلى مرحلة الثانوية العامة، بذل جهداً كبيراً ليحصل على معدل عالٍ يمكّنه من تحقيق حلمه الذي لطالما حلم به هو ووالداه؛ دخوله كلية الطب. ونجح في هذا، وتم قبوله في كلية الطب في إحدى جامعات ألمانيا، وبدأ الدراسة، وكان يرجع إلى غزة كل عطلة صيف، وحين انتهى من المستوى الرابع، رجع إلى غزة في إجازة الصيف ليقضي وقتاً مع عائلته، وليخطب إحدى فتيات غزة، والتي كانت تسكن بالقرب من بيته في الحارة المجاورة، وقبل موعد رحيله إلى ألمانيا بيومين، بدأت الحرب، فقرر أن يبقى مع والديه، وألاّ يتركهما، إلى حين انتهاء الحرب التي ظن أنها لن تستغرق أكثر من شهر، فمرّ الشهر الأول والثاني، وشارف الثالث على الانتهاء ولم تنته الحرب بعد، وخلال تلك الفترة، كان أحمد وعائلته يموتون وهم على قيد الحياة، وعانوا جرّاء الجوع والعطش والتشرد، ونزحوا أكثر من عشر مرات، وكانوا معرضين للموت في أي لحظة، ولم يكن يتوفر أي شيء ليأكلوه سوى علف الطيور، وبرسيم البهائم، وأكل الكلاب والقطط إن وُجد.
في نهاية المطاف، قررت عائلة أحمد العودة إلى بيتهم في حي التفاح شرقي مدينة غزة، بعدما أنهكتهم كثرة النزوح، وأُغلقت أمامهم كل السبل، فلم يعد هناك مكان ينزحون إليه، بعدما دمر الاحتلال الصهيوني أكثر من 80% من المباني والأماكن المخصصة لإيواء النازحين فقط خلال أول ثلاثة أشهر، ولم يعد أي شبر في شمال غزة فيه شيء من الأمان.
وبعد عودتهم إلى بيتهم بأسبوعين، وفي بداية العام الجديد، في 4 كانون الثاني/يناير، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منطقتهم بحزام ناري، وهو ما أدى إلى تدمير كل بيوت الحارة والحارة المجاورة التي تسكن فيها خطيبته. وفي تلك الفترة، كانت طائرات الاحتلال تستهدف سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني، لذلك، فلم يتم إنقاذ المصابين. وبعد ثلاث ساعات من القصف، تمكن شباب المنطقة من انتشال أحمد من تحت ركام المنزل، وكان مصاباً في يده اليسرى، وتم نقله إلى المستشفى بعربة يجرها حمار، وعرف بعد ذلك أنه الناجي الوحيد من عائلته، وأن مصطفى هو الناجي الوحيد من عائلة خطيبته.
وبعد أسبوع، تمكن أحمد آخذاً معه مصطفى - ولم يعد لهما أحد - من الخروج من الشمال إلى الجنوب عن طريق تنسيق أحد التجار الموكلين بنقل المساعدات الطبية إلى شمال قطاع غزة مع جيش الاحتلال، لأن الجيش وقتها أغلق كل الطرق التي زعم أنها طرق آمنة للنزوح، وذهب إلى بيت عم والده في النصيرات (وسط قطاع غزة) بعد إلحاحه الشديد لبقاء أحمد عنده، لكنه غادره بعد شهرين، إذ إن مدة وجوده طالت، ولأنه لم يكن يعمل للحصول على المال لمشاركة أهل البيت في تكلفة أي شيء من طعام أو شراب. وانتقل هو ومصطفى إلى بيت صديق له يسكن في دير البلح إلى حين توفُر خيمة تؤويه هو ومصطفى. وكان صديق أحمد يملك ثلاجة تعمل بألواح الطاقة الشمسية، وكان يثلج فيها أكياس الشراب لأهل بيته، فاقترح أحمد على صديقه أن يبيع من أكياس الشراب المثلج ويتقاسما الربح، فوافق صديقه، ومن يومها، امتهن أحمد بيع الشراب، وأصبح يتجول بصحبة مصطفى بين خيام النازحين لبيعها لهم ليحصلا على قوت يومهما. وبعد فترة، تمكن أحمد من الحصول على خيمة ليستقر فيها هو ومصطفى، وما لبث أن شعر ببعض الاستقرار في خيمته، حتى اضطر إلى إخلاء المكان بعد شهرين، حاملاً معه خيمته بعدما هدد جيش الاحتلال الصهيوني المنطقة التي يتواجد فيها في دير البلح، وتوجه إلى منطقة البريج (شمال شرقي مدينة دير البلح)، والتي كانت هي الأُخرى مهددة من الاحتلال، إلاّ إن اكتظاظها بالناس يجعلها أقل خطورة.
هكذا فقد أحمد عائلته وخطيبته وأصدقاءه في الحارة، وانهار حلمه كما تتهاوى المباني تحت وطأة الحرب، وأصبحت آماله رماداً بين ألسنة النار والدمار في غزة. ولم تكن قصة أحمد فردية، إنما هي تجسيد لمعاناة جيل كامل من الشباب الطموح في غزة.