بالأعشاب وماء البحر والخرافات هكذا يتداوى الغزيّون في خيام النزوح
التاريخ: 
30/08/2024
المؤلف: 

قاومت فاتن رغبة قوية في العودة إلى خيمتها، وهي تجر طفلتها الصغيرة التي تعاني من انتشار بثور غائرة قبيحة المنظر في جميع أنحاء جسمها، وعدم الذهاب إلى خيمة ذلك الرجل العجوز الذي ذاع صيته في المخيم حيث نزحت مع زوجها وأطفالها الثلاثة. وقد سمعت كثيراً عن قدرات هذا الرجل في علاج كثير من الأمراض، إذ ادعى الجميع حولها بأنه رجل "مبروك"، ويتعامل مع عالم الجن، أي العالم الخفي. وكان الرجل ذائع الصيت في منطقة حي الزيتون، أحد أحياء غزة القديمة، قبل أن يرحل مع مَن رحلوا من مدينة غزة ليستقروا على شاطئ مدينة دير البلح، لكنه لم ينقطع عن ممارسة عمله، إذ عرفه بعض الجيران الذين كانوا يترددون على بيته، وباتوا يترددون على خيمته، ولم يكتفوا بذلك بل دلوا كثيرين على تلك الخيمة كي يبحثوا عن علاج لبعض أمراضهم التي لا يجدون لها دواء، في ظل شح الأدوية وتدمير معظم المستشفيات والعيادات الطبية في جنوب القطاع خلال الحرب الدائرة منذ ما يزيد على عشرة أشهر.

أمام الرجل العجوز المتسخ الثياب وذي الأظافر الطويلة، وضعت فاتن طفلتها التي بدأت ترتعد، لكن نظرة من ذلك الرجل نحوها جعلت الدم يجف في عروقها، كما يقولون، وبعد أن تفحص الحبوب بعينيه الغائرتين مد يده نحو كيس من القماش الرديء، وتناول من داخله قنينة صغيرة، وتوجه بحديثه إلى الأم قائلاً: "هذا مسحوق الكبريت، وكل ما عليك فعله هو أن تدهني به جسم الطفلة بالكامل مرتين يومياً، وسوف تشفى سريعاً، فهذه الحبوب التي أصابت طفلتك سببها الجرب الذي يصيب الأطفال بسبب قلة الاستحمام"، ثم أشار بيده نحو البحر وقال لها: "لماذا لا تتركيها تغتسل في ماء البحر مثل بقية الأطفال؟"

لم ترد فاتن، وسحبت طفلتها وناولت العجوز آخر قطعة نقدية تملكها وغادرت الخيمة على عجل، وحين وصلت إلى خيمتها فعلت ما أشار به عليها، وتركت طفلتها تتأوه قليلاً بسبب تلك المادة التي دهنت بها جسمها، وسرحت بخيالها نحو الأيام الماضية من حياتها، وكيف كانت تذهب بأطفالها إلى الطبيب أو إلى المشفى في حال كان أحدهم يعاني من حالة مرضية طارئة.

سالت دموعها، وتذكرت كم مرة مرض فيها أحد أطفالها ولم تجد سوى أن تذهب إلى امرأة تقوم بـ "قطع الخوفة" لعلاج الحمى التي أصابت الطفل، أو أن تطلب منها أن تقوم بتدليك رقبته من الخارج بدعوى أن الطفل يعاني من "أم الأذنين"، والتي يتم علاجها بالتدليك وسحب أم الأذنين إلى الخلف بواسطة زيت الزيتون بعد وضعه على أطراف الأصابع، والحقيقة كما تعرفها هي أن طفلها يعاني من التهاب اللوزتين وأن علاجه لا يكون بهذه الطريقة أبداً.

في صباح اليوم التالي، فوجئت فاتن بأن الحبوب بدأت تختفي من على جلد طفلتها، وأنها لم تعد تهرش جلدها كما كانت تفعل سابقاً، وتذكرت لحظتها أن جدها كان يحدثهم قديماً عن علاج الجرب الذي كان يصيب الحيوانات التي يستخدمها الفلاحون في فلاحة أراضيهم، مثل الحمير والبغال والأبقار، وبأنهم كانوا يستخدمون مسحوق الكبريت الذي يباع بثمن بخس عند العطارين، وتنهدت وهي تتخيل أي حال وصلوا إليه، لكنها شعرت ببعض الراحة لأن علامات الشفاء بدأت تظهر على طفلتها.

بعد قليل كانت جارتها في الخيمة المجاورة تنادي عليها بكنيتها، وتشير إليها كي يقمنَ حفلة اغتسال للأطفال بماء البحر لأنه يعالج جميع الأمراض الجلدية، ويقلل من استهلاك المياه العذبة التي باتت نادرة، ثم اقتربت منها وهمست لها بأن ماء البحر يعالج الأمراض النسائية، مثل الالتهابات التناسلية التي تحتاج إلى علاجات باهظة الثمن، ولا يمكن توفيرها بسبب شح الأدوية في الصيدليات وقلة المال أيضاً.

خلال لعب الأطفال واستحمامهم في ماء البحر القريب من الخيام المتكدسة على شاطئه حدثت الجارة أم الهيثم جارتها فاتن عن امرأة عجوز في المخيم، الذي أُطلق عليه اسم مخيم "العائدون"، والتي تقوم بعلاج أمراض النساء المختلفة بواسطة الأعشاب التي تجمعها من أماكن قريبة من الخيام، فهي تعرف هذه الأعشاب بمجرد أن تراها أو تتلمس أوراقها، وأخبرتها بأن هناك نساءً توقف لديهن النزف بعد أن كنّ مهددات بالإجهاض بسبب استخدام تلك الأعشاب.

لم تصغِ فاتن لهذه الأقاويل، لكنها في قرارة نفسها كانت تشعر بارتياح بسبب بدء تعافي طفلتها من داء الجرب الذي أصابها. وفيما كانت تحدثها جارتها أم الهيثم عن تلك المرأة العجوز التي تعالج بأعشاب غريبة، سألتها فجأة عن علاج الحشرات التي تصيب رأس الأطفال، والسبب بالطبع معروف، وهو قلة الاستحمام وعدم توفر شامبو الاستحمام، ولا حتى أي نوع من الصابون، فأخبرتها أم الهيثم بأن النساء في المخيم يقمن بشراء زيت اليانسون من محلات عطارة قديمة في مخيم دير البلح، أو يتوجهن إلى محلات عطارة في مدينة خان يونس، لأن هذا الزيت معروف منذ القدم بأنه علاج فعال لحشرات الرأس، وأخبرتها بأن أمها كانت تبتاعه حين تسافر إلى مصر في السنوات الماضية حين كان السفر ميسراً، إذ كانت تشتري عدداً من قناني "زيت الحبوبة"، كما يُسمّى، والتي تعمل على حماية الشعر من الإصابة بالحشرات، بالإضافة إلى تنعيم الشعر وزيادة طوله.

في المساء، كانت فاتن تحدث زوجها عن هذه العلاجات العجيبة، فأخبرها بأن الرجل العجوز نفسه يقوم بالكتابة على صدغ الطفل المتورم فيُشفى بعد بضعة أيام على الرغم من شدة الورم وانتفاخه، وإصابة الطفل بارتفاع شديد في الحرارة، وأضاف زوجها أنه لا يعرف كيف يُشفى الطفل وما إذا كان العامل النفسي يلعب دوراً في ذلك، لأنه يعرف أن هذا الانتفاخ يعني إصابة الطفل، وخصوصاً الطفل الذكر، بالتهاب الغدة النكافية، وفي حال لم يتم علاجه بطريقة صحيحة عن طريق المضادات الحيوية المناسبة، فقد يؤدي هذا الأمر إلى عقم الطفل في المستقبل.

سرحت فاتن حين وصل الحديث مع زوجها إلى هذا الحد. ثم أطرق الزوج رأسه نحو الأرض، ونظر إلى التراب، وهمس لها قائلاً: "مَن يصدق أنني، وعلى الرغم من تعليمي العالي وحصولي على بكالوريوس تحاليل طبية، أصبحت منقاداً نحو هذه الخرافات والمعتقدات."

لم ترد فاتن، لكنها في قرارة نفسها كانت تعرف أن سوء الحال الذي وصلوا إليه، مثلهم مثل آلاف الغزيين النازحين، حيث التكدس والفقر وقلة الأدوية وانهيار النظام الصحي بصورة عامة، دفع بالناس إلى التعلق بمثل هذه العلاجات التي قد تصيب أحياناً، وقد تضر أحياناً أُخرى، لكنها في النهاية هي القشة الأخيرة التي لا يجدون أمامهم غيرها كي يتعلقوا بها، فلا أفق أمامهم ولا فسحة أمل. وعلى الرغم من هذا كله، فإن الأمراض تزداد وتنتشر مع انتشار الحشرات وارتفاع حرارة الصيف التي تحوّل الخيام إلى أفران ملتهبة، وخصوصاً خلال النهار، ولذلك ليس أمامها سوى أن تحاول قدر المستطاع أن تحافظ على أطفالها، من دون أن تجزم ألاّ تعود مرة أُخرى لزيارة هذا الرجل العجوز الذي أعطاها قنينة من مسحوق الكبريت في مقابل آخر قطعة نقدية تمتلكها.

عن المؤلف: 

سما حسن: كاتبة من غزة.

A man picks up a Lebanese flag from the rubble after an Israeli airstrike on an apartment block, on October 3, 2024 in Beirut, Lebanon. (Photo by Carl Court/Getty Images)
مايا ك.