لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع حرباً كهذه، فما حدث كان شيئاً من الخيال، وأظن أن ما أصاب غزة وأهلها لم يكن يخطر في بال أيٍ من الفلسطينيين، ولا في الأحلام المزعجة والكوابيس المفزعة. إنها حرب الإبادة الإسرائيلية غير المسبوقة ضد شعبنا ومكوناته المتعددة، والأسرى هم مكون أصيل ورئيسي من مكونات الشعب الفلسطيني، وقد نالهم من هذه الحرب نصيب وافر من الجرائم المتعددة.
فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، سقط من الفلسطينيين نحو 40,005 شهداء، يضاف إليهم 92,401 جريح ومصاب وفقاً لوكالة "وفا".[1] كما يضاف إليهم بضعة آلاف آخرين لا يزالون في عداد المفقودين، أي لم يتم إحصاؤهم، لكن المعلوم أن عدداً منهم استشهد، وجثامينهم لا تزال مدفونة تحت الأنقاض لصعوبة انتشالها، بينما هناك كثيرون آخرون مصيرهم مجهول، وأماكن وجودهم غير معروفة، ومن غير المعلوم إن كانوا أحياء، وفي انتظار المصير المجهول في غياهب السجون السرية، أم أمواتاً، فسقطوا شهداء في ساحة الاشتباك، أو قُتلوا عمداً بعد الاعتقال، ودُفنت جثامينهم في أماكن متفرقة وغير معلومة.
وفيما يتعلق بالاعتقالات، فالأرقام تشير إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت منذ بدء الحرب المستعرة على قطاع غزة، أي منذ 10 أشهر ونيف، قرابة 16,000 فلسطيني، وهو المعدل الأعلى منذ انتفاضة 1987، بينهم نحو 10,000 معتقَل من القدس والضفة الغربية،[2] بالإضافة إلى قرابة 6000 معتقَل من قطاع غزة وفقاً لتقديراتنا، إذ لا توجد معطيات رسمية ومعلنة، ولا معلومات مؤكدة ودقيقة في هذا الشأن، وهو ما أخفى وراءه كثيراً من الحقائق، وهذا يعود إلى جملة من الأسباب، أهمها، من وجهة نظري:
أولاً: التصريحات العنصرية المتطرفة التي صدرت عن أعلى المستويات الأمنية والسياسية في دولة الاحتلال، والتي ساهمت، بصورة كبيرة، في تأجيج مشاعر الكراهية والانتقام لدى أذرع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية المتعددة، وتشجيعهم على ارتكاب مزيد من الجرائم بحق الفلسطينيين، ولا سيما في قطاع غزة، التي لاقت تجاوباً كبيراً وتجسيداً واسعاً في سلوك أفراد الأمن والجيش الإسرائيلي وتعاملهم مع المعتقَلين الفلسطينيين.
ثانياً: الإخفاء القسري، واحتجاز معتقَلي غزة في زنازين العزل الانفرادي وأقسام بعيدة وسجون سرية عديدة، ومن غير المسموح الوصول إليها أو التواصل مع من يقبعون داخلها، ومنها معسكر عناتوت بالقرب من مدينة القدس، بينما كان أبرزها سجن سديه تيمان في بئر السبع في صحراء النقب، والذي افتُتح مع بداية الحرب خصيصاً من أجل معتقَلي غزة، ثم يتم نقل بعضهم إلى سجون ومعسكرات ومراكز تحقيق أُخرى، كعوفر، ومجدو، والنقب، والمسكوبية، وغيرها، وفيها يُفصَل معتقلو غزة تماماً، ولا يُسمح لهم بالتواصل مع المعتقَلين الآخرين.
وكان وزير الأمن القومي المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، إيتمار بن غفير، قد أمر في بداية الحرب بوضع أسرى حركة "حماس"، وما يصفونهم بالنخبة، في سجن تحت الأرض، ولم توضح إسرائيل عدد هؤلاء الأسرى أو مكان احتجازهم، كما أنها تمتنع من الإدلاء بمعلومات بشأن هوياتهم والأماكن التي اعتُقلوا فيها.[3]
ويذكّرنا هذا بزنازين العزل الانفرادي في قسم نيتسان الذي يقع تحت الأرض في سجن الرملة، كما يعيد إلى الأذهان ما سمعناه وقرأناه قبل عقود من الزمن عن إخفاء المعتقَلين واختفائهم، الفلسطينيين منهم والعرب، وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم، وطبيعة السجن السري 1391، الذي اكتُشف أمره سنة 2003، وأطلق عليه الفلسطينيون حينها "غوانتانامو الإسرائيلي".
ثالثاً: إعلان سلطات الاحتلال الإسرائيلي، في اليوم الأول لبدء الحرب، أنها ستتعامل مع كل من سيتم اعتقاله من قطاع غزة وفقاً لقانون "مقاتلون غير شرعيين"، بغض النظر عما إذا كانوا مقاومين مسلحين أم مدنيين عزّل! وهذا يعني بموجب القانون المذكور أن هذه الفئة من المعتقَلين الفلسطينيين تقع خارج نطاق اتفاقيتَي جنيف الصادرتين في 12 آب/أغسطس 1949، وبالتالي، تفقد حقوقها الأساسية ولا تتمتع بأي نوع من الحماية بموجب القانون الدولي.
واللافت هنا أنه للوهلة الأولى، يظن القارئ الأمر وكأن دولة الاحتلال الإسرائيلي تعتبر الآخرين ممن سبقوهم إلى غياهب السجون وزجت بهم في زنازين الموت مقاتلين شرعيين، والحقيقة الساطعة أنها - أي إسرائيل – ما زالت ترى جميع المعتقَلين الفلسطينيين مقاتلين غير شرعيين، ولا ترى بينهم مقاوماً، ولم تعترف يوماً بأي فئة منهم على أنها عبارة عن أسرى حرب، ولم تعامل أياً منهم وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، إنما تعاملت معهم دوماً على أنهم سجناء أمنيون، وتصفهم جهاراً بـ "القتلة" و"الإرهابيين". كما لم تعترف بانطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وهي بذلك حرمت المعتقَلين المدنيين، على اختلاف فئاتهم، من الحقوق المنصوص عليها والمكفولة لهم في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
وإن الأسباب الآنفة الذكر أدت إلى احتجاز معتقَلي غزة الجدد في منشآت عسكرية خاضعة للجيش الإسرائيلي، وعزلهم عن العالم الخارجي، وفصلهم عن معتقَلي الضفة الغربية، وعدم السماح لهم بالاختلاط أو التواصل مع المعتقَلين الآخرين، علاوة على تشديد أوضاع احتجازهم، ومنع منظمة الصليب الأحمر من زيارتهم ومقابلتهم، ومعرفة أعدادهم وأسمائهم، وفرض قيود صارمة على عمل المحامين لجعل الزيارة صعبة قدر الإمكان، فضلاً عن توقف الزيارات العائلية لكل الأسرى، استناداً إلى قرار وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير.[4]
إن هذا الوضع أبقى على أخبار معتقَلي غزة طي الكتمان والسرية، من دون معرفة أعدادهم، باستثناء ما يتم تسريبه ونشره عبر مؤسسات إسرائيلية ووسائل إعلام عبرية، والتي نقلت مؤخراً عن مصلحة السجون أن عدد معتقَلي غزة، ومن يصنَفون مقاتلين غير شرعيين، بلغ نحو 1584 معتقَلاً، من دون التطرق إلى أعداد المعتقَلين في المعسكرات التي تخضع لمسؤولية الجيش الإسرائيلي.[5] هذا بالإضافة إلى ما ينقله المفرج عنهم من أسماء، وما يقدمونه من شهادات صادمة ومروعة، وزد على ذلك ما كشف عنه محامو الدفاع مؤخراً بعد السماح لبعضهم بزيارات محدودة، والتقاء عدد منهم على الرغم من القيود الصارمة المفروضة على عملهم.
ومن ناحية أُخرى، فإن هذا الحال أخفى وراءه كثيراً من القصص المؤلمة، والجرائم العديدة التي أفضى بعضها إلى موت عشرات المعتقَلين، وهو ما جعل من حياة المعتقَلين جحيماً، وتحولت السجون الإسرائيلية إلى جهنم، وشبكة من معسكرات التعذيب، كما وصفتها منظمة بتسيلم الإسرائيلية في تقريرها "أهلا بكم في جهنم".[6]
وكانت هيئة شؤون الأسرى والمحررين قد كشفت نهاية تموز/يوليو الماضي عن 7 محاولات انتحار لأسرى يقبعون في سجن عوفر بسبب وحشية السجانين وأوضاع الاعتقال القاسية، فضلاً عن استهدافهم بسلاح التجويع والإهمال الطبي، إذ أصبح الأسرى يفضلون الموت والاستشهاد على هذه الحياة البائسة.[7]
المرحلة الأخطر تاريخياً
لقد تابعت أوضاع الاعتقال منذ صغري حين كنت أتردد إلى السجون لزيارة والدي الأسير - رحمة الله عليه - قبل أن أكبر وأتحول إلى شاهد حين دخلتها أسيراً، لأربع مرات، وبعدها وثّقت العديد من الشهادات لآخرين مروا بتجربة الاعتقال، وكتبت كثيراً من الدراسات والمقالات التي وصفت حال السجون الإسرائيلية، في إطار عملي واهتماماتي، لكن لم أسمع من رواد الحركة الوطنية الأسيرة الأوائل، ولم أقرأ على جدران الزنازين أو في شهادات المعتقَلين، على مرّ الأجيال، عن مرحلة كهذه. إنها مرحلة مختلفة تماماً، وهي المرحلة الأخطر تاريخياً. فما الذي حدث ويحدث للأسرى والمعتقَلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي؟ إنه الوجه الآخر لحرب الإبادة المستعرة بحق شعبنا الفلسطيني.
إن هذه الحرب لم تقتصر على معتقَلي غزة فحسب، أو ممن اعتُقلوا منذ بدء الحرب على غزة فقط، وليست محصورة في إجراءات معينة وداخل سجون محددة، بل هي أيضاً ضد الأسرى والمعتقَلين كافة، من دون تمييز بين الجنسين، وبغض النظر عن أماكن سكنهم وطبيعة الأحكام التي صدرت بحقهم، أو عدد السنوات التي أمضوها في السجون، كما طالت، بصورة ممنهج، رموز الحركة الأسيرة وقياداتها.
إن الخطورة لا تتوقف عند حياة الأسرى وأوضاعهم الصحية، أو على واقع الحركة الأسيرة ومناحي الحياة الاعتقالية فقط، بل أيضاً تستهدف ما هو أبعد من ذلك، لتشمل جوهر قضية الأسرى ومكوناتها العديدة، ومكانتها النضالية والقانونية.
وبيقين، فإن ما كُشف عنه مؤخراً من جرائم فظيعة ومتعددة، ولا سيما في سجن سديه تيمان، هو غيض من فيض، وجزء يسير مما سيُكشف عنه في قادم الأيام والأشهر.
جرائم لا حدود لها
لقد فاق حجم الجرائم الإسرائيلية الحدود، ولا سقف يمكن تصوره، وهي جرائم ليست محصورة بين أسوار سجن سديه تيمان، إنما يحدث ما هو شبيه لها في معظم السجون الأُخرى الخاضعة لمسؤولية وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير. كما أن ممارستها غير مقتصرة على فئة من دون غيرها، وإن كان النصيب الأكبر منها لمعتقَلي غزة الذين هم عنوان المرحلة.
ومن أمثلة ذلك؛ القتل المتعمد بعد الاعتقال، والتعامل مع المعتقَلين وفقاً لقانون المقاتل غير الشرعي، والإخفاء القسري، واستخدام المعتقَلين دروعاً بشرية، وهو ما أكده تحقيق حديث لصحيفة "هآرتس" العبرية،[8] وما تلاه من شهادة لمعتقَل من غزة استخدمه الجيش الإسرائيلي درعاً بشرياً لمدة 40 يوماً بحسب ما جاء في بيان لهيئة الأسرى ونادي الأسير.[9]
ووثّقت بعض وسائل الإعلام أوضاع الاحتجاز القاسية وإساءة المعاملة وقسوة الأصفاد الحديدية والبلاستيكية التي أدت إلى إصابات شديدة، وبتر أطراف بعض المعتقَلين من غزة، ومنع الزيارات العائلية، والحرمان من النوم لفترات طويلة، والشح في مياه الاستحمام، ونقص الطعام، كمّاً ونوعاً، إذ إن سوء التغذية ورداءة الطعام المقدم والتجويع والتعطيش، كلها أمور أدت إلى انتقاص الأوزان وصعوبة التعرف على المفرج عنهم. هذا بالإضافة إلى الضرب المبرح بكل أشكاله، بما فيه الضرب بأعقاب البنادق أو بقطع حديدية، وشدة التعذيب الجسدي والنفسي، والصعق بالكهرباء، ومهاجمة الكلاب للمعتقَلين، وتقييد الأيدي وعصب العينين وإجبار المعتقَلين على الجلوس أو القرفصاء لفترات طويلة، واتساع اللجوء إلى الاعتقال الإداري، إذ أصدرت سلطات الاحتلال منذ بداية الحرب نحو 8322 قرار اعتقال إداري،[10] والتعمد في إيذاء المعتقَلين، والاهمال الطبي المتعمد، الأمر الذي أدى إلى بتر أطراف لعدد من المعتقَلين، والتعري، والتحرش الجنسي، والاعتداءات الجنسية والاغتصاب الجماعي بحق الذكور والإناث، وفي هذا الشأن، نشرت "القناة 12" الإسرائيلية شريط فيديو، في 6 آب/أغسطس الجاري، يعرض مشاهد صادمة تُظهر قيام جنود إسرائيليين بالاعتداء الجنسي على أحد المعتقَلين الفلسطينيين في سجن سديه تيمان.[11]
هذا بينما اشتكى معتقَلون آخرون من تعرضهم للاغتصاب والاعتداء الجنسي، وفقاً لشهادات حصلت عليها مؤسسات عديدة تُعنى بشؤون الأسرى، ومنها مؤسسة الضمير في غزة، التي قالت في تقرير لها نُشر حديثاً، استناداً إلى شهادات حصل عليها محاموها خلال زيارتهم لعدد من المعتقَلين: "إن الاغتصاب والاعتداءات الجنسية أصبحت أداة من أدوات التعذيب الممنهجة في معظم السجون الإسرائيلية."[12]
كما نقل محامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين، خالد محاجنة، شهادة مروعة وصادمة لصحافي من غزة معتقَل في معسكر سديه تيمان، وهو أول محامٍ يُسمح له بزيارة المعسكر المذكور،[13] وكان هذا في منتصف حزيران/يونيو الماضي، وتمت الزيارة تحت قيود ورقابة مشددة، إذ تمكن من لقاء المعتقَل الصحافي محمد صابر عرب (42 عاماً)، الذي كان يعمل مراسلاً لفضائية "العربي" قبل اعتقاله من مجمع الشفاء الطبي في مارس/آذار الماضي. وكان أول تساؤل وُجه من المعتقَل عرب إلى المحامي: "أين أنا؟"، فلم يكن يعلم محمد أنه محتجَز في معسكر سديه تيمان، وبحسبه، فإن إدارة المعسكر تبقي المعتقَلين مقيدين على مدار 24 ساعة، ومعصوبي الأعين، ومنذ 50 يوماً، لم يبدل محمد ملابسه، وقبل الزيارة فقط، سُمح له باستبدال بنطاله، بينما بقي بسترة لم يستبدلها منذ 50 يوماً".
كما أوضح في شهادته[14] أنهم يتعرضون على مدار الوقت لعمليات تعذيب، وتنكيل، واعتداءات بمختلف أشكالها، ومنها اعتداءات جنسية، ومنها عمليات اغتصاب، والتي أدت بمجملها إلى استشهاد معتقَلين، كما أن عمليات الضرب والتنكيل والإذلال والإهانات لا تتوقف، ولا يُسمح لأي معتقَل الحديث إلى أي معتقَل آخر، ومن يتحدث يتم الاعتداء عليه بالضرب المبرح، إلى أن أصبح المعتقَلون يتحدثون إلى أنفسهم، ويستمرون في التسبيح والدعاء في سرهم، وهم محرمون من الصلاة، ومن ممارسة أي شعائر دينية.
أمّا بالنسبة إلى أوضاع احتجاز المرضى والجرحى منهم، فهناك من بُترت أطرافهم، وتمت إزالة الرصاص من أطرافهم من دون تخدير. ونقل المعتقَل عرب مزيداً من الأمور عن أبرز أوضاع الاحتجاز التي يخضعون لها، فعدا عن عملية التقييد والتعصيب التي تتم على مدار الوقت، فهم محاطون بالكلاب البوليسية، ويُسمح لكل أربعة معتقَلين باستخدام دورة المياه لمدة دقيقة، ومن يتجاوز الوقت يتعرض للعقاب، وينامون على الأرض، ويستخدمون أحذيتهم كمخدات للنوم، وبالنسبة إلى الاستحمام، فإن الوقت المتاح مرة واحدة في الأسبوع لمدة دقيقة، ويُمنع النوم خلال النهار. كما لفت إلى أنه بعد اعتقاله بـ 50 يوماً، تم السماح له بحلاقة شعره، أمّا على صعيد الطعام، فهو عبارة عن لقيمات من اللبنة، وقطعة من الخيار أو الطماطم، وهي الوجبة التي تقدَم إليهم على مدار الوقت".
استشهاد ما لا يقل عن 22 أسيراً
لقد تسببت جرائم التعذيب وسوء المعاملة والإهمال الطبي باستشهاد 22 فلسطينياً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي خلال الـ 10 أشهر الماضية، وهناك جثامين 20 أسيراً منهم محتجزة لدى الاحتلال،[15] مع الإشارة إلى أن هذا العدد من الشهداء وراء القضبان هو الأعلى تاريخياً، وهؤلاء الأسرى الـ 22 هم من أُعلن استشهادهم وعُرفت أسماؤهم وهوياتهم، بينما يقدَر أن هناك عشرات آخرين من معتقلي غزة الذين سبق وأُعلن استشهادهم عبر وسائل الإعلام العبرية والدولية من دون الكشف عن هوياتهم يُضافون إليهم.
وفي هذا السياق، فقد أكدت صحيفة "وول ستريت جورنال" الدولية، والصادرة في الولايات المتحدة الأميركية، في يوم الجمعة 9 آب/أغسطس، وفاة 44 معتقلاً فلسطينياً في أثناء احتجازهم لدى الجيش الإسرائيلي بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و2 تموز/يوليو الماضي. كما أضافت أن هناك 16 حالة وفاة إضافية في السجون التي تدار بصورة منفصلة عن المرافق العسكرية.[16] هذا ومن المتوقع أن نسمع لاحقاً عن أعداد إضافية من معتقلي غزة، وقد انضمت إلى قائمة شهداء الحركة الأسيرة، في ظل استمرار الواقع المأساوي الذي تشهده السجون كافة.
حال السجون قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يكن على ما يرام
إن واقع السجون والمعتقلات الإسرائيلية قبل بدء الحرب على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يكن على ما يرام، وما كُشف عنه مؤخراً من فظائع غير مسبوقة وروايات صادمة ليس جديداً؛ إذ سبق أن قرأنا عن تجارب مماثلة، واستمعنا في أوقات وأزمنة سابقة إلى شهادات تشبهها، لكن الجديد والصادم حقاً هو حجم الجرائم وفظاعتها، بالإضافة إلى تكرارها، إذ إن ما كان يوصف في الماضي بالحدث النادر أو الفعل الاستثنائي، بات اليوم سلوكاً يومياً ودائماً، وأضحى ظاهرة تتسع، وما اقتُرف بحق المعتقَلين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر يفوق ما اقتُرف بحق المعتقَلين الفلسطينيين طوال عقود مضت. ولسان حال من اعتُقلوا خلال الحرب يقول: "من لم يُعتقل بعد 7تشرين الأول/أكتوبر، كأنه لم يُعتقل أبداً." في إشارة إلى شدة التعذيب وقسوة أوضاع الاحتجاز مقارنة بما كان عليه الحال في أوقات سبقت الحرب.
وحين التقيت صدفة الصديق "أ.ع" في أماكن النزوح وسط القطاع، قبل بضعة أسابيع، والذي أُفرج عنه حديثاً بعد اعتقال استمر لبضعة أسابيع قضاها في سجن سديه تيمان، حيث كان يعمل في الداخل وفي حوزته تصريح عمل، قال لي:
"إن ما تعرضت له في سجن سديه تيمان في النقب خلال بضعة أسابيع قضيتها هناك يفوق بأضعاف كثيرة ما تعرضت له وعانيت جرّاءه طوال فترة اعتقالي الأولى خلال انتفاضة الحجارة 1987، والتي امتدت لعام ونصف في معتقل كيتسعوت في النقب الصحراوي.
لقد احتُجزنا في أوضاع قاسية، وعاملونا بقسوة غير مسبوقة، ووضعوا حول مفصل الكاحل لكل معتقَل منا صفد بلاستيك وعليه رقمه، بما يشبه التعامل مع الحيوانات، ويتم التعامل مع المعتقَلين وفقاً لهذه الأرقام." وقد نجح المعتقَل المذكور من الاحتفاظ بالصفد البلاستيكي وإخراجه معه.
ختاماً..
إن غياب ما يُعرف اليوم بالعدالة الدولية، وعجز المجتمع الدولي ومؤسساته المتعددة عن توفير الحماية للمعتقَلين الفلسطينيين بموجب القانون الدولي، شجع الإسرائيليين على التمادي، وجعل من تلك الجرائم سلوكاً دائماً وسياسة ثابتة في تعاملهم مع الفلسطينيين بصورة عامة، والأسرى والمعتقَلين بصورة خاصة.
لكن يجب ألاّ يحبطنا هذا الواقع، أو يدفعنا إلى اليأس، فثمة تغيرات ومواقف مهمة حدثت على الساحتين الإقليمية والدولية يجب استثمارها والبناء عليها، واستمرار الضغط على المؤسسات الدولية ذات الاختصاص للقيام بدورها وإرسال لجان دولية ومحايدة لزيارة السجون والمعتقلات الإسرائيلية المتعددة، والاطلاع عن كثب على حقيقة الأوضاع هناك، والاستماع إلى شهادات المعتقَلين وما تعرضوا له من انتهاكات جسيمة وجرائم فظيعة، والشروع في تحقيق جدي والعمل الجاد لوضع حد لها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، فعلى المؤسسات الفلسطينية التي تعنى بشؤون الأسرى والمعتقَلين أن تضاعف من جهودها المبذولة في احتضان المفرج عنهم، وتكثيف التواصل مع المعتقَلين والمحررَين،
وجمع إفاداتهم وشهاداتهم، وتوثيق الأحداث بتفاصيلها على قاعدة أن الحق ثابت ولا يسقط بالتقادم، والفجر آتٍ لا محالة.
[1] "ارتفاع حصيلة العدوان على غزة إلى 40005 شهداء و92401 مصاب"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 15/8/2024.
[2] "مؤسسات الأسرى: أكثر من 10 آلاف حالة اعتقال في الضفة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 12/8/2024.
[3]"بن غفير يوعز باحتجاز مقاتلين من ’حماس‘ بسجن تحت الأرض"، "عرب 48"، 8/12/2023.
[4] "بن غفير يوقع أمراً بتمديد منع جميع زيارات السجون" (بالعبرية)، "معاريف"، 9/8/2024.
[5] "الأسرى ’الأمنيين‘ في السجون الإسرائيلية"، هاموكيد، آب/أغسطس 2024.
[6] "أهلا بكم في جهنم، تحول السجون الإسرائيلية إلى شبكة من معسكرات التعذيب"، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة - بتسيلم.
[7] "هيئة فلسطينية: محاولات انتحار بسجن عوفر بسبب ’وحشية السجانين‘"، "الجزيرة"، 28/7/2024.
[8] "هآرتس: الجيش الإسرائيلي يستخدم فلسطينيين دروعا بشرية بغزة"، "معا نيوز"، 13/8/2024.
[9] "الاحتلال استخدم أسيراً من غزة درعاً بشرياً لمدة 40 يوماً"، "القدس"، 15/8/2024.
[10] "قائمة جديدة بأسماء (94) معتقل إداري صدرت بحقهم أوامر اعتقال إداري ما بين أوامر جديدة وأوامر تجديد"، نادي الأسير الفلسطيني، 7/8/2024.
[11] "إسرائيل تنشر فيديو لاعتداء جنسي على أسير فلسطيني داخل السجن - المشهد تاغ"، "يوتيوب"، 7/8/2024.
[12] "شهادات قاسية لأسرى عن الاغتصاب والاعتداءات الجنسية في سجون الاحتلال"، "العربي الجديد"، 8/8/2024.
[13] "بالفيديو: أول محامي يزور معتقل سديه تيمان يروي شهادات مرعبة"، "سوا الإخبارية"، 19/6/2024.
[14] "محامي ينقل شهادة مروعة لصحفي من غزة معتقل في معسكر ’سديه تيمان‘"، وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، 19/6/2024.
[15] "هيئة الأسرى ونادي الأسير: ’استشهاد المعتقل الجريح كفاح ضبايا من جنين في مستشفى (رمبام) الإسرائيلي‘"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 11/8/2024.
[16] "وول ستريت جورنال: وفاة 44 معتقلاً أثناء احتجازهم لدى الجيش الإسرائيلي"، "معا نيوز"، 9/8/2024.