تخيل أن تجلس في غرفة صغيرة تطل على شارع طارق بن زياد في مخيم الشاطئ، تتأمل المارة بينما يصدح المذياع بالثورة، وتلتهب الأنفاس وتضطرب أحياناً تبعاً للأخبار الواردة من الميدان. وفي أثناء ذلك، يهرع طفلك، ويتحدث بصوت مرتفع وكأن القيامة قد قامت، وفي يده ورقة، ويقول: "إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يطالبنا بالذهاب إلى جنوب قطاع غزة"، وتحديداً إلى مواصي خان يونس عبر ممرات آمنة، ولا أمن في كل غزة.
حينئذٍ، تتأمل الورقة التي أُلقيت من طائرة هيليكوبتر، مخططة بخرائط ملونة، تحذّر المواطنين من أنهم متواجدون في منطقة قتال خطِرة، وأن عليهم الفرار، وكأن القطاع واسع، ويمكن الهرب منه إلى آخر الدنيا، إذ إن مساحته لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً، ينحشر داخله أكثر من مليونين ونصف مليون نسمة، جلهم من الأطفال والنساء، في أضخم تكدس سكاني عالمياً داخل مساحة ضيقة كقطاع غزة المحاصر.
حين حدث ذلك معي، سألت عمي الذي نزح معي إلى بيت العائلة الكبير، بعد تدمير بيته في حي الشيخ رضوان، حيث يجلس كالعادة بجواري كل يوم وهو يستمع للأخبار بخوف وقلق: "هل سنترك هذا البيت كما تركنا بيوتنا أيضاً؟"، وقد تم تدمير بيتي الحديث البناء في حي النصر كما بيت عمي، بعد صراع مع الحياة والمقاولين والعمال؛ وكنت أرغب في إنجازه ليكون على أتم وجه، وانتهيت من إنشائه قبل الحرب بيومين، ولم أمكث فيه برفقة العائلة سوى يوم واحد فقط، فرد عمي حزيناً: "هينا قاعدين لنشوف وين رايحة الأمور."
لم نخرج، على الرغم من اتصالات الاحتلال المتواصلة، المخادعة والكاذبة، إذ قتل العديد من السكان وهم في طريقهم إلى وسط القطاع وجنوب وادي غزة، وكأن الجندي الصهيوني سادي يتلذذ بقتل البشر في ظل صمت عالمي مريع، فتجد أشلاء متناثرة في الطرقات، وأطفالاً بلا رؤوس، ونساء فقدن أطرافهن، كلهم يتألمون هناك في شارع الرشيد وخط صلاح الدين، ونحن عاجزون عن فعل شيء سوى البكاء، ونبصر المشاهد عبر قنوات التلفزة الإخبارية، ولا توجد بيانات استنكار لقتل المدنيين، حتى إخوة الدم والدين والهوية لم يحركوا ساكناً، وكأن على رؤوسهم الطير، واكتفت الأنظمة بإرسال الأكفان البيضاء عبر معبر رفح المحاصر.
حتى إذا جاء الليل بدأ الاحتلال يضرب قذائف الفسفور الأبيض والقذائف الدخانية المحرمة دولياً، ونحن نختنق ونختنق، والأطفال النائمون يسعلون وكأن الروح تصعد إلى الله، ثم بعد أن تهدأ موجة القذائف، ونحظى باستراحة لساعة أو أكثر قليلاً، تشرع سيمفونية المدافع والدبابات والبوارج الحربية في إطلاق قذائف الهاوزر العشوائية، وتضرب البيوت المتراكمة المتلاصقة، والصراخ يعلو ولا أحد يجيب، حتى سيارات الدفاع المدني أو الإسعاف لا تتحرك، ودُمرت السيارات وخلت الشوارع من مظاهر الحياة، والعتمة تحاصر الأمكنة بعد تدمير محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، وأعمدة الإنارة يميل بعضها نحو البعض الآخر، وتحتضن بقاياها في الشوارع خوفاً من الموت، لأن كل ما يتحرك مستهدف من الطائرات المسيّرة (الزنانة)، فيموت الجيران والأصدقاء بصمت، بينما تبكي النساء والأطفال واقع حالٍ يصعب على الكافر، وتستنفر أمي وتصلي، وتبكي وهي تتهجد أن يوقف الله المقتلة. وحين يأتي الفجر، تخرج طائرات الإف 16 والإف 35 لتضرب البيوت بأحزمة نارية مرعبة، لا يمكن للكلمات أن تصف الحال خلالها، ونحن ننتظر دورنا في الصعود عالياً إلى الله، في الوقت الذي تغرق فيه الأجساد تحت الركام، وبيوت تنام على أخواتها، وجدران تسقط معها كل الذكريات، فنقول بصوت واحد: "وين نروح يا الله؟"، وأبي المريض يتعكز على عصاه ليذهب نحو الغرفة المطلة على الشارع، ويجلس في المكان نفسه، ويبصر الدخان فوق العمائر التي تغطي البيوت، بينما تحتضن زوجتي أطفالها كما تفعل كل نساء المخيم في هذا الوقت العصيب.
وتطلع الشمس، وشموس برتقالية كثيرة تحاصر البيوت الواطئة في مخيم الشاطئ، فالنار كحبة برتقال، والشهداء بلا رؤوس، والبيوت تقرر نيابة عن أصحابها عدم مشروعية نقل الأجساد إلى المقابر التي اكتظت بالقتلى، فقد ربض الركام على أنفاس المتعبين الخائفين، ليظل شاهداً على اغتيال أناس عاديين يحبون الحياة ويعشقون غوايتها. في الصباح، خرجت مع بعض الجيران الأحياء نتفقد المخيم، وهناك وجدت أن صديقي إيهاب هللو (35 عاماً)، لاعب تنس الطاولة، قد بقي عالقاً مع أطفاله أسفل الأنقاض، وأخوه درويش وعماد، وأخواته نهلة وصفاء، والأطفال والنساء والعجائز، كلهم ما زالوا حتى لحظة الكتابة تحت الأنقاض، قريباً من بحر مخيم الشاطئ، بينما حلقت أرواحهم بين النجوم.
أستاذي بسام حمزة شامية (57 عاماً)، مدير مدرسة أنس بن مالك، سقط في فخ الموت أيضاً برفقة العائلة، وكان البيت قد تحول إلى هيكل من الأعمدة والبارود واللهب، وظل يحترق حتى الفجر، لذلك، شرعنا برفقة الجيران في البحث عن بقايا جثث هاربة من الرماد، لكن القطط كانت أسرع، إذ رأيت قطة تنهش اللحم المشوي المتناثر في محيط المكان قريباً من مسجد خليل الرحمن بالمخيم، ولا أعرف إن كانت تلك الأشلاء لأبناء أستاذي أم لزوجته، أم أي من أطفاله الأبرياء. والمحزن أنه لا توجد رافعات أو جرافات يمكن لها السير في الشوارع، لأن كل ما يتحرك "إرهابي" يجب قتله بحسب رؤية وسلوك جيش الاحتلال الذي شرع في حينه في ممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لجميع سكان قطاع غزة.
جاري النازح عادل الفصيح (47 عاماً)، الموظف في بلدية غزة، رجل هادئ لديه أسرة مكونة من أربعة ذكور وفتاة جميلة تشبه الفرنسيات، نزح مثلي من حي النصر إلى مخيم الشاطئ، وقرر المكوث في منطقة هادئة على أطراف المخيم قريباً من مقر الأونروا المسؤول عن توزيع المساعدات في المخيم، وهو لا يعلم تلك الليلة أن الاحتلال سيبدأ لعبة القصف والقتل فوق بيوتهم، لأن الطيار المجنون سادي يعشق الانتقام من الأطفال الذين لا يتحدثون لغته العبرية أو الإنكليزية التي جاءت معه من الولايات المتحدة الأميركية، فقصف البيوت هناك، لذلك، سقطت المباني والعمائر والأبراج مجدداً في فخ الموت، وانهارت معها حكايات وقصص لأطفال يحلمون بالاستيقاظ صباحاً من أجل إتمام لعبة كرة القدم في الشارع أو مشاهدة ما تبقّى من مسلسل توزيع ربطات الخبز في المخبز الذي تم تدميره لاحقاً أو تعبئة جالونات المياه، لكنهم غابوا وغابت شمسهم إلى الأبد.
وجاري عادل كان يحلم بتسجيل ابنه محمد (18 عاماً) في الجامعة الإسلامية في غزة، إذ يرغب الابن في دراسة الهندسة المدنية، فهو مثابر نجح في امتحانات الثانوية العامة 2022 - 2023 قبل الحرب بعدة أشهر، وجاء الأب إلى كل حارتنا بالحلوى والعصائر المثلجة والبشرى، لكن محمد قُتل في تلك الغارة، وفاضت روحه مع أخته التي تشبه السندريلا، وبقي لعادل، الناجي الوحيد من تلك المقتلة، بعض الذكريات التي ستظل تلاحقه كغصة في حلقه حتى يلقى الله. حتى أنا ما زلت أذكر هذا الرجل وهو يحمل على ظهره وهو قادم من بيته في حي النصر في اليوم الأول من الحرب خزان مياه كبيراً، بينما تحمل زوجته – رحمها الله - أكياساً من المعلبات والطعام الذي صار أمنية الصامدين في مدينة غزة وشمالها. يومها، عرضت عليهم المساعدة، فشكرني عادل وواصل مسيرة التعب إلى مخيم الشاطئ.
أمّا نحن، فلم نهرب ولم ننزح في اتجاه أي مكان، وقررنا الصمود في مواجهة تلك الإجراءات التعسفية بالتجذر والبقاء في المخيم، لكن شمس الظهيرة تقدح في جسد البيوت مع قذائف أميركية لا ترحم، وعلى الرغم من ذلك، لم نخرج كما فعل البعض، لكن العصر يأتي محملاً بضغط أكبر، وتستمر الطائرات في إلقاء القنابل الدخانية، فأجد نفسي أحمل وزوجتي وأطفالي حقائب الظهر، ونتحرك نحو اللامكان، فيسألني أطفالي: "إلى أين سنذهب يا أبي؟" وأنا مشتت، وتائه، ولا أعرف ماذا أفعل، أو ماذا أقول، والعرق يتصبب من أجسادنا، وتعاود زوجتي السؤال: "إلى أين سنذهب يا يسري؟" وهي تبكي بحرقة، فأقول وقد استبد الخوف والقلق بي: "مش عارف، لأول مرة مش عارف وين أروح أو إيش أعمل." وأنا المعروف عني أنني المخطط الاستراتيجي لكل مسار حياتي والعائلة.
فنقف عند بوابة مدرسة أسماء التابعة لوكالة الغوث عند أطراف المخيم من الجهة الشرقية، والهرج كبير، والناس سكارى وكأنها القيامة، وهناك وفود تدخل وأُخرى تخرج، إذ لا يوجد متسع للهاربين من جحيم الموت، أملاً في أن يحمي أجسادهم ذلك العلم الأزرق فوق تلك البنايات الزرقاء. ولأن التيه هو سمة الوضع آنذاك، فقد قررت العودة إلى بيت خالي الوزير عمر حلمي الغول، ذلك البيت غير المجهز، والذي يقطنه خالي عمران وأبناء عمه على الرغم من حالته المزرية؛ فقد ترك خالي عمر غزة كلها ليعيش في رام الله، الأكثر أمناً وسلاماً، وترك كل متاعه منذ أكثر من عشرين عاماً. المهم أنني نمت تلك الليلة برفقة أبناء العم بشير ربيع الغول، وعوني ربيع الغول، وعائلاتهما، من دون أن أعرف أنه سيكون اللقاء الأخير لي بهم، فقد استشهدوا لاحقاً بعد نزوحهم إلى بيت عمتي راوية العرابيد في منطقة النفق، وأجسادهم ظلت تحت الركام كما هو الحال مع أكثر من 15,000 جثة تصلي لله الآن في غيابها الأليم.
في الصباح، زادت حدة القصف، فقررنا الهرب إلى مقر الـ "UNDP" حيث جاء جار إلينا، وقال: "اذهبوا إلى مقر الـ UNDP قبل أن يكتظ بالسكان، ما زال هناك متسع للعائلات"، فهرولت أنا والعائلة إلى المكان المحاذي لمشفى الشفاء، وقمنا بحجز مساحة لا تتجاوز خمسة أمتار بجوار غرفة سبقنا إليها جيراننا من آل غيث، الذين استشهدوا لاحقاً في مدينة دير البلح وهم يجمعون الحطب، ودير البلح جنوب قطاع غزة هو المكان الذي ما زال يتبجح الاحتلال في أنه المكان الآمن للسكان.
وجلسنا نصف ساعة على بلاط تلك المؤسسة، وزوجتي بملابس ثقيلة على الرغم الحر الشديد، والعرق يتصبب منا جميعاً، والناس تتكدس في الطوابق كلها، ويوجد نزاع بين الهاربين من الموت على مساحة هنا أو غرفة هناك، والأنفاس متعبة، فتقول زوجتي: "كيف سأتحرر من هذا الجلباب والمنديل، أنا أختنق"، بينما تواصل ابنتي المقطوعة الموسيقية المبكية: "بابا، كيف سندخل الحمام؟ أنا أريد قضاء حاجتي."
ولعل كل الكلمات لن تستطيع أن تصف الحالة المزرية التي وصلنا إليها؛ التيه والجنون يعتري الغزي الذي يرفض الانصياع للاحتلال بالهرب نحو الجنوب، لأنه سيعيش هذه الأجواء داخل المدارس والمشافي والمؤسسات بعد أن تحولت إلى مراكز إيواء ملأى بالأمراض والهزائم.
فتعود زوجتي مجدداً وتهمس في أذني بتوسل: "أمانة، اتصل على أختي رندا، لأنها في جباليا، لو رحنا هناك يمكن أكثر آدمية من هذا الوضع الخانق"، فلم يسبق لأي من أهل غزة العيش في مراكز الإيواء عدا مجموعات قليلة من سكان الشمال بعد تدمير بيوتهم في الحروب والاعتداءات الصهيونية السابقة، ولم يسبق لأناس مثلنا العيش برفقة آخرين، نتشارك حماماً واحداً لأكثر من ستين جثة تتنفس. لذا، هاتفت ابن خالتي، وعلمت أنهم نزحوا إلى جمعية تأهيل المعاقين في مخيم جباليا أيضاً، لكن البعض قرر البقاء في الجرن –منطقة سكنية بين مخيم جباليا وجباليا البلد - فقمنا على عجل بترك المساحة لنازحين آخرين وفررنا إلى جباليا، وهناك استقبلونا بالبكاء.
مكثنا في مخيم جباليا أكثر من 45 يوماً، وكنت محرجاً حينها من عدم القدرة على توفير الطعام، لكن ابن خالتي وشقيق زوجتي قال مبتسماً: "ما تقلق، اللي موجود بناكله والرزق ع ربنا"، كان خلالها البحث عن الطعام في الأسواق، كالبحث عن إبرة في كومة قش، بينما يحمل أطفالي جالونات مياه البلدية، التي تزور المنطقة كل 10 أيام لساعتين أو ثلاث ساعات فقط. أطفالي الذين كان مكانهم المدرسة ومعهد الموسيقى ونوادي الفروسية في تلك الفترة، صاروا مشردين ككل الأطفال الذين تركوا مقاعد الدراسة وهربوا من جحيم القصف إلى أماكن كثيرة لا تنتمي إليهم، شمالاً وجنوباً، أملاً في البقاء. والمذياع لا يتوقف عن ذكر الجرائم التي لا تنتهي بحق الأطفال والنساء، بين شمال الواد وجنوبه، والعالم كالعادة يضع سماعة في أذنيه ويرقص على أنغام القذائف، وغزة تغرق أكثر وأكثر في جحيم الحياة السرمدي.
عدنا من جباليا إلى مخيم الشاطئ بعد أن تم تدميره بالكامل، وصار أطلالاً؛ فالبيوت تشبه أصحابها أكثر، ملأى بالتجاعيد والتشققات، فلا نوافذ أو شرفات، وكل شيء صار مفتوحاً على الشارع، وكأن بيوتنا شوارع، وكأن الجدران تعشق الغناء، فتوحدت مع السماء لتعزف سيمفونيات أكثر شاعرية من أجل بكاء أكثر. وقصة العودة تشبه أفلام الزومبي وموت البشرية بينما يظل أبطال السيناريو وحدهم يكافحون للبقاء على قيد الحياة؛ إذ كان طريقنا من مخيم جباليا سيراً على الأقدام إلى مسافة تزيد على 25 كيلومتراً محفوفة بالعذاب، والبيوت المدمرة تحاصرنا من جوانب الأرض الأربعة؛ هذا فشارة الذي ظهرت صورة الأشلاء بجواره في التلفاز بعد حزام ناري كبير، وتلك العمارة كان يتلذذ القناص بقتل الأطفال من ثقب في جدرانها، وتلك مدرسة محترقة، ومسجد صار أثراً بعد عين.. مشينا إلى مجمع الصحابة، وهناك وجدنا مقابر متناثرة في مساحات ضيقة من الأرض بجوار البيوت، حيث لم يعد هناك مجال لدفن الموتى في المقابر لأسباب كثيرة، أهمها ضيق الأمكنة وصعوبة الوصول إلى المقبرة، وانتشار الجثث، وعدم احترام آدمية الميت لكثرة الموت والميتين في هذه المساحة الصغيرة.
قبل أن نصل إلى منطقة السرايا، أصيب أمامنا عدد من الأطفال برصاص قناصة متمركزين عند منطقة مسجد فلسطين، والناس تجري بين الأزقة، ولا تعرف أين تهتدي، وماذا تفعل؟! هذه تحمل طفلاً، وتلك تجر خلفها جيشاً من الأطفال، وهذا يحمل جرة غاز، وهؤلاء يجلسون على عربة يجرها حمار نحيف، يظهر عليه الجوع. فوجدتُنا بهذا نعود أدراجنا، ثم بعد يومين أحاول الوصول إلى مخيم الشاطئ برفقة أطفالي الذكور، وتبقى زوجتي عند أمها برفقة ابنتي مجد، لأن ابن خالتي حسام استشهد بينما كان في طريقه لقضاء حاجته، فانتهت حياته فجأة.. تخيل أن تستيقظ داخل مركز إيواء، وتشعر كأي إنسان عادي أنك تريد قضاء حاجتك، فتذهب إلى حمام مقزز مشترك، وفي أثناء الطريق، تقنصك طائرة كواد كابتر إسرائيلية قبل أن تلبي نداء الطبيعة، وتموت. كم هي سهلة تلك الأحجية؛ تغمض عينيك، وتستحلب ريقك، وتتمدد إلى الأبد، ثم يحضر الجيران، ويدفنونك في الجزيرة بين شارعين، وتصبح ذكرى لكل من عايشوك. هذا ما حدث مع حسام شقيق زوجتي، بعدما عادوا ليخبروا الجميع أنه استشهد وتم دفنه، من دون أن تودعه الأم أو الشقيقات أو الأحبة.
ظلت زوجتي لشهر هناك، وعدت إلى مخيم الشاطئ، فوقعت فواجع في منطقة الجرن في جباليا، فظننت أن مكروهاً وقع لها أو لابنتي، ولا يمكن التواصل عبر الهاتف، بسبب انقطاع الاتصالات وكل سبل التواصل الإلكتروني أو التقليدي، واكتشفت لاحقاً حين عادت زوجتي بمغامرة إلى نزوحنا الجديد أنها أصيبت وطفلتي مجد، إذ وقع جدار فوق جسدها وهي نائمة، وأصيبت بخدوش وجروح في الجسد.
وبين المخيم وحي الشيخ رضوان تجارب أُخرى مع النزوح، وخصوصاً عند اقتحام مشفى الشفاء، وقتل الأطفال في شوارع المخيم، وتحديداً عند شارع قهوة غبن، وبينما تعد زوجتي الطعام من الماء غير الصالح للاستخدام الحيواني، مغمساً بخشاش الأرض من ورق الخبيزة التي لا يوجد غيرها في المساحات المدمرة، تأتي إلى الأرض، التي عشقت طعم البارود، والملوثة بالنترات المسرطنة، قذيفة لتنتهك البيت، فتصاب زوجتي في إثرها بإصابة طفيفة تستدعي عدم "ركبة الرأس" والهرب إلى بيت أختي في حي الشيخ رضوان، فنمكث هناك لأيام قليلة، لسبب وحيد؛ لا يوجد طعام، وما زلت أذكر كيف ذهبت أختي لشراء علبة بازيلاء بثمانية دولارات وباذنجانتين بعشرين دولار، لنعود إلى المخيم ونحن عازمون على الموت هناك، بدلاً من إرهاق الآخرين المرهقين أصلاً.
... وما زال النزوح مستمراً حتى لحظة الكتابة.