عندما طُلب مني أن أكتب تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، شعرت كما لو أنهم يطلبون مني أن أفتح جرحاً لم يلتئم بعد، وأن أنتزع كل حرف بألم. لكن كتابة هذه التجربة كانت ضرورية كشهادة على معاناة الضحايا داخل ظلمات السجون الإسرائيلية، فهي نافذة سريعة تطل على عالم العذابات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وشاهد على تعذيبهم المرئي والمخفي داخل الزنازين.
بدأت أجمع المعلومات بشأن الأحداث داخل السجون، عبر تفاعلي مع الأسرى الجدد الوافدين إلى سجن عوفر. وفي 26 تشرين الأول/أكتوبر 2023، انتقلت إلى سجن النقب، ومنها انتقلت في 4 شباط/فبراير 2024 إلى سجن مجدو، وهو ما منحني تجربة إضافية ومعلومات أكثر تفصيلاً إزاء تجارب الأسرى. ويجدر بنا ذكر أن لكل أسير تجربته الفريدة التي تحتاج إلى استكشافها وتحليلها من منظورات متعددة لفهم الأحداث بصورة أكبر. وتستند هذه النصوص إلى تجربتي الشخصية، وإن كنت لم أتناول فيها كل أوجه التعذيب النفسي والجسدي التي يمارسها الشاباك الإسرائيلي، والتي تبرَر بموجب تفسيرات قانونية بأنها "درجة معتدلة من الضغط الجسدي." وتوصيات لجنة "لانداو" تؤكد عدم تحمل المحققين المسؤولية الأخلاقية الشخصية عن هذا العنف، وهو ما يجعل الجهاز نفسه المسؤول الرئيسي عن هذه الممارسات.
وننشر هنا سلسلة من الحلقات بشأن هذه التجربة:
الحلقة الأولى
كيف عرفتم بأحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر؟
من العادة أن يتم فتح الأقسام قرابة الساعة السابعة صباحاً. وفي تلك اللحظة، كعادتي، خرجت إلى ساحة القسم لممارسة الرياضة الصباحية، وما إن وطأت أرض الساحة "الفورة" حتى ناداني أحد الأسرى، وبلغني أن مجموعة من الصواريخ تطلَق من قطاع غزة إلى مناطق أبعد من مستوطنات الغلاف، فهرعت إلى التلفاز لمشاهدة بث القناة 13 الإسرائيلية، فشاهدت الحدث، وتبين لي أنه منذ مدة. في البداية، اعتقدت أنه رد على عملية اغتيال لشخصية وازنة خارج فلسطين، كنائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، صالح العاروري، كونه تعرض للتهديدات في الآونة الأخيرة، أو ربما هي عملية تمويه وغطاء لعملية خطف.
لا بد من التنويه إلى أن جل الأسرى لا يدركون حجم الحدث الذي جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كونهم انقطعوا عن العالم الخارجي منذ اللحظات الأولى، وبالتالي، لم يشاهدوا أو يسمعوا تفاصيل أحداث ذلك اليوم كي تتبلور صورة كاملة في أذهانهم.
بعدها عدت إلى الرياضة قبل أن أسمع أحداً يصرخ: "القسام سيطر على الغلاف." أخذت الأمر في البداية على أنه من باب الدعابة، ولم نصدق أن هذا حدث، لكن سرعان ما نادى أسير آخر أن هناك كلمة للضيف بعد قليل. حينها، ساد اعتقاد أن "حرب التحرير" قد انطلقت شراراتها.
يحدثني إبراهيم، وهو أسير التقيته في سجن النقب، بأن بعض الأسرى حينما سمعوا بالأحداث، قاموا بارتداء ملابس جديدة كانوا قد احتفظوا بها ليوم الإفراج عنهم، ثم بدأوا يتحدثون عن أول ما سيفعلونه لحظة الإفراج. البعض سوف يسجد لله شكراً، وهناك من سيقبّل قدمَي والديه، والآخر سوف يشكر المقاومة، وهكذا. ويضيف إبراهيم أن إدارة السجن قامت بإخراج أصحاب الأحكام العالية من القلعة "أ"، وهي عبارة عن عدة أقسام من الخيام. حينها ظن الأسرى أن الصفقة تمت، فقاموا بتوديع بعضهم البعض، والابتسامة على وجوههم. لكن ما إن وصلوا إلى مكان الاستقبال في السجن، المعروف بـ "المخلول"، حتى انهالت عليهم وحدة القمع "الكيتر" بالضرب، وتم نقلهم إلى أقسام الغرف في القلعة "ج". أمّا ناصر، فقال لي: "لم أصدق ما جرى، كنت أشاهد التلفاز وأسمع الراديو في آن واحد، حتى ظننت أنني سأخرج من السجن الآن. "
بمجرد الدخول السجن، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تجد نفسك في مواجهة تهديدات مستمرة على مدار الساعة، وهذا الوضع يولد توتراً وضغطاً مستمرَين داخلك من دون أي فرصة للراحة أو التعافي. ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي هذا الضغط المتواصل إلى تدهور حالتك النفسية والجسدية، وهو ما سيؤثر سلباً على حياتك بصورة عامة.
تقوم إدارة مصلحة السجون بإحاطتنا بتهديدات مستمرة، عبر التهديد بعنف مستقبلي من دون تنفيذه فعلياً، وهو ما يُعرف بالعنف المرمز، وهذا النهج يجعلك في حالة دائمة من التهديد والخوف؛ بمعنى أنك لا تتعافى من آلامك الأولى حتى تستعد لاعتداء مستقبلي ممكن، فبعد كل اقتحام للغرفة التي كنا نُحتجز فيها، وتعرُضنا للضرب المبرح، كان ضابط الوحدة يخبرنا عند مغادرته باللغة العبرية "خوزريم"، أي سنعود. وهذا الوضع جعلنا نعيش في حالة مستمرة من الخوف.
ولدت هذه الحالة جملة من الآثار السلبية التي ألقت بظلالها على مجرى حياتي داخل السجن، كان من أبرزها زيادة مستويات القلق والتوتر والقدرة على التفكير بوضوح واتخاذ القرارات الصحيحة وتغيرات في حالتي المزاجية؛ إذ إن الواحد منا كان يُستفز سريعاً من أي كلمة، ولا يتحمل مزاحاً، انعكاساً لهذا الواقع.
ويشاركني إبراهيم تجربته في الأيام الأولى في سجن النقب خلال الحرب، فيصفها بأنها صعبة للغاية: "لحظات لا أنساها طوال حياتي." فلم يعرف طعم النوم أبداً، ووصل الخوف إلى درجة امتناعه من التجول داخل الغرفة. وفي بعض الأيام، كان يتشاجر مع أي شخص يقترب من باب الغرفة، حتى لو كان السجانون خارج القسم والساحة فارغة.
لم أكن أحب ساعات الليل، وخصوصاً اللحظة التي يذهب فيها كل فرد في الغرفة إلى فراشه من دون التحدث إلى الآخرين، إذ كانت أجواء الصدمة تخيم علينا بكل معنى الكلمة. وكنت دائماً على أهبة الاستعداد عند سماع فتح باب القسم، تحسباً لتفتيش أو اعتداء ممكن.
الضرب المبرح والعنف الجسدي
كان الضرب المبرح والعنف الجسدي ذروة الانتقام من الأسرى بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وولد هلعاً دائماً، وهو جزء من سياسة القمع والانتقام المتبعة، ولم تكن مجرد أعمال عنف عشوائية، بل أيضاً هدفت إلى كسر إرادة الأسرى، وتثبيط معنوياتهم، وإلحاق الضرر بصحتهم الجسدية والنفسية.
وتتضمن أشكال الضرب اللكم والركل واستخدام الهراوات والعصي، وتكون غالباً مصحوبة بتعذيب نفسي وتهديدات بالعنف الجسدي المستقبلي. ويتعرض الأسرى خلال هذه الضربات إلى إصابات جسدية خطِرة تتراوح بين الكدمات والكسور والجروح، بالإضافة إلى الصدمات النفسية والتوترات العصبية.
عبر تجاربي في الاعتقال المتكرر، لم تكن حالات الضرب شيئاً شائعاً إلاّ في لحظة الاعتقال الأولى على يد الجنود. أمّا عندما يتم نقلك إلى السجن وتصبح ضمن مسؤولية إدارة السجون، فعادةً لا تتعرض لأي نوع من الاعتداءات أو الضرب، لأن ذلك ممنوع وفقاً لقوانين مصلحة السجون.
أول قصة من قصص الضرب سمعتها من أيمن، الذي تم اعتقاله في الأسبوع الأول من الحرب، وتعرض للضرب المبرح لحظة الاعتقال، وهو ما أدى إلى كسور في أضلاع صدره. وكان الجيش قد داهم منزله، ولم يكن متواجداً في البيت، ثم سلم نفسه على أحد الحواجز القريبة، فتعرض للضرب المبرح من جانب الجنود على الحاجز، ثم نُقل إلى مركز توقيف عتصيون، وحينها اجتمع عليه أكثر من 7 جنود، وقاموا بضربه بصورة جنونية، حتى إنه لم يستطع أن يتنفس أو يتحرك. واكتشف فيما بعد أن بعض أضلاعه قد كُسرت، وبعد أن شرح ذلك لطبيب السجن، قال له: "ما فيك شيء، خلي السنوار يعالجك." وعلى الرغم من مرارة القصة، فإنني لم أدرك حجم الحدث حتى تلك اللحظة.
على الصعيد الشخصي، تعرضت للضرب لأول مرة خلال الحرب، في أثناء نقلي مع 50 أسيراً ليلاً من سجن عوفر إلى سجن النقب، في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عملية تقييدنا وصعودنا إلى الشاحنة المخصصة لنقل الأسرى، تعرضنا للضرب من جانب فرقة "النحشون" المختصة بذلك. وعند وصولنا إلى سجن النقب، كانت في انتظارنا فرقة "الكيتر"، وهي فرقة مخصصة للقمع في السجن، فبدأوا بسحل كل أسير على حدة، وتفتيشه عارياً، ثم ضربه بشدة قبل نقله إلى القسم. في تلك اللحظة، شعرت بأنني دخلت دائرة الأحداث، وأدركت حجم الخطر الذي يهدد الأسرى.
وبعد وصولي إلى سجن النقب، سمعت شهادات من الأسرى القابعين في السجن عما تعرضوا له في الأسبوع الثاني للحرب، وكانوا في صدمة حقيقية، إذ كان من الصعب عليهم نسيان يوم "الأحد الأسود" الذي وقع في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما قامت إدارة السجن باقتحام جميع أقسام الأسرى بصورة همجية والاعتداء عليهم بالضرب المبرح، وتم استخدام الهراوات والعصي الغليظة في ضرب بعض الأسرى، وخصوصاً ذوي الأحكام العالية، وذلك في أثناء نقلهم من قسم إلى آخر، وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها الأسرى داخل السجن للضرب.
وبعد 3 أيام من وصولي إلى سجن النقب، وفي ساعات الظهيرة، اقتحمت وحدة "الكيتر" 3 غرف في القسم 25، في القلعة "ج"، وكانت المرة الأولى التي سمعت فيها صراخ الأسرى من شدة الضرب، ولا أعتقد أنني سأنسى تلك اللحظة أبداً. قضيت الليلة جالساً في زاوية الغرفة، ولم أكلم أحداً، ولم أستطع حتى تناول الطعام، وخشيت أن أدخل في صدمة نفسية تلازمني طوال حياتي، وما أنقذني من ذلك كان اقتحام الغرفة التي كنت فيها في اليوم التالي، إذ تعرضنا للضرب أيضاً، وتم يومها دوس رأس أحد الأسرى بالحذاء من جانب الضباط والسجانين في أثناء الضرب.
إن ممارسة الضرب لم تكن حكراً على السجانين فقط، بل أيضاً طالت ضباط السجن بمختلف درجاتهم؛ كالممرضين، والأطباء، ورجال الشرطة المسؤولين عن نقل الأسرى بين السجون. ويحدثني محمد بأنه حين دخل سجن مجدو، كان في انتظاره مجموعة من السجانين، ومنهم مسعف أو طبيب لم يستطع التأكد من هويته، وبعد أقل من ربع ساعة من وصوله إلى زنزانة الانتظار، انهالوا عليه بالضرب المبرح، وكان المسعف أو الطبيب ممن ضربوه.
وفي يوم السبت 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقعت حادثة استشهاد الأسير ثائر أبو عصب في سجن النقب، حين تعرض للضرب المبرح على يد فرقة العدد المسائي. وكانت هذه الحادثة نقطة فاصلة في تاريخ السجن؛ فبعده، تم تقنين الضرب، وذلك بعد تقديم خطيبة الشهيد دعوى في المحاكم الإسرائيلية، وطالبت بالتحقيق في أوضاع استشهاد أبو عصب ومعاقبة الجناة.
وفي اليوم الذي أصفه بيوم "السبت المشؤوم" نفسه، وعند نحو الساعة 6:30 مساءً، في موعد العدد المسائي، اختارت فرقة العدد 3 غرف من كل قسم، بإجمالي 8 أقسام، وشنوا هجوماً عنيفاً بالضرب على الأسرى داخل هذه الغرف، وعندما غادرت الفرقة القسم، صاح ضابط الفرقة قائلاً: "كل يوم لكم ضربة يا ’حماس‘"، على الرغم من أن القسم كان يضم أسرى من جميع الفصائل.
وفي اليوم التالي، كان موعد الفحص الأمني، وتم نقلنا إلى الغرفة المجاورة، وهناك وجدت درويش، أحد الذين تعرضوا للضرب، وهو يلف يده المكسورة بكيس خبز مهترئ، مع رضوض في مختلف أنحاء جسده، فحدثني قائلاً إنه طلب من السجان أن يحضر المضمد، وبعد ساعة، جاء المضمد وأعطاه حبة أكامول، ونصحه بتوزيعها على رفاقه في الغرفة.
والتساؤل الذي كان ينتقل من أسير إلى آخر هو: "هل هذا الضرب موقت أم سيكون دائماً؟" فكان يعبّر عن القلق الشائع بين الأسرى، إذ كانوا يحاولون تجاهل الواقع باعتقاد أن الضرب لا يحدث إلاّ في حالات تستدعيها المبررات، بينما كانت الحقيقة تشير إلى العكس تماماً.
لكن الاعتقاد الذي يسود عقب كل عملية قمع هو أن هناك حدثاً ما في غزة أو عملية للمقاومة أوجعت إسرائيل، لذا، فإن الأسرى هم الحلقة الأضعف للانتقام. وبالتالي، فقد كان كل أسير يشعر بأنه جزء من المعركة، وهو ما يعزز المعنويات، ويولد أفكاراً وبدائل لمواجهة السجان بطرق جديدة ومبتكرة.
كنا نسترجع قصص أسرى غزة التي تناقلها الأسرى من دون التأكد من صدقيّتها، بما في ذلك كيفية التعامل معهم ومحاولة تصور أنواع العنف التي يتعرضون لها، وكذلك النساء الأسيرات. وبعض الأسرى اعتقدوا أن الأسيرات لن يتعرضن للضرب، بينما توقع آخرون أنهن يمكن أن يتعرضن للعنف بسبب طبيعة الحرب غير المسبوقة.
وتعمدت إدارة السجون استهداف قادة الحركة الأسيرة بهدف كسر معنويات الأسرى وإضعاف روحهم النضالية، وذلك عبر الضرب المبرح والاعتداءات المتكررة عليهم. ويهدف استهداف القادة إلى بث الرعب والخوف بين الأسرى الآخرين، ومنعهم من إعادة هيكلية التنظيم داخل السجون؛ فعلى سبيل المثال، تعرض الأسير مروان البرغوثي وإبراهيم حامد، اللذان يشغلان مناصب قيادية، لضرب مبرح في أثناء فترات نقلهم بين السجون.
كما يُعد تقييد الأسرى لساعات طويلة مع تغطية أعينهم في غرف الاحتجاز نوعاً من التعذيب أيضاً، إذ يتم احتجازهم في غرف صغيرة وضيقة لفترات ممتدة، مع تقييدهم بالأصفاد أو السلاسل، ومراقبتهم باستمرار عبر كاميرات المراقبة. وفي هذا السياق، يروي سامر: "في صباح أحد أيام شباط/فبراير 2024، وكان أول يوم جمعة في الشهر، اقتحم أكثر من 20 حارساً مقنعاً الغرفة التي نُحتجز فيها، وتعرضنا للضرب المبرح بالهراوات بسبب رفضنا إخراج الفرشات من الغرفة كنوع من العقاب. بعد ذلك، تم أخذي وأسير آخر إلى ساحة بين الأقسام تُسمى ’المخلول‘، حيث تمت تغطية أعيننا وتقييد أيدينا لمدة تزيد على 10 ساعات، وحُرمنا الطعام واستخدام دورة المياه، بالإضافة إلى تعرضنا للشتائم."
ومن الجدير ذكره أنه لم يكن هناك توقيت محدد لاقتحام غرف الأسرى أو الاعتداء بالضرب، إنما كانت أوقات عدد اليومية الثلاثة؛ الصباح والظهيرة والمساء، وتشهد نسبة أعلى من غيرها من الأوقات خلال اليوم. بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، تغيرت هيئة العدد من الوقوف إلى الجلوس على الركبتين ووضع اليدين على الرأس مع استدارة الوجه نحو الحائط الخلفي للغرفة. وعندما ينتهي ضابط فرقة العدد من العد، يعطي إشارة للشرطة لاقتحام الغرفة، وبعد الانتهاء من المهمة، يعطي إشارة للانسحاب.