دولة تدافع عن مغتصِب
التاريخ: 
12/08/2024
المؤلف: 

جمهور متنوع يتألف من وزراء، ونواب، وضباط احتياط، وموظفي قطاع عام أو دولة، يجتمعون معاً للدفاع عن مغتصِب أو مغتصِبين. هذا المشهد مبني على قصة حقيقية وليس من وحي الخيال الهوليوودي أو لأغراض الترويج السينمائي. ففي 29 تموز/ يوليو 2024، تظاهر المئات من الناشطين الإسرائيليين، ومنهم نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة، مثل عميحاي إلياهو وزير التراث الإسرائيلي، أمام معسكر "سدي تيمان" في النقب، احتجاجاً على قرار الشرطة العسكرية التحقيق في شبهات حادثة اغتصاب معتقل فلسطيني من قطاع غزة، تم نقله في حالة صحية حرجة إلى المستشفى.

إذن، الموضوع يتجسد في اصطفاف مجتمع وشعب ومنظومة سياسية وأمنية للدفاع عن مغتصِب أو مغتصِبي أسير فلسطيني أعزل ومقيد، لا يقوى على الدفاع عن نفسه أو حماية جسده من وحوش كاسرة لا تأبه لحرمة جسد مقيد ومثخن بالجراح؛ جسد نحيل أنهكته القيود والأصفاد التي أكلت من معصمَيه وكاحلَيه، وأرهقه الجوع والحرمان من النوم، والتعرّض لهجمات ونهش الكلاب البوليسية؛ جسد أرهقه القلق على أهله وأصدقائه، ومنهم المعتقلون معه.

مجتمع، وشعب، ومنظومة سياسية وأمنية لا يبالون بصورة مستقبلهم أمام العالم، ولا يبالون بالصور التي ستبقى في أذهان أبنائهم. لا يهتمون بحجم التوحش والعنف الذي يتسرب إلى مجتمعهم ومدارسهم وعائلاتهم، وربما إلى حضانات أطفالهم، وبالطبع إلى الحيز العام.

نقيض الرواية الأولى

تجنّد الناطقون الرسميون وغير الرسميين من أجل الترويج لرواية الحرق والاغتصاب التي صاغتها آلة الإعلام الإسرائيلية والموالية لها، لإدانة "حوادث الاغتصاب التي وقعت في السابع من أكتوبر"، والتي ادعت أن الفلسطينيين قاموا بهذا الفعل الشائن، في الوقت الذي فُنِّدت فيه هذه الادعاءات من قبل مؤسسات حقوقية وصحافية، وضمنها مؤسسات إسرائيلية. والأهم من ذلك، أن هذه الحملة رُوِّج لها في إطار الأخلاق والقيم العالمية، لإظهار الفرق بين "الشرق المتوحش" و"الغرب المستنير" ذي القيم الأخلاقية العالية وقيم حقوق الإنسان.

كذلك روّجت إسرائيل على لسان رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، أن هذه الحرب هي حرب "أبناء النور ضد أبناء الظلام"، وهو ما جاء في الوثيقة التي وزّعها على الجنود في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.

عن معسكر سدي تيمان

معسكر "سدي تيمان"، الذي يعني بالعربية "حقل اليمن"، يعود تاريخه إلى ماضٍ استعماري يمتد إلى الحرب العالمية الثانية، فقد أقامته سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين لتعزيز عملياتها الحربية، وكان من ضمن مرافقه مطار حربي.

وفي هذا المعسكر نفذت الوكالة اليهودية عملية إجلاء وتهجير ليهود اليمن من موطنهم الأصلي إلى المستعمرة الصهيونية الجديدة "إسرائيل" بين عامي 1949 – 1950، وأُطلق على هذه العملية اسم بساط الريح، ونجم عنها عملية سرية أُخرى تمثلت في سرقة أطفال أبناء العائلات اليمنية المهاجرة، ضمن عملية بساط الريح، ومنحهم إلى عائلات مهاجرة من أصول أشكنازية، ما أدى إلى تشكيل العديد من اللجان الرسمية الإسرائيلية للتحقيق في هذه السرقة استمرت عقوداً. وما زال عدد من المؤسسات الحقوقية يعمل على إظهار مزيد من التفاصيل المستترة في هذا الملف.

تمت إعادة تشغيل المعسكر كسجن بقرار من الحكومة الإسرائيلية في أعقاب عدوانها على قطاع غزة في عام 2008-2009، ولاحقاً في سنة 2014. وكان المسوغ القانوني أن نزلاءه يُعتبَرون "مقاتلين غير شرعيين" ويشكلون خطراً وتهديداً للأمن وفقاً لمقاييس فضفاضة لا تستند إلى أسس قانونية معروفة.

إن تاريخ هذا المعسكر لا يقل بشاعة عن حاضره، ذلك بأنه يمثل امتداداً لمسيرة استعمارية دموية بلغت ذروة بشاعتها في احتضان هذا المكان تظاهرة للدفاع عن مغتصِبِ أسير.

الانتهاكات لا تقتصر على سدي تيمان

ما جرى في سدي تيمان من حوادث اغتصاب وقتل وحط من كرامة وإنسانية الفلسطيني المعتقَل حدث أيضاً في معتقلات وسجون أُخرى، بعضها كان موجوداً قبل 7 أكتوبر 2023، والبعض الآخر افتُتح بعد السابع من أكتوبر لاستيعاب آلاف المعتقلين الذين تم اعتقالهم بصورة عشوائية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن هذه "المسالخ"، كما يحب أن يسميها الأسرى الفلسطينيون، سجن عناتوت وهو معسكر يقع شرق القدس، ومعسكر سجن عوفر الذي يقع شمال القدس، وسجن النقب في جنوب فلسطين، ومجدو في سهل مرج بن عامر، وغيرها من السجون ومعسكرات الاعتقال التي تعجّ بعشرات آلاف المعتقلين الفلسطينيين، الذين يُمارَس عليهم أبشع أنواع القهر والحرمان.

منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى 2 تموز/ يوليو 2024، استشهد 44 أسيراً فلسطينياً نتيجة التعذيب والتجويع والحرمان من العلاج، وذلك وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في 9 آب/ أغسطس 2024.

وهذا الرقم يشمل فقط الأسرى الذين يقبعون في السجون والمنشآت التي يديرها الجيش الإسرائيلي، يضاف إليهم، بحسب التقرير نفسه، نحو 16 أسيراً استشهدوا في السجون التي لا تُدار من قبل الجيش، بل من جانب مصلحة السجون التي يُشرف عليها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير؛ هذا الوزير الذي أشرف شخصياً على توزيع السلاح على جمهور المدنيين في إسرائيل بحجة "الدفاع عن أنفسهم". وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن بن غفير لا يخجل بسياسات إذلال الأسرى الفلسطينيين، وإنما يعتبر أنها تعزز من شعبيته، كما يتفاخر بها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

وفي كل الأحوال، يمكن مراجعة تقرير مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة تحت عنوان "أهلاً بكم في جهنم"، وهو تقرير حقوقي إسرائيلي يرصد التنكيل بالأسرى الفلسطينيين، صدر في الأسبوع الأول من آب/ أغسطس 2024، ويعتمد على شهادات أسرى فلسطينيين، من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، أُفرج عنهم من السجون الإسرائيلية، ومنهم من وافق على نشر اسمه، وآخرون فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم.

عنف المجتمع

إن هذا العنف المترافق مع رضى شعبي غير مسبوق وشبه انسجام وإجماع بشأن حيثياته ومسبباته في الداخل الإسرائيلي، سينعكس على المجتمع الإسرائيلي بمستويات عنف أسري واجتماعي متزايدة، نظراً إلى الرضى غير المسبوق عن هذا العنف الذي يمارسه الجنود خلال الحرب في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي القرى والمدن الفلسطينية داخل مناطق الـ 48.

فعلى عكس مجتمع طبيعي كان سيصطف مديناً ومستنكراً حادثة اغتصاب جندي، أو جنود يمثلون النظام الرسمي، لأسير أعزل، وكانت ستتم فيه إدانة ومحاكمة المعتدين، لا نصرة للأسير المظلوم الذي تعرض للاغتصاب فحسب، بل نصرة للقيم الأخلاقية التي تمثل العقد الاجتماعي والثقافة الجمعية لهذا المجتمع، نجد المجتمع الإسرائيلي في حالة اصطفاف لدعم المغتصِب ومناصرته أمام المحكمة العسكرية واعتباره بطلاً ومقاتلاً ضحّى بنفسه من أجل مجتمعه وشعبه. فالنواب والوزراء، أي الممثلون الرسميون الذين اقتحموا معسكر سدي تيمان، حيث الضحية المغتصَب والفاعل المغتصِب، قاموا بإضفاء شرعية على فعل مشين وقذر، باعتبارهم ممثلين شرعيين للنظام، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى زيادة في نسبة العنف إزاء المجتمع الفلسطيني في إسرائيل الذي يتعرض منذ عام 1948 لممارسات عنصرية فاضحة من المجتمع اليهودي في إسرائيل، ومن الدولة التي تضع جملة من القوانين العنصرية إزاء الفلسطيني صاحب الأرض.

كما أن إرهاب المستوطنين والجيش في الضفة الغربية سيحظى بغطاء شرعي وسيصبح أكثر تنظيماً، ما سيؤدي إلى سيطرة أكبر على البشر والمياه والأرض، وهجمات أكثر، وأعمال حرق وعربدة بحق القرى الفلسطينية في الضفة الغربية. وبطبيعة الحال فإن هذا العنف سينعكس حتماً داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل، حيث ستزداد الجريمة على نحو غير مسبوق، بدءاً بمحاولات الإقصاء السياسي التي تحاول أحزاب اليمين فرضها على خصومها السياسيين، وصولاً إلى الجريمة المنظمة داخل المجتمع، والتي سوف تستعر وتتجلى بصورة أكبر مع الوقت.

وشهد شاهد من أهله

في مقالة نشرتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 9 آب/ أغسطس 2024، حذر إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، من انعكاسات حادثة "سدي تيمان"، وعنف المستوطنين الآخذ في التصاعد في الضفة الغربية، على الداخل الإسرائيلي، معتبراً أن ما جرى يهدد ويقوّض القيم الجمعية التي شكلت الأساس الاجتماعي والسياسي لدولة إسرائيل. وفي المقالة نفسها يذكّر أولمرت بحالة الاصطفاف اليميني خلال الدفاع عن الجندي الإسرائيلي إليؤور أزاريا الذي أعدم الشاب الفلسطيني الجريح الملقى على الأرض عبد الفتاح الشريف في حي تل الرميدة في مدينة الخليل في آذار/ مارس 2016؛ فقد احتجّ أنصار هذا الجندي من اليمين معتبرين أن ما قام به (إطلاق النار على جريح) ما هو إلاّ دفاع عن النفس، وأن المتهم ما هو إلاّ بطل إسرائيلي يدافع عن الوطن وعن "وجودنا المهدَّد".

باختصار، وبحسب رئيس الوزراء الأسبق أولمرت فإن "الخطر الأكبر الذي يهدد وجود إسرائيل هو التأثير المتزايد للتطرف اليهودي"، مشيراً إلى أن ما حصل في سدي تيمان ليس إلاّ مقدمة لهذا الخطر.

التبرير بذريعة التهديد الوجودي

في الختام، تظاهرات معسكر سدي تيمان، واقتحامات معسكرَي سدي تيمان والمحكمة العسكرية في بيت ليد، والدفاع عن القاتل أزاريا، ما هي إلاّ نزعات يمينية كامنة تُظهر مدى انكشاف الانحدار الأخلاقي في المجتمع الإسرائيلي، الذي يدافع عن مجرمين مدانين؛ فهذا المجتمع ومؤسساته السياسية على دراية كاملة بمآلات هذا الانكشاف الأخلاقي، لكن حتى اللحظة، وعلى الرغم من جرائم الإبادة التي تنفَّذ في قطاع غزة منذ عشرة أشهر، فإن ثمة ميلاً شعبياً ورسمياً واضحاً إلى قبول هذا الانكشاف والتعامل معه على أنه سلكوك طبيعي، إذ يتم تبرير الجرائم والانتهاكات والأفعال الشائنة بذريعة الانتقام والتهديد الوجودي.

 

* الصورة للفنان عيسى ديبي، كيف رأيت غزة (طائرة)، 2018  AP/1-2 – طباعة  100/70x4 سم  طباعة أرشيفية على ورق، 2024.

عن المؤلف: 

خالد فرّاج: مدير عام مؤسسة الدراسات الفلسطينية.