معرض ذاكرة الحدث الزمانية والمكانية
التاريخ: 
07/08/2024

إن الفن المحدد جغرافياً في مكان ملتهب كغزة أو عموم الأرض الفلسطينية هو حضور تحريضي استفزازي للذاكرة. لذلك، يشكل معرض "غزة" المقام حالياً في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت حدثاً استثنائياً في زمن استثنائي.

ونحن نتحدث هنا عن معرض يشمل ذاكرة الحدث بقدر ما يشكل حضوره حدثاً زمانياً لمعنى المكان وأهميته، فالفنان بكل ما يملك من طاقات إبداعية، نذر ذاته لزمانه الفني الذي يشكل حالة امتداد لخلود نتاجه الإبداعي. فكيف إذا كان الأمر يتعلق، عملياً وليس افتراضياً، بحالة صراع (وجودي) بينه كمبدع خلاق، وبين عدوه الذي يسعى فعلياً لإلغائه كلياً من خارطة الإبداع والوجود.

الآن ندرك لماذا تسعى إسرائيل لتدمير كل ما هو قائم في غزة؛ فالمسألة ليست سعياً لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، فإسرائيل تدرك المقدرة التعويضية لهذا الشعب الوَلود، إنما هي تسعى لجعل المكان الغزّي مستحيلاً، وغير قابل لإنتاج الإبداع الذي يشكل حالة التحدي القصوى. ومن هنا، نعتبر حضور هذا الزخم الجيد من فناني غزة في معرض "غزة" جواباً صريحاً عن السؤال المطروح بشأن أديم الموت والحياة.

إذن، نحن إزاء علاقة عضوية بين الإبداع والمكان، أو بين الفنان المعاند ونتاجه الفني. لذلك، ومن منظار تحليلي، يجب أن نتحدث عن محترفات غزة، وفنانيها، واللوحة الغزّية، أي عن الحالة الفنية الإبداعية في غزة. ربما نص كهذا هو الذي سيدفعني إلى ملاحقة الأعمال المعلقة وأسماء الفنانين المشاركين، وذلك بغية الكشف عن اللغة التعبيرية الواضحة التي حققها المعرض.

 

معرض " غزة"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2024

 

الإعلان هو المدخل

في الإعلان المعلق داخل القاعة عن شخصية هذا المعرض سنعرف أنه يُقام بالتعاون مع المتحف الفلسطيني، وبالشراكة مع دار النمر للفن والثقافة في بيروت، وفيه أكثر من أربعين فناناً، هم في معظمهم من غزة، وبعضهم من مناطق متفرقة من فلسطين ولبنان. ويقول هذا الملصق إن لنا أصدقاء من فناني غزة استشهدوا، وهناك العديد ممن دُمرت منازلهم ومحترفاتهم وأُحرقت أعمالهم، وقصفت إسرائيل آمالهم وإبداعهم وأحلامهم. لذلك، يجب أن ندخل مباشرة عالم اللوحة الفلسطينية لنكتشف ثراء اللغة التعبيرية المباشرة، وهي خالية من التقريرية والخطابية، وإن جنح بعض منها نحو البوسترية كلوحة "Holly Land" التي جاءت كرد مباشر على ذلك البوستر الأميركي الصفيق الذي يصفع العالم كله، ونعني به بوستر "الهوليوود" الشهير في أميركا.

أمّا لوحة الكف التي تتحول إلى "حاضنة" تحمل شجرة زيتون، فهي لوحة تنتمي كلياً إلى التعبيرية السوريالية لدى رعيل كبير من الفنانين الفلسطينيين الذين استفزهم اقتلاع أشجار الزيتون المعمرة. وهناك خمسة أعمال مشفوعة بنصوص كتابية كمقدمة للصورة المرسومة بأسلوب تجريدي إشاري. وهنا يدفعنا الفنان إلى أن نلجأ إلى قراءة النصوص، وهي تقول: "وستنهض من بين الأنقاض صنوبرة الحزن... وتشهد أنك قاتلت الغارات، وقاتلت البحر، وقاتلت طوابير الدبابات... وصمدت صمود الأنواء." هذه اللوحات البوسترية ستبدو للوهلة الأولى سريعة العطب بسبب وضوحها الزائد، لكن هل يمكننا هنا أن نتمسك بسلاح الضرورة لنصل إلى وضوح الصرخة؟!

لقد نجح هذا الفنان في تجريد المجرد، فرسم الركام المتداعي للبناء مستعملاً ألواناً مباشرة وبسيطة، وخرج بنتائج تعبيرية قاسية عبّرت عن هذا الواقع التدميري، وهنا نرصد مع ذاكرة الفنان قساوة الحدث، وشراسة الواقع الذي يعيشه الفنان الفلسطيني، وخصوصاً ذلك الذي يعيش داخل غزة، أو في الضفة الغربية المحروثة أيضاً بالنار والقتل.

والبارز في المعرض وجود العديد من اللوحات الفطرية، أي المرسومة بأسلوب فطري وبألوان فقيرة، وذلك بسبب فقدان العديد من الألوان والأدوات والمحترفات في غزة. ومن الأعمال الفطرية التعبيرية المؤثرة لوحة الأم التي ترضع طفلَيها، وهي لوحة حساسة جداً.

إن مزاملة مزمنة بين ثلاثية المكان والمادة والطاقة الإبداعية هي التي تنشئ أعمالاً واضحة الهوية، لأن الهوية الفنية لا تتجلى أصلاً إلاّ إذا ملك الفنان طاقة إبداعية عالية، والمواد التي يستطيع أن يصنع بموجبها أعمالاً فنية شرط أن يشكل المكان حافزاً جوهرياً لزمانه الفني، وهنا تتجلى الحالة الزمكانية للفن بصفتها الشاهد على حضوره الأزلي، فعلى الرغم من قسوة المحيط وشراسته، فإنه سيبدو صانعاً ماهراً للصورة السحرية لبنية الحدث في مقطعه العامودي لا الأفقي، ففي هذا الخط الشاقولي النازل تنتصب النتائج الصحيحة التي تشير إلى إمكان إعادة البناء بكل ثقة وجدارة.

 

معرض " غزة"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2024

 

والغريب أن هذه الأرض الفلسطينية تمتلك خواصاً روحية هائلة ليس عند الفنان الفلسطيني وحده، بل أيضاً عند كل الذين اقتربوا من أجوائها ودونوها تصويرياً. وها هو الفنان الإسكتلندي البريطاني ديفيد روبرتس يرسم في القرن السابع عشر مدينة القدس مركزاً على المسجد الأقصى، ورسم أيضاً الناصرة وطبريا وبعضاً من معالم فلسطين التي لم يكن فيها أي أثر يهودي: المسجد الأقصى لوحة مرسومة بالألوان الزيتية، وهي مأخوذة من جانب حائط البراق، الذي صار اليوم حائط المبكى! إن هذا الحائط ليس فيه أي معلم تلمودي أو يهودي. حتى عندما رسم المسجد الأقصى من زاوية البئر الرومانية، فإنه لم يشأ إلاّ أن يُبرز جمالية هذا الأثر الإسلامي الرائع.

هنا تشكل اللوحة شهادة تاريخية غير قابلة للنقض، لأنها تثبت حقيقة المكان وعائديته الأساسية، تماماً كما يقدم اليوم بعض فناني غزة الذين نجحوا في إيصال أعمالهم إلى هذا المعرض.

لا أعرف السبب الذي دفع الفنان الفلسطيني عيسى عيدو إلى أن يرسم القدس بهذه الهيبة ويجللها بسماء ملبدة الغيوم، لكن مَن قال إن الفنان ليست لديه مقدرة على التنبؤ بكل ما سيحدث؟ وهكذا فعل بعض فناني غزة المشاركين في هذا المعرض الجماعي؛ فهم يرسمون ذلك المزيج الجريء من التفاؤل والتشاؤم، تماماً كلوحة عبد الرحمن المزين التي يبدع فيها بالإكسسوار والتطريز بالقدر الذي يملأ فيه اللوحة بالإشارات والرموز. ألَمْ نقل إنها التعبيرية الفلسطينية التي اشتغل عليها العديد من الفنانين، كبرهان كركوكتلي وتمام الأكحل وإبراهيم هزيمة وأحياناً الفنانة الفلسطينية جمانة الحسيني؟

أمّا بالنسبة إلى الاشتغال بالمواد المستحدثة والمتنوعة، كالخشب والجلد والنحاس، فإن تيسير بركات وعدداً وفيراً من فناني المنطقة الخضراء مارسوا الإبداع وفقاً لقاعدة "المواد المتنوعة" المتوفرة والجاهزة "للكولجة" والتركيب.

فائدة لا بد منها

أولاً – تأسيس الذاكرة العربية...

إن معرضاً يجمع أكثر من أربعين فناناً عنوانه ومضمونه "غزة"، وفي هذا الزمن بالذات، يشكل تأسيساً لذاكرة الحدث. فكما يشكل الفن، أساساً، حضوراً مكانياً، والمعرض حضوراً زمانياً لقوة المكان، فسنرى أن المعرض حقق الغاية المطلوبة منه؛ فهو في نهاية المطاف هو مداخلة متفانية تعبّر عن معنى أساسه، كلنا "موهوب وشهيد"، حيث الواهب والموهوب هو ما يكشف عنه اكتشافنا لأفعالنا وهواجسنا عبر حالة التجوهر القصوى، وحينما نتعرف على قوة أفعالنا وأثرها، نكون قد بلغنا غاية الانتصار. فهذا المفهوم السرمدي للانتصار هو النقيض الموضوعي لأي انتصار تدميري يمارسه الإلغائيون؛ إنه جوهر التصارع بين البقاء والإلغاء.

ثانياً – الهروب من المأزق...

نحن نهرب للخروج من المأزق الملقى علينا؛ إذ نسعى كي نجعله قابلاً للدمج الآلي كوننا مستعدين لتشغيل ذواتنا ونسخها في مجال آخر ومعادل لوضعنا الراهن... ربما نحاول الخروج من إطار الزمن الذي هو آلة حساب العدم.

 

معرض " غزة"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2024

 

وجيناتنا كبشر نصرّ على الإبداع لم تعد ملكاً لشرطنا الإنساني، إنما أصبحت خارج كل شيء فينا، حتى الـ DNA، الذي هو وجود حتمي لوجودنا. لذلك، يحق للفنان الذي يعيش في دير البلح أو النصيرات وفي أي جزء من غزة أن يشعر بأنه منذور للّحظة القادمة، فهو مشروع فناء، بينما عمله الفني حالة إصرار على البقاء. فاللحظة ستذهب ولا تأتي لحظة أُخرى بعدها، ومع ذلك تبقى هذه اللوحة، أو المنحوتة، أو المسطح التصويري الذي أرّخ حضور اللحظة الغائبة.. حقاً إننا غزّيون بامتياز، وها هم الأطفال يكتبون أسماءهم على جلودهم كي يتم التعرف عليهم بعد الموت.

ثالثاً - الشحنة السياسية المتحدية

إن القيم الفنية، بصورة عامة، تكمن في قوة الشحنة السياسية التي تتلبسها وتشكل عامودها الفقري، وهناك حيث تتقد الشعلة الإبداعية ضمن قدرتها على إنتاج التغيير المطلوب في الأشكال والأوضاع، لأن المستوى الإضافي الذي منحه المبدع إلى إبداعه الفني سوف يتجلي في ديمومة المنجز.. وفي قدرته على تحدي الإفناء المضاد.

يجب أن يتغير كل شيء، حتى طريقة تفكيرنا التي أنكر ألبرت أينشتاين إمكان تغييرها في المدى المعاش من حياتنا الإنسانية. والسبب في أهمية التغيير هو أن القوى الإلغائية التدميرية وحدها ستبقى ثابتة على خطها العدواني، بينما الضحية ملكت جلد الحرباء الذي يتغير مكانياً ومحيطاً للوقاية والدفاع تماماً كاللوحة التي رسمها اليوم فنان غزّي يستعجل الإنجاز ويتسارع بما هو أسرع من الدمار.

لكن هذا المعرض الذي يطرح ذاته كجسد شرس يتحدى الجراح والألم سوف يطالبنا بالتعامل معه نقدياً، لأنه إنجاز إبداعي، بل هو الإبداع ضد الفناء.

عن المؤلف: 

د. عمران القيسي: فنان وناقد فني.