يطل بيتنا على كل الجهات، في وجه الشمس مباشرة وحين تغيب، ويدور معها طوال النهار إلى أن تختفي، وفيه ربيع دائم معاند، يزاحم الفصول، وفيه شهقات البرد وهدوء البراري، وعلى مد البصر بيارات الأجداد، وفي وسط قلبي يقع البيت، وأهله، وجيرانه، وفي وسطه أيضاً نما البيت كشجرة رمان صغيرة حتى كبرت، وفي قلب كل واحد منا نمت شجرة خاصة من مزرعتنا التي كسروا فروعها وجذورها وعجنوها مع تراب الأرض من جديد.
كيف يلملم المرء ذكرياته من البيت؟ وكيف يطل مجدداً على نوافذ البهجة التي منحه إياها هذا البيت؟
يحمل الواحد منا على رأسه سلة كبيرة من الروائح والأصوات، ويبدأ تحفيز الذاكرة؛ هذه غرفتنا، وهذه غرفة أمي، وهذه غرفة إخوتي الشباب والتي تحولت مؤخراً إلى غرفة عريس، وهذه غرفة الاستقبال وفيها مكتبتنا؛ زبدة قلوبنا، والدواوين والروايات المهداة بتوقيعات أصحابها، وقصص للصغار والكبار، ورسائل غادة السمان وغسان كنفاني، ونصوص أحلام، وأشعار درويش وروايات الجيب وعشرات الكتب التي جمعنا ثمنها من مصروفنا المدرسي والجامعي، وكتب منهجية ومعاجم لغوية، ومراجع للقرآن والحديث، ومصاحف أمي تتوسطهم جميعاً، وكلها صارت رماداً في أيدي تتار العصر الجديد.
قلبي على قلوب إخوتي، كلما نلتقي، وقلوبنا على قلب أمي كلما نبكي بيتنا العزيز، ونبكي ذكرياتنا الصغيرة والكبيرة، وألبوم الصور، ووملابسنا التي تشبهنا، ونبكي رائحة أبينا الذي رحل منذ زمن، ومزرعتنا التي اعتنى بها إخوتي كطفلة صغيرة، فصارت عروساً، والنهارات والليالي ذات الضحك في مطبخ أمي، حين كنا نضحك حتى نتعب، ثم تنادي أمي من غرفتها "ناموا"، فتمنحنا عمراً جديداً من الأمان.
يا بيتنا، كيف يعود الصيف علينا بلا جولة في حديقتنا لالتقاط حبات خوخ طازجة؟ وكيف سيعود الصيف من دون احتفالات الولائم التي كنا نعدّها في المساء، وهي التي ينتظرها الناس حين يقرر أخي الكبير صناعة "فتة العجر"، فيأتي بكل الباذنجان الموجود في الدنيا، والطماطم، والبطيخ الذي لم يكبر، مع دقة الفلفل الغزية الحارة والليمون، ويخبز الخبز على الفحم، فتُحكى سيمفونية العشاء الصيفي المميز لكل الذين لم يكونوا في تلك الوليمة.
الصيف في بيت العائلة باذخ جداً؛ إذ إننا نجتمع كل سبت، ويأتي كل واحد منا بصحن من الحلويات المميزة أو الفطائر والأكلات الشهية، وتجتمع البنات السبع والكنائن وأكثر من خمسين حفيداً، فتضج أمي وتقول: "بس الصغار خلوهم معكم، والباقي نزلوهم.. الأرض واسعة."
وعلى ذكر الأرض الواسعة، لقد صارت جبالاً من الطين، إذ دفنوا النخل والزيتون والخوخ والرمان والليمون والكلمنتينة والبرتقال والتوت، وعجنوها مع التراب، وأهالوا عليها الرمل، ولم يتبق سوى عدة أشجار حزينة تبكي الوحدة والغربة. لا أصدق أن ما حدث كان ممكناً أن يحدث لبيتنا المسالم الوديع!
إنه بيت في وسط الأرض، تحيط به الأشجار الصغيرة والكبيرة، وشتلات الريحان، والنعنع والفلفل الأخضر، وعلى أطرافه كانت تقبع حظيرة صغيرة فيها ثماني دجاجات وديك، وذات مرة، أرسلت إلينا أختي وزة كبيرة، فصارت تسرح وتمرح في الأرض، وتنقر وتخرب الزرع، حتى حبسوها مع الدجاجات، فلم تطق العيش معهم، فأعادوها إلى أصحابها.
حين انسحب الجيش، ذهب الجميع ليرى البيت، والطريق، والحارة، والشوارع، لكن أمي لم تذهب، ولم ترض بذهابي، فأخبرتني أن أُبقي على النظرة الأخيرة في ذاكرتي، ومنعني زوجي من اللحاق بإخوتي لرثاء البيت والمزرعة بكل الطرق، إذ خاف على قلبي من الوجع المتجدد في كل مرة أتذكر فيها البيت. والعائدون من هناك بدت على وجههم الصدمة، وكانوا يقولون لي إن الكلام لا يصف ما رأته عيناهم، ويعودون إلى بقع النزوح والقلب كسير ومليء بالحسرة. يا ليتنا متنا قبل هذا!
المال والروح يأتيان في سياق حزين في الحرب، فيقول لنا الناس: "المال معوّض"، فأهز برأسي كي أبتعد عن النقاشات العقيمة في مفاضلة الروح على المال؛ فالموضوع ليس مالاً نبتاع به شقة جديدة أو نشتري به مزرعة لم تطأها قدم أحدنا من قبل، إنما كان البيت والمزرعة الحاضنة التي احتوت طفولتنا البعيدة، ولحظاتنا الفريدة، والأرض كانت شاهدة على كل لحظات شقاوتنا وعنفواننا، كلحاقي بالهداهد والعصافير، والزيتونة التي اختبأت فيها أغلب أوقاتي حين كانت أمي توبخني، والتينة التي كانت تظلل مدخل بيتنا، ورائحة أبي ويدَيه اللتين كانتا في كل مكان في البيت والأرض، وعذاباتنا الصغيرة ونحن نركض في الحقول، فنعود إلى أمي وقد تمزقت ثيابنا وجُرحت ركبنا، وشباب أمي وصباها وبداياتها في صوغ الحياة التي أدركناها معها، ونمو الحياة البطيء الذي كان يحضّر معنا المستقبل لكل واحد فينا، واللحظات الدافئة التي عشناها ونحن لا نعلم أنها ستضيع منا إلى الأبد، وشتاءات أبي وفقرات الكانون المتنوعة، وعصبيته واختفائنا منه في لحظات غضبه، وصوت الحياة الذي كان عالياً جداً، وكانت الحياة تقهقه في منزلنا، وكنا نضحك على الرغم من كل شيء، حتى حين فقدناه، فقد عدنا نضحك حتى لو بعد سنوات، فقد كان رجلاً يحب الحياة.
كانت أمي السبعينية "بيتوتية" تحب غرفتها، وأشياءها، ومتعلقاتها الشخصية، وذاكرتها قوية وحضورها آسر. وهي مدللة إخوتها وصغيرتهم، فالكل يناديها "فطوم"، وقد عمّرت البيت الصغير، وزوجت البنات والأولاد، ولم يبق سوى فرح نقيمه في منتصف تشرين الأول/أكتوبر لأخي الصغير، وكل شيء كان جاهزاً، حتى بطاقات الدعوة، وكان سيقيم مع أمي ببيتنا، لكن إسرائيل أرسلت إلينا هدية الزفاف، ومحت آثار الاستعدادات جميعها، حتى بدلة العرس.
في ليلة الإخلاء، كان الخوف مسيطراً على المكان، وضرب الجيش أحزمة نارية في المناطق القريبة، ولم ينم أحد ليلتها، ومن باكورة الصباح بدأت الاسطوانات تنهال على هواتفنا، وكنت أتألم وأنا أرى أهل البيت قد بدأوا جمع أغراضهم بأيادي مرتجفة، وقلوب هائمة. واستعدت أنا نزوحي الأول من غزة، فكانت رجفة القلب نفسها، وشعور الضياع، لكن هذه المرة .. إلى المجهول.
خرج الجميع، وبقيت أتأمل البيت، وأنا لا أحتمل رحيلاً جديداً، فهو البيت الذي يعرفني وأعرفه، وقد رتبته وكأنني أستقبل ضيوفاً، ولم تكن لدي رغبة في حمل أغراضي جميعها، فتركت معظمها، ودسست كتابين من المكتبة ومصحفي في الحقيبة، وذهبت إلى المطبخ، فأكلت قطعة من عجوة أمي المذهلة، وقطعت كيلو من الجبنة البيضاء التي كان الحصول عليها في الحرب معجزة، ووضعت عليها فلفلاً حاراً، وتركتها في عتمة الفرن كي نأكلها حينما نعود، فنستلذ بمذاق الجبن المالح المعتق، ثم صنعت كأساً من الليمون وجلست أشربه بهدوء، وكلمت البيت، فقلت له: "لن نطيل الغياب، إياك أن تخاف"، كلمت البيت الذي صار قريباً مني بعد رحلة طويلة من الغربة والزواج حتى نزحت إليه مؤخراً، فجددنا العلاقة، ووشوشت له كثيراً، ولمسته كثيراً، وحضنته كثيراً، ثم غادرته على أصوات نداءاتهم من الخارج، وقد اقترب الليل، فخرجت وأنا أبتلع دموعي وأتمتم بأدعية طوال الطريق، وأتمنى لو تتوقف الحياة، فلا أعيش هذه اللحظة.
وتم تدمير بيت العائلة وحرقه بأوامر عسكرية تخريبية، هو وكثير من البيوت المجاورة: بيوت أعمامي، وبيت جدي، وبيوت أقاربنا الأفاضل في حارتنا العتيقة، وشوهوا المداخل والمخارج.
هل يعرف أبي ما حدث لبيته؟ وهل يدرك جدي كيف صارت أرض الأغوات في سياقات النكبة الجديدة التي فُرضت عليها في أسوء حقب الحياة كارثية؟ هل سيسامح الجيل القادم في أحلامه التي ضاعت فجأة في غمضة عين!
لكن بيتنا لا يموت حتى ولو سقط الجدار، والأرض لا تموت حتى ولو عجنوها مع الحطام، وسينمو برعم أخضر جديد، فالبيت كالشجرة، له جذور طويلة في الأرض، والبيت هو البيت، ولا تفسير للكلمة إلاّ الشعور بها، وسواء أكان قصراً أم كوخاً، فإنه البيت، وليس مالاً وجدراناً فحسب، بل أيضاً هو لحم ودم وجسد، وهو كرامة الإنسان.