لم يصادف الأول من نيسان/أبريل كذبة نيسان فحسب، بل أيضاً انسحاب قوات الاحتلال من مستشفى الشفاء، ولم يصدق الفلسطينيون الذين تجولوا في محيط المستشفى لأول مرة الحال الذي تُرك عليه، إذ دُمرت معظم المباني، ونُبشت المقبرة التي أقامها الطاقم الطبي في المستشفى، وتشير الشهادات المنقولة من الناجين إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت عدداً كبيراً من المرضى وأعضاء الطواقم الطبية التي كانت هناك.
ولم تكن تلك المرة الأولى خلال حرب الإبادة في القطاع التي يدمر فيها الاحتلال مرفقاً طبياً، إذ سبق أن قُصف المستشفى المعمداني والعودة في شمال قطاع غزة، وتشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى أن 32 مستشفى قد خرج من الخدمة، وأدى القصف المتكرر إلى ارتقاء 500 شهيد من الطواقم الصحية، وأكثر من 320 معتقلاً داخل السجون الإسرائيلية.
وفي صباح يوم الاثنين الموافق الأول من تموز/يوليو 2024، أفرج الاحتلال عن الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء، بعد اعتقال دام أكثر من 7 أشهر، إذ تم اعتقاله مع عدد من الكوادر الطبية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، على طريق صلاح الدين في أثناء توجهه إلى جنوب القطاع في قافلة إنسانية لنقل المرضى بعد إخلاء مستشفى الشفاء.
وكان المكان الأول الذي تواجد فيه أبو سلمية بعد الإفراج عنه هو المستشفى، إذ وقف شامخاً ليروي للعالم مأساة الكوادر الصحية من داخل بقايا مستشفى ناصر، قائلاً: "سجون الاحتلال ملأى بالمتعلمين والمثقفين والكوادر الطبية بصورة خاصة، ومنهم من أصيب بالأمراض، ومنهم من استشهد داخل الزنازين العفنة، ومنهم من تعرض لكل ألوان العذاب والذل والإهانة."[1]
وتقول الجهات الرسمية إن الاحتلال، منذ بداية الإبادة، أقدم على اعتقال 320 شخصاً من الكوادر الصحية، وإن أغلب من تم اعتقالهم منهم كان على رأس عمله، وكانوا عاكفين على البقاء إلى آخر لحظة شامخين في خندق الإنسانية، بينما كانت آلة الحرب تقوم بكل ما في وسعها لتحييد القطاع الصحي، مستغلين كل فرص الشر لاستكمال أضلاع إبادتهم.
شهادات مروعة: تم تعذيبي لأنني طبيب!
لم يكن الاستماع إلى روايات الكوادر الطبية عن الجرائم التي تعرضوا لها شيئاً سهلاً، وعلاوة على ذلك، فإن معايشتها والتعرض لها كان مريعاً؛ إذ يروي الممرض حسام المدهون[2] أوضاع حصار مستشفى العودة وقصفه، ومن ثم اعتقاله، فيقول: "في أثناء حصارنا داخل مستشفى العودة، قام الاحتلال بإعدام ثلاثة من الكوادر الصحية إعداماً ميدانياً داخل المستشفى وهم يؤدون واجبهم الإنساني، ولم يكونوا في ساحة المستشفى، إنما كانوا داخل الأقسام."
وبصوت متعب، روى حسام مأساته قائلاً: "تم اعتقالي، ثم اقتيادي إلى مكان خارج المستشفى، وبدأ التحقيق بصورة ميدانية، ولم أكن أعرف مكان تواجدي لأنني كنت معصوب الأعين، وتمت تعريتي بالكامل واقتيادي مشياً على الأقدام في جو شديد البرودة، وتم وضعي في مكان مليء بالجثث وبرك الدماء، والتحقيق معي فيه"، وهناك غُيبوا عن عيون العالم الذي أغمض أعينه لتمارَس في حقهم أشد أنواع العذاب، وهم الذين تم اعتقالهم بصورة متعمدة في أثناء تواجدهم على رأس عملهم، وكان لهم الحظ الأتعس من التنكيل، ليس لشيءٍ سوى لأنهم كوادر صحية، لتقع ملائكة الرحمة، لأول مرة، فريسة لشياطين العذاب.
محمود الحاج أحمد هو طبيب من مشفى كمال عدوان، عاش تجربة أُخرى، إذ أصبح مستشفى كمال عدوان مركزاً لإيواء النازحين من سكان منطقة شمال غزة، إذ تواجد النازحون في المستشفى هرباً من القصف، وفي 2/12/2023، حاصرت قوات الاحتلال المستشفى.
ويقول الدكتور محمود في شهادته: "استمر الحصار إلى تاريخ 14/12/2023، إذ كان القصف شديداً، وعند الواحدة فجراً، اقتحمت القوات الإسرائيلية حرم المستشفى وسط إطلاق وابل كثيف من النيران، وأصبح الموقف مرعباً، ومن ثم، أجبرت القوات جميع نزلاء المستشفى، بمن فيهم الكادر الطبي والممرضون والنازحون والمصابون جميعاً على التجمع في ساحة المستشفى، وعلى الرغم من الزي الطبي الذي كنا نلبسه وتعريفنا بأننا أطباء، فقد تقدم نحوي أحد جنود الاحتلال واستهزأ بي وقال: ’أنت طبيب؟‘، فقلت له: ’نعم‘، فقال لي: ’أنا شيطان خبيث‘ في محاولة منه لبث الرعب والخوف داخلي، وقام بإجباري تحت تهديد السلاح على خلع ملابسي."[3]
ويضيف الدكتور محمود: "وبعد ذلك، طلب منا جنود الاحتلال التوجه إلى دوار الشيخ زايد ونحن حفاة عراة، وفي طريقنا، كانت الصدمة؛ إذ كان الطريق عبارة عن مقابر جماعية لجثث الشهداء على الطريق، فكنا ندوس عليهم بأقدامنا من كثرتهم وعدم قدرتي على الرؤية، وفي طريق هروبنا في شارع العودة، أصيب الدكتور أيمن رجب بعيار ناري، وأيضاً تعرض زياد شعبان وإبراهيم الكفارنة للضرب والتعذيب، وهما من الكادر الإداري لمستشفى كمال عدوان، وكان يتم تعذيبهما بوحشية."
القوانين الدولية تجرم ذلك
تنص القوانين الدولية على أهمية حماية الطواقم الطبية والمرافق الصحية، وخصوصاً في وقت الحروب، إذ وفقاً لوثيقة جنيف الأولى سنة 1864، فإنه يجب عدم المس بهذه الخدمات، وذلك نظراً إلى أهميتها في علاج المصابين، والمحافظة على حياة المدنيين والأبرياء من غير المجندين الذين لا يشاركون في الحروب، بينما تنص المادة رقم 35 من القانون الدولي الإنساني على أنه "يحظر توجيه هجوم على منطقة أُنشئت لإيواء الجرحى والمرضى والمدنيين وحمايتهم من آثار القتال"، كما يحمي القانون الدولي الإنساني كل من يتواجد داخل المستشفى من مدنيين وجرحى ومرضى، والعاملين في المجال الطبي، فجميعهم محميون وفقاً لقواعد القانون الدولي.
أمّا في حالة قطاع غزة، فيتضح أن هذه المواد لا تعدوا أن تكون حبراً على ورق، وتبقى إسرائيل قادرة في كل مكان وزمان على اختراق كل القواعد، لترتكب مع هذا الاختراق أفظع الجرائم بحق المدنيين والكوادر الصحية والمنشآت الصحية، بل أيضاً بحق قطاع غزة بكل ما يحتويه من بشر وشجر وحجر.
أبطال الخدمة الصحية صامدون في خندق الإنسانية
سطّر القطاع الصحي أروع صور البطولة والفداء، وعلى الرغم من كل المآسي التي عرضناها، فإن كوادره لم تتوانى قيد أنملة عن أداء دورها، وهذا الدور هو الذي جعل الدكتور محمد أبو عرب،[4] عضو الفريق الطبي النرويجي، يقول: "إن صمود الكوادر الطبية في قطاع غزة أسطوري في مواجهة الحرب والحصار والتجويع المفروض على القطاع من جانب الاحتلال."
إصرار لا حدود له على الوقوف في خندق الإنسانية
شدد الدكتور أبو سلمية على أن الاعتقال لن يثنيهم عن أداء دورهم، الذي بحسب وصفه، لن يكون بتقديم الخدمة الصحية فقط، بل أيضاً بإعادة بناء المستشفيات كي تصلح لاستقبال المرضى وتخدم الشعب الفلسطيني، وهذا دورها الأصيل.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن صمود الناس والكوادر الصحية يبقى إلى جانبه بريق الأمل في النجاة، ومع استمرار الإبادة، وبالتزامن معها استمرار الحصار وتواصل الاعتداء على المنشآت والكوادر الصحية، يتضاءل هذا الأمل شيئاً فشيئاً، ويبقى السؤال الأهم: "هل ستتوقف تلك الإبادة؟ أم إنها ستترك الشعب الأعزل هدفاً سهلاً لآلة الإجرام؟!"
[1] مقابلة الدكتور محمد أبو سلمية مع قناة "الجزيرة" بتاريخ 1 تموز/يوليو 2024.
[2] تم إجراء هذه المقابلة من جانب الباحث بواسطة تسجيلات صوتية عبر تطبيق الماسنجر "فيسبوك" بتاريخ 17 تموز/يوليو 2024.
[3] شهادة الطبيب محمود الحاج أحمد للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
[4] مقابلة الدكتور محمد أبو عرب مع "الجزيرة" مباشر بتاريخ 10 حزيران/يونيو 2024.