أكثر من مجرد رقم... رسل الفرّا: نيرد الجافا الذي اغتالته الحرب
التاريخ: 
25/07/2024
المؤلف: 

"شهيد شهيد رايح عالجنة بكييير، بتنزلوا صوري ولكو بكل مكان، أولها مش تفوعوا بعدين خلص تنسوني.."

كانت هذه آخر كلمات تركتها رسل الفرّا؛ تلك الفتاة الطموحة التي عرفها زملاؤها في جامعة الأزهر بـ "نيرد الجافا" لتفوقها الأكاديمي. وكانت صديقة وفية وحنونة، وخفيفة الظل ومحبوبة، وملاكاً بريئاً، تمر ولا تضر، كما وصفتها صديقتها شذا أبو رجيلة.

في غزة، يجوب الموت زوايا المدينة بلا خجل أو خوف، وقد وجد في عائلة الفرّا هدفاً يستحق الاصطياد، فخطف رسل وأربعة من عائلتها من دون سابق إنذار، حالهم كحال الكثيرين من أبناء غزة، لا يملكون رفاه الاختيار، لأن آلة الحرب الإسرائيلية حينما تريد أن تفعل، تفعل وتقتل الأخضر واليابس.

لقد سرقت الحرب أحلام رسل الصغيرة؛ إذ كانت طالبة متميزة في تخصص أنظمة الحاسوب في سنتها الثانية، وتطمح إلى إنهاء دراستها بامتياز عالٍ لتصبح أستاذة جامعية. وكما تروي زميلتها شذا، فقد كانت رسل تسعى لكسر الحواجز التقليدية بين الطلبة والأساتذة، إذ أرادت أن تكون الأستاذة القريبة من طلبتها، والمتفهمة لحاجاتهم سعياً لتغيير مشهد التعليم الجامعي.

كما تتذكر شهد أيضاً، الرفيقة المميزة لرسل وصديقتها في التخصص، حين كانت رسل في الجامعة كالمكوك الفضائي لا تكل ولا تمل، ولم تبخل على أحد بعلمها، فكانت مضحية براحتها ووقتها وجهدها في سبيل مساعدة زملائها في واجباتهم ومشاريعهم الجامعية، وكانت تحب أن يناديها الجميع "المهندسة رسل"، أو "البش مهندسة رسل". وتضيف شهد: "مع إنو رسل ما كانت راضية بالأول عن تخصصها، بس والله أبدعت فيه. كنت دايماً أحكيلها: ’يا بنت إنت خسارة بالمعلومات يلي عندك.‘ وقبل ما تبدأ الحرب على طول، رسل بدأت بمشروع خاص إلها عالإنستغرام عن تخصصها. كانت بدها إياني أشاركها بالصفحة وأساعدها بتصميم الشغلات يلي بدها تنزلهن."

كانت رسل تحب أن يلاحظ الآخرون تفاصيلها الصغيرة ويثنوا عليها. وتستذكر صديقتها شذا، التي كانت ترافقها يومياً في رحلة الذهاب إلى الجامعة، كيف كانت تُظهر رسل ببراءة طفولية وجهاً عابساً إذا لم تبد أي من صديقاتها إعجابها بمظهرها أو بملابسها. وتضيف بنبرة يمتزج فيها الحنين بالألم: "كانت تقول إلنا دائماً: هاي كنزتي جديدة، كيف اللوك اليوم؟ كيف اللبسة الجديدة؟ ليش ما قلتولي إنها لبستي حلوة؟ ويا ويلنا إذا ما حكينا لرسل لبستك حلوة!"

كانت ابتسامة رسل ساحرة وضحكتها مميزة، تصفها صديقتها شهد قائلة: "عندها ضحكة بتخلي الإنسان يضحك تلقائي." وتضيف شذا: "يا الله ضحكتها مش رح أقدر أشرحلك قديش ضحكتها بتسحر، فعلياً ضحكتها كثير حلوة، بس بدك تخليها قاعدة قدامك وتحكيلها إضحكي، يعني بتحسي بانشراح بقلبك لما تشوفيها بتضحك."

على الرغم من نضجها الفكري، فقد احتفظت رسل بروح طفولية، وكانت تستمتع بزيارة مدينة الألعاب مع صديقاتها، وكانت دائمة الحماسة لقضاء الوقت مع زميلاتها في الجامعة وتناول الطعام معهن، وكان ساندويش الجبنة والبطاطا من أكلاتها المفضلة في كافتيريا الجامعة. وتردف شذا: "لما يكون عنا استراحة بالجامعة، كانت رسل تقول يلا بدنا نفطر، وترنلنا وتيجي معنا، كانت بتحب تجمع كل صاحباتها مع بعض، وكانت تنبسط بس حدا يحكيلها بدي أعزمك، تلف على الجامعة واحد واحد، شباب بنات هاي اليوم شذا عازماني."

كانت رسل تستعد قبل بدء الإبادة لزفاف شقيقتها تقى، كما شاركت صديقاتها بحماسة تفاصيل التحضيرات، لكن الحرب لا ترحم، وتسرق رفاه الفرح، ففي 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، اليوم الذي كان مقرراً فيه زفاف تقى، خطف صاروخ حياتهما معاً، وسلب حقهما في الحياة. وإن أشد ما يؤلم في الموت هو طريقة حدوثه، وأكثر ما يثير الرعب فيه سهولة وقوعه.

لقد عكست شخصية رسل صورة الفتاة المثابرة العنيدة التي لا تنحني أمام التحديات، فعلى الرغم من الأوضاع الصعبة التي واجهتها خلال امتحانات الثانوية العامة، فإنها استطاعت أن تتحدى كل العقبات، وتحصل على معدل 95.1.

ومع بدء الإبادة الجماعية في قطاع غزة، انتظرت رسل بفارغ الصبر انتهاءها لتكمل دراستها في الخارج برفقة صديقتها شهد. وهنا تستذكر شهد هذه التفاصيل بحزن شديد قائلة: "كانت قوية كثير، كانت قد حالها وما تستسلم للظروف، حتى في الحرب كانت كل يوم تراسلني إنه إحنا مش لازم نوقف، لازم نطلع نكمل تعليمنا برا ونجيب منحة، إقنعي أبوكي وأنا بقنع بابا، قلتلها تمام، وعأساس أنا وهي بعد الحرب نطلع نسافر مع بعض ونكمل تعليم، وشاء القدر إنه هي تروح، وراح كلشي مخططينه مع بعض وكلشي كنا ناويين نعمله مع بعض."

خانت الكلمات شهد عند الحديث عن رفيقة دربها رسل، وباتت روحها مثقلة بأحاسيس تفوق طاقتها، فقد كانت رسل الكتف التي تتكئ عليها شهد في لياليها المظلمة والصعبة. وعلى الرغم من قصر سنوات معرفتهما، فإنه لم يكن هناك مثيل لصداقتهما. وكما تصف شهد: "الصداقة ليست بعدد السنين، بل بالمواقف." فكانتا تلتقيان يومياً، وتصنعان معاً ذكريات مشتركة، وكان البحر قبلتهما الأولى والأخيرة، ولم تكن رسل مجرد صديقة لشهد، بل أيضاً كانت بمثابة أخت لها، وعائلة رسل أصبحت العائلة الثانية لشهد، إذ اعتادتا زيارة منازل بعضهما، ومشاركة الطعام، والتسوق، والتنزه. وتصف شذا علاقتهما قائلة: "وين ما أبحث على رسل بلاقي شهد والعكس، هدول البنتين ما بفترقوا أبداً. وحدة طويلة ووحدة قصيرة، فأنا عملاهم كابل تنمر. علاقتهم سوا ما شفت زيها، وما بتخانقوا، ولا بتزاعلوا، يعني أول ما استشهدت رسل قلت عطول وشهد.." لذلك، فقد كان الحديث عن موت رسل ثقيلاً على قلب شهد، فهو كما عبّر عنه الكاتب المصري أحمد خالد توفيق "العراب" في روايته "قهوة باليورانيوم": "... إذن كان هذا هو الموت، بدا لى بسيطاً ومختصراً وسريعاً، بهذه البساطة أنت هنا، أنت لم تعد هنا...."

على الرغم من فارق السنتين بينهما، فإن شذا تجد في رسل، الأصغر سناً، ملاذاً آمناً، ومصدر راحة وإلهام لها، وعندما تشعر بالإرهاق أو تواجه صعوبات، تسارع إلى رسل طلباً للنصيحة والدعم. وتصف شذا رسل، قائلة: "بس أكون مع رسل بحس إني قاعدة مع حد كبير وإنسان واعي، وعنجد فهمانة وكل كلمة بتحكيها درر. عنجد حدا ما بتعوض وما بتلاقي منه، حد ما في بأسلوبه وبمشاعره وطيبته وقوة شخصيته."

تستحضر شذا بامتنان تلك اللحظة التي راودتها فيها شهوة لأكلة "السماقية"، ذلك الطبق الفلسطيني الذي يحظى بشعبية خاصة في قطاع غزة، ولا سيما في مدينة خان يونس حيث نشأت رسل، فشاركت رغبتها هذه مع صديقتها رسل، معترفة بتواضع خبرتها في إعداد هذا الطبق. وتردف شذا قائلة: "قلتلها أنا نفسي فيها، فقالتلي أبشري، وأنا فكرتها بتمزح، ففجأة بترنلي وبتقلي السواق تحت باب البيت بعتلك سماقية، كانت باعتالي صحنين سماقية، ما في أطيب منهم.. هي نشمية كثير شو ما تطلبي بتلاقي منها."

تروي شهد أيضاً عن أجمل موقف جمعها برسل، وهو ذلك الموقف الذي لا يمحى من ذاكرتها أبداً؛ إذ كان على شهد موعد لتسليم مشروع جامعي مهم، لكنها وجدت نفسها عاجزة عن إتمامه في الوقت المحدد، فشعرت بالتوتر والإحباط، فاتصلت برسل معبرة عن شعورها، فلم تتردد الأخيرة في تقديم المساعدة إلى صديقتها كما عادتها، فدعتها إلى منزلها على الرغم من تأخر الوقت الذي قارب التاسعة مساء، فاستجابت شهد للدعوة، وعندما وصلت، فوجئت بأن رسل وعائلتها قد أعدوا لها احتفالاً صغيراً بمناسبة يوم ميلادها، وذلك في محاولة للتخفيف من توترها. وتصف تلك اللحظات قائلة: "أنا انصدمت إنه جاي لحتى تساعدني بالمشروع ومكتئبة وبعيط منه، لكن رسل وأهلها خلوني أفرح بالوقت اللي أنا محبطة فيه. وبعدين ساعدتني في المشروع وخلصناه، وقالتلي ما دام أنا معك مش رح تحتاجي شي."

في كل مرة تستحضر شهد رحيل رسل الأبدي، فتبكي وكأنها تتلقى نبأ استشهادها للمرة الأولى، بعدما كانت تلتقي رسل يومياً، فقد وجدت نفسها وحيدة من جديد. نجت شهد من الموت، لكن رسل لم تنج، فكأن الموت اختطف روحها من دون جسدها في اللحظة التي علمت فيها باستشهاد صديقتها.

وفي ذلك اليوم، وبينما كانت شهد تلهو مع شقيقتها الصغرى، دوت صواريخ الاحتلال، فظنت شقيقتها أن القصف أصاب منزل رسل لقربه وظهور آثار القصف في جواره، لكن شهد طمأنتها، إذ كانت معتادة على رسائل الاطمئنان من رسل بعد كل غارة، وعلى غير عادتها، بدت شهد هادئة هذه المرة. وفجأة، انهالت الرسائل على هاتف شهد: "شهد وينك، شهد افتحي انترنت"، فقرأت شهد خبر استهداف منزل عائلة أبو توفيق الفرّا، وفي لحظتها نسيت أن عم رسل لديه ابن يدعى توفيق، فحاولت الاتصال برسل مراراً وتكراراً، لكن من دون إجابة، فاتصلت بعد ذلك صديقة شهد لتخبرها أن والدها ذهب إلى منزل عائلة رسل للتحقق، وأخبرها أن هناك شهداء كثيرين، فتلقت بعد ذلك خبر استشهاد شقيقات رسل، تقى وأديان، وبعدها بقليل، "أجى بابا حكالي رسل استشهدت."

تعجز الكلمات عن وصف اللحظة التي تلقت فيها شهد نبأ استشهاد رفيقة دربها، وتصف فقدان رسل بأنه "كسرة" في حياتها، فتجد نفسها غارقة في الصور والذكريات التي تشاركتها معها، وتتصفح دائماً رسائلهما القديمة، وتقول بحسرة: "مرة أجت خالتي عنا كنت بدي أخليها تشوف محادثتنا على الواتس أب، ففتحت الدردشة، وبحكيلها ’وين رسائل 2024؟‘، فأجتني لحظة إدراك إنه إحنا بـ 2024 وهي مش معي. في كثير أوقات بنسى إنه هي راحت من أكتوبر بحس إنها مسافرة وحترجع، وإنه إحنا ما بنشوف بعض لأنه إحنا بحرب."

لم تستطع شهد وشذا تقبُل حقيقة استشهاد رسل من دون إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها، فالاحتلال الإسرائيلي يسلب الأرواح بسرعة، حارماً الفلسطينيين من لحظات الوداع الأخيرة. وتشتاق شذا إلى الذكريات المشتركة مع رسل، وتحن إلى كل تفاصيل صداقتهما، بينما تشعر شهد بفراغ هائل في حياتها، محتاجة إلى دعم رسل المعنوي أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً وهي تكابد مع أسرتها مرارة العيش في مخيمات النزوح.

بعد رحيل رسل، بدأت شهد ترى الحياة بعين مختلفة، فأصبحت كل الأمور في نظرها تافهة وعديمة القيمة، وتمر كثيراً بلحظات ضعف واستسلام، لكنها سرعان ما تستعيد قوتها متذكرة كيف كانت رسل مثالاً للقوة والإصرار. لذلك، فقد قررت أن تكمل حياتها بقدر ما تستطيع، وأن تكافح وتحارب من أجل ذلك، ليس فقط لنفسها، بل أيضاً تخليداً لذكرى صديقتها رسل. ومع ذلك، فإنه يبقى أكبر مخاوفها انتهاء الإبادة، إذ ستواجه حقيقة أن رسل لن تعود أبداً.

وبعد مرور عشرة أشهر على الإبادة الجماعية، ارتفع عدد الشهداء في قطاع غزة – حتى لحظة كتابة هذا التقرير - إلى ما يزيد على 38,250 شهيداً، أي ما يزيد على 38,250 قصة ورواية. إن واجبنا الأخلاقي والإنساني كصحافيين ونشطاء وكتّاب، يحتم علينا السعي لرواية قصص الحياة التي سُلبت من غزة وأهلها، وعلينا أن نرفض فكرة تحويل الفلسطينيين إلى مجرد أرقام تمر في شريط الأخبار العاجلة، وبدلاً من ذلك، يجب أن نسرد قصصهم بكل تفاصيلها، ونتداولها على مدار الساعة.

Photo depicts press vests on the ground in Washington, DC with names of martyred Palestinian journalists from Gaza during rally at the White House Correspondents Dinner in April. Photo: Laura Albast.
أسماء بركات
A Palestinian activist holding a national flag towards a bulldozer damaging a street during an Israeli raid in the centre of Jenin in the occupied West Bank on September 2, 2024. (Photo by RONALDO SCHEMIDT/AFP via Getty Images)
نادين صايغ, شمس هنية