محور فيلادلفيا مِلك استراتيجي ونقطة صراع
التاريخ: 
23/07/2024
المؤلف: 

في اليوم 214 لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، قامت القناة 14 الإسرائيلية ببث مقطع فيديو يُظهر آلية عسكرية إسرائيلية ترفع علم إسرائيل إلى جانب عَلَم "لواء 401 في الجيش الإسرائيلي"،[1] وذلك في أثناء تجوّلها بالقرب من محور صلاح الدين، المعروف أيضاً بـ "فيلادلفيا". كما وضع بنيامين نتنياهو مؤخراً شرطاً جديداً في مفاوضات صفقة تبادل يتضمن عدم انسحاب إسرائيل من هذا المحور. هذا بالإضافة إلى أن الصحافي عميت سيجل نشر صوراً تُظهر عمليات توسعته وبناءه.[2] 

وتسلط هذه المقالة الضوء على محور فيلادلفيا، وأهميته من وجهة نظر الفلسطينيين وإسرائيل، بالإضافة إلى صلته بالأمن القومي المصري ومدى استراتيجيا السيطرة عليه في الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة.

الموقع الجغرافي والسياق التاريخي

في 9 أيار/مايو 1919، قدّم الوفد البريطاني إلى مؤتمر باريس للسلام مذكرة تُظهر نية البريطانيين اعتماد الحدود بين مصر والإمبراطورية العثمانية التي تم تحديدها سنة 1906. وفي 28 شباط/فبراير 1922، أعلنت بريطانيا إنهاء الحماية البريطانية على مصر، التي أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة، وأصبحت حدودها ذات طابع دولي، وعززت بريطانيا الانتداب على فلسطين عبر تحديد ما يُعرف بـ "الحد الفاصل".[3]

وقد بدأ بناء الخط الحدودي سنة 1982، واستمر حتى نيسان/أبريل 1983، إذ تم إخلاء 330 منزلاً وتدميرها، وتم إنشاء شريط بعرض 40 متراً، ولحقه إنشاء سياج إلكتروني، بالإضافة إلى إنشاء معبر رفح.[4]

إن طريق صلاح الدين، أو ما يسمى إسرائيلياً بـ "ציר פילדלפי/محور فيلادلفيا"،[5] هو خط حدودي يمتد إلى مسافة تُقدَر بنحو 14.5 كيلومتراً، ويفصل بين قطاع غزة ومصر، بدءاً بمعبر كرم أبو سالم (كيرم شالوم) جنوباً حتى البحر الأبيض المتوسط شمالاً. وعلى هذا المحور، تم إنشاء معبر رفح، وهو المخرج الرئيسي لسكان غزة إلى العالم الخارجي.[6]

ويقع المحور في منطقة منزوعة السلاح وفقاً لاتفاقية كامب ديفيد التي وُقعت بين إسرائيل ومصر سنة 1979.[7] وتم نقْل مهمة الإشراف على المحور من إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية بعد الانسحاب من قطاع غزة سنة 2005، وذلك ضمن إطار اتفاقية العبور والحركة التي وُقِّعَت بين الطرفين، والمعروفة بـ "اتفاقية المعابر".[8]

فيلادلفيا معضلة دائمة لإسرائيل 

لم توفِّر الاتفاقيات المتعلقة بالمحور الاستراتيجي هدوءاً مطلقاً لإسرائيل منذ انسحابها من القطاع سنة 2005، حينها برزت أراء متعددة داخل أروقة المؤسسة العسكرية، إذ كان رأي الجيش يشير إلى ضرورة التخلي عن المحور؛ نظراً إلى صعوبة العملياتية للسيطرة على الشريط الضيق بعد فك الارتباط، بينما دعا جهاز الشاباك بشدة إلى تخلي عن السيطرة على المحور، بدعوى أن ذلك سيحوّل قطاع غزة إلى مستودع ضخم للأسلحة البعيدة المدى، إلاّ إن وزير الدفاع آنذاك، شاؤول موفاز، ذهب إلى تبنّي توصية الجيش الإسرائيلي،[9] ومن الجدير ذكره أن تقريراً للشاباك، نُشر سنة 2005، أشار إلى أن هناك تزايداً في ظاهرة تهريب الأسلحة من مصر، وبحسب البيانات، فقد تم تهريب صواريخ مضادة للدبابات، و5 أطنان من المتفجرات، وآلاف الأسلحة والوسائل القتالية.[10]

وبعد عدة سنوات، ظهرت عدة معضلات أمنية نتيجة لذلك، ومن أبرزها: 

المعضلة الأولى: سنة 2007، سيطرت حركة "حماس" على قطاع غزة، وهو ما أدى إلى سيطرتها على محور فيلادلفيا من جهة غزة. وحتى اليوم، تشدد إسرائيل على فرض حصار على القطاع، ومع ذلك، فقد تسببت قسوة الحصار بتراخي المراقبة المصرية وتجاهلها عمليات عبور سكان غزة عبر المحور إلى الأراضي المصرية للحصول على السلع الأساسية، وفي الوقت نفسه، فقد بدأت "حماس" - بحسب إسرائيل - تهرّب المواد التي تعزز قوتها العسكرية، وهو ما دفع الحكومة المصرية، بقيادة الرئيس السابق حسني مبارك، إلى تشديد الرقابة على محور فيلادلفيا، وتعقيد عبور الغزيين إلى الأراضي المصرية، الأمر الذي دفع سكان غزة إلى حفر الأنفاق لتهريب المواد المتعددة؛ كالسلع الغذائية والسيارات.[11] 

المعضلة الثانية: بالتزامن مع سقوط نظام مبارك وصعود جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، شهد محور فيلادلفيا زخماً جديداً في النشاط، إذ أصبح من السهل على الغزيين المرور عبر معبر رفح، وازدهرت صناعة التهريب عبر الأنفاق، وهو ما ساهم في إثراء النشطاء على جانبَي المحور. 

لكن بعد صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة سنة 2013، شهدت السياسة المصرية تغييراً بالنسبة إلى محور فيلادلفيا، إذ بدأ الجيش المصري عمليات تدمير الأنفاق والحد من عمليات التهريب، باعتبار أن الأنفاق تمثل تهديداً للمصالح المصرية عبر تسلل العناصر "الإرهابية" إلى سيناء.[12] 

وفي سنة 2009، قامت مصر أيضاً ببناء جدار فولاذي، أملاً بأن يكون منيعاً أمام محاولات الفلسطينيين تذويبه أو اختراقه بمختلف الوسائل، على طول عشرة كيلومترات، وعمق 20 - 30 متراً، وجاء ذلك بعد ضغوط أميركية في هذا الاتجاه.[13]

أفكار متعددة وحلول قاصرة

عندما نلقي نظرة إلى معضلة محور فيلادلفيا بالنسبة إلى إسرائيل، نجد أن هناك أفكاراً متعددة تم طرحها لمعالجة هذه المشكلة العميقة والمعقدة، ومع ذلك، يبقى التحدي أمام إسرائيل قائماً، إذ إن الحلول التي طُرحت لم تحل المشكلة بالكامل، وترى إسرائيل أنه لا تزال هناك حاجة إلى جهود مكثفة لتحقيق الأمن والاستقرار على الحدود مع مصر، ومن هذه الحلول:

  1. في حزيران/يونيو 2004، أطلقت وزارة الدفاع الإسرائيلية مناقصة لتشييد قناة مائية في المحور، بهدف تعزيز الأمن وتقليل إمكان تهريب الأسلحة من مصر إلى قطاع غزة عبر الأنفاق. وعلى الرغم من التوقعات الإيجابية بشأن فعالية القناة المائية، فإن مشروع بنائها واجه تحديات قانونية؛ فعندما زار المستشار القانوني للحكومة آنذاك، ماني مزوز، المنطقة لفحص الآثار القانونية لمشروع القناة، أدرك أن إنشاءها سيتطلب تدمير ما يقارب 3000 منزل في رفح، وهو ما دفع الجيش إلى البحث عن حل آخر.[14]

  2. في نيسان/أبريل 2005، قبل ثلاثة أشهر من تنفيذ عملية فك الارتباط، نشأت فكرة في أذهان قيادة فرقة غزة، بقيادة العميد أفيف كوخافي في ذلك الوقت، تتمثل في بناء جدار عازل على طول المنطقة بأكملها من معبر رفح إلى البحر، ليشكل حاجزاً كاملاً بين الأراضي الفلسطينية والحدود المصرية،[15] وكان من المقرر أن يتراوح عرض الجدار المخطط له بين 60 و100 متر، وأن يكون الجيش الإسرائيلي مسؤولاً عن تشغيل الأنفاق وكشفها من دون عوائق، وتلقى على عاتق كتيبة مشاة المسؤولية عن تأمين ومنع التهريب عبر السياج، لكن هذه الخطة لم تتحقق أيضاً.

  3. بعد الهجوم المباغت الذي شنته "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ذكر موقع "Y-net" أن إسرائيل تمارس ضغوطاً على مصر لمكافحة ظاهرة التهريب التي تقوم بها "حماس" في منطقة فيلادلفيا، وفقاً لتقرير نُشر في 7 كانون الثاني/يناير 2024، وتتضمن المساعي الإسرائيلية لتركيب أنظمة إنذار على طول المحور للكشف في الوقت الحقيقي عن محاولات "حماس" إعادة بناء أنفاق تهريب الأسلحة، مع تلقي تنبيهات مباشرة عند تفعيل أجهزة الاستشعار، بالإضافة إلى استخدام طائرات استطلاع من دون طيار للمراقبة عند الضرورة. وقد أبدت القاهرة تحفظاً بشأن إرسال الطائرات من دون طيار، معتبرة ذلك انتهاكاً للسيادة المصرية. وفسر رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء جيورا آيلاند، المساعي الإسرائيلية بأنها ناتجة من فشل المصريين في وقف تدفق الأسلحة والذخائر إلى قطاع غزة على مدى السنوات الثماني عشرة الماضية.[16]

فيلادلفيا بعد طوفان الأقصى

بعد عملية "طوفان الأقصى"، شددت إسرائيل الخناق على قطاع غزة، وأصبح محور فيلادلفيا من أهم المناطق المستهدفة في استراتيجيا إسرائيل خلال حربها ضد القطاع. وفي 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن محور فيلادلفيا يجب أن يكون تحت سيطرة إسرائيل لضمان منطقة منزوعة السلاح، بينما عبّر في 13 كانون الثاني/يناير 2024 عن تراجع بشأن الحسم الفوري في الموقف.[17]

وفي 13 كانون الأول/ديسمبر 2023، نفذ الجيش الإسرائيلي هجوماً على الحدود بين مصر وقطاع غزة لتدمير الأنفاق، وفي 23 من الشهر نفسه، أُجريت عملية استعراضية في المنطقة الحدودية في رفح، وهو ما أدى إلى تصاعد الاشتباكات مع المقاومة الفلسطينية وانسحاب الجيش الإسرائيلي فيما بعد.

ورأى رئيس لجنة الأمن القومي عضو الكنيست، تسفيكا فوغل، أن رفح وفيلادلفيا يشكلان المرحلة الأولى في خطط إسرائيل، مؤكداً أن السيطرة عليهما أمر حاسم لإسرائيل لضمان أمنها ومنع تهريب الأسلحة،[18]  وفي المقابل، يرى الخبير الاستراتيجي، عومر دوستري، أن إسرائيل لن تنتصر في غزة من دون السيطرة على محور فيلادلفيا، مشيراً إلى أهمية حراسة المنطقة لمنع خروج قيادة "حماس" وتهريب الأسرى الإسرائيليين إلى مصر.[19]

وأخيراً، ترى إسرائيل في السيطرة على المنطقة الحدودية جزءاً من الاستراتيجيا الإسرائيلية لهزيمة "حماس" ومنع تكرار عملية طوفان الأقصى.[20] لذلك، يمكن القول إن السيطرة على محور فيلادلفيا تعد خطوة استراتيجية مهمة في الحرب مع غزة، إذ يسعى كل طرف لتحقيق أهدافه الاستراتيجية عبر ذلك.

يبدو مصير محور فيلادلفيا اليوم محوراً حاسماً في السياسة الإسرائيلية، إذ تسعى إسرائيل جاهدة للبقاء مسيطرة على هذا المحور الاستراتيجي. ويمكن أن تتضمن الجهود المستقبلية لإسرائيل التعاون مع الولايات المتحدة ومصر لبناء جدار تحت أرضي لمنع التهريب إلى قطاع غزة، وهذا الجدار يمكن أن يكون جزءاً من استراتيجيا أوسع تشمل تولي مصر والإدارة الحاكمة البديلة لـ "حماس" مسؤولية تأمين المحور.

ربما تسعى إسرائيل لضمان أن هذا الجدار تحت الأرض يمنع تهريب الأسلحة إلى غزة، وهو ما يعزز أمنها ويضعف قدرات الفصائل المسلحة في القطاع، ويمكن للتعاون مع الولايات المتحدة أن يوفر الدعم التقني والمالي لهذا المشروع، بينما يمكن لمصر أن تؤدي دوراً حيوياً في تنفيذ ومراقبة التزام الاتفاقيات الأمنية.

وبالإضافة إلى ذلك، تبدو إسرائيل مهتمة بتغيير الإدارة الحاكمة في غزة من "حماس" إلى جهة بديلة تكون أكثر اعتدالاً وتعاوناً في المسائل الأمنية، وهذا السيناريو ربما يساهم في تحسين الأوضاع الأمنية والسياسية في المنطقة في نظر إسرائيل، إذ يمكن لمصر أن تكون وسيطاً مهماً في هذه العملية.

 

[1] تُعرف "فرقة آثار الحديد" باسم فرقة المدرعات في الجيش الإسرائيلي، وقد تأسست سنة 1967، بهدف تعزيز الخطوط الدفاعية الإسرائيلية على طول قناة السويس وتحقيق تأمين أكبر للمنطقة، وشاركت الفرقة في حرب الاستنزاف التي وقعت عند القناة، وبقيت في المنطقة حتى اندلاع حرب تشرين سنة 1973.

موسوعة المصططلحات، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار".

[2] عميت سيجل ، "توسيع محور فيلادليفيا"، "تيليغرام"، 15/7/2024.

[3] ماهر الشريف، "كيف حددت حدود فلسطين الانتدابية؟"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 20/3/2023.

[4] يوسف فريل، "رد فعل كبير في الولايات المتحدة على قضية تقسيم رفح"، "دافار"، المكتبة الوطنية الإسرائيلية، 24/1/1982.

[5] "فيلادلفيا، هو اسم غير منطقي برز على خرائط الجيش الإسرائيلي" (بالعبرية).

[6] دورون باسكين، "التنازل عن محور فيلادلفيا"، "كالكالست" (بالعبرية)، 3/1/2024.

[7] نص معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية (بالإنكليزية).

[8] وثيقة نص اتفاقية المعابر بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية (بالإنكليزية)، 15/11/2005.

[9] أمير رابابورت، "توصية الجيش بالتنازل عن فيلادلفيا"، "معاريف" (بالعبرية)، 21/6/2005.

[10] "ارتفاع كبير في تهريب الصواريخ المضادة للدبابات"، "القناة 7" (بالعبرية)، 2/1/2006.

[11] باسكين ، مصدر سبق ذكره.

[12] عميرة هس، "أصحاب الأنفاق في غزة أصبحوا التجار الجدد"، "هارتس" (بالعبرية)، 26/12/2008. 

[13] آفي يسسخاروف، "مصر تقيم جداراً فولاذياً بعمق الأرض"، "هارتس" (بالعبرية)، 9/12/2009.

[14] نينا فوكس، "’حرب الأرانب الكبيرة‘: محور فيلادلفيا الدموي الذي تريد إسرائيل السيطرة عليه من جديد"، "يديعوت أحرنوت" (بالعبرية)، 3/1/2024.

[15] المصدر نفسه.

[16] "المفاوضات عالقة: هذا هو الخلاف بين إسرائيل ومصر بشأن محور التهريب التابع لحماس"، "يديعوت أحرنوت" (بالعبرية)، 7/1/2024.

[17] عدائيل إيتان موستكي، "نتنياهو: الحرب ستستمر لأشهر ويجب أن يكون محور فيلادلفيا بأيدينا"، "كالكالست" (بالعبرية)، 30/12/2024. 

[18] مقطع من مقابلة تسفيكا فوغل، "القناة 14" عبر منصة إكس (تويتر سابقاً)، 7/5/2024. 

[19] عومر دوستري، "رأي: لن تنتصر إسرائيل دون احتلال محور فيلادليفا"، "هابيتخونستيم" (بالعبرية)، 7/2/22024. 

[20] جاريد مالسين وسمر سعيد، "إسرائيل تستعد لمهمة خطيرة بشكل خاص في غزة، وهذه هي الطريقة التي تفعل بها ذلك"، "جلوبس" (بالعبرية)، 16//1/2024.

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.