أكتب موتي وأنا واقف: يوميات الكتابة والحرب
التاريخ: 
19/07/2024
المؤلف: 

لم تكن حياتي في غزة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر حياة زاهية كاملة، فالإنسان الفلسطيني يولدُ وفي فمه علقم القضية، وفي ذهنه وعي وجودي بضرورة توجيه كل فعل وقول في مسار وطني يحقق كيانه على أرضه، وفي قلبه خوف مستمر من فقد أو حزن أو كارثة. قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، كنتُ أعيش انشطاراً في الذات والوعي تجاه الوطن والواقع المتأزم في غزة، وعلى الرغم من قسوتها، في أغلب الوقت أجلتُ فكرة المغادرة كثيراً لأسباب واهية، وها أنا أكتشف الآن أنها أسباب عاطفية لها علاقة بارتباطي الوجداني بالمدينة بكل ما فيها من تناقضات.

إن صباحات غزة ليست عادية، وأنا أدرك هذا الآن بعدما فقدتُ التواصل الحميم مع مدينة أحبها من طرف واحد، وأطلق قلبي في شوارعها وألاحقه في محاولة لعناقها وهي تصحو من نومها، وحين أتعب من مطاردة قلبي، أجلس وحيداً في ساحة "الكتيبة" أو في المكتبة العامة أو في مقهى أعتاد الجلوس فيه، وأتأمل المدنية وأتغلغل في أوجاعها وفي صراخها الصامت وقهرها الصارخ ثم أكتب عني وعنها، وعن علاقة الحب التي تجعل إبحاري إلى أعماق الغرق والضياع مع أني أحفظ ملامح معشوقتي، وأعرف الحزن المديد في ذاكرتها، وأتلمس جراحها في جسدي وقلبي. أحفظها، لكنني فتى الضياع وغزة معشوقتي القاسية، وأنا ضائع كطفل يتيم.

لم ينته الكابوس؛ فأقف في الشرفة أمام المشهد العبثي أشعل سيجارة تفضحُ الارتباك في شراييني، وأترك المدى للست أم كلثوم لعلها تعيدني إلى ذاتي قليلاً، فأدرك أن الحرب أخذتْ ذاكرتي ومزقتْ كل الصور الملونة، وصار كل شيء بالأبيض والأسود، لا، إنما بالأسود والأسود. وتشدني رغبة جامحة إلى كتابة هواجسي السوداء عن المدينة التي أمستْ بلا ذراعين ولا أحلام، فقد انهارت أحلامُها الصغيرة قبل النضوج، فلا قلوب ولا غناء ولا ديك الحي يحضّر للصباحات النشيد، ولا الأطفال يذهبون إلى المدارس بخطى من أمل تعبر المستحيل إلى غد مشرق، ولا الجار يلوح للجار بالتحية.

المدينة وحيدة ومنسية، وكومة رماد وبكاء، فتسألني عن اسمي بعد أن فقدتْ ذاكرتها واقتلع الجنودُ عيونها، وأنا أبحثُ في شوارعها عن ذاتي وعن كف حبيبتي قبل أن تغادرها الحقولُ والبحار، وحين كانت تقفُ على أصابعها النوارس.

 تنام المدينةُ تحت قمر يُغني لأطلال الذاكرة، فلا تعرفني ولا أعرفها، فقد اختفت ملامحنا في الخراب... وأتأمل ليلها بعد رحيل الجنود، والسماء حمراء كأنها سقف من خوف تعبرها كل لحظة طائرات تحمل الموت المكثف والسريع، ربما تحصد أرواحاً بريئة، أو على الأقل تهز أصواتُها قلوب الأطفال، فتطرد النوم والسكينة، وبيوت قليلة لم تتحول بعد إلى ركام تخرج منها أضواء خافتة تؤكد أنه ثمة نبض بين تلك الحجارة التي بالكاد تصلح للمعيشة.. ولا صوت في ليل المدينة غير صوت الخوف يتجلى في كل الجهات، إمّا في قصْف جوي، وإمّا مدفعي، وإمّا عويل يصعدُ من أعماق المنكوبين.

الحرب واحدة من المفردات التي شكلت علاقتي بغزة، كما قلت في نص: "ولدتك الحروبُ في نزوة، وكبرت في رئة النار." أمستْ فكرةُ الحرب جزءاً من عاطفتي وذهني، كما هي في حياة الفلسطينيين منذ عقود طويلة، ولهذا وجدت الكتابة جدوى وجودية في مجابهة الحرب؛ "أنا أكتب إذن أنا أحارب، وأدافع عن إنسانيتي"، ولم أفعل هذا مع 7 تشرين الأول/أكتوبر فحسب، بل أيضاً خُضتُ درباً طويلاً من الكتابة ضد الحرب والموت، لإثبات وجودي الإنساني، وأذكر أنني فعلتُ شيئاً من هذا في حرب 2014، مع أنني لم أكن أمتلك وعياً أدبياً آنذاك، فكتبتُ قصة قصيرة عن الحب والحرب؛ عن مقاتل يلاحق الحب في غبار الحرب، وبراءتي - أو سذاجتي أو طفولتي - جعلت الحب ينتصر، فانتهت القصة بزواج البطل المقاتل من معشوقته.

الكتابة فعل وجود، وصراخ في وجه الموت، وأنا أكتب لأسباب وجودية، وهذا ما يفسر حرصي الشديد العفوي على الكتابة في كل حرب، ومتابعة ماذا يكتب الآخرون أيضاً. وفي نص ما، في حرب ما.. قلت: "حين أكتب أشعر وكأنني احتضنت أطفال غزة كلهم."

مع بداية حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر، وعلى الرغم من قسوتها التي لا تخفى على أحد، فإنني لم أترك قلمي، فكنت في الأيام الأولى في مكتبتي الخاصة أكتب كثيراً وأقرأ أكثر، إذ قرأت عدداً كبيراً من الكتب المتنوعة والأعمال الكاملة، التي هي في قائمة الانتظار منذ سنوات. وفي أول أسبوعين أو ثلاثة، مارستُ الكتابة يومياً، وكتابة الشعر بصورة خاصة، وهو الذي يتضمن توتري وقلقي الدائم، إذ كتبتُ معظم القصائد وأنا واقف أو أمشي أو أهرب من صوت الغارة، لهذا، قلت في نص ما: "علمتني الحرب أن أكتب موتي وأنا واقف!" ومع اشتداد الوضع والاضطرار إلى مغادرة البيت، انخفضت قدرتي على الكتابة، لأن الخلوة مع الحرب قلباً لموت أصبحت صعبة، وأنا لا أستطيع كتابة الشعر إلاّ إذا كنت وحيداً، لذلك، فقد حرصتُ على تخزين المشاهد في ذاكرتي لكتابات قادمة، وأحياناً أدوّن بعض الخواطر السريعة على الهاتف، لأن المشاعر لا تؤجل.

رسختُ المشاعر التي اختلجت في نفسي والمشاهد التي عايشتها إدراكاً مني أننا في زمن السقوط: سقوط الحلم، وسقوط الإنسانية والقيم، والأمن والمجتمع، والحجر والشجر، ومن سقوط إلى آخر حتى وصلنا إلى أبعد من الهاوية. وأنا أكتب هذا الكلام في زمن الرصاص، وأعرف تماماً أن الكلمات لا تحمي من الموت القادم من كل الجهات، بيْد أن الكلمة ربما تكون رصاصة في اتجاه واحد؛ في حنجرة قائلها فقط، ومع ذلك، فسأكتب موتي.

مع تجربة النزوح من مدينة خان يونس، أمست حياتي بلا ملامح، ولم يبق فيها سوى الرماد؛ رماد الذكريات والأحلام والعمر والبيت والمكتبة والشوارع. وكانت بالأبيض والأسود؛ فيها الفرح الحزن، والخوف والأمن، والألم والراحة، والموت والحياة... أمّا وقد سقط كل شيء، فأراها حياةً رمادية كما يليقُ بالكارثة، وكما يُراد للبلاد أن تكون حين يأخذُها السيل من حلم الدولة إلى وحل الخيمة.

إن التجربة مهمة في الكتابة، إذ تعطي اللغة حرارتها وصدقها العاطفي، إلاّ إنني لم أتوقع مطلقاً الوصول إلى هذا الحد من التجريب! نعم، تجريب المعاناة والنزوح، والوقوف الطويل على الطوابير لقضاء أبسط الأمور اليومية، والاستماع إلى قصص الناس البائسين والخائفين وتحليلاتهم السياسية، أو بالأحرى العاطفية، فكل شخص يقول ما يتمنى أن يحدث، في انتظار نهاية المشهد العبثي.

 

عن المؤلف: 

جواد العقاد: شاعر وكاتب وباحث فلسطيني يقيم بغزة.

image courtesy of ARIJ website.
Emma Bainbridge
نازحين فلسطينين عند محيط مستشفى الشفاء، 1 ابريل/نيسان 2024، قطاع غزة/فلسطين" تصوير "خالد داود، عبر apaimages
نيللي المصري