عاد إخوتي إلى بيتهم في خان يونس، بعد نزوح قسري في الأول من كانون الأول/ديسمبر، ليشقّوا طريقاً جديداً يقود إلى البيت المحروق، فعادوا ليفتحوا في الأرض المجرّفة والمقلوبة رأساً على عقب مصرفاً لمجاري البيت، وليستروا ما يُستر من الفتحات والنوافذ التي طارت، ويصلحوا ما يمكن إصلاحه من الجدران المهشمة، ويوجِدوا من العدم ما استطاعوا إيجاده.
فأخي الكبير، على سبيل المثال، أعرفه جيداً، فهو لا يستسلم، وصبور لكل نخلة زرعها بيديه، ولكل شتلة ريحان سقاها من روحه، ويطبطب على الأرض والزرع، فظلّ يزرع حتى آخر لحظة ترك فيها البيت، وكان في كل مكان يبدأ من جديد، فيضع الأنظمة والسياسات، ثم ينطلق وتنطلق معه الحياة.
أمّا أخي الأصغر، فبحث عن غاطس الماء حتى وجده، وَرشّ الأرض العطشى بعد غبار الجرافات والدبابات، وكان أول الواصلين إلى هناك.. عاد هو ورفاقه المقهورون ليروُوا الأرض، ويبحثوا فيها عن أي أثر للحياة السابقة؛ بيت البندورة البلاستيكي الذي كان ناضجاً وجاهزاً للبيع، أو فرن الطينة الذي خبزنا وطبخنا عليه قبل النزوح، أو العريشة التي كانت ملاذاً لسهرات النازحين، أو الدجاجات التي صمدت حتى آخر اللحظات، أو أي شيء كان ملتصقاً بالحياة قبل هذا الموت.
لكن العودة إلى بيت العائلة كانت شعوراً مؤلماً، فلم يعد البيت بيتاً، إذ إنه محترق بكل ذكرياته وأركانه، لكنه في أي حال كان هو البيت الذي نعرفه كلنا، ولا يمكن أن يتوه منا أو نتوه عنه، حتى وإن رَمَت بنا الأقدار في كل شتات ونزوح بعيد. هذا البيت الذي لا تزال تبحث عنه أمي، فتبكي غرفتها، وقشعريرتها وقت الوضوء، ولحافها وسريرها، وسجادة الصلاة في منتصف الليل، والجدران التي كانت تتكئ عليها والكهرباء مقطوعة، وكرسيها الخشبي في المطبخ، وتنكة الزيت الكبيرة في خزانة أبي، وملابسها وهي عروس وألبوم الصور، كلها أشياء لا يعرفها نتنياهو عن أمي.
إن العودة إلى البيوت هي المفردة التي آلمتنا وتؤلمنا جميعاً منذ نكبتنا الكبيرة، حتى نكبتنا الأكبر، وهي العودة التي صارت في قاموس المستحيل الآن، بعد أن فقد البلد شكله وملمسه ولونه ورائحته وصوته وغناءه، حتى لحنه الحزين الذي اختلطت به أصوات الصواريخ المتساقطة على رؤوس الناس.
أي عودة تلك التي صرنا نهذي بها في البلد؟!
"سنرجع يوماً إلى حيّنا"؛ رجعنا يا فيروز إلى الحي فلم نجده، وعاد الناس فوجدوا بقايا حي ميت بلا حياة. لقد كان رجوعاً كارثياً، سنبدأ فيه من الصفر، ومن تحت الصفر. يا فيروز، لا أحد يدرك حجم فجيعتنا. هل تعرفين ماذا يعني أن تبدأ في كل مرة من الصفر؟
هل تعرفين معنى النزوح يا فيروز؟
هل تتخيّلين شكل أمي وهم يتنقلون بكرسيها المتحرك من مكان إلى آخر بعد أن كسرت قدمها لأنها خرجت من حيّها؟!
يا فيروز، كل أغاني العودة وقصائدها لا قيمة لها، فالناس في النكبة الأولى كانوا يتوقون إلى العودة وهم يعرفون جيداً أن البيوت لا تزال واقفة تشهد، أمّا في حالتنا هذه، فركام البيوت وخرائط الشوارع التائهة تعصر قلبك، وقد أهلكتنا الغربات المتتالية، وحتى الرجوع الناقص، إذا كُتب له أن يدوم.
أمّا الذين لفظهم البلد، فلم يتبقَّ لهم مكان على هذه الأرض، فسيكون البدء من جديد مؤلماً، وقاسياً، فلا تراب يعرفونه، ولا آباء يقودونهم إلى رحلة الحياة المصطنعة من جديد، وستقلّبهم الغربة على نارها، وستخلطهم في دوامة الأحزان بلا هوادة، وسيبدؤون وعينهم على الوطن الذي لم يعد لهم.