قراءة في كتاب "العولَمة والعبرَنة في المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل" لمحمد أمارة
التاريخ: 
11/07/2024
المؤلف: 

مدخَل

لقد فصّلَ محمد أمارة في كتابه، بصورة معمقة، تجليات العبرنة والعولمة اللغوية في إسرائيل، وتغلغُل هذه الظاهرة في الخطاب اليومي الإعلامي الإسرائيلي تجاه المتلقي العربي واليهودي على حد سواء، وتتبّع الباحث الدلالات اللغوية والأيديولوجية لظاهرة العبرنة، وعمل في كتابه على تغطية هذه النقاط عبْر دراسة عميقة تناولت مفاهيم العبرنة والمشهد اللغوي والهوية، مشيراً إلى الاستشراق والنسيج اللغويَين في الثقافة الإسرائيلية - اليهودية، وكيف تحاول هذه الثقافة فرْض الهيمنة على الخطاب الجماهيري في القضايا اليومية.

كما عرض الباحث والمحاضر محمد أمارة ملامح العولمة والعبرنة في المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل في ثمانية فصول؛ فتحدث في الفصل الأول عن اللغة والعولمة والعبرنة. وتناول الفصل الثاني الإطار الكولونيالي للغة العربية في الواقع الصراعي في إسرائيل. أمّا الفصل الثالث، فقد تناول اللغة العربية في فلسطين - إسرائيل عبْر استقراء خلفية تاريخية لمكانة اللغة وحيويتها، ونظرة "الجار" اليهودي إليها بصفتها لغة جار – عدو. وناقش الفصل الرابع انعكاسات العولمة والعبرنة في المخزون اللغوي العربي الفلسطيني في الداخل، وكيف تأثّر ذلك المخزون بقوالب التعبير الإسرائيلية – العبرية. وتحدّث الفصل الخامس عن عبرنة أسماء المواقع العربية، وتداخُل الكلمات العبرية المكتوبة بحروف عربية في لوحات الإعلان. وعرض الفصل السادس مميزات المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل. أمّا الفصل السابع، فقد عمل على استقصاء وتتبُع ملامح المشهد اللغوي في أسماء المحال التجارية وتجليات العروبية والعولمة والعبرنة. وأخيراً، فقد عمل فصل الختام، الفصل الثامن، على إضاءة المشهد اللغوي في المدارس عبر عرضه لسياسة التربية اللغوية تجاه المواطنين العرب في الداخل، وعن طريق قراءة في المشاهد اللغوية والأيديولوجيا اللغوية في سياقات تعليمية متعددة.

وتأتي هذه المراجعة للكتاب في محاولة لفهم ملامح المشهد اللغوي (الإسرائيلي) في الحيز العام، وما يحمله هذا المشهد من رسائل سياسية - ثقافية تجاه الآخر (الفلسطيني)، كما يتناول الكتاب بعض المفاهيم التي تبنّاها الخطاب العام لوصف مجريات الصراع وأدواته وتدابيره، وذلك في ظل وصف المفاهيم، وتحليل مدلولاتها والرسائل الخفية داخلها، ثم مقارنتها ببعض البدائل الممكنة وملاحظة الفرق في المعنى بين استخدام وآخر.

حضور اللغة وسطوتها

هناك حاجة إلى الوقوف عند الفرق بين الترجمة التقنية المهنية، والترجمة الموجهة بالرواية الإسرائيلية، إذ إن إنتاج الدلالة الموجهة في المشهد اللغوي يأتي ضمن المحاولات الإسرائيلية للتنبؤ بالسيرورات البطيئة الداهمة على النسيج الداخلي الإسرائيلي، وذلك في محاولة للتصدي لها عبر تأثير الكلمة. ذلك مع العِلم أن ثقافة المشهد اللغوي سارت جنباً إلى جنب مع كل مظاهر القوة العسكرية والاقتصادية، وذلك لفرض الهيمنة والضبط والسيطرة عبر بوابة اللغة.

وتُعد الكلمة المكتوبة من أبرز أساليب الخطاب ووسائله المؤثرة، وهي بعيدة الأثر، وتُعدّ خطاباً موجهاً ومحملاً بملامح الثقافة التي يحملها أصحاب اللغة. ويقول محمد أمارة: اللغة مرآة عاكسة لما يحدث في المجتمع وتحولاته وهي مُشَكِّلة للتغيرات الجارية فيه لا ناقلة لها فقط، كما أنها مهمة للحراك الاجتماعي والتفاعلات الحياتية، بمعنى أن اللغة لها دور يتعدى الجانب المعجمي المخصص للتعبير عن الغرض والحاجة.

المشهد اللغوي، الدلالة، وتعريفات اللغة

إن الدلالة مرتبطة باللغة وبظاهرها الاجتماعي أكثر من ارتباطها بالكلام والمفردات، ذلك بأن الكلام جزء من اللغة، وليست اللغة جزءاً من الكلام. وبالتالي، فإن الدلالة الموجهة ترتكز على قاعدة اجتماعية فكرية، وتكون اللغة محركها الأساسي، وبذلك، تكون الأيديولوجيا الموجهة قضية لغة واجتماع لا قضية مفردات. وإذا وقفنا أمام دوامة تسمية الأشياء "حاجز عسكري أم معبر؟" و"اغتيال أم تحييد؟" و"شهيد أم قتيل؟" و"سلام أم عملية سلام؟"، فنحن نقف هنا أمام منظومة لغة، لا أمام منظومة كلام يقتصر على الخيارات البريئة للقاموس.

إن الصيغة العلائقية بين الدال والمدلول هي التي تتحكم بالرسائل الموجهة. وتكشف قراءة البنيوية اللغوية عن أهمية اللغة، وتفوُقها على الكلام، وأن الدلالة الموجهة ليست بحثاً موضوعياً يتعلق بالكلام حصراً، ولا بالمفردات ببُعدها المعجمي، بل أيضاً بمنظومة اجتماعية - فكرية تعود جذورها إلى الوعي الجمعي، وإلى الرواية التاريخية للمجتمع الذي يوظف الدلالة الموجهة من أجل إعادة تعريف ذاته.

هل يتصل المشهد اللغوي بعِلم اللغة التقابلي؟

لماذا علم اللغة التقابلي؟ لأنه يدرس العلاقة بين لغة ولغة، أو بين اللهجات داخل اللغة الواحدة، وهذا العلم يمسّ إنتاج المشهد اللغوي من ناحية العلاقة الجدلية بين التوظيف الموضوعي للمفردات واستعمالها المدروس بهدف تطبيق أجندة، وتكريس واقع، وصناعة وعي سواء في المجتمع المنتِج والموجِه للخطاب، أم في البيئة الاجتماعية للخصم - المتلقي.

ويتضافر علم اللغة التقابلي مع مفهوم الدلالة والبنية اللغوية في سبيل الوصول إلى مقاربة توضِّح الأسس التي تُبنى عليها الدلالة الموجهة، وذلك لو اتفقنا على أن هذه الظاهرة الاجتماعية (اللغة) تستند إلى مزيج من الكلام والدلالات والمواقف الأيديولوجية، وكل هذه المداخيل تتوقف على المناخات السياسية والأمنية والاجتماعية التي تسود المجتمع.

جذور المشهد اللغوي والرسائل الموجهة

يقول محمد أمارة في الكتاب: "أدى الصراع اللغوي دوراً مركزياً في الصراع الفلسطيني _ الصهيوني الذي برز، في الأساس، في مسألة الرواية التاريخية للصراع، إذ جرى استحضار اللغة لتأكيد كل طرف حقّه على الأرض وفيها، وبدأ الصراع اللغوي بشأن تسمية البلد، فالحركة الصهيونية استحضرت اسماً دينياً ʾأرض إسرائيلʿ، بدلاً من تسمية فلسطين التي استخدمها الفلسطينيون، وحتى استخدمتها حكومة الانتداب التي كانت تسمى حكومة فلسطين." (أمارة، 2023: 120) وتعود الجذور إلى بدايات الصراع، إلى الاتفاق على شكل اللغة ودلالات المفردات، فكما ظهر في الاقتباس أعلاه، تأتي تسمية الأرض بـ "أرض إسرائيل" أساساً تُبنى عليه وتستجيب له بقية المفاهيم الاقتصادية والسياسية والأمنية.

ويضيف أمارة: "من المهم تأكيد أنه بسبب الصراع العربي _ الإسرائيلي تُعد معرفة اللغة العربية مهمة في المقام الأول من أجل القضايا الأمنية. ونتيجة ذلك، فلا عجب في أن تكون الاعتبارات الأمنية الدافع الأساسي إلى تعليم اللغة العربية لليهود. ولهذه الأسباب، فإن الدافع الرئيسي لليهود الذين يدرسون اللغة العربية هو الرغبة في الانضمام إلى الاستخبارات العسكرية." يبدو مرة أُخرى أن تعلُّم اللغة يأتي لضرورات أمنية تهدف إلى تكريس السيطرة على الأرض وإخضاع سكان البلاد الأصليين، ومن هنا يكون الانتقاء والإقصاء في توظيف اللغة على قاعدة الرؤية الأمنية السياسية لإدارة شعب تحت الاحتلال.

كيفية إنتاج الدلالة عبر المشهد اللغوي الموجَّه

يمكن أن تخرج العبارات والمفردات عن المعنى المعروف والمتوقع لها، فعلى سبيل المثال، فإن الحواجز العسكرية تُسمى في القاموس الإسرائيلي "معابر"، وهذه المعابر تحمل في ثنايا اسمها العبور والتسهيل الذي هو ضد المنع والتضييق، وفي الوقت ذاته، لا تحمل تسمية "معبر" ذلك العنف وتلك الهيمنة التي تحملها كلمة "حاجز" التي تناسب واقع الحال وتعبّر عنه بصدق.

إن اللغة مجال يتسع لطيفٍ من الرموز والقيم والأفكار والدلالات والحمولات السياسية والفكرية، وبالتالي، فإن الكلام ليس سوى المظهر الخارجي لمفهوم اللغة العميق.

ويقول أمارة: "يشير مصطلح المشهد اللغوي وفق لاندري وبوريس إلى كل الأمور اللغوية التي تميز الساحة العامة، ومنها لافتات الطرق، وأسماء المواقع والشوراع والبنايات والأماكن والمؤسسات، وتشمل أيضاً لافتات الإعلانات التجارية" (أمارة، 2023: 17). ويستند هذا المشهد إلى فلسفة تضم اللغة والواقع السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي، وغيرها من العوامل التي تؤدي دوراً حاسماً في استخدام اللغة وإنتاج دلالاتها. وربما يشمل اللغة الفصحى، ولغة المثقفين على اختلاف تخصصاتهم، واللغة الدارجة المحكية العامية. ومن هنا، فقد جاءت عبارة المشهد اللغوي معبّرة عن المعنى، فنحن أمام مشهد بكل ما فيه من مؤثرات وعوامل، فهو ليس مجرد نص مكتوب، بل أيضاً هو مشهد.

أمثلة ونقاش

ربما نرى من وحي علم اللغة التقابلي هامشاً للتأويل، فعلى سبيل المثال، ربما نقرأ عبارتَين مختلفتَين لوصف أُسرة لا تهتم كثيراً بتحديد النسل، فنجد عبارة "عائلة كثيرة الأولاد"، وتعبيراً آخر هو "عائلة مباركة الأولاد"، والتعبير الثاني متسامح أكثر من الأول، فالأول يمكن أن يحمل وصمة من اللامبالاة والاهتمام بعدد المواليد وعدم الاكتراث للنوعية، وبمعنى آخر، فإن قولهم "عائلة كثيرة الأولاد" فيه إدانة للزوجَين، أمّا قولهم "عائلة مباركة الأولاد" ففيه تدخُّل واضح في وعي المتلقي يدفعه إلى تقبُّل زيادة العدد، وحتى تهنئة الوالدَين على هذا الإنجاب المبارك، وهذه الزيادة الطبيعية التي تعبّر عن سنن الحياة.

وتستخدم قوات الاحتلال كلمة "نترول" من نيوترال بالإنكليزية، وتعني التحييد، القادم من الحياد، وهي كلمة تصف إطلاق النار على المنفذ الذي يسقط شهيداً في أغلب الأحيان، فيصفون عملية التصفية بالتحييد، فلا يوجد في الكلمة أي تلميح بالقتل ولا حتى الإصابة بجروح، وذلك للتقليل من بشاعة الحدث، والتخفيف من قسوته على أُذن المتلقي وعلى قلبه وعقله. وفي النتيجة، لم يتغيّر الواقع الدموي، إنما تغيرت المفردات التي تعبّر عنه.

إن كلمة "تحييد" تمثّل مخرجاً للمتلقي يعفيه من حرج السؤال عن الضحية والجاني والدوافع، وتريحه من النقد والاعتراض وإبداء الرأي بشأن ما جرى، لأن الذي جرى لا يعدو أن يكون تحييداً لخطرٍ داهم، وعلاوة على ذلك، فإن استخدام هذه الكلمة هو الخطوة الأولى في سبيل تمويه الجريمة في وعي المتلقين للخبر، وذلك باستخدام وصفٍ رمادي للجريمة، تمهيداً لإخفائها ووضعها في أدراج النسيان، وذلك بعد التحقيقات الميدانية التي تحدث عَقِبَ القتل (التحييد).

ومن الأمثلة على الاستخدام الموجَه، تلك اللافتات التي يراها المارة وهم في طريقهم إلى مناطق السلطة الفلسطينية (المناطق "أ")، قادمين من المدن الواقعة تحت سيطرة إسرائيلية كاملة (المناطق "ج")، فقد نصبت الإدارة المدنية (الإسرائيلية) لافتات ضخمة باللون الأحمر تحذّر المواطن الإسرائيلي من دخول مناطق السلطة، لأنه بذلك يعرّض حياته للخطر ويرتكب مخالفة جنائية يعاقب عليها القانون، فعلى الجانب الآخر من الحاجز، هناك خطر ربما يصل إلى الموت. وعن طريق المثال أعلاه، نرى كيف تؤدي اللافتة دوراً في تجريم الضحية، وفي محاربتها عبر اللغة المكتوبة المثبتة دائماً على الطريق.

مثال أخير؛ لنا في كلمة "תיאום" مثالٌ، وتُلفظ "تيؤم"، ومعناها "التنسيق"، ولهذه الكلمة بُعد جمالي ربما يوحي بتنسيق الزهور، أو تنسيق الأعمال التطوعية، والزيارات الاجتماعية، أو تنسيق المواقف الإنسانية، لكن الكلمة استُخدمت في سياق الواقع الفلسطيني للدلالة على تنسيق المهمات في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة مع المحتل، ولعلها محاولة لتطبيع المشهد عبْر بوابة اللغة، وذلك بالتخفيف من قسوة الصفة من دون المس بالموصوف.

انطباع عام وخاتمة

لقد تأكدت وتبلورت تلك الحاجة إلى فحص البدائل والترجمات التي تحمل دلالات أمنية ودينية وسياسية، وللإجابة عن تساؤلات تتعلق بالبدائل اللغوية في ظل الترجمة من العبرية إلى العربية وبالعكس، وتأخذ في الاعتبار ترجمة المضمون، وتناقش أهمية استخدام بعض المفردات كما هي، من دون ترجمة لكي تحتفظ بخصوصيتها، فعن طريق توحيد المفاهيم، يتم ترتيب الرواية والارتقاء بالخطاب لضمان وصوله وتأثيره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد ترك المتحدثون والإعلاميون الإسرائيليون كلمات كـ "شهيد، وهدنة، وانتفاضة" كما هي بلفظها العربي، وأهملوا ترجمتها إلى العبرية، علماً بوجود ترجمات لها، وذلك كي تحتفظ الكلمات بنوع من الغموض والشبهة وعدم الارتياح في نفس المتلقي الإسرائيلي.

وقد عملت هذه المراجعة على تتبُع الحمولة الفكرية والثقافية بين ثنايا اللغة، التي تتجاوز المعنى المعجمي للكلمات، كما أظهرت قدرة اللغة على تجاوُز دورها في الاتصال والتواصل، وصولاً إلى تحميلها بالفكر والدلالات الموجهة والخطاب القومي على يد مستخدميها.

وتناولت هذه المراجعة مفهوم المشهد اللغوي من جوانب متعددة، وذلك في ظل مقارنة بين اللغة بمستواها المعجمي المحايد والمستوى المحمل بالأيديولوجيا، وذلك عبر النظر في الفارق بين الصورة العامة للنص ومغزاه العميق. كما ظهر في ثنايا الكتاب تعبير عن القوة الناعمة التي تحاول اللغة فرْضَها، وذلك عبر محاولة تطبيع المشهد السياسي الأمني تحت الاحتلال عبر بوابة اللغة.

عن المؤلف: 

ماهر داود: باحث في الشؤون الإسرائيلية.