عندما تُشن الحرب، يكون الأطفال العنصر الأضعف في أتونها، وخصوصاً إذا كانت الحرب من صنف حرب إبادة وتدمير ولا تلتزم قوانين الحرب المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، وحقوق الطفل وحقوق الإنسان، بل يعلن فيها قادة الحرب من سياسيين وعسكريين تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش، وإعادته إلى العصر الحجري، وما يعنيه ذلك من استهداف كل شيء، وفي مقدم ذلك الأطفال. منذ اليوم الأول للحرب، بدأ أطفال غزة يفقدون الحق في الحياة والأمن والأمان والغذاء والعلاج والتعليم، والحق في معرفة سبب استهدافهم بهذا المستوى الوحشي الإجرامي.
إن ما يتعرض له الأطفال من قتْل وترويع ينعكس في المجتمع الفلسطيني برمّته راهناً ومستقبلاً، فَمَن هم دون 18 عاماً يشكلون العنصر الحيوي والأهم في كل مجتمع، إذ إنهم الحاضر والمستقبل والأمل، وَهُم يشكلون نسبة 54% من مجموع 2.3 مليون مواطن فلسطيني في قطاع غزة. ولا شك في أن قتْل الأطفال وترويعهم وتجويعهم وعدم توفير أي شكل من أشكال الحماية لهم وانتهاك كل حقوقهم على مدار 9 أشهر هو الدليل الأكبر على تصنيف هذه الحرب كحرب إبادة مفتوحة مع سبق الإصرار. لماذا لا يستطيع العالم، وخصوصاً ذلك "الحُر" المتباهي بمنظومة قيم الحقوق والحريات، أن يوقف هذه الحرب التي تجلب الموت والدمار والرعب والقهر إلى الأطفال والأبرياء وأبسط حقوقهم الإنسانية، وعلى الأقل أن يُخضعوا هذه الحرب لقوانين الحروب التي تحظر المس بالأطفال والمدنيين؟ كيف يستطيع العالم النظر في عيون أطفال يخرجون من تحت الأنقاض، وآخرين يتضورون جوعاً، وغيرهم ممن ينتظرون القذائف الذكية والغبية ليلاً نهاراً، وأطفال يبحثون عن أمهاتهم ولا يجدونهن، وأيضاً أولئك الذين يسألون إذا كانت أطرافهم المبتورة ستنمو من جديد أم لا؟ مَن يجرؤ على النظر في عيون أطفال غزة ويستطيع الإجابة عن أسئلتهم الصامتة؟ إذا كان أكثر من 8 آلاف جندي إسرائيلي يحترف القتال يعانون جرّاء عطب في قدراتهم العقلية والنفسية، وأُحيلوا إلى مراكز إعادة التأهيل العقلي والنفسي، وربما خرج أو سيخرج معظمهم من الخدمة العسكرية، فماذا يقول العالم لأكثر من مليون طفل فلسطيني زُج بهم في أتون حرب إبادة لا ترحم.
حرب بلا ناظم قانوني وأخلاقي
في إبان الحرب، يشترط القانون الإنساني الدولي على الجيوش والتنظيمات المسلحة اتخاذ التدابير الكافية لحماية المدنيين، بمن فيهم الأطفال، وهم الفئات الأكثر براءة ووداعة وضعفاً. واستناداً إلى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فقد حدد مجلس الأمن 6 انتهاكات جسيمة ضد الأطفال يجب تفاديها في أوقات الحرب، ودان حدوثها، وهي: قتْل الأطفال وتشويههم، وتجنيد الأطفال، أو استغلالهم من جانب القوات والجماعات المسلحة، والهجمات على المدارس أو المستشفيات، والاغتصاب أو غيره من أشكال العنف الجنسي الجسيم، واختطاف الأطفال، ومنْع وصول المساعدات الإنسانية إليهم كذلك.[1] لكن قوات العدوان الإسرائيلي تمارس أخطر الانتهاكات، مِن قتْل وتشويه، وهجمات على المستشفيات والمدارس، واختطاف للأطفال، ومنْع وصول المساعدات الإنسانية إليهم. وفي ضوء ذلك، فقد تقدّمت دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية بطلب التحقيق في حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وبعد بحث ما جرى ويجري، أصدرت المحكمة 6 قرارات احترازية من شأن الالتزام بها من جانب إسرائيل التقليل من ويلات الحرب، وضمان حماية المواطنين من خطر الإبادة، وصولاً إلى وقْف الحرب؛ إذ طالب القرار الأول إسرائيل باتخاذ جميع التدابير اللازمة ضمن حدود سلطتها لمنْع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل نطاق المادة الثانية من معاهدة منْع الإبادة الجماعية، وخصوصاً قتْل أفراد الجماعة (أي الفلسطينيين في غزة)، والتسبب بضرر جسدي أو عقلي خطِر لأعضاء المجموعة، وتَعَمُّد فرْض أوضاع معيشية على الجماعة بقصد تدميرها مادياً، كلياً أو جزئياً، وفرْض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة،[2] ولاحقاً طالبت محكمة العدل الدولية بوقف الحرب على مدينة رفح المكتظة بالسكان. لكن ما حدث هو العكس؛ إذ صعّدت إسرائيل من حربها، وحوّلت حياة الأطفال والمدنيين إلى جحيم لا يُطاق، وارتكبت مزيداً من المجازر المروعة. كل المنظمات وجهات الاختصاص المدافعة عن منظومة القوانين الدولية، كمحكمة العدل، ومحكمة الجنايات، ومجلس حقوق الإنسان، ومنظمات أمنستي وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة الدفاع عن الأطفال، ومنظمة بتسيلم، والأورومتوسطي لحقوق الإنسان، والأمين العام للأمم المتحدة، وكلّها منظمات حذّرت إسرائيل، وَدَعَتْها إلى وقْف الانتهاكات والجرائم وحرب الإبادة، لكن هذه الدولة ضربت عرض الحائط بكل المطالب المحقة والمدعومة برأي عام عالمي أكثري، وصعّدت من عدوانها، ولم تكتفِ بذلك، بل أيضاً انتقلت إلى الهجوم على المنظمات الدولية والناطقين باسمها، واتهمتهم بالعداء للسامية، ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، ومندوبه في الأمم المتحدة، القرارات بالحقيرة، بينما استصدر الكونغرس الأميركي قراراً يدعو إلى محاسبة المحكمة الجنائية الدولية ومقاطعتها رداً على دعوة المدعي العام فيها إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير حربه غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة.
وبتلك المواقف المتحدية للمنظمات الحقوقية الإنسانية، يتكرس التمرد الإسرائيلي على القانون الدولي بكل مكوناته، كما تضع إسرائيل نفسها فوق القانون في زمن اللاحرب وفي زمن الحرب على حد سواء، وتضع نفسها خارج إطار المساءلة والمحاسبة، وتفلت دائماً من العقاب، وذلك حدث ويحدث عبر الدعم الأميركي ودول الغرب التي التحقت بالسياسة الأميركية لاحتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية والجولان ومزارع شبعا، وسيطرتها على الشعب الفلسطيني، ونهْب موارده، وبفعل حماية انتهاكات هذه الدولة بالفيتو الأميركي والدعم العسكري والمالي. وقد بلغت ذروة هذا التمرد المدعوم من الحلف الأميركي الغربي عندما تم شن حرب إبادة على المجتمع الفلسطيني في غزة، وكانت أخطر نتائج هذه الحرب إفراغ القانون الدولي من مضمونه والعمل على تطويع المؤسسات الدولية المختصة بالدفاع عن القانون وإنفاذه، وفِعل كل ما من شأنه منعها من تطبيق القانون، وتعاملها بمعايير مزدوجة في تطبيق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، واستنكافها عن تأمين أبسط أشكال الحماية للأطفال والمدنيين، وعن تأمين الحد الأدنى من الغذاء والدواء.
الأطفال في مركز الاستهداف
"كل صباح أتمنى أن أصحو ولا أجد طفلاً فلسطينياً واحداً على قيد الحياة"؛ غولدا مئير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية سابقاً.
كشفت الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا"، رولا دشتي، في تصريحات أدلت بها يوم الجمعة، أن "عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة والمقدر بـ 4300 طفل فاق العدد الإجمالي للأطفال الذين لقوا مصرعهم بالصراعات المسلحة في 22 بلداً في أي عام منذ 2020". ويشار إلى أن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم جيبريسوس، قال لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يوم الجمعة، إنه بمعدّل كل 10 دقائق يُقتَل طفل في قطاع غزة، محذراً من أنه "لا يوجد مكان آمن ولا أحد آمن."[3]
وبلغ عدد ضحايا الحرب مِن الأطفال 15,694 طفلاً، وجُرح 34,000 منهم، كما فُقِد 3600 طفل تحت الأنقاض، وبلغ عدد المختطَفين - في عداد الأسرى - نحو 200 طفل وفتى. ناهيك عن أن 60,000 جَنين في غزة مهددون بأن يُجهَضوا ويموتوا، أو يولَدوا بتشوهات خلقية، وهناك 40,000 رضيع لم يحصلوا على التطعيمات واللقاحات اللازمة بصورة منتظمة. أضف إلى ذلك أن 1500 طفل فقدوا أطرافهم أو عيونهم أو أضحوا بإعاقة مستدامة - أصبح العدد 5000 حتى أواخر حزيران/يونيو – وهناك 17,000 طفل أصبحوا يتامى، 3% منهم فقدوا كِلا الوالدَين، واضطر أكثر من 700,000 طفل مع عائلاتهم إلى النزوح قسراً من أماكن سكنهم بفعل القصف المتواصل، كما فَقَد 650,000 طفل منازلهم التي تعرضت لتدمير جزئي أو كلّي. هذا بالإضافة إلى أن هناك 625,000 طفل أُجبروا على ترْك مقاعد الدراسة، وخسروا عاماً دراسياً. كما أن 98% من أطفال غزة لا يجدون مياهاً صالحة للشرب.[4] وبلغ عدد الضحايا الأطفال في الضفة الغربية 124 شهيداً، ولا يمكن تصوُّر أطفال من دون أمهاتهم، سواء أكنّ في عداد الشهيدات البالغ 10,018،[5] أم في عداد المفقودات، إذ يعمّق فقدان الأطفال لأمهاتهم محنتهم ومعاناتهم.
وتفسّر قائمة الخسائر المتضخمة المتزايدة كل يوم وكل ساعة، المعتمدة من المنظمات الدولية ذات الصلة، ما يحدث في قطاع غزة، وتقدّم أدلّة وبراهين لا تقبل التأويل على تعرُض 2.3 مليون فلسطيني، أكثر من نصفهم أطفال، لحرب إبادة وجرائم بحق الإنسانية. ويقول نداء صادر عن اليونيسف: "في رفح، يعيش مئات الآلاف من الأطفال حالياً في مخيمات، ويقيم العديد منهم في الخيام أو في مساكن غير رسمية وغير مستقرة. وقد نزح العديد من الأطفال عدة مرات، وفقدوا منازلهم وأولياء أمورهم وأحباءهم. إنهم بحاجة إلى الحماية، إلى جانب الخدمات المتبقية التي يعتمدون عليها، بما في ذلك المرافق الطبية والمأوى."[6]
وأُدرجت إسرائيل في "قائمة العار" بعد أن صُنفت كدولة تقتل الأطفال، والقرار ينص على أن الجيش الإسرائيلي هو جيش يقتل الأطفال، ومن المفترض أن تؤدي هذه التهمة إلى فرْض عقوبات على إسرائيل من دول العالم. أمّا الدول التي تورد الأسلحة إلى جيش مدان بقتل الأطفال، فإمّا ستكون أمام إمكان شمولها في القرار لأن أسلحتها تقتل الأطفال، وإمّا سيتوجب عليها التوقف عن إرسال الأسلحة، والمشاركة في فرْض عقوبات على الدولة التي تقتل الأطفال.[7] لكنّ لنتنياهو رأياً آخر عندما قال: "إن الأمم المتحدة وضعت نفسها على القائمة السوداء.. إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم ولا يمكن لأي قرار سخيف للأمم المتحدة أن يغير ذلك."
التجويع من أخطر أسلحة الإبادة: أن تكون إنساناً أو لا تكون...
عادة ما تُنتج الحروب مجاعة، فالحرب والمجاعة صنوان متلازمان، وخصوصاً في الحروب التي تُشَنُ على الجنوب العالمي. وفي حرب الإبادة الإسرائيلية التي تُشن على قطاع غزة منذ 9 أشهر، تستخدم حكومة نتنياهو التجويع وتدمير وسائل إنتاج الغذاء ومنْع استيراده ووصوله كأحد أسلحة الحرب وأكثرها فعالية، وقد أعلن أكثر من مسؤول إسرائيلي وجنرال ذلك على رؤوس الأشهاد، لكنهم توقفوا عن إعلان ذلك، وواصلوا عملية التجويع بعد أن قدّمت محكمة العدل الدولية ذلك كدليل على حرب الإبادة.
إعلان المجاعة بمقياس جهات الاختصاص يعني أن 20% من السكان يعانون جرّاء نقص حاد في الغذاء، ومن كل 3 أطفال، يعاني طفل جرّاء سوء التغذية، ويموت شخصان من كل 10,000 شخص يومياً بسبب الجوع أو سوء التغذية والمرض.[8] لكن ما مدى انطباق ذلك على قطاع غزة؟ يُرجح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، أن نصف سكان قطاع غزة سيعانون جرّاء الموت والمجاعة بحلول تموز/يوليو القادم إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن.[9]
وتتحدث تقارير وزارة الصحة عن سوء التغذية وانعدام المكملات الغذائية والتطعيمات، والتي أصبحت في إطار الممنوعات من دخول قطاع غزة،[10] وفي هذا السياق، أفصح مدير عام منظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس غيبريسوس، أن "نسبة كبيرة من سكان غزة يواجهون الآن جوعاً كارثياً وأوضاعاً شبيهة بالمجاعة." وقال إن أكثر من 8000 طفل دون سن الخامسة تم تشخيصهم وعلاجهم من سوء التغذية الحاد، بما في ذلك1600 طفل يعانون جرّاء سوء التغذية الحاد الوخيم، وأفادت وكالة الصحة التابعة للأمم المتحدة بأن 32 شخصاً من سكان غزة توفوا بسبب سوء التغذية، بينهم 28 طفلاً دون سن الخامسة، بينما تقول وزارة الصحة في غزة إن 40 طفلاً ماتوا بسبب الجوع. وأضاف تيدروس: "على الرغم من التقارير التي تفيد بزيادة توصيل الغذاء، فإنه لا يوجد حالياً أي دليل على أن أولئك الذين هم في أمسّ الحاجة إليه يتلقون ما يكفي من الغذاء من حيث الكمية والنوعية."[11]
بعد الهجوم على مدينة رفح واحتلال وتدمير المعبر الرئيسي لدخول المساعدات، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" إن نحو 3000 طفل - في رفح - معرضون لخطر الموت نتيجة الهجوم الإسرائيلي على المدينة، وأوضحت المديرة، أديل خضر، أن "الصور المروعة من غزة تظهر أطفالاً يموتون أمام أعين أُسرهم بسبب استمرار نقص الغذاء وإمدادات التغذية وتدمير خدمات الرعاية الصحية." وقالت إن "تحذيرات المنظمة من تصاعد وفيات الأطفال بسبب مزيج يمكن الوقاية منه من سوء التغذية والجفاف والأمراض كان ينبغي أن تؤدي إلى حشد إجراءات فورية لإنقاذ حياة الأطفال، ومع ذلك، لا يزال هذا الدمار مستمراً ". وأضافت: "مع تدمير المستشفيات وتوقف العلاج وشح الإمدادات، فإننا نستعد لمزيد من معاناة الأطفال ووفياتهم."[12] ونوه بيان لليونيسف إلى أن القراءة في 5 مجموعات من البيانات التي جمعت بين كانون الأول/ديسمبر 2023، ونيسان/أبريل 2024، وجدت أن 9 من كل 10 أطفال في قطاع غزة يعانون جرّاء فقر غذائي حاد، وهو ما يعني أنهم يتغذون على مجموعتَين غذائيتَين أو أقل للبقاء على قيد الحياة.[13] ويُلاحَظ أنه بمرور الوقت، يزداد موت الأطفال بالقذائف والصواريخ أو بالجوع والمرض والأوبئة، ويزداد ذعرهم وعذاباتهم ومعاناتهم، فلا يستطيع مجلس الأمن ولا الدول مجتمعة أو متفرقة تأمين الحماية للأطفال والمدنيين استناداً إلى القانون الدولي الإنساني وقوانين الحروب وبروتوكولاتها. كما لا تستطيع محكمة العدل ومحكمة الجنايات واليونيسف ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات متابعة إنقاذ الأطفال المنكوبين حتى النهاية من دون الخضوع أو مراعاة مواقف القوى المهيمنة الداعمة للعدوان، سواء أكان عبْر تأمين الغذاء والعلاج والأمان بالمستوى الذي تنص عليه مبادئها وأنظمتها، أم عبْر محاسبة المسؤولين عن إبادة الأطفال وتجويعهم وتدمير مستقبلهم. وقد جاء التشارك في الحرب عبر دفْع إدارة بايدن مبلغ 6.5 مليار دولار ثمناً لأسلحة قتلت وروعت الأطفال، كما جاء عبر تواطؤ حلفاء إسرائيل مع استمرار الحرب واستمرار موت الأطفال وتدمير مستقبلهم، وعبر عجز هيئات الاختصاص المستقلة عن تطبيق مبادئها في حمايتهم. وما حدث حتى الآن هو تخفيف حدة القتل والجوع بما لا يتناسب مع التقارير والبيانات التي توضح وتشرح المخاطر الهائلة، وهذا الوضع المأساوي الذي يندى له جبين الإنسانية هو شهادة إضافية على نظام التوحش العالمي والإفلاس الأخلاقي والإنساني في الدفاع عن حق الأطفال في الحياة.
أطفال بلا تعليم
بعد أن دمر المشروع الاستعماري الصهيوني التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، ومارس التطهير العرقي، واستولى على الموارد، استقوى الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها بالتعليم كأهم وسيلة ممكنة لتجاوُز شروط النكبة، ولتحسين شروط الحياة وإعادة التماسك إلى المجتمع عبر اضطلاع نُخَب التعليم الجديدة بالدفاع عن الحقوق والهوية الوطنية، لهذا، فقد اكتسب التعليم الفلسطيني رمزية معنوية كبيرة.
ومنذ بدء العدوان، حُرم 620,000 طالب من الذهاب إلى مدارسهم، و88,0000 منهم حُرموا من الذهاب إلى جامعاتهم، وتعرّضت المدارس والجامعات ورياض الأطفال للتدمير.[14] وقد قُتل 3 من رؤساء الجامعات في غارات إسرائيلية، إلى جانب أكثر من 95 من عمداء وأساتذة الجامعات، منهم 17 شخصية تحمل درجة بروفيسور، و59 شخصية تحمل درجة دكتوراه، و18 شخصية تحمل ماجستير.[15] ويلاحَظ أن آلة الحرب الإسرائيلية تستهدف النظام التعليمي وبنيته المادية والإدارية بأكملها، وكان تدمير نظام التعليم ومنع كل محاولات استئنافه في المدى المباشر والمنظور أحد عناصر حرب الإبادة والتهجير. وقد قامت جامعات ومدارس الضفة الغربية بفعل جيد عندما أتاحت المجال أمام طلبة غزة للتسجيل في الجامعات وممارسة التحصيل العلمي عن بُعد، غير أن قطْع التيار الكهربائي لفترات طويلة وتعطيل شبكات الاتصال جعل هذه العملية محفوفة بالفشل، وحاول عدد كبير من المعلمين والمعلمات إيجاد بدائل، لكن الافتقار إلى المكان والغذاء والأمان والمال قلل من نجاح تلك المبادرات على أهميتها.
خسر الطلبة سنة دراسية كاملة، وباتوا عرضة لخسارة المزيد ما لم تتوقف حرب الإبادة، وعلى الرغم من المحاولات المتواصلة لتعويض التلاميذ والطلبة، فإن المدارس التي لم تدمَّر تحولت إلى مراكز لإيواء المهجَرين. ولا يوجد استقرار، إذ اضطر المواطنون ومعهم الأبناء إلى الانتقال من مكان إلى آخر تحت دوي المدافع والصواريخ التي حولت حياتهم إلى جحيم، وأصبح معظمهم يعيش في خيام لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الأمان الكافي للتعويض عن فقدان المدارس. وتوقف التعليم على امتداد سنة وهو مرشح للتوقف ما دامت حرب الإبادة هذه مستمرة، ويلاحَظ أن دولة العدوان تستخدم تعطيل التعليم للضغط على المجتمع الذي يحتل التعليم مكانة مرموقة في ثقافته، ولم يكن من باب الصدفة المسعى الإسرائيلي المحموم لشيطنة الأونروا المسؤولة عن التعليم في العدد الأكبر من المدارس في قطاع غزة. وفي كل الأحوال، يشكّل تعطيل التعليم تحدياً كبيراً أمام كل المرجعيات السياسية والمهنية الفلسطينية، من جهة التفتيش عن بدائل وحلول، وإنقاذ العملية التعليمية من خطر الانهيار، ولتفادي استخدام توقف التعليم في تحفيز المواطنين على الهجرة.
الصدمات النفسية
"...أطراف أطفالنا مرقمة
مدننا قُسمت لأرقام ..الأكفان مرقمة
خيمنا مرقمة ..
وأنا أخطئ العد وكل هذه الأرقام تقتلنا"
نعمة حسن
الأطفال أكثر عرضة للإصابة بصدمات نفسية في أثناء الحروب، ويحتاجون إلى رعاية خاصة واستثنائية، وهم في الأحوال العادية في حاجة إلى رعاية خاصة وإجراءات وقائية وحماية قانونية، بسبب عدم نضجهم البدني والعقلي كما ورد في مقدمة اتفاقية حقوق الطفل، فالأطفال حتى سن 18 عاماً يمرون بطور النمو الجسدي والعاطفي والعقلي والسلوكي، وكل شيء لديهم يبدأ من الطفولة، وتختلف استجاباتهم وتفاعلهم مع الخطر عن الكبار، فربما يؤدي تعرضهم لعنف الحروب وما ينجم عنه من رعب وتوتر شديدَين إلى: أولاً، قطع تطورهم الطبيعي في التعلم والنمو النفسي الاجتماعي، وفي الاندماج الأُسري والمجتمعي، وفي الإبداع والابتكار، وفي القدرة على الحب. ثانياً، حدوث انكسارات نفسية ومعنوية تؤثر في شخصيتهم، وتؤدي إلى أمراض نفسية وعقلية إذا لم تتم مساعدتهم وإنقاذهم.
الحرب في غزة ليست كغيرها من الحروب، فهي من أكثر الحروب وحشية، وتتفق معظم التقديرات على أنها حرب إبادة، ففي اليوم 268 للحرب، ارتفع عدد الشهداء إلى37,877 شهيداً، ونحو 86,969 جريحاً، ومعظم الضحايا من النساء والأطفال بنسبة 72%، وتجاوزت نسبة المنازل المدمرة جزئياً أو كلياً 70%، وتم تشريد مليون ونصف المليون من السكان من أماكنهم، وبعضهم لأكثر من مرة. كيف ستكون الحالة النفسية للأطفال؟ كيف يحتملون موت أقرانهم وذويهم أو إصابتهم بكل أنواع الجروح، وبتهديم منازلهم ومدارسهم، وافتقادهم إلى المكان وأبسط أنواع الحماية؟ كيف يتحملون انفجار الصواريخ بزنة 2000 باوند وما دون؟ وكيف يتعايشون مع بقاء الطائرات الحربية بكل أنواعها في السماء بانتظار أن تطالهم صواريخها؟ وكيف يتعايشون مع أرتال الدبابات التي تذيقهم قذائفها مر الموت والعذاب، ويحجب غبار جنازيرها الرؤية، مسمماً الأجواء وما تبقّى من مكان؟ كيف يعيش أكثر من 20,000 طفل بلا أم وأب أو بلا أحدهما في أثناء أبشع الحروب؟ كيف يعيش الأطفال وسط مئات آلاف الأطنان من النفايات المتعفنة، وبلا رعاية صحية أو غذاء وماء ما عدا النزر اليسير؟ هذه الحرب تنتج ضغوطاً وصدمات نفسية شديدة ومتعددة، كـ "اضطراب انتظار الموت" في كل لحظة وعدم القدرة على النوم خوفاً من الموت، واضطرابات ما بعد الصدمة التي تسبب هلعاً، واكتئاباً، وخوفاً، وقلقاً، وكوابيس، وحزناً عميقاً، ونوبات من البكاء، ونوبات من الصمت، وتبولاً لا إرادياً، وفوبيا الفقدان، وشعوراً بالقهر.
والأخطر من ذلك أن يفقد الأطفال طفولتهم حين ينتقلون مرغَمين إلى فئة الكبار ويقحمون أنفسهم أو تقحمهم ويلات الحرب في التماهي مع الكبار، قافزين عن مرحلة الطفولة وخصائصها، كالبراءة والحاجة إلى إشباعٍ عاطفيٍ والفرح والمداعبة والتدليل والتفاؤل. إن حرق مرحلة الطفولة يُحدث أثراً سلبياً عميقاً في شخصية الطفل، وفي مقدم ذلك، يفقد الأطفال ثقتهم بآبائهم وأمهاتهم والعائلة، وذلك عندما يشعر الأطفال بأن مرجعياتهم عاجزة عن توفير الحماية والأمان والغذاء وسائر الحاجات، وهنا تنكسر قوة المثل الأعلى، وتنكسر السلطة الأبوية والمرجعية، وهو ما يؤدي إلى اختلال في توازن الأطفال، يمكن أن يقود إلى أشكال من عدم الطاعة والتمرد على عجز وفشل الكبار.
إن أطفال غزة في حاجة إلى دعْم نفسي، وتعاطٍ جديٍّ مع الانتهاك الفادح لحقهم في الحياة، ومع اضطرابات ما بعد الصدمة، كي لا تتحول إلى اضطرابات ذهنية وعقلية حادة، واكتئاب شديد، وانفصام.
لقد خلفت حرب 2014 نحو 373,000 طفل في حاجة إلى تدخُّل نفسي واجتماعي مباشر بحسب اليونيسف، وتوصل فريق الصحة النفسية إلى أن 40% من الأطفال في حاجة إلى دعْم نفسي مباشر.[16] ويُذكر أن تلك الحرب استمرت 51 يوماً، وأسفرت عن 550 ضحية من الأطفال، وإصابة 9562 طفلاً. والسؤال هنا؛ كم طفلاً فلسطينياً سيحتاج إلى دعم نفسي بعد 9 أشهر من حرب الإبادة، والأهم دعْم حقه في الحياة وأن يكون له مكان آمن؟ ثمة أسئلة أُخرى بشأن ضعف المبادرة الرسمية والمجتمعية لإنقاذ الأطفال وتقديم حبال نجاة بصورة مستمرة. وإن الخطاب السياسي يتجاهل الخطر الشديد الذي يهدد الأطفال ومجتمعهم، والخطاب الإعلامي يقتصر في معظمه على تقديم الضحايا كأرقام، وفي أحسن الأحوال عرْضهم لإدانة المعتدين فقط. والتحدي الأكبر هو؛ كيف يمكن للمجتمع أن يدافع عن أطفاله، الذين يساوي الدفاع عنهم الدفاع عن الأجزاء التي تتعرض للإبادة، والدفاع عن حرية الشعب وحقوقه؟
[1] "أطفال تحت القصف: ستة انتهاكات جسيمة ضد الأطفال في أوقات الحرب"، يونيسف، 27/8/2021.
[2] "أهم ما قالته محكمة العدل الدولية في حكمها الابتدائي بشأن قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل"، "يورو نيوز"، 26/1/2024.
[3] "الأمم المتحدة تكشف معلومة صادمة عن أطفال غزة القتلى"، "العربية"، 11/11/2023.
[4] "الإعلام الحكومي يوثّق بالأرقام حقائق مهمة عن واقع أطفال غزة في ظل حرب الإبادة"، وكالة "الرأي" الفلسطينية للإعلام، 14/6/2024.
[5] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "الشهداء".
[6] "نداء بعنوان يحتاج أطفال غزة إلى الدعم المنقذ للحياة"، يونيسف، 31/5/2024.
[7] "الأمم المتحدة تدرج إسرائيل في القائمة السوداء لقتل الأطفال"، "الجزيرة"، 7/6/2024.
[8] "شبح المجاعة يلوح في غزة.. ماذا تعني ومن يقرر حدوثها؟"، "الشرق"، 6/3/2024.
[9] "رحلة أطفال غزة المستحيلة للحصول على غذاء"، "بي بي سي نيوز عربي"، 17/6/2024.
[10] "3500 طفل يهددهم الموت جرّاء سوء التغذية في غزة"، "الأيام"، 18/6/2024.
[11] جاك خوري، "هذا العام لن يتم الاحتفال بعيد الأضحى في ظل الجوع الذي يسيطر على قطاع غزة"، "هآرتس"، 14/6/2024.
[12] "اليونيسف: 3000 طفل يعانون سوء التغذية ويتهددهم الموت في رفح"، "سكاي نيوز عربية"، 12/6/2024.
[13] "اليونيسيف: 90 في المئة من أطفال غزة يعانون فقراً غذائياً حاداً"، "سكاي نيوز عربية"، 6/6/2024.
[14] "’التربية‘: 15 ألف طفل استشهدوا في قطاع غالبيتهم من طلبة المدارس ورياض الأطفال"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 4/6/2024.
[15] "’الأورومتوسطي‘: تدمير إسرائيل الجامعات يقضي على آخر مظاهر الحياة في غزة"، "الرأي"، 16/2/2024.
[16] "غزة بعد عامين: التأثير الاجتماعي النفسي على الأطفال"، OCHA، 6/9/2016.