صنفت "منظمة الصحة العالمية" مرض الاكتئاب كأكبر إعاقة في العالم في حدود سنة 2025. وأنا أكتب هذه المادة بشقّ الأنفس لأنني أمرّ بنوبة اكتئاب حادة. وقد بدأتْ هذه النوبة بعد شهر من بداية المقتلة الإسرائيلية القائمة ضد غزة. وعلى الرغم من أنني أشعر بكمد شديد، فإنني قررتُ أن أكتب عن معاناتي كمريض اكتئاب داخل الحرب التي تركت فينا هذا الجرح الذي لا يندمل، والذي يسري، ويتسرب منه إمكان الفرح الذي ربما يأتي يوماً ما.
ولعل ما يحدث من جنون شديد في هذا العالم يجعلني أكتب بحزن شديد، وباستحياء من مأساتي في هذه الحرب، والتي مررتُ بها كما مرّ بها جميع الناس، وتركتْ فيهم كثيراً من الصدمات.
في معاني تخمة الشعور بالمقتلة المستمرّة
في اليوم الأول لهذه الحرب، أي في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان شعوري الطاغي هو الفرح، إذ لم أنم يومَين متتاليَين من هول الموقف. وعلى الرغم من هذا الموقف، فقد خالجني شعور الخوف من ردة الفعل، وبصراحة، وعلى الرغم من سوداويتي في حياتي العادية، فإنني لم أتوقع هذا الرد الإجرامي الذي نعيشه حتى اليوم، ولم أستطع أن أتكلم عن شعوري المتناقض، وزاد الأمر سوءاً عندما بدأ استهداف المنازل القريبة لمنزلنا.
كان من المفترض أن ألتقي طبيبي النفسي بعد أسبوع من بدء الحرب، فحال اندلاعها دون موعدي، وتأجّل حتى انتهائها، وكنتُ أظن أنني سأصمد إلى هذه الفترة، إذ ظننتُ كغيري أن الحرب ستكون قصيرة، ولن تطول لتسعة أشهر، وربما ستطول أكثر، ولا أحد يعرف كيف ستنتهي، لكنني كنتُ أظن أنها ستنتهي، وأنني سأذهب إلى طبيبي تيسير لأشرح له كل المشاعر التي خالجتْني منذ اليوم الأول للحرب. لكن سرعان ما دخلتُ صدمةً، وأصبحتْ لدي تخمة في الشعور، ولم أستطع الكلام عنها، وكأنني نسيت الكلمات، أم أن الكلمات خانتني، وأصبحت تخون المعاني. ولم أعرف أن هذا الأمر سيُثقل كاهلي، ويقيدني في حياتي، وأن هذا الشعور الثقيل على قلبي سيستمر كل هذا الوقت (9 أشهر) ويمتد إلى الآن، ويتراكم فيَّ الحزن والحقد والعجز وقلّة الحيلة في آن معاً، وكل هذا في نفسي أنا.
قتل الاحتلال الصهيوني في هذه الحرب منذ بدايتها ما يقارب الـ 20 شخصاً من عائلتي، كما قتل كثيراً من المعارف في محيطي الشخصي، بالإضافة إلى صديقي المقرب يوسف، ذلك الكتف الذي أتوكأ عليه في الليالي المظلمة.
وكنت قد أخبرتُ يوسف أنه سيحتفظ برسالة انتحاري الأخيرة، وأن هذا الوعد هو الوعد الوحيد الذي يجمعنا نحن الاثنَين الهاربَين من أي وعود من شأنها أن تقيدنا كأوغاد نعيش في مكان واحد، ويدفعنا نحو لوثة، نظن أننا لم نرثها في هذا المكان، وهي الخوف من الحياة.
رثيتُ صديقي يوسف أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أبكي وكأنني سمعتُ خبر موته للتو، وهزمَتْنِي رسائله التي كانت بيننا أكثر من مرة، فأصبحتُ مهزوماً، ولا قدرة لدي على وصف شعوري لأحد، وكأنني أريد أن أتقيأ قلبي الذي يؤلمني بعد رحيله، ولا أعرف كيف. لقد أصبحتُ وحيداً من جديد، ولا يوجد من يحتفظ برسالتي الأخيرة. أصبحتُ أعرج من جديد.
الحرب كنقش إزميل حاد تشكّل أرواحنا من جديد
شكّلت الحرب بعض المفاهيم الطارئة علينا كغزّيين بصورة خاصة؛ فأصبح هناك من يقدّم الأعذار ويبرر الأفعال التي لم تكن موجودة، أو بالأحرى لم تكن مكشوفة بهذا الشكل أمام الجميع، وكان العذر الأكبر والمعروف "الحرب"، لكنه عُذْرٌ لم يتكلم كثيراً عن أرواحنا في هذا المكان خلال هذه المقتلة.
لقد نقشت الحرب صوراً على أرواحنا، نحن الناس العاديين، الذين ليست لديهم حيلة في وقف هذه الماكينة الحربية التي تُزهق حيوات الجميع بلا رحمة، وقلّة الحيلة التي نحن فيها تشكّل كثيراً من التشوهات المعرفية لدى كثير من الناس، وهذه التشوهات جعلت الأغلب في حالة شرسة على الدوام، وكأن الشراسة هي الطريقة الأمثل للاختباء من الهشاشة التي تصيب قلب الأغلبية العظمى، والتي تُسقِط من السماء مشاعرَهم كحجر أصم وقع من علٍ.
إن هذه المشاعر هي المتبقية لنا من قلّة حيلتنا، نحن المتفرجين على الحياة التي لا تجري لمصلحتنا، وهي المشاعر السائدة والطاغية والترجمة الصحيحة لما تبقّى من معانٍ لا تموت مع تقادُم الزمن، ومشاعر ربما يراها البعض مزعجة نحملها في قلوبنا، كي نعلم أنه كانت لنا في يوم من الأيام حياة مَرْضِيٌّ عنها.
عودة إلى ذي بدء، فإن هذه محاولة كي يتم تشجيع مَن هُم في معاناة شديدة بسبب هذه الحرب على أن يعلو صوتهم، وأنا أتأمل من هذه المحاولة "البائسة" أن أسلط الضوء على معاناتي التي تعكس معاناة الناس في قطاع غزّة؛ ذلك السجن الأكبر الذي لا نتحرر منه مهما نفعل، والمحمول داخلنا، والذي يعطي معنى "الحرية" بشكلها الأكثر وضوحاً للسائلين عن جدوى الحياة، وكي يتأمن دوائي الذي يجب أن آخذه، سأكتب، لعل الكتابة تنجيني حتى نهاية الحرب.