لا بد أن يعود: الخبز المر، قصص ومقالات لم تُنشر من قبل
ماجد أبو شرار
رام الله: وزارة الثقافة، 2012. 158 صفحة.
عندما رثى محمود درويش القائد والشهيد ماجد أبو شرار في قصيدة له في مجلة "الكرمل"، قال فيها: "صباح الخير يا ماجد، صباح الخير / قم اقرأ سورة العائد وحُثّ السير / على بلد فقدناه بحادث سير". هكذا تبدو قصص ماجد أبو شرار كأنها تحثّ السير إلى الوطن، لكنها تحيا في تفصيلاته أيضاً، فيبرز ماجد الإنسان المبدع الذي عرف من خلال قصصه كيف يسرد لنا ماذا يعني له النضال فكراً وروحاً وحياة. وربما تكون السياسة شغلت الكاتب والمبدع فيه عن القصة وكتابتها، لكنها جعلته هنا أكثر انتباهاً للتفصيلات الصغيرة من حوله، كالمجتمع والناس والقصص التائهة التي كان بارعاً في التقاطها.
هكذا نجد قصصه تدخل إلى عمق المشاعر الإنسانية لتصف لحظات نادرة من حياة الناس الذين عايشهم وربما مروا من أمامه، فكان له معهم ذكريات.
وفي سحرِ وصفه يكمن سر القصص، فالقاصّ هنا يرسم تفصيلات حياتية قلّما نعثر عليها حولنا، لنجد ماجد أبو شرار عاشقاً للغة، يمشي مع الصفات والمجازات طويلاً ويجعلنا نستمتع بالسرد، وأحياناً تأتي جمله قصيرة لكن قوية، فيقول في قصة الزنجية: "الليل داجٍ، خنقت قمره سحب ليلة شتاء، عواء عاصفة تتلوى مجنونة في سماء ليل المدينة" (ص 71).
لا يمر هذا الوصف لخلق مشهد جميل فقط، بل نشعر بأن القاصّ أيضاً كان يرى العالم بطريقة جميلة وحساسة تجعلنا ندخل معه إلى معاني القصص وما وراءها.
يبدو لنا أن القاصّ الذي شغلته السياسة لم يكن مشغولاً بالمقاومة والنضال فقط، بل بالناس وهمومهم أيضاً؛ بهؤلاء المسحوقين والفقراء الذين يكتب عن حزنهم وألمهم ومقاومتهم اليومية في الصراع مع المرض والموت والألم. ففي قصة "برازق"، افتقد الكاتب بائع البرازق الذي كان يخبره النكات، ليجده بعد غيابه أكثر من عام في المكان نفسه، لكن صوته تغير، وكان يحمل معه ابنه الصغير المريض، في إشارة إلى أن العامل يقاوم بصوته وعمله لعله يجد معنى لحياته. وهنا يأتي المعنى زاخراً بالبطولة والمقاومة اليومية، تماماً مثلما كتب ماجد في أول المجموعة قصة بعنوان: "مكان البطل"، والتي أهداها إلى روح البطل إبراهيم أبو دية.
يكتب القاصّ عن إبراهيم واستعداده لمعركة القدس، فيصف تفصيلات من المعركة كأنها دعوة إلى معرفة كيف يفكر الأبطال الحقيقيون؛ إنها دعوة أيضاً إلى الغوص عميقاً لنفهم معاني هذه البطولة، فنراه يبدأ قصته بتوطئة تحفزنا على اكتشاف ذلك قائلاً:" قلة أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة، وستأتي مزمجرة عنيدة طاحنة، أمّا الكثرة فقد استسلموا لراحة لا لذة فيها" (ص 15).
وننتبه أيضاً إلى أنه في حديثه عن إبراهيم يتحدث أيضاً عن بطل آخر اسمه جبر وهو أحب الجنود إلى إبراهيم، وخصوصاً أن جبر حمى الآخرين بموته، فهو "البطل الذي منح الحياة لزملائه نظير موته" (ص 20).
هكذا يدخل ماجد أبو شرار إلى تفصيلات حياة الأبطال من حوله، ليخبرنا أكثر عنهم، فنجده يكتب أيضاً عن أبطال صغار، كالنجار الصغير الذي لم يكن صاحب المطعم الذي يعمل عنده يعامله بشكل حسن، لكنه كان يرى نفسه مهماً لأنه ابن شهيد اسمه أبو محمد النجار، فيواجه صاحب المطعم قائلاً له: "أنا مش ابن كلب..." (ص 24). وهنا أيضاً نلاحظ أن مواقف صغيرة في الحياة تصبح عنواناً لبطولة أكبر هي الكرامة.
في الجزء الثاني من المجموعة، وفي القصة التي تحمل عنوان المجموعة: "لا بد أن يعود"، يكتب أبو شرار عن لحظة يمشي فيها البطل إلى الخندق وهو يدرك أنه سيعود يوماً. ومع أن القصة تركّز أكثر على لحظة الذهاب، إلّا إنها تركز أيضاً على الأمل بالعودة، كأن مهمة القاصّ هي أن يجعلنا نغوص في تلك المشاعر العميقة للشخصيات، فنراه يكثف تلك اللحظة ويصفها بدقة أكثر، وخصوصاً لحظة دخوله إلى الخندق. والعودة هنا إشارة إلى العودة إلى الوطن التي لا يمكن أن تحدث من دون الذهاب إليه بإصرار فكراً وروحاً وإرادة.
في قصة "مدينتي" يقف الكاتب عند جمال العالم من حوله، فيصف جمال مدينته المتناقض أحياناً قائلاً: "مدينتي غارقة في الجمال حتى الرأس، جمال ناصع مسيطر، جمال تبرزه ابتسامات الرضى على شفاه الأطفال في طريقهم إلى المدرسة، كل الوجوه مبصومة بجمال مدينتي، كل الوجوه المنقبضة، المزمومة الشفاه، المكرمشة اللحم ما بين العينين" (ص 113). هكذا تبدو المدينة له كلوحة من مشاعر الناس التي يصادفها، فالجمال بالنسبة إلى القاصّ دعوة إلى التأمل في الأشياء لمعرفتها أكثر، فحتى ملامح المدينة والمكان جديرة بأن يكتبها كاتب مبدع كماجد أبو شرار.
يبرز في هذه القصص إبداع كاتب جعل القصة القصيرة مهمته الأدبية، فنعثر على ماجد المبدع الذي يتأمل الناس في هواجسهم اليومية، ويرسم خريطة سردية لمعنى المكان من حوله. كان يريد أن يقول أشياء كثيرة من دون أن يقولها مباشرة؛ وكان يقولها بأسلوبه الشيق الذي يحفزنا على أن نكتشف المعاني أكثر وأكثر، فنقول معه مثلما قال في قصته عن إبراهيم أبو دية: "قلة أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة" (ص 15).
ربما كان ماجد يعلم أنه أحد الأبطال الذين وضعوا خريطة سردية ومضوا، لكن العاصفة لم تمضِ.
وتتضح خطى ماجد أبو شرار الأدبية في هذا الكتاب، فقد كان يحاول أن يرسم مسيرة أدبية تلامس روح البطولة والكرامة في لغة تقترب من الناس وتجعلنا نتـأمل في معنى الحياة والوجود في ظل النضال اليومي مع عدو يحاول كل يوم قتل تلك اللغة فينا. فتعبير "لا بد أن يعود" يجعلنا نستعيد نبضات مناضل وأديب أكمل لغته باستشهاده، وكان، على غرار رفاقه الآخرين، يخطو في طريق البطولة مسافات فكرية تجعلنا نفكر في معنى الأدب لاكتشاف سر الهوية النضالية، وأيضاً كيف ترسم الهوية النضالية رحلة الأدب في روح هؤلاء القادة المفكرين والأدباء والمناضلين.