شكلت مدن وبلدات ومخيمات محافظات نابلس وجنين وطولكرم الواقعة في شمال الضفة الغربية، جبهة مواجهات ساخنة بين المقاومين الفلسطينيين وقوات الاحتلال التي صعّدت عدوانها على تلك المناطق بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. وبرز اسم طولكرم، وخصوصاً مخيم نور شمس الذي لا يكاد يمر أسبوع من دون أن تقتحمه قوات الاحتلال، على أن هذا المثلث كثيراً ما عُرف ببأسه الشديد منذ فترة الاستعمار البريطاني الذي أطلق عليه وصف "المثلث الخطر".
ما الذي يجعل من يوم ما دون سواه، يوماً خالداً في التاريخ؟
الجواب: حدث يفصل بين زمنين، أو انهيار إمبراطورية على سبيل المثال، أو رحلة إلى الفضاء السحيق، أو اكتشاف علمي عظيم، أو الكشف عن منحوتة فنية فريدة من نوعها... أو حتى اختراق الحدود الإسرائيلية في غلاف غزة، من طرف ثلة من المقاومين الشجعان، باستخدام طائرات شراعية بدائية ودراجات نارية مهترئة، وبعض مركبات الدفع الرباعي القديمة الصنع.
حدثٌ لو لم نشاهده بأم أعيننا لضحكنا منه ساخرين.
يوم 7 تشرين الأول / أكتوبر شكّل علامة فارقة في تاريخ الصراع، وأرّخ لمرحلة جديدة من المقاومة اعتبرها بعضهم بداية تحرير (وأظنني سأميل إلى قول هذا البعض). فإذا أردنا أن ننظر إلى اليوم المذكور من منظور آخر، ونأخذ منه درساً وعبرة، فهو يعلمنا أن ما كان مستحيلاً، بات اليوم حقيقة بارزة كـ "نور شمس". فلو كانت السياسة هي "فن الممكن" مثلما يقال، فما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر هو "توسيع لمساحة الممكن"، حتى أضحى المستحيل بالنسبة إلى كثيرين، ممكناً اليوم.
لقد رافق العدوان الجاري على غزة، وإعلان حالة الحرب من طرف كيان الاحتلال، استكمال ما كان قد بدأ به منذ إعلانه العملية التي سمّاها "كاسر الأمواج" في 31 آذار / مارس 2022، والتي لا تزال قائمة إلى هذا اليوم، إذ تخللها تنفيذ حملات عسكرية شاملة ربما لم يُشهد لها مثيل منذ نهاية الانتفاضة الثانية. وتركزت هذه العمليات بالتحديد في مناطق شمال الضفة الغربية،[1] نابلس وطولكرم وجنين، وهي ما عُرفت في الذاكرة الشعبية، ومنذ الاستعمار البريطاني على فلسطين، باسم "المثلث الخَطر".[2]
بعد استعار العدوان على غزة. اقتحمت قوات الاحتلال في يوم الخميس الموافق فيه 19 تشرين الأول / أكتوبر 2023 طولكرم، في حملة عسكرية شعواء استمرت 30 ساعة، واستُخدمت فيها الطائرات، والمسيّرات الانتحارية، والجرافات العسكرية، وكم هائل من الجيبات العسكرية ومئات الجنود، مخلفة وراءها مجزرة راح ضحيتها 13 شهيداً و37 جريحاً، ومُحدثة دماراً هائلاً في البُنية التحتية والأملاك.[3] وتركزت هذه الأحداث في مخيم "نور شمس" شرقي المدينة، والذي يقع على الخط الحيوي الواصل بين نابلس وطولكرم، ويحدّه من الشمال جبل المنطار، وهو اليوم منطقة حرشية خلابة، كثيفة الأشجار، أمّا إلى الشرق فنمرّ على مفترق بلعا التي تقع شمالي شرقي المخيم. وشكّل الخط الواصل بين طولكرم ونابلس أحداثاً فارقة في التاريخ، وخصوصاً خلال ثورة 1936، إذ خيضت فيها معارك كبرى أسقطت أسطورة الطائر المعدني، مثلما أسقطت غزة اليوم أسطورة الجدار المعدني، باختراق مجاهديها الحدود الإسرائيلية.
من هنا بدأت الشرارة
في ربيع سنة 1936، وتحديداً في 15 نيسان / أبريل مساءً، على مقربة من "سجن نور شمس" في الطريق الواصل بين بلعا وعنبتا، قامت مجموعة من الثوار بإشعال فتيل الثورة الفلسطينية الكبرى، في حادثة صارت حديث الناس في البلد. وقد كتب أكرم زعيتر في "مذكراته" في 16 نيسان / أبريل 1936 يصف الحادثة قائلاً: "وقع مساء أمس حادث هزّ البلاد. إنه حديث الناس كلهم. إنها عصابة وطنية مجاهدة ]....[ وصلت سيارة آتية من حيفا تُقلّ أربعة مسافرين إلى طريق قرية بلعا على مقربة من سجن 'نور شمس' وقرية 'عنبتا'، ولكنها توقفت عند منعطف جبل، إذ استحال عليها اجتيازه، لأن عشرة براميل من براميل الأسفلت ]....[ قد سدّته."[4]
يجب الإشارة هنا إلى أن مخيم "نور شمس" استمد تسميته من السجن المذكور الذي سُمي هكذا نسبة إلى موضعه المكشوف طوال النهار لأشعة الشمس، وقد خصّه الإنجليز منذ احتلالهم لفلسطين، بأصحاب الأحكام القاسية الذين حُكم عليهم بالإعدام أو السجن مدى الحياة.[5]
ويذكر زعيتر سجن "نور شمس" في "مذكراته"، في إبان فترة العصيان المدني والامتناع من دفع الضرائب، وهي الخطوة الثانية في الثورة الكبرى بعد الإضراب العام الذي جرى في 17 أيار / مايو 1936، حين أضرب المعتقلون في سجن "نور شمس" عن أعمالهم داخل السجن، تضامناً مع أبناء أمّتهم في الخارج، الذين يعيشون تطورات الحالة السياسية العامة في البلد. واصطدم المعتقلون بالحراس، فقام ضابط السجن البريطاني "غراند" بإطلاق النار على المساجين، فقتل أحدهم، وتردد في السجن هتاف: "الاستشهاد أشرف من السجن."[6]
بالعودة إلى الحادثة، فإن الهدف من هذه العملية كان جمع المال لشراء "خرطوش وقنابل" من أجل الجهاد والثأر لمقتل الثائر "عز الدين القسّام" بعد تأبينه الكبير الذي جرى في حيفا قبل الحادثة بعدة أشهر.[7] يقول ماثيو هيوز في كتابه "الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين، 1936 - 1939"، إن الثوار الذين نفذوا هذه العملية وجمعوا 275 جنيهاً كانوا من جماعة "الكف الأسود" التي دانت بالولاء للقائد القومي "عز الدين القسّام"، وقد طلبوا ممّن حضر في الحادثة "أن يخبروا البوليس والصحافة أنهم سطوا على هذا المال ليشتروا به سلاحاً لينتقموا لفضيلة الشيخ القسّام."[8] ويخبرنا زعيتر في "مذكراته" عن موقف حدث معه عندما طُرق باب منزله بعد يومين من هذه الحادثة:
إنه شاب يلبس لباساً قروياً قال أنه يحمل رسالة ليسلمها إلى شخص أكرم زعيتر. تفرست فيه فلم أتبيّن ملامحه لانسدال الكوفية على جبينه ]....[ أربعة أسطر تُقرأ بصعوبة [....] يقول: "نقوم بالواجب في سبيل الله. بدأنا وسوف ننتصر. الحاجة ماسّة إلى خرطوش. المال نأخذه لهذه الغاية. نعتمد عليكم." أول ما خطر على بالي أن تكون هذه دسيسة حكومية، فمزقت الورقة حالا ً]....[ لكنني أيقنت [لاحقاً[ من لهجة الكتاب أنه غير مزور. ندمت لأني مزقت الرسالة.[9]
هذا الاقتباس يؤكد أن العمل كان يجرى للتحضير للمرحلة الثالثة من الثورة، وهي الثورة المسلحة، حتى قبل بداية الإضراب الكبير في فلسطين، وقد اعتمد الثوار على جمع السلاح كيفما اتفق وحيثما تيسّر من مصادر لتحقيق الغاية. غير أن الحادثة لم تنتهِ بجمع المال، وإنما أُطلقت النار على ثلاثة يهود قُتل اثنان منهما هما: إسرائيل أبراهام (من يهود يافا) وقازان زلفي (من يهود تل أبيب)، وجُرح الثالث.[10] أمّا هيوز فكتب أن مَن قُتل في هذه الحادثة هما تسفي داننبرغ ويسرائيل حزان، بينما جُرح يهودي يدعى نفحي، وأُطلق سراح نول وهو مسيحي ألماني كان يسافر بصحبة نفحي،[11] وهو من سكان مستعمرة سارونا.[12]
وبحسب وثيقة منشورة في أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي، فإن مستعمرة سارونا المذكورة تقع في مدينة يافا، وقد أنشأها ألمان إنجيليون في الزمن العثماني في سنة 1870، وجعلتها حكومة إسرائيل أول مقر لها بعد نكبة 1948، ثم أصبحت في سنة 1958 مركزاً للجامعة العبرية الجديدة. وخلال الثورة الكبرى في سنة 1936، استخدمها الإنجليز مركزاً للبوليس، وفي السنة نفسها، نسف الثوار المركز.[13]
بعد هذه الحادثة، تصاعدت وتيرة الأحداث الانتقامية، وهاجمت منظمة إيتسل عربيَّين في كوخهما على طريق قرية مُلَبَّسْ، وقتلتهما. وتحولت جنازة اليهودي حزان إلى هجوم دامٍ على يافا، حين هاجم يهود تل أبيب مدينة يافا وهم ينشدون نشيد "هاتيكفا"، ويصرخون: "لنذهب إلى يافا"، واعتدوا على كل مَن صادفوه من الفلسطينيين ودمروا الأسواق. وتسارعت وتيرة الأحداث أكثر حين أصدر المندوب السامي آرثر واكهوب قرار العمل بنظام الطوارىء لسنة 1936، الذي أعطى الحكومة والشرطة والجيش صلاحيات قمعية واسعة. كانت هذه بداية المرحلة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى، وهي الإضراب الكبير.[14]
فوزي القاوقجي يتخذها حصناً
مع تصاعد حدة العمليات العسكرية، حظيت منطقة نور شمس – بلعا، بدور بارز في تلك العمليات النوعية؛ فهذه المنطقة ليست ذات موقع استراتيجي وحيوي فحسب، ولا تلتحم فيها جبال طولكرم ونابلس فقط، بل إنها شكلت ممراً مهماً للقوافل الصهيونية المحمية من طرف الجيش البريطاني أيضاً، وتحديداً تلك المنطلقة من تل أبيب ويافا في اتجاه حيفا، وخط سيرها طولكرم.
يوم الاثنين الموافق فيه 22 حزيران / يونيو 1936، ورد في عدد جريدة "فلسطين" الصادر في ذلك اليوم، أن معركة نشبت في اليوم السابق (الأحد الموافق فيه 21 حزيران / يونيو) عند الساعة الحادية عشرة والنصف من قبل ظهر ذلك اليوم، بين نور شمس وعنبتا. ويتضح من الخبر المنشور أن المعركة كانت لا تزال قائمة إلى اليوم الذي تلاه، إذ ذكرت الصحيفة في عددها الخامس والثمانين الصادر في 22 حزيران / يونيو 1936، ما يلي: "لا تزال المعركة دائرة حتى الآن، والطائرات تحلق في سماء طولكرم، وقد هبطت إحداها في مطار طولكرم."[15]
ويبدو أن المعركة امتدت على مساحة واسعة جداً قدّرتها مصادر جريدة "اللواء" بثلاثين كيلومتراً، إذ غطت المعارك المنطقة الممتدة من مدخل نابلس إلى قرية السيلة من الشمال، ومن دير شرف حتى نور شمس من جهة الغرب. بمعنى آخر، امتدت هذه المعارك لتشمل "المثلث الخطر" مثلما سمّاه الإنجليز أو "مثلث الرعب" مثلما ذُكر في "مذكرات بهجت أبو غربيّة".[16] وقد كتبت جريدة "اللواء" عن الواقعة في يوم الاثنين الموافق فيه 22 حزيران / يونيو 1936 بعض تفصيلات المعركة:
خرجت في المساء خمس عشرة سيارة تُقلّ الجند إلى جهة الغرب، تقدَّمها خمس مصفحات، وقامت بحراسة الطرقات من باب نابلس حتى قرية السيلة، ثم ذهبت قوة أُخرى بالسيارات إلى جهة نور شمس. وفي الساعة العاشرة والنصف اشتبكت هذه القوات مع الجماعات المسلحة التي كانت منتشرة في الجبال من نابلس حتى قرية السيلة من جهة الشمال، ومن قرية دير شرف حتى نور شمس من جهة الغرب، وتُقدَّر المساحة بثلاثين كيلومتراً، ويقال إن عدة معارك وقعت في تلك الجهات.[17]
وذكرت الجريدة من تلك المعارك: "معركة زواتة" ودامت ثلاث ساعات؛ معركة دير شرف" وكانت معركة شديدة اشتركت فيها المصفحات؛ معركة نور شمس وكانت هي الأشد واستمرت حتى مطلع الفجر.[18]
ونشرت جريدة "فلسطين"، في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق فيه 23 حزيران / يونيو 1936، تفصيلات وافية عن المعركة نقلاً عن الصحف اليهودية، وفيها أن قافلة من الحافلات اليهودية خرجت عند الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد، وغايتها النزوح إلى حيفا، وكانت تحرسها قوة كبيرة من الجنود تحمل معها مدفعان رشاشان. توقفت الحافلة بين نور شمس وعنبتا، لأن الطريق أمامها كان مسدوداً بحجارة كبيرة، وانتظرت ربع ساعة من دون حراك، وحين تجرأ الجاويش هنري سيلز بعد هذا الوقت كله، على أن يترجل لرفع الحجارة، أطلق الثوار نحوه أربع رصاصات صائبة جعلته يسقط في موضعه.[19]
اشتعلت نار المعركة، وبينما بدأ الإنجليز يحصدون الجبال بالمدافع الرشاشة، بادلهم الثوار بالرصاص فأصابوا ثلاثة جنود مباشرة، وواحد منهم استقرت رصاصة في عينه اليسرى. وهنا، وصلت قوة عسكرية إنجليزية إضافية من منطقة دير شرف للمشاركة في القتال، كما أشرك الإنجليز الطائرات الحربية لدكّ مواقع الثوار، ولإلقاء أوراق فوق أماكن الجنود تحتوي على تعليمات عن كيفية الهجوم على الثوار. وبعد انتهاء المعركة كان قد قُتل من طرف الإنجليز الجاويش وجندي آخر، بينما جُرح 13 ثائراً أُلقي القبض على اثنين منهم. وعندما علم حاكم لواء نابلس المستر فوت بأمر المعركة، سارع إلى القدس للقاء المندوب السامي بشكل عاجل.[20]
ذكر أكرم زعيتر هذه المعركة في "مذكراته"، على أنها وقعت في 23 حزيران / يونيو 1936، والسبب في تضارب تاريخ المعركة يعود على أرجح تقدير، إلى أن زعيتر كان محتجزاً، كما أن كثيرين من الشخصيات السياسية والوطنية كانوا في ذلك الوقت محتجزين في معتقل "صرفند" القريب من الرملة، ولهذا وصلهم الخبر متأخراً وبتاريخ غير دقيق على ما يبدو. غير أن ما أضافه زعيتر نقلاً عن صحيفة "البالستاين بوست" (The Palestine Post) اليهودية الإنجليزية، هو أن "ثلاث طائرات أصيبت برصاص الثوار وعادت إلى طولكرم لإصلاح الخلل."[21]
ضجيج الأُحيمر
في أوائل آب / أغسطس، بدأت رياح الإشاعات تهبّ في فلسطين وبلاد الشام، وفحواها أن "الأحيمر" قادم من وراء الحدود ليشترك في "الطاحون". وقد حلل زعيتر هذا الكلام في "مذكراته" فقال: "الأحيمر لقب يُطلَق على فوزي القاوقجي [....] والطاحون هو الثورة"، كما ذكر الرسالة الملغّزة التي وصلته من العراق إلى سجنه في صرفند ، وهي: "فعسى أن تكون تجارته رابحة بعد أن قبض مبلغاً لا بأس به"، وقد استنتج زعيتر أن المبلغ المذكور هو "السلاح".[22]
شكّل دخول القاوقجي إلى البلد نقلة نوعية في الثورة، على صعيد التنظيم والتخطيط العسكري وحدّة المعارك، ففي 25 آب / أغسطس 1936، خلّد القاوقجي في "مذكراته" ذكرى تمكّنه مع قوافل المجاهدين القادمين من العراق وجبل الدروز وجبل لبنان والشام وحمص وحماه من مهاجمة الطائرات الإنجليزية، قائلاً: "في الخامس والعشرين من آب [أغسطس] أُطلقت أول عيارات نارية من هذه المفارز على الطائرات الإنجليزية في جبل 'جريش'، وأسقطت منها طائرتين."[23] بعد ذلك اتخذ القاوقجي من مناطق طولكرم ونابلس وجنين ميداناً لقواته، فأحكم ارتكازاته في جبالها وقراها، وبدأ زياراته للقرى يشحذ الهمم، وأسس هيئة للإعلام ومحكمة للثورة وقواعد ارتكاز محكمة.[24] كما شرع في تأسيس مفرزة نظامية لتكون نواة المعارك مع العدو مستفيداً من الجنود العراقيين ذوي الخبرة، والثوار السوريين الذين رافقوه في معارك سورية.[25] وعمد القاوقجي إلى إصدار بيانات عسكرية يخاطب بها الجمهور موقّعة باسم "قيادة الثورة العربية العامة – في سورية الجنوبية".[26]
توافدت أعداد كبيرة للقاء القاوقجي، سعياً للانضمام إلى الثورة، وها هو يقول في "مذكراته": "دب الحماس من جديد على إثر مجيئي فلسطين، كما أبنت، في نفوس أهالي فلسطين. وأخذ المجاهدون يفدون عليّ من كل صوب."[27] ويبدو أن الإقبال على الانخراط في الثورة تحت إمرة القاوقجي، لم يقتصر على المنطقة الجغرافية فقط، بل يذكر بهجت أبو غربيّة في "مذكراته" أيضاً، قدومه من القدس إلى طولكرم للحصول على توصية تسهّل إمكان انضمامه إلى قوات القاوقجي؛ وكانت قيادة الثورة تضع إجراءات كهذه، تجنباً لعمليات الخرق والتجسس على الثوار. يقول أبو غربيّة: "وصلتُ القاوقجي [في بلعا] وقدمت له التوصية. فرحب بي في تحفّظ وسألني: أين بندقيتك؟ فقلت أني لا أملك سوى مسدس، وأني أطمح في أن أحصل على بندقية من القيادة (أي منه). فابتسم وقال: لو كان هذا الوادي مملوءاً بالبنادق لما كان كافياً للرجال الذين يرغبون في الالتحاق بالثورة. ولكن لا بأس ..." وقد لفّ أبو غربيّة قرى مثلث الرعب مع قوات القاوقجي قبل أن يعاود الرجوع إلى القدس بسبب حادثة إعدام "البرمكي" بعد محاكمته السريعة، إذ يوضح: "كانت إجراءات التحقيق والمحاكمة السريعة وتنفيذ حكم الإعدام بسرعة راعبة لي. لذلك استأذنت القاوقجي أن أغادر إلى القدس فأذن لي وحمّلني رسالة إلى طولكرم."[28]
تمكّن القاوقجي، وقبل بدء المعارك، من توحيد قيادة الثورة، ففي 2 أيلول / سبتمبر 1936، أي قبل يوم واحد من المعركة، التقى بستة من قادة الفصائل وهم: عبد الرحمن الحاج محمد، وعارف عبد الرازق، وفخري عبد الهادي، والشيخ فرحان السعدي، والشيخ عطية عوض، ومحمد الصالح، الذين أعطوه تعهداً خطياً بقبوله قائداً عاماً. وتميز القاوقجي بالتخطيط والتنظيم، والحرب النفسية، وقيادة الأركان، والإشراف على غرفة العمليات، والتجنيد، والتدريب، وإدارة العمل الاستخباراتي والعمل الاستخباراتي المضاد[29] والمناورة، فقد وضع لقواته ثلاثة أماكن رئيسية للتجمع فيها، خشية من الوشاة، وهذه الأماكن ذُكرت في المجلد الثاني من تاريخ الهاغاناه، القسم السادس، والذي صدرت ترجمته عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهذه الأماكن بحسب الكتاب هي: 1) "ضهرة الجمعة، وهي تلّة عالية شمالي قرية بلعا المطلة على منطقة الساحل وتحيط بها أودية عميقة [....] وكانت مكسوة بأشجار الزيتون التي شكلت ساتراً للثوار من طائرات الاستطلاع البريطانية"؛ 2) "جبل حريش، وهو جبل عالٍ في قضاء جنين محاط بقرى كثيرة"؛ 3) "قرى صيدا ]قضاء طولكرم]، وياصيد، وكفر صور، الواقعة على قمم مرتفعات طبيعية تطل على كل ما جاورها."[30]
أسس فوزي القاوقجي لمرحلة جديدة من الثورة المسلحة، وبدأ التحضير، في وقت قياسي، للمعركة الأولى التي اختيرت بلعا لتكون ميدانها. وقد كتب القاوقجي في "مذكراته" قائلاً: "تم درس الأراضي دراسة وافية، كما تم لي درس نفسية الثوار الفلسطينيين. وعلى هذين الأساسين انتخبت منطقة (بلعا) ميداناً لهذه المعركة."[31]
التحضير للمعركة
جهز فوزي القاوقجي تحضيراً للمعركة، خطة عسكرية محكمة فصّلها في "مذكراته"، إذ قسّم الثوار إلى عدة مفارز شغلت كل منها مهمة رئيسية، استناداً إلى معيار الكفاءة والخبرة العسكرية والتجربة. وقد تموضعت المفرزة العراقية في خط الدفاع الأساسي وقادها السيد جاسم، وعلى جناحها الأيمن المفرزة الدرزية وقادها حمد صعب ومساعده محمود أبو يحيى، أمّا على يمين هذه المفرزة فتمركزت المفرزة الحمصية والحموية وقادها "منير الريّس"، بينما شغل الجناح الأيسر الشيخ محمد الأشمر قائد المفرزة الشامية. وكان تشكيل هذا الخط الدفاعي على شكل "زُمَر" تحتل السفوح، وتسيطر نيرانها على الأودية التي أمامها، وعلى خطوط تجمّع المياه على جانبيها، وهي مرتبة بحيث تحمي إحداها الأُخرى، فلا يستطيع العدو الاقتراب من إحدى المفارز، إلّا ويكون عرضة لنيران الأُخريات.[32]
من الواضح أن قدرة القاوقجي العسكرية نالت إعجاب العدو قبل الصديق، فقد "قال عنه أحد العسكريين إنه 'رجل جيد جداً'، بينما كتب عنه النقيب إدموند تشارلز وولف مايرز من سلاح الهندسة الملكي البريطاني، أنه 'ليس عسكرياً قليل الشأن' فلا بد وأنه قد ارتاد أكاديمية 'سان سير' العسكرية الفرنسية لما أبداه من تفوق؛ إذ تعلم منه العرب 'أن يقدّروا قيمة الاستطلاع الأولي والتخطيط المفصل قبل شنّ الهجوم'."[33]
أمّا الثوار الفلسطينيون، فشاركوا في هذه المعركة بحسب ما تمتعوا به من قدرة على القتال، لكن القاوقجي اعتبر أنهم غير معتادين على هذا النوع من المعارك بعد، فأبعدهم عن خط النار، بحيث يتمكنون من الدفاع عن الأجنحة من مكان بعيد. غير أن هذا لا يعني أن وجودهم لم يكن أساسياً، فقد ألّف القاوقجي ثلاث مفارز قوية من الثوار الفلسطينيين: الأولى بقيادة عبد الرحيم أبو كمال، والثانية بقيادة العريف يونس، ومهمة هاتين المفرزتين أن تكمنا للقوة الإنجليزية على الطريق العام، فتشطرها إحداهما إلى قسمين بحيث يبتعد أحد هذين القسمَين عن ميدان المعركة؛ وقد اعتاد الإنجليز والفلسطينيون على هذا الأسلوب القتالي المتمثل في الهجوم بإطلاق النار فقط، ثم الانسحاب مستدرجين الإنجليز نحوهم. أمّا القسم الثاني فيستدرجه العريف يونس إلى مرمى الدفاع الأساسي، فيشتبك مع الثوار، وتتوارى المفرزة الفلسطينية إلى مؤخرة الجناح الأيمن فتكون قوة أمنية واحتياطية له.[34]
أمّا المفرزة الثالثة فوضعها القاوقجي لحماية خط حيوي شديد الأهمية، وجعلها قوية جداً لتمنع أي إمداد عسكري من الممكن أن يحيط بالجناح الأيسر فيوقع الجبهة في خطر يصعب تلافيه، وكان هذا الجناح طريقاً يتفرع عن خط جنين – نابلس. كما ألّف مفرزتين إضافيتين من الثوار الفلسطينيين للتخريب، إحداهما على خط طولكرم – عنبتا في جوار الكمين، والثانية على الخط الفرعي الذي يصل قرية سيلة الظهر بقرية بلعا، أي وراء الخط الدفاعي للثوار. وفي صباح 3 أيلول / سبتمبر كانت جميع المفارز في أماكنها المحددة.[35]
سقوط أسطورة الطائر المعدني... المعركة الكبرى
هرعت مدينة طولكرم والقرى المجاورة إلى الهضاب المرتفعة ليشاهدوا حرب السماء والأرض.
هكذا وصفت جريدة "اللواء" المعارك الممتدة من شرق سجن نور شمس حتى جسر رامين. إنه اليوم 138 على الإضراب، وهو نهار الخميس الموافق فيه 3 أيلول / سبتمبر 1936. فقد تناثر غبار القوة العسكرية الآتية من طولكرم، بينما المفارز في أماكنها تنتظر، ومثلما نقلت "جريدة اللواء"، فإن قوة كبيرة تكونت من عشرين سيارة "مملوءة بالجند مع الدبابات والمدافع."[36] أمّا جريدة "فلسطين" التي ذيّلت خبر نقل المعركة بـ "أكبر معركة حربية في تاريخ ثورة فلسطين الحالية"، فتقول: "ولما علمت السلطة بنبأ تجمّع الثائرين أرسلت إليهم قوة كبيرة من الجند مصحوبة بالدبابات والمدافع الثقيلة والرشاشات."[37]
ويبدو أن الخطة التي وضعها الثوار سارت على أكمل وجه، وقد وصف القاوقجي المشهد من زاوية أُخرى. فالقافلة الإنجليزية تتقدم ببطء وحذر، والثوار ينتظرون باضطراب وحماس شديدين. وعند الساعة الثامنة والأربعين وصل رأس رتل القافلة إلى النقطة المعنية، أي الكمين، وعندها أطلق الثوار النار على القافلة من الشمال والجنوب، فانفجرت المدافع والرشاشات صوبهم في غزارة. وهنا، ترجل الجنود، وتحت حماية المدافع والرشاشات زحفوا في اتجاه الكمين، بحسب الخطة، فانسحب الثوار تاركين موقعهم، وتبعهم الجنود الإنجليز الذين انشطروا إلى قسمين، الأول خلف المفرزة الجنوبية التي غابت عن الأنظار، والثاني خلف المفرزة الشمالية التي وصلت إلى خطوط الثوار الأساسية. فضجت نيران حامية من مسافة قريبة، وأُخذ الإنجليز بدهشتهم ممّا رأوا، وثبتوا في أماكنهم عاجزين عن التقدم أو الانسحاب.[38]
ومثلما جاء في جريدة "اللواء"، فإن الرصاص كان يتساقط على القوة البريطانية من الجبلَين المتقابلين، والرشاشات والمدافع البعيدة تضرب، فحضرت الطائرات تحارب الثوار، وشرعت تقذفهم بالقنابل وتعود إلى مطار طولكرم لجلب الذخيرة ثم ترجع إلى أرض المعركة.[39] أمّا جريدة "فلسطين" فقدّرت أن 15 طائرة شاركت في المعركة، وأنها كانت تغدو وتجيء محملة بالذخيرة والتعليمات للجند، لكنها بدأت تتساقط تحت صليات رشاشات الجنود. وتصف هذه الجريدة ما شاهده سكان طولكرم والقرى المجاورة: "شاهد الأهلون الذين هرعوا إلى خارج البلدة وراقبوا حركة القتال من مكان شاهق أربع طائرات [تسقط، وقد] سقطت إحداها في مكان المعركة واحترقت، وسقطت الثانية في جوار عنبتا واحترقت أيضاً، وأُسقطت الثالثة في رأس عامر والرابعة في المطار، ويُعزى سقوطها – كما قيل - إلى البنادق السريعة الطلقات التي استعملها الثوار." وتضيف الجريدة أنها تتحفظ على هذه المعلومة، إذ إن قلم المطبوعات صرح بأن "المعلومات التي لديه [تُفيد] بسقوط طائرة واحدة فقط."[40]
ويذكر القاوقجي أن سيارة اللاسلكي بعثت برسائل استنجاد، فإذا بتسع طائرات تظهر من خلف التلال؛ وكان قد خُصص للطائرات زُمَراً لمقاومتها، مكونة من جنود مدربين على الرمي،[41] وامتازت المفرزة العراقية بصحة رميها.[42] وشغل هؤلاء الجنود مرتفعات تحيط بالجبهة وتتوسطها، فإذا بأول طائرة تسقط محترقة على طريق طولكرم، فهتف الثوار وعلا صراخهم، وإذا بالطائرة الثانية تسقط بين خطوط الثوار والإنجليز - أمام مفرزة الدروز والحمصيين - وكان قائدها قد قُتل، فأحرقوها وأخذوا مذكراته وما في حيازته من أوراق، ثم عادوا إلى خطوطهم. أمّا الطائرة الثالثة فراحت تبتعد عن ميدان المعركة وهي تجر خلفها ذيلاً من الدخان. وبحسب "مذكرات" القاوقجي ، فإن الثوار أسقطوا ثلاث طائرات وليس طائرة واحدة.[43] وكان لسقوط الطائرة أثر بالغ في نفوس الثوار والأهالي على السواء، لأنها كانت تشكل مصدر ثقل للجيوش النظامية، وقلقاً هائلاً للعدو، وقوة تُحسم من خلالها المعارك. وهنا، تمكّن الثوار من تحطيم أسطورة هذا الطائر المعدني، ومثلما قيل، فإن ما جرى "أحدث انطباعاً عميقاً، بصورة خاصة تدمير الطائرة؛ ذاك الطائر المعدني الغامض الذي كان مجرد ظهوره كفيلاً بترويع جنود جيش نظامي وقديم، فكيف بعصابات تم تنظيمها ارتجالياً؟"[44]
وتسرد لنا جريدة "اللواء" أن إحدى الطائرات كانت قد أطلقت ثلاث إشارات بعد سقوطها طلباً للمساعدة، وأن أحد الطيارين كان قد أصيب بطلقات نارية، فخفّ بعض السكان العرب لمساعدة الطيار المستجير.[45]
حضرت النجدات والإمدادات العسكرية من كل صوب للمشاركة في المعركة الضارية، ولم تكتفِ السلطة بالقوات العسكرية الموجودة في المدن المحيطة، أي نابلس وجنين وطولكرم، بل استدعت أيضاً قوة عسكرية ضخمة إلى طولكرم قدمت من حيفا. هذا ما تؤكده جريدة "فلسطين" التي نشرت في عددها الصادر يوم الجمعة الموافق فيه 4 أيلول / سبتمبر 1936، إذ قالت: "حيفا في 3 أيلول [سبتمبر] – بعد ظهر اليوم حلقت طائرة فوق معسكر الجيش وألقت إليه رزمة البريد، وفي الساعة 3 بعد الظهر ركب الجند في 40 سيارة كبيرة مع معداتهم الحربية والمدافع الرشاشة وتوجهوا إلى جهات طولكرم."[46]
ويضيف القاوقجي: "بعد مدة قليلة أخذنا نشاهد أرتالاً من السيارات تقف خارج الميدان، ثم يترجل الجنود ميمّمين صوب خطوطنا. ولكن كل شيء كان في حسبان، فلم يكن يتقدم فريق منهم إلّا ويجد نفسه تحت وابل من نيراننا المؤثرة [....] وقد استغربنا من مجيء دبابات ومدافع ثقيلة تجرّها موتورات [....] وبدأت تمطر جبهتنا بقنابلها."[47]
استمرت المعركة من ساعات الصباح الأولى حتى المغيب، وتراوحت درجة قوتها، وبلغت شدّتها عند الساعة الثانية بعد الظهر مثلما ورد في مذكرات القاوقجي.[48] "وفي أثناء نشوب المعركة" فجّر الثوار ألغاماً أرضية بقافلة سيارات يهودية "قادمة من الشمال."[49]
تمكّن الإنجليز من التأثير في جناحَي الثوار، الأمر الذي اضطرهم إلى الاستعانة بجميع قوات الاحتياط لدرء الخطر. وكلما زاد الضغط على الجناحين ضعفت الجبهة، ولهذا كان لا بد من سحب الجبهة بكاملها إلى الخلف، حتى احتلت قمماً أصبحت فيها أقوى وأمنع من السابق، وراحت تهدد القوات التي حاولت الإيقاع بجناحيها. وقد انتقلت الغلبة إلى الثوار منذ الساعة الثالثة وما بعدها، حتى تأكد العدو من عدم قدرته على دحرهم من مراكزهم المنيعة، فأخذ يعمل على إنهاء المعركة والانسحاب من الميدان. ويذكر القاوقجي أنه حين بدأت دباباته تتقدم في الأودية والسفوح وهي ترمي برشاشاتها ومدافعها الخفيفة، وعندما اشتدت نيران المدفعية والطائرات بكثافة، شرع الجنود المرتعدون، وفي أقل من ساعة، ينسحبون إلى الوراء، وقد أتموا انسحابهم بعد نقل جرحاهم وقتلاهم إلى سيارات الإسعاف. ويعلن القاوقجي في "مذكراته": "انتهى هذا اليوم بفوز المجاهدين على المستعمرين، وبفوز الإيمان والإرادة على الظلم وقوة الميكانيك، فوزاً باهراً لا يُقدّر قيمته، ولا مدى تأثيره ونتائجه، إلّا الأجيال المقبلة."[50]
إنها معركة لم يشهد لها البلد مثيلاً، وتحدثت جريدة "اللواء" عن هذا اليوم قائلة: "مر هذا اليوم على طولكرم والناس يتحدثون به لأنهم لم يروا معارك مثل هذه لهولها وعظمتها."[51]
بلغت خسائر الثوار تسعة شهداء وستة جرحى، كانوا من المفارز العراقية والدرزية والحمصية والحموية والشامية، أمّا الثوار الفلسطينيون فلم يصب أحد منهم في هذه المعركة. وبحسب القاوقجي، فإن خسائر العدو كانت 3 طائرات و150 قتيلاً. لكن ماثيو هيوز يشكك في مذكرات القاوقجي ويقول: "ليس صحيحاً ذلك الزعم"، بل يزعم أن أعداد القتلى البريطانيين كانت صغيرة، لكنها زادت في فترة وجود القاوقجي في فلسطين "حيث سقط 28 قتيلاً من مجمل 244 خلال الثورة، أي 11% من إجمالي قتلى الجيش البريطاني." أمّا بلاغ الحكومة الرسمي الذي يحمل رقم 244 – 36، فيقول عن تلك المعركة ما يلي:
بينما كانت مفرزة من فرقة لنكولن شاير تأخذ مراكزها على طريق طولكرم – نابلس في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم، أُطلقت عليها النار بكثرة من الجبال من طرف عصابة مسلحة من العرب يُقدّر عدد أفرادها ما بين 40 و50 رجلاً [....] ويأسف المندوب أن يعلن أن ضابط الطيران هنتر والطيار لنكولن قُتلا عندما اضطرت طائرتهما إلى الهبوط من الجهة الغربية الجنوبية من بلعا ... كما يأسف المندوب السامي أن يعلن وفاة الأُنباشي ويلكس من فرقة لنكولن شاير متأثراً بجروحه، وقد جُرح ضابطان آخران وجنديان، وكانت جروح أحد الضابطين خطرة. والمعروف أن 10 أشخاص من العرب قُتلوا، والمعتقد أن 6 إصابات أُخرى وقعت.
تشابهت أعداد الخسائر من الثوار في تقارير الثورة والحكومة، أمّا أعداد الخسائر من الإنجليز فالفجوة بينهما هائلة. وبحسب الثوار، فإن "الحكومة أرادت أن تطمس الحقيقة."[52]
شكّل القاوقجي نداً قوياً لبريطانيا، ومثّل تهديداً عظيماً، حتى إنه رافقهم في خلواتهم وهواجسهم. فقد وُجِدَ في مقر تمركز جنود "فوج بدفوردشير" (Bedfordshire Regiment) الأبيات التالية منحوتة على جدرانه:
كان يا ما كان في فلسطين
وفي عام ألف وتسعمئة وست وثلاثين
رجلٌ هو القاوقجي المتين
أعدّ لعدوّه فخاً مكير
فنودي في جنده إلى النفير
لكنهم إذ هبوا لم يجدوا فوز الدين
فسألوا عنه التل والوادي والأقانيم
حتى طالعتهم بخبر ولوعة
لقد رحل فوزي بلا رجعة
فزيّنا التل بما هو ثمين
إذا عدتَ يا فوزي فحتفك يقين
أأنت في نابلس؟ طولكرم؟ أم جنين؟
أتراودك نفسك على التل الثمين؟
إذا عدت تنشده بفعل خطير
فإن روحك لن تسوى شروى نقير![53]
المكان يعاند الزمان
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأنظار المنطقة العربية والعالم ترنو إلى قطاع غزة، وإسرائيل - الكيان تمارس الإبادة الجماعية والتهجير في حقّ الغزّيين العزّل، فالأطفال والنساء، والرجال والعجائز يموتون بأبشع أساليب القتل المتعمد، أمام أنظار العالم أجمع،[54] ومنظماته الأُممية التي عجزت ليس فقط عن تنفيذ أمر بوقف الإبادة، بل وصل الهوان بها إلى عجزها عن توفير حاجات القطاع الأساسية، من غذاء وماء ودواء ووقود، وغير ذلك. وقد نشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان – جنيف، في تقريره الصادر في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، أن 25,000 طن من المتفجرات ألقيت على قطاع غزة من 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، لغاية صدور التقرير.[55] وطالب المرصد منظمة الأمم المتحدة اعتماد مصطلح "الإبادة الجماعية" في أدبياتها عند الحديث عن الحرب الدائرة.[56] فمنذ إعلان حالة الحرب، وغزة تشكل محور المواجهة الأول، الأشد وطأة والأكثر تركيزاً من طرف جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلّا إنها ليست المحور الوحيد. فبحسب تمير هايمن، مستشار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ثمة ساحتان في كل منهما جبهتان ينفّذ فيهما الجيش الإسرائيلي أعمالاً على ثلاثة محاور تدور عليها رحى الحرب، ففضلاً عن الساحة الرئيسية، وهي الحرب الدائرة على غزة، والساحة الشمالية التي تتمثل في الجنوب اللبناني وسورية، هناك "ساحة الحلقة الثانية، الأبعد" مثلما سمّاها هايمن، وهي العراق واليمن. ويضيف إلى الساحة الرئيسية أُخرى ثانوية تشمل نشاطات يومية ينفذها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية.[57] فهل ترقى جبهة الضفة الغربية إلى ساحة حرب؟
على الرغم من مرور ما يقرب 90 عاماً على الثورة الكبرى في فلسطين في سنة 1936، ومن التحولات السياسية والديموغرافية الهائلة التي عصفت بالعالم وفلسطين منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، من صناعة كيان الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، إلى صعود الولايات المتحدة الأميركية كقوة تستحوذ على الحصة الأكبر من اقتصاد العالم، والحرب الباردة، والحروب التي عصفت بالمنطقة العربية مع الكيان الجديد، وهزيمة 67 واحتلال كامل فلسطين وأراضٍ عربية، وحرب 73 وما لحقها من بداية مرحلة معاهدات السلام مع العدو، وانهيار الاتحاد السوفياتي، ومرحلة القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، وصولاً إلى مشروع أوسلو والسلطة الفلسطينية وما نجم عنه من واقع سياسي في فلسطين أدى إلى تقسيم الضفة الغربية وفصلها عن غزة وعن أراضي 48، ورفع وتيرة الاستيطان الصهيوني فيها بصورة هائلة، وغير ذلك، فإن ثمة حقيقة واحدة ثابتة على مدار هذه الأحداث، وهي استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه.
هذا التوصيف يحيلنا إلى إمكان رسم صورة ذهنية "زمكانية" إن صح التعبير، عن المنطقة التي يدرسها هذا البحث، ما بين ثورة نيسان / أبريل – آب / أغسطس 1936، وارتدادات حرب 7 تشرين الأول / أكتوبر2023. فمع أن الخط "الواصل بين طولكرم ونابلس"،[58] والذي يمر من مخيم نور شمس – بلعا، لم يعد طريقاً يستخدمه اليهود المتجهون إلى حيفا، إلّا إنه لا يزال خطاً حيوياً أساسياً يربط المدينتين المذكورتين، وما زال يتمتع بموقع استراتيجي تحيطه أحراش بلعا الكثيفة الأشجار وجبال القرى المجاورة.
وقد تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية في العامَين الأخيرين في شمال الضفة الغربية، فيما عُرف بعملية "كاسر الأمواج" التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا. إذ بدأت هذه العمليات تتمركز في منطقة جنين ومخيمها، وامتدت إلى نابلس، بعد أن ظهرت فيهما مجموعات مقاومة مسلحة كانت قد غابت مثيلاتها عن الفعل المقاوم في الضفة الغربية منذ أعوام. واكتسبت "كتيبة جنين" في مخيم جنين، و"عرين الأسود" في البلدة القديمة في نابلس، زخماً شعبياً فلسطينياً لحضورهما اللافت عسكرياً من جهة، ولشدة الهجمات الإسرائيلية التي هدفت إلى إجهاضهما من جهة أُخرى، الأمر الذي ذكّر بعملية "السور الواقي" الشاملة التي شهدتها الضفة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهو سيناريو مطروح للتعامل مع تصاعد وتيرة المقاومة الحالية في الضفة الغربية،[59] وذلك على الرغم من وجود كثير من الأسباب التي من الممكن أن تحول دون إقدام إسرائيل على خطوة كهذه.[60] إلّا إن المقاومة في الضفة تشغل إسرائيل، وتسبب لها قلقاً دائماً، ولا سيما مع تصاعد التحليلات بشأنها، واعتبار العملية العسكرية غير مجدية ولا تحقق أهدافها، وخصوصاً إذا ما علمنا أن التحليلات الإسرائيلية وصلت إلى نتيجة فحواها "أن المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 تنزع صورة وتلبس أُخرى"،[61] أو أنها لا تغدو أكثر من "دائرة مفرغة" مثلما وصّفها رئيس جهاز الشاباك رونن بار، لأنها تجبر الاحتلال على تنفيذ مزيد ومزيد من الاقتحامات المتكررة من دون نهاية.[62]
"كتيبة طولكرم" وإعادة تشكّل المثلث الخطر
تواصلت بشكل دراماتيكي جغرافيا المثلث الذي عرفه الاستعمار البريطاني مثلما أوضحنا في السابق، ومن بعده الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سنة 2000.[63] وقد انضمت طولكرم إلى مثلث المقاومة في إثر تصاعد حدّة العمليات العسكرية في الضفة الغربية، وتحديداً لدى جارتَيها نابلس "البلدة القديمة، وخصوصاً حارة الياسمينة"، وجنين، ولا سيما مخيمها الذي يشكل حالة يقودها جيل جديد هو ممّن عايش الانتفاضة الثانية، وذاق مرارتها، أو ممّن عايش مرحلة ما بعد الانتفاضة. وهذا الجيل الذي وصفه أبو الجود أحد مقاتلي "عرين الأسود" بشيء من العاطفة التي لا تخلو من عمق في المعنى بأنه "جيل كامل لم يرَ البحر"، وبأنه الجيل الذي يسمى "جيل ما بعد أوسلو"، وجيل الأطفال الذين عرّفهم العالم بـ "أطفال الحجارة" في إبان حقبة الانتفاضة، صار اليوم جيلاً شاباً، أفراده في عقدهم الثالث والرابع، وهم، لغاية هذا اليوم، يمنعهم الاحتلال من رؤية البحر / بحرهم. وأفراد المقاومة في شمال الضفة يعرفون أنفسهم، بمعنى، أنهم وإن كانوا يخفون وجوههم، إلّا إنهم يدركون ما يشكلون من امتداد تاريخي للمقاومة الفلسطينية في هذه المنطقة، وما تشكل بدورها من أرق و"رعب" للاحتلال الذي لا تخفى عنه مكانتها الجغرافية وأهميتها في تشكيل الوعي المقاوم، وقدرتها على التأثير في الشباب. وهؤلاء المقاومون ليسوا مجرد شبان يحملون البنادق، ولا مجرد حالة لبعض الشبان "الأغرار اليائسين"، بل إنهم يؤسسون لمفاهيم متينة في معناها وذات بعد في جدواها أيضاً، فهم، على سبيل المثال، لا يمجدون الموت مثلما أوضح أبو جود في مقابلة أجراها معه مراسل مجلة The Economist البريطانية، حين قال: "نحن لا نقاتل من أجل الموت، بل نكافح من أجل العيش."[64]
وقد تصاعدت وتيرة العمل المقاوم في طولكرم مع منتصف سنة 2023، وذلك بعد هدوء نسبي قارب العامَين استخدم فيهما الاحتلال ما يُعرف بسياسة "جزّ العشب" التي تقضي بتتبّع أي كادر تحيط به الشبهات. وهكذا لم تحظَ كتيبة طولكرم بطريق ممهد مثلما حدث في حالتَي جنين ونابلس، إذ تمكّن الاحتلال من اغتيال سيف أبو لبدة من مخيم نور شمس، والذي يُنسب إليه تشكيل الكتيبة، ثم تمكّن من اغتيال أمير أبو خديجة أحد مؤسسي الكتيبة، فضلاً عن ملاحقات الأجهزة الأمنية الفلسطينية لكوادر الكتيبة.[65]
تمكنت المقاومة في طولكرم من البزوغ، على الرغم من التهديدات المذكورة، الأمر الذي يعبّر عن جهد كبير في العمل الذي تميز بالحكمة والروية، إذ عُرفت مدينة طولكرم بروّيتها، وهو ما أكّده مصدر مقرب من المقاومة في طولكرم لجريدة "الأخبار" اللبنانية حين قال: "معروف عن شباب طولكرم وحالات المقاومة التي تنامت في خضمّ الانتفاضة الثانية عام 2000، أنهم أكثر هدوءاً، يأخذون وقتهم للنضوج، ويبنون أفعالهم على دراسة تجارب الآخرين، وفهم سلوكيات جيش الاحتلال وأساليبه."[66] وقد اتضح ذلك عندما أفشل المقاومون وحدة خاصة قوامها المئات من الجنود والآليات العسكرية، في أكبر اجتياح للمدينة ومخيم نور شمس في 30 أيار / مايو 2023، استمر نحو 6 ساعات كشفت فيها المقاومة عن يقظتها العالية واستعدادها، ودشنت فيها عبواتها المصنعة التي سمّتها "سيف 1" تيمناً بمؤسسها. وجاء في بيان للكتيبة بعد الاقتحام:
لقد حاول العدو الصهيوني فجر اليوم اغتيال مجاهدينا بعملية عسكرية كبيرة عاث خلالها فساداً في مخيم نور شمس، إلّا أن معية الله ويقظة مجاهدينا الأبطال كانت لهم بالمرصاد، حيث تمكنوا بعون الله وقوته وتوفيقه من التصدي لقوات الاحتلال وآلياته المدججة وخوض اشتباكات عنيفة محققين إصابات مؤكدة في صفوف العدو. وتمكّن مجاهدونا من تفجير عدد من العبوات الناسفة في آليات الاحتلال بشكل مباشر، وتمكنوا من استهداف تمركزات لقناصة الاحتلال [....] أوقع مجاهدونا قوات الاحتلال التي تمركزت في ساحة المخيم بحقل من نار لم تشهد له مثيلاً من قبل.[67]
منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 أخذت وتيرة المقاومة في الضفة الغربية تتصاعد، وذلك تعبيراً عن وحدة الحال بين أفراد الشعب الواحد من جهة، وهو ما يحدث في كل عدوان على غزة، والعكس صحيح. ومن جهة أُخرى فإن تطرف المستوطنين ضد الأهالي في الضفة الغربية أدى هو الآخر إلى تحرك خلايا المقاومة، فقد ذكرت تقارير إسرائيلية أكثر من "120 جريمة كراهية مارسها اليهود في الضفة"،[68] علاوة على حالات قتل للفلسطينيين العزّل بدم بادر حتى تاريخ 12 / 11 / 2023، فضلاً عن عمليات مصادرة الأراضي وشقّ الطرق وإغلاق الشوارع، وغيرها من أعمال الترهيب المتكررة.
وكان لمنطقة شمال الضفة حصتها الكبيرة من العمليات العسكرية، فقد أظهرت طولكرم ما بعد طوفان الأقصى، عملاً نوعياً ومحكماً في التصدي لعمليات الاجتياح، كما أن المقاتلين خاضوا معارك شرسة على مدار ساعات طويلة صمدوا خلالها أمام كم هائل من قوات الجيش الإسرائيلي التي استخدمت سلاح الجو، والجرافات الثقيلة، والقناصة وأعداداً ضخمة من الآليات العسكرية والجنود. وبدأت بيانات كتيبة طولكرم تتذيل باسم معركة طوفان الأقصى، في تعبير واضح عن انخراطهم في المعركة الدائرة، بشكل موحد، وعلى عدة جبهات، مثلما ورد في أحد بيانات الكتيبة: "نؤكد في كتيبة طولكرم أننا ما زلنا في معركة طوفان الأقصى منخرطين بكل قوة، وأن جنودنا ما زالوا مع خط المواجهة المباشرة مع كافة حواجز ونقاط ومستوطنات وقوات الاحتلال."[69] وتزايدت حدة استهداف النقاط العسكرية المحيطة، ومنها بوابة نتسانيعوز الإسرائيلية، وبوابة شويكة، وبوابة دير الغصون، ومعسكر الطيبة العسكري، واستهداف المستعمرات المحيطة، وحاجز عِنّاب الاحتلالي.
وفي يوم الخميس الموافق فيه 19 / 10 / 2023، حاصرت قوات الاحتلال مخيم نور شمس، وفرضت على المدينة اجتياحاً عسكرياً كبيراً استمر نحو 30 ساعة دارت خلالها معارك ضارية بين المقاومين وقوات الاحتلال. وتركزت أشد المعارك في حارة المنشية في مخيم نور شمس، إذ دمرت جرافات الاحتلال البُنى التحتية والشوارع، وقصفت مبنى سكنياً، واستخدمت الطائرات المسيّرة "المتفجرة" لاغتيال مجموعة من الشبان، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 13 فلسطينياً بينهم 5 أطفال.[70] وفي المقابل واجه الاحتلال صموداً شرساً، واشتباكات عنيفة تمكّن المقاومون خلالها من إيقاعه في كمائن محكمة، وقد اعترف الاحتلال بمقتل جندي إسرائيلي وإصابة 9 آخرين عقب إلقاء عبوة ناسفة استهدفت جنوده.[71] وتناقل أهالي المخيم وطولكرم في أيام الاقتحام، أخبار جثث الشهداء التي احتُجزت في مسجد في المخيم، وأُخرى بقيت في الأحراش المقابلة للمخيم حتى انسحاب جيش الاحتلال. وخلّف هذا الاقتحام الكبير 13 شهيداً بينهم 6 أطفال، و20 إصابة برصاص الاحتلال، و10 معتقلين.[72]
إن محاولات الاحتلال اجتثاث المقاومة لم تفلح، وإنما استمرت عمليات استهداف النقاط العسكرية، كما استمرت عمليات اقتحام المدينة ومخيماتها، واستهداف المقاومة، إلى أن تمكّن الاحتلال، عبر قوة خاصة تابعة له، من تنفيذ عملية اغتيال في وضح النهار في 6 / 11 / 2023 طالت أربعة شبان من قادة المقاومة.[73] وجرت في 14 / 11 / 2023 جولة أُخرى من الاقتحام، بعد أن كشف المقاومون قوة خاصة قرب مخيم طولكرم، ودامت هذه العملية 15 ساعة راح ضحيتها 7 شهداء.[74] وحدثت أيضاً جولة أُخرى كبيرة ليلة 22 / 11 / 2023 راح ضحيتها 6 شهداء،[75] ثم تتالت الاقتحامات حتى كتابة هذا النص، موقعة مزيداً من الشهداء والجرحى والاعتقالات. لقد حوّل جيش الاحتلال في كل اقتحام له، طولكرم ومخيماتها إلى ساحة حرب، ورفع من وتيرة العنف والتدمير، لكنه وُوجِه بالعنف، فالعنف يقابَل بالعنف، وأساس الشيء هنا – وهو الاستعمار – قائم على عنف أدى إلى تدحرج أعمال العنف طوال عقود في هذا البلد، فمثلما يقول فرانز فانون: "إن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً"،[76] ولهذا تمكنت المقاومة في طولكرم بإمكاناتها البسيطة جداً، من تنفيذ عملية بيت ليد النوعية المزدوجة،[77] لأنها تعي هذا التناقض وفحواه "أن أحد الطرفين زائد يجب أن يزول."[78] وعلى الرغم من العنف الذي يستخدمه الاحتلال، والإرهاب المنظم الذي يمارسه خلال اقتحاماته، فإنه يحاول أن يظهر أمام العالم بصورة المدافع، وهو بذلك يعيش في "عالمه الثنائي" الذي تحدث عنه فانون أيضاً، ويسعى من خلاله لنزع القيم عن المستعمَر / ومكانه بصفته روحاً للشر، سيئ السمعة، ولا سبيل لنفاذ الأخلاق إليه.[79]
خاتمة
لقد عانت فلسطين، كسائر الأقطار العربية، جرّاء الاستعمار، وشهد تاريخها كثيراً من المعارك والتضحيات التي لم تنتهِ حتى يومنا هذا. فما نشهده اليوم في غزة من قدرات عسكرية، هو امتداد لتاريخ طويل من النضال والمقاومة التي تتخذ أشكالاً متنوعة، والذي تنفر فيه فئة قليلة، خفيفة وثقيلة، لتجابه فئة كبيرة تمتلك أحدث الترسانات العسكرية، ولا تقتصر على الاحتلال الإسرائيلي، بل من الواضح أنها تمتد إلى جبهة كبيرة يتزعمها الغرب الذي يضع نفسه في مرتبة أعلى شأناً من سائر الأمم.
ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، عندما أسقطت غزة أسطورة الجدار المعدني، هو استكمال لما جرى قرب نور شمس وبلعا في 3 أيلول / سبتمبر 1936، عندما أسقط الثوار أسطورة الطائر المعدني، معلنين نصراً كان الحدث والحديث في فلسطين. واليوم أعلنت المقاومة نصراً صار الحدث والحديث في العالم كله، ولا يزال مستمراً... إلى حين.
المصادر:
[1] إبراهيم درويش، "وول ستريت جورنال:عملية 'كاسر الأمواج' في الضفة الغربية تزيد من مخاطر التصعيد لا احتواء خطر المسلحين"، "القدس العربي"، 30 كانون الثاني / يناير،2023 في الرابط الإلكتروني.
[2] أحمد خليفة (ترجمة) وسمير جبور (مراجعة)، "الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936 – 1939: الرواية الإسرائيلية الرسمية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1989)، ص 36.
[3] قيس أبو سمرة، "نور شمس.. دمار بعد عملية عسكرية إسرائيلية استمرت 30 ساعة (تقرير)"، وكالة أنباء "الأناضول"، 20 / 10 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[4] أكرم زعيتر، "الحركة الوطنية الفلسطينية 1935 – 1939: يوميات أكرم زعيتر" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 2، أيلول 1992)، ص 53 - 54.
[5] "مخيم نور شمس"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)"، د. ت.، في الرابط الإلكتروني.
[6] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 101.
[7] المصدر نفسه، ص 41 - 55.
[8] ماثيو هيوز، "الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين، 1936 - 1939" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2021)، ص 27 - 28.
[9] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 55 - 56.
[10] المصدر نفسه، ص 54.
[11] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 27 - 28.
[12] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 54.
[13] عادل الزواتي، "أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي"، في الرابط الإلكتروني.
[14] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 29 - 30.
[15] "معركة ناشبة بين الثوار والجند"، جريدة "فلسطين" (يافا)، 22 / 6 / 1936، ص 2، في الرابط الإلكتروني التالي:
فلسطين | 22 حزيران 1936 | مجموعة الصحافة | المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة(nli.org.il)
[16] بهجت أبو غربيّة، "في خضم النضال العربي الفلسطيني: مذكرات المناضل بهجت أبو غربيّة 1916 – 1946" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1993)، ص 81.
[17] "معركة شديدة في منطقة نور شمس"، جريدة "اللواء" (القدس)، 22 / 6 / 1936، ص 1، في الرابط الإلكتروني التالي:
اللواء | 22 حزيران 1936 | مجموعة الصحافة | المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة(nli.org.il)
[18] المصدر نفسه.
[19] "تفاصيل عن معركة نور شمس: طيارة تلقي تفاصيل عن الهجوم"، جريدة "فلسطين" (يافا)، 23 / 6 / 1936، ص1، في الرابط الإلكتروني التالي:
فلسطين | 23 حزيران 1936 | مجموعة الصحافة | المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة(nli.org.il)
[20] المصدر نفسه.
[21] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 131 - 132.
[22] المصدر نفسه، ص 147.
[23] فوزي القاوقجي، "فلسطين في مذكرات القاوقجي" (د. م.: مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية ودار القدس، ط 1، 1975)، ص 10.
[24] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 181 – 182.
[25] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 10 - 11.
[26] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 161.
[27] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 22.
[28] أبو غربيّة، مصدر سبق ذكره، ص 79 - 82.
[29] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 185 - 186.
[30] خليفة وجبور، مصدر سبق ذكره ، ص 35 - 36.
[31] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 23.
[32] المصدر نفسه.
[33] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 182 - 183.
[34] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 23 - 24.
[35] المصدر نفسه.
[36] "معارك ذات بال تنشب في بني صعب ولا تزال محتدمة حتى الساعة"، "اللواء" (القدس)، 4 / 9 / 1936، ص 1.
[37] "أكبر معركة حربية في تاريخ ثورة فلسطين الحالية"، "فلسطين" (يافا)، 4 / 9 / 1936، ص 5.
[38] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 24 - 25.
[39] "اللواء"، " معارك ذات بال..."، مصدر سبق ذكره.
[40] "فلسطين"، "أكبر معركة حربية..."، مصدر سيق ذكره.
[41] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 25.
[42] زعيتر، مصدر سبق ذكره، ص 166.
[43] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 25.
[44] خليفة وجبور، مصدر سبق ذكره. ص 37.
[45] "اللواء"، "معارك ذات بال.."، مصدر سبق ذكره.
[46] "فلسطين"، "أكبر معركة حربية..."، مصدر سبق ذكره.
[47] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 25.
[48] المصدر نفسه.
[49] ""فلسطين"، "أكبر معركة حربية..."، مصدر سبق ذكره.
[50] القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 26.
[51] "اللواء"، "معارك ذات بال.."، مصدر سبق ذكره.
[52] خليفة وجبور، مصدر سبق ذكره، ص 37.
[53] هيوز، مصدر سبق ذكره، ص 184 - 185.
[54] أنيس محسن، "غزة، أكبر من جرائم حرب، إنها إبادة جماعية"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[55] "إسرائيل أسقطت ما يعادل قنبلتين نوويتين على قطاع غزة وحصة الفرد الواحد تتجاوز 10 كيلوغرامات من المتفجرات"، تقرير "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" (جنيف)، 2 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[56] "ندعو لاعتماد مصطلح إبادة غزة الجماعية في أدبيات الأمم المتحدة"، تقرير "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" (جنيف)، 21 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[57] تمير هايمن، " في كل ساحة جبهتان: الأعمال القتالية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي على ثلاثة محاور، وما تنطوي عليه كل منها"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4149، 5 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
[58] "مخيم نور شمس"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)"، مصدر سبق ذكره.
[59] عدنان أبو عامر، "احتمالات قيام الاحتلال بعملية اجتياح واسعة في الضفة الغربية" (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات)، "تقدير استراتيجي 134" (حزيران / يونيو 2023)، ص 1 – 4، في الرابط الإلكتروني التالي:
Str-Ass_134_6-23.doc (live.com)
[60] المصدر نفسه، ص 5 - 7.
[61] أنطوان شلحت، "جنين: عن التحدي الجديد الذي تضعه المقاومة الفلسطينية أمام الاحتلال"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، " 24 / 7 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
[62] كريم قرط، "رياح المقاومة في الضفة الغربية والمأزق 'الإسرائيلي' "، "مركز رؤية للتنمية السياسية"، 14 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني التالي:
رياح المقاومة في الضفة الغربية والمأزق “الإسرائيلي”(vision-pd.org)
[63] مالك نبيل، "كتيبة طولكرم.. عودة إلى الرد السريع"، "العربي الجديد"، 28 / 2 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
"كتيبة طولكرم"... عودة إلى "الردّ السريع"(alaraby.co.uk)
[64] "داخل عرين الأسود: مَن هم مقاتلو الجيل 'زد' في الضفة الغربية الذين يثيرون غضب إسرائيل؟"، تقرير "عربي بوست"، 10 / 7 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
[65] يوسف فارس، "ضربة للعدو من حيث لا يحتسب: طولكرم تطلق مفاجآتها"، "الأخبار" (بيروت)، 31 / 5 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[66] المصدر نفسه.
[67] "بيان كتيبة طولكرم"، 30 / 5 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[68] يانييف كويوييتش، "تحت حماية الجيش وفي ظل الحرب، المستوطنون ينكّلون بالفلسطينيين، ويرسمون الوقائع على الأرض"، "هآرتس"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4156، 12 / 11 / 2023،. في الرابط الإلكتروني التالي:
[69] "الإعلام العسكري – كتيبة طولكرم"، "تلغرام"، في الرابط الإلكتروني.
[70] "مخيم نور شمس، دمار بعد عملية للاحتلال استمرت 30 ساعة (تقرير)"، "الجزيرة نت"، 20 / 10 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
مخيم نور شمس.. دمار بعد عملية للاحتلال استمرت 30 ساعة | أخبار | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[71] "تصاعد التوتر في الضفة الغربية ومقتل ما لا يقل عن 81 فلسطينياً برصاص الجيش الإسرائيلي ومستوطنين مند يوم 7 تشرين الأول / أكتوبر"، "مختارات من الصحف العبرية"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 21 / 10 / 2023، العدد 4134، في الرابط الإلكتروني التالي:
[72] "13 شهيداً بينهم 6 أطفال حصيلة مجزرة الاحتلال في مخيم نور شمس"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)"، 20 / 10 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[73] "4 شهداء في طولكرم إثر عملية اغتيال نفذتها قوة خاصة .. وشهيدان جنوبي الضفة"، "القدس العربي"، 6 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
4 شهداء في طولكرم إثر عملية اغتيال نفذتها قوة خاصة.. وشهيدان جنوبي الضفة- (فيديو) (alquds.co.uk)
[74] "مقتل 7 فلسطينيين بنيران الجيش الإسرائيلي في طولكرم، 3 منهم في هجوم بمسيّرة"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4158، 14 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
[75] "العدوان على طولكرم: 6 شهداء وإصابات واعتقالات ودمار كبير في البُنية التحتية"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)"، 22 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني.
[76] فرانز فانون، "معذبون في الأرض"، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، ط 2، 2015)، ص 39.
[77] "القسّام توثق بالفيديو عمليتين ضد جنود الاحتلال بالضفة"، "الجزيرة نت"، 12 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
القسام توثق بالفيديو عمليتين ضد جنود الاحتلال بالضفة | أخبار | الجزيرة نت(aljazeera.net)
[78] فانون، مصدر سبق ذكره، ص 41.
[79] المصدر نفسه.