هدوء، أو صمت القبور، هو الذي تلا الانفجار. كل شيء كنت قد توقعته بعد أن أضغط على زر تشغيل الحزام الناسف، إلّا هذا السكون. وكأن شدة الانفجار ردّت أصوات الحياة عنا، وتركتنا في فقاعة. أو كأنه الموت.
أو أليس هو الموت فعلاً؟!
لقد بدا في الحقيقة موتاً، ليس كما كنت أتخيله. فهو أقل ألماً من الحياة. ألمه كألم لسعة سيجارة رافقه خدر، سرى في جسدي، وتبعته رغبة شديدة في الخلود إلى النوم.
أفقت على أصوات صفارات الشرطة والإسعاف، وصرخات رجال الإطفاء، ومن حولي جثث متفحمة، أحصيتها حتى أتأكد بأن كل مَن كان في الباص، قريباً مني، قد قُتل.
كانت خمس جثث وأنا السادسة.
نهضنا من جثثنا الملقاة على الشارع، وجلسنا نتأملها من تلة ترابية تشرف على موقع الانفجار.
تقدم نحوي شرطي وهو يمر عبر الخمسة الجالسين بجانبي، فبدوا وكأنهم ظلال أو سراب. أدركت أنه لا يراهم، فهم قتلى وهذه الجالسة بجانبي أرواحهم. وقف أمامي يسألني إن كنت من ركاب الحافلة. أربكني سؤاله، واعتقدت أن أمري قد انكشف. تحسست ملابس طالب المدرسة الدينية (الحريديت) التي كنت أتخفَّى بها، فطمأنتني، بعد أن تأكدت من وجودها على بدني.
عدّلت قبعتي الشرق - أوروبية، وأجبته على سؤاله بالنفي.
بقيت قلقاً بقدر ما يمكن للأموات أن يكونوا قلقين على حياتهم.
نظرت خلف كتف الشرطي نحو جثتي لأتيقَّن من أن وجهي قد تفحَّم، حتى لا ينتبه للشبه بيننا.
تأكدت تماماً بأنه لا مجال الآن للمقارنة.
كان القتلى الخمسة هم وحدهم القادرون على إجراء المقارنة بين طالب المدرسة الدينية الذي فجّر نفسه في الحافلة وبيني.
قارنوا فأدركوا أنني أنا الشخص ذاته.
كان سائق الحافلة رجلاً في الأربعينات من عمره، وهو أول مَن أيقن الشبه.
صرخ وهو يشير بإصبعه نحوي دون أن يقوى على النهوض من مكانه.
"محبيل.. زي هميحبيل.. مخرِّب.. هذا هو المخرِّب."
انتصبت واقفاً وبقيت مسمّراً في مكاني. تلفتُّ حولي أحاول تحديد رد فعل مناسب. سار القتلى باتجاهي وهم يصرخون: "محبيل.. محبيل". شرعوا بضربي بكل ما كان في أيديهم من أغراض شخصية.
شابة في منتصف العشرينات هوت بمظلتها على رأسي.
فتاة في الثلاثينات لطمتني بحقيبة اليد خاصتها على وجهي وبصقت.
جندي في العشرين يحاول ليَّ ذراعي لتقييدي إلى الخلف.
سائق الحافلة يركلني بساقه اليمنى، فتهاويت ساقطاً على الأرض.
وفيما الأيدي تلطمني والأرجل تواصل ركلي، كانت عيوني شاخصة تحدّق في الفراغ بنقطة وهمية، لكنها أكثر حقيقة من تاريخ ميلادي أو لحظة موتي. لحظة ماتت بها الحياة، وولد الموت.
كنت هناك في حفلة ركل أُخرى.
الأرجل ذاتها، والمكان حاجز حوَّارة، صباح يوم الأحد، عائداً إلى جامعة بيرزيت بعد انتهاء العطلة الدراسية.
خمسة جنود، فتاتان، وثلاثة شباب. جميعهم في بداية العشرينات.
في الطابور وقفت هيام خلفي بانتظار دورنا لإبراز بطاقاتنا الشخصية. تقدمتُ من المجندة التي بدا عليها الإرهاق، فتصرفتْ بعصبية وفظاظة. أدركت بأني لن أعبر الحاجز اليوم، خصوصاً بعد أن نادت أحد الجنود وسلّمته هويتي. خشيت أن أتأخر على تقديم بحثي النهائي في مادة اللغات الساميّة في موعده المحدد. ناولتُ هيام حقيبتي، وطلبت منها أن تهتم بتقديمه دون تأخير. قفز الجندي شاهراً سلاحه وهو يصرخ بأن أبتعد عن الحقيبة، وأن أجثو على الأرض. صاحت هيام بأن لا شيء في الحقيبة سوى الكتب. حاولَت أن تدنو منهم، وهي ترفعها نحوهم كي يتأكدوا من محتواها، فاخترقت صدرها ثلاث رصاصات، وتهاوت بقميصها الأبيض كريشة. هممتُ بالنهوض والسير إليها، فأطلق أحدهم بضع رصاصات ارتطمت بالأرض في منتصف المسافة بيننا. عدت جاثياً على ركبتي عاجزاً ذليلاً وعيونها تحدق بي، وجسدها يرتجف كحمامة خُضّبتْ بدمائها مذبوحة.
أغمضت عينيّ، وتمنيت الموت.
***
أفقتُ على صوت الشرطي يسألني: "هل تريد أن ننقلك إلى المستشفى؟ هل تشعر بدوار؟"
أيقنت من سؤاله بأن لا أحد من قوات الدفاع المدني يرى الأرجل التي تواصل ركلي، ولا أحد يسمع الشتائم، وإنما يرون رجلاً يترنح، يقف حيناً ويسقط حيناً آخر. تحاشيت الرد حتى لا تفضحني لكنتي، واكتفيت بهز رأسي رافضاً المساعدة.
عجوز تجاوزت السبعين كانت هي الوحيدة التي لم تشارك الباقين حفل الركل. وقفَت بجانب الشرطي الذي انسحب للتو، بعد سؤاله لي لينضم إلى الطبيب ومجموعة المسعفين التي كانت بالقرب منا، وسألتْه: "ألا تراني؟ قل لي ألا تسمع صوتي؟ نحن القتلى."
توقف الأربعة عن ركلي، ونظروا إلى العجوز وهي تحاول أن تلامس وجه الطبيب، فمرت أصابعها مخترقة رأسه كأنه غيمة. صرختْ معلنة تخاطب جمهوراً وهمياً: "نحن أموات ولا أحد يرانا."
استأنفوا ضربي بشدة، وكأنهم ينتقمون الآن لا لقتلهم، وإنما لأن لا أحد يراهم من الأحياء.
موت المرء مسألة صعبة، لكن موته دون أن يحس أحد بموته، فهذا أمر رهيب. "كفى.. كفى"، صاحت المرأة العجوز.
"هل أنتم مجانين؟! ما الذي تفعلونه؟! هل تضربون ميتاً؟! أتعتقدون أنكم قادرون على إيلامه ومعاقبته؟ هو ميت، ألا تفهمون! هو ميت، لقد مات منذ قليل، ومتنا جميعاً معه."
أردت أن أقول لها في هذه اللحظة: "بل متُّ منذ زمن بعيد، لكنكم لم تلتفتوا لموتي إلّا حين فجّرت جسدي."
أشارت العجوز بسبابتها نحو الرصيف، وقالت:
"هذه المتفحمة جثثنا.. لا فائدة من ضربه. هل ستقتلونه مرة أُخرى؟! لا أحد يموت مرتين."
واصلتُ حديثَ العجوز مردداً في سرِّي: "بل يموت، ويموت المرء آلاف المرات. لا أحد يعيش مرتين، والأحياء وحدهم يتألمون."
"حسناً"، قال الجندي وهو يتهيأ لمناقشة العجوز، "لا تريدين أن نعاقبه، فماذا تقترحين؟ هل تريديننا أن نسامحه على فعلته؟"
"أنا لا أقترح شيئاً.." قالت العجوز مقاطعة، "وإذا كان لا بد من تسامح، فمن الأفضل أن يجري بين الأحياء. ربما بذلك يمنعون المزيد من الموت."
قالت ذلك، وفي صوتها حزن عميق، وأسف شديد على أمر بدا لنا جميعاً أنها تتأمله في هذه اللحظة التي صمتت بها شاردة الذهن كأنها في مكان وزمان آخر.
التفتتْ نحونا فجأة لتصحو من غيابها، تعيد لنفسها ترتيب الزمان والمكان، واستأنفت حديثها: "هل لاحظتم مثلي أن الأحياء من اليهود لا يرون إلّا الأموات العرب؟ هذا المخرب هو الوحيد الذي يراه رجال الإسعاف والأمن، بينما لا يرون إلّا جثثنا. أكاد أجزم بأن أحياء العرب هم أيضاً لا يرون إلّا أموات اليهود."
"العربي الجيد هو العربي الميت"، قال الجندي مقاطعاً، وهو يعدّل "الكيباه" المطرزة على رأسه. رمقته العجوز بنظرة كان فيها أكثر من: "دعني من نزقك"، وواصلت حديثها:
"أنا لا أتوقع منكم أن توافقوني الرأي، لكنني أريد التواصل مع أطفالي، وهذا القاتل هو وسيلتي الوحيدة، فمَن يعلم، فقد أحظى بالتواصل مع أحفادي الذين لم يولدوا بعد."
صرخ الجندي: "هذه المرأة جُنّت، فليحمنا الرب، أتريدين التواصل مع أسرتك عبر هذا القاتل؟! هل جننتِ تماماً؟!"
"بل متُّ تماماً.. أو قل متنا جميعاً، وبشكل نهائي."
"والجثث؟ ألا ترين الجثث هناك؟؟ هذه دماؤنا [المراقة] على الأرض.. دماؤنا التي لم تجفّ بعد، وكيف لكِ مجرد التفكير بهذه الفكرة!؟ قليلاً من الاحترام الذاتي.. قليلاً من الكرامة."
تنهدت العجوز، وترددت في الرد على الجندي، ثم قالت، ودموعها تنهمر: "لا أريد أن أقسو في الرد عليك، لكنني لا أقبل الإهانة ولا حتى من جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي. تتحدث عن الجثث؟! أنت لم ترَ من الجثث شيئاً. لقد شاهدت بما يكفي منها، آلافاً، بل مئات الآلاف. الحياة أقوى من الكرامة، والأحياء أهم من كرامتك. إن أطفالي الأحياء هم كرامتي."
"حسناً، فليكن، لكنني لن أكون شريكاً في هذه المهزلة. هذا تدنيس لذكرانا كأموات." أطلق الجندي موقفه، وانضم للآخرين جالساً معلناً انسحابه من النقاش.
أصغيت تمام الإصغاء إلى حوارهم الذي كنت موضوعه المركزي. لكنهم اعتبروني خارجه، فلم يسألوني عن رأيي، إن كنت موافقاً أن أُجري مثل هذا التواصل. وافترضوا، بما أنني القاتل وهم الضحية، أن النقاش داخلي، وما عليَّ إلّا أن أقبل قرار حكمهم، أو ربما أن أشكرهم على هذه الفرصة للعودة إلى حياتهم ميتاً. تصرفوا بقناعة كما يتصرفون وهم أحياء، بأن لا أحد يسمعهم، وإن سمعهم، فلن يفهم لغتهم. فقد افترضوا أيضاً بأنني لا أجيد اللغة العبرية.
ترددت كثيراً في الحديث، فلم أكن واثقاً بأن الهواء، الذي سأُخرجه من بين أسناني، ستنجح شفتاي بتقطيعه لأحرف، وسيصدر عنها كلمات مفهومة.
"لن أتواصل مع أقاربك"، قلت بصعوبة وبصوت بالكاد أسمعه، وكأنني أتحدث إلى نفسي.
التفتوا جميعهم نحوي، وخيَّم صمت أشبه بالصمت الذي تلا الانفجار، فقد كنت أتفجّر بهم من جديد. ثم سأل سائق الحافلة:
"ماذا قلت؟"
لم أستجمع كل هواء الرئتين كي أرفع صوتي. كان الهدوء الذي خيّم بعد جملتي الأولى كافياً كي تُسمَع في المرة الثانية همساً.
"قلت لن أتواصل مع أقاربها."
صاح السائق كأنه يكتشف من جديد الشبه بيني وبين مَن فجّر نفسه في الحافلة، أو كمَن يبدد شكّاً كان يراوده.
"نعم هو الشخص ذاته، الآن تذكرته تماماً، لقد حدّثني بالعبرية، نعم هو نفسه لا شك." ثم استدرك يسأل: "لكن، لماذا لا تريد أن تتواصل مع أطفالها؟"
"سأتواصل لكن بشروطي."
تدخّل الجندي وقال: "أنت لست في وضع يمكّنك من إملاء الشروط علينا."
"وما هي شروطك؟" سألَت العجوز بنبرة حاسمة، واضعةً حداً للنقاش.
"أولاً أن ترافقوني جميعكم إلى حيث سترسلوني، فأنا أريد أن أضمن لنفسي العودة دون أن يبلّغ أحدكم عني وأتعرض للاعتقال."
حاولت الفتاة التي كانت قد بصقت في وجهي، إظهار قدر من الاحترام لإقناعي بأن لا ضرورة لشرطي، وقالت:
"كيف سيعتقلونك وأنت ميت؟"
"كما تعتقلون مئات الجثث، هل سمعتِ بمقابر الأرقام؟"
"لكنك الروح، لا الجثة، وجثتك تركتها ملقاة هناك متفحمة بجانب الحافلة."
"مَن يعلم، فقد تسنّ دولتكم قانوناً يجيز لها اعتقال الأرواح، فتصبح روحي مطاردة ومطلوبة لأجهزتكم الأمنية."
بعد أن أدرك الجندي أنه بقي الوحيد المعارض لتواصلي مع أسرة العجوز، قاطعني في محاولة أخيرة لإفشال الفكرة، وقال:
"لا أعرف ما الجدوى من نقاشكم هذا، فأنا لن أرافقكم."
توجّهتُ بالحديث إلى العجوز مؤكداً شرطي: "لقد قلتُ جميعكم، يعني جميعكم، هذا هو شرطي، فإن لم يأتِ.." وأشرت بإصبعي نحو الجندي، "فلن أتواصل مع أحد."
"حسناً، أنا موافقة..." حسمت المرأة العجوز موقفها، وسألت: ".. وثانياً.. ما هو شرطك الثاني؟"
"ثانياً، أن تتواصلوا مع أهلي، فثمة أمور أريد أن أبلّغهم بها."
"هذا مستحيل.." قالت العجوز دون تردد، "كيف؟ ومَن يجرؤ على الدخول في هذه الظروف إلى مناطقكم؟"
"أنا لا أقول بأن الأمر سهل، أو لا يثير القلق، لكن مهمتي ليست بالضبط تبديد مخاوفكم، هذا هو شرطي للتواصل مع أقاربك. وعلى كل حال، هناك طرق يمكنني أن آخذكم منها، ولن تصادفوا بها مخلوقاً، طريق كنت قد سلكتها عندما دخلت لتنفيذ العملية. أمّا أهلي، فلا داعي للقلق منهم. فهم أناس مسالمون وطيبون."
"واللغة؟" سألت العجوز، مبدية قناعة وقبولاً بما قلته عن الطريق.
"يمكنكم التحدث بالعبرية، وتقديم أنفسكم على أنكم وفد سلام إسرائيلي."
***
لا أعرف كيف، وعلى ماذا اتفقوا. فقد حضر الجميع بدون استثناء بمَن فيهم الجندي الذي أبدى تشدداً ورفضاً قاطعاً لفكرة تواصلنا مع الأحياء من أقاربنا.
قلت لنفسي: "هؤلاء القوم عكسنا تماماً. تدرك أسباب اختلافهم، لكنك تجهل كيف ومتى اتفقوا. بينما نحن نعرف ما الذي يجمعنا، ولكننا نجهل أسباب الخلاف الذي يفرّقنا."
سرنا بضع شوارع من موقع الانفجار، وقفنا في محطة الباص الذي سيقلّنا للوجهة كما حددتها العجوز. ورغم انضمامه إلينا، ظل الجندي يتحرك بقلق، يجلس حيناً ويدور حولنا حيناً آخر، وكأنه في وردية حراسته في المعسكر.
توقف فجأة عن دورانه، وسار نحو العجوز، وقال لها:
"علينا أن نفتشه قبل أن نصعد إلى الباص، ربما يخفي على وسطه حزاماً آخر."
"حزام آخر؟! وما حاجته بالحزام؟ كي يقتلنا؟!"
"لا، بل ليقتل ركّاب الباص من الأحياء، وأنا لن أدعه يستخدمنا كغطاء له."
"وهل تعتقد أنه بحاجة لغطاء من مجموعة من الأموات، كي يصل الباص مع حزامه؟ ما كان بحوزته من أحزمة قد انفجر. دعك الآن من لعب دور حارس إسرائيل، تحرر من ملابسك العسكرية. لقد اختلف الوضع تماماً، فأنت الآن جندي ميت."
توقفت العجوز عن الحديث للحظات، بعد أن أحسّت بأنها تفوهت بكلمات كان وقعها مؤلماً له، ثم واصلت: "أنا آسفة، لكنها الحقيقة، أو قل، الحقيقة هي أنك جندي سُرّح من الخدمة العسكرية بطريقة غريبة."
"مع ذلك" قال الجندي، "سأفتشه، لن يصعد إلى الباص قبل أن أفتشه."
كنت أصغي إلى حديثهم، ودون رغبة مني في المشاركة. أطلقت ردي القاطع نحو الجندي:
"لن أفتَّش، فأنا لم أفجّر نفسي كي أعاد لهذا الإذلال مرة أُخرى. لن أفتَّش ما دمت ميتاً." وكدت أقول له "ما دمت حياً"، فاعتياد الموت كما يبدو أصعب من التخلي عن عادة الحياة.
"هل تريد القول بأن الإذلال الذي تدّعيه هو السبب في تفجيرك لنفسك؟"
قالها المجنّد وكأنه قد قبض على الموقف الأخلاقي لصالحه تماماً، ولم يتبقَّ له سوى حسمه بالضربة القاضية. ثم أضاف: "إذاً، فهذا موت من أجل خلاصك الذاتي، وليس كما تصفونه موتاً من أجل الجماعة."
لم أكن أناقش جندياً ميتاً يعتقد أنه جنرال، وإنما فيلسوف يريد جرّي إلى نقاش افترضت أنه انتهى، أو على الأقل انتهى معي بمجرد أن ضغطت على زر تشغيل الحزام الناسف. ما الذي يريده هذا الجندي مني الآن. أن يفتشني باسم الأمن؟ وأمن مَن؟ أمن الأحياء الذين يهددهم ميت؟! هل أقول له "على جثتي؟" أيصبح رفضاً ويستقيم القول في هذه الحالة وأنا جثة؟ وهل يبحث لاحقاً عن إجابات للأسباب التي دفعتني لتفجير نفسي؟ أم تراه يريد محاججة أخلاقية يثبت من خلالها بأنني قاتل سافل وأناني؟ هل أحاججه حتى لا يحسب رفضي هروباً من معركة تدور رحاها في ميدان الأخلاق؟
نقاشنا الآن غير مجدٍ، تماماً كتفتيشه، فلا التفتيش بإمكانه أن يمنع تفجيراً قد حصل، ولا أن يحول دون ميت يريد المزيد من الموت. ولا النقاش سيعيدنا إلى الحياة، أو حتى يقنع حياً أو ميتاً واحداً بأن موتهم ضرورة أخلاقية، مهما كانت دوافعي وأسبابي لتفجير نفسي منمقة وأخلاقية. كلانا يدرك بأن التفتيش قبل التفجير لم يمنعه.
ماذا لو كان النقاش قبله؟
هذا الجندي ما زال غير مدرك لقواعد اللعبة الجديدة. نحن الآن في عام الصفر. وفي عام الصفر ليس لأحد أفضلية على أحد. والعجوز التي غابت عنا شاردة الذهن عادت لتسأل:
"ألهذا السبب متنا؟ هل حقاً قتلتنا لأنك تقف في الطابور على الحواجز وتفتَّش؟"
***
صعدوا إلى الباص، وكنت آخرهم حتى أضمن صعودهم جميعهم. بحثت عن مقعد فارغ، وجدت أقربهم بجانب العجوز، فجلست. طلبت مني الانتقال لمقعد آخر، وقالت بأنه لا يصح أن يجلس رجل دين حريدي بجانب امرأة.
ابتسمت لطلبها، وسألتها إذا كانت في حياتها تلتزم بمثل هذه الأصول الدينية، خصوصاً وأنها بدت لي غير متدينة.
"أريدك أن تنتقل من جانبي لا لسبب ديني وإنما أمني.. أمني محض"، أجابت العجوز وهي تشدد حروف الكلمة الأخيرة.
كان ردها أغرب من طلبها، لكنني تذكّرت كل الأماكن: القبور، والشوارع، والأراضي التي استولوا عليها وصادروها باسم الأمن، فتحولت إلى عقيدة دينية. قلت لنفسي: هذه المرأة، حتى وهي ميتة، لا تريد أن تتخلص من عقيدتها الأمنية.
سألتها مستهجناً ردها: "أمن مَن؟! أمني؟"
"أمنك"، قالت دون تردد.
لولا تعابير وجهها الجدية، وإدراكي لما يجول في خاطر هذه المرأة، لبدا الموقف مضحكاً. حاولت إقناعها بأنه لا داعي للقلق فلن يراها أحد جالسة بجانبي سوى الأموات مثلنا. لكنها أصرت على انتقالي من جانبها. فهي، كما قالت، لا تضمن بأن لا يراها أحد.
انتقلت إلى مقعد قريب، خلفها تماماً، تاركاً إياها تتمتع بالشك، ولو بضع ساعات، في إمكانية أن يراها أحد. فاليقين في مثل حالتها موت.
لا أحد مثلي يعرف اللايقين حين يلحّ عليك في واقع الحياة، ويقودك إلى قطعه بيقين الموت. وهذه المرأة تريد يقيناً بموتها حتى تعود إلى الحياة، إنه الجنون في واقع مجنون، فيغدو العقل بعينه، حين يصبح قاتلك هو سبيلك الوحيد إلى الأحياء، والموت أسلوب تعبير عن الرغبة في الحياة.
تململ الجندي في مقعده بعد أن احتللت المقعد الفارغ بجانبه. ظل يراقب حركة يديّ كلما عدَّلت من جلوسي. نظر إلى جاكيتي بقلق يحاول استكشاف ما تخفيه طيّاته، وفتّشني بعيونه بعد أن فشل في تفتيشي بيديه. التفتت العجوز إلى الخلف، وطلبت منه الكفّ عن إثارة الريبة. قالت بأن سلوكه قد يدفعني للإتيان بحركة غير طبيعية أو سلوك غير منسجم وملابسي الدينية، فيفتضح أمري.
ضحك الجندي ضحكة هستيرية خشيتُ أن تثير فعلاً انتباه المسافرين من حولنا، وقال: "هذا هو إذاً.. أصبح مطلوباً مني أن أؤمّن غطاء لهذا المخرّب حتى يصل إلى هدفه."
صرخت المرأة العجوز، وهي تكتم صوتها كأن هناك أحداً سيسمعها: "ليس هدفه، وإنما هدفنا.. أو على الأقل هدفي للتواصل مع أطفالي."
"مَن كان يصدق.. جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي عليه تأمين انتقال مخرّب إلى قلب إسرائيل."
"ليس مطلوباً منك أن تؤمّن شيئاً، المهم ألّا تثير من حوله الشكوك، خصوصاً وأنهم قد أعلنوا في الأخبار بأن المخرب ارتدى ملابس متدين حريدي."
ما إن أنهت العجوز جملتها الأخيرة، حتى دقّت الساعة معلنة عبر الراديو باللغة العبرية الرابعة تماماً. رفع السائق الصوت، وساد الحافلة الصمت، وكان الخبر الأول في النشرة أسماء القتلى وأماكن ومواعيد مراسم الدفن:
- إيڤا بن پورات.. بت شڤعيم
توڤا لمنوحوت هيوم بشعه حمش ببيت هعلمين رمات چان.
- ڤارده محپود.. بات شلوشيم ڤإحاد
توڤا لمنوحوت هيوم بشعه شيش ببيت هعلمين إليخين.
- شئول إلفاسي.. بن أربعيم ڤشتايم
يوڤا لمنوحوت محر بشعه عسر ببيت هعلمين رحوڤوت.
- كاتيا بتروڤسكي.. بت عشريم ڤحمش
تيرم نقڤاع مقوم ڤموعيد ههلڤياه.
- سمال ريشون نتن إل بن حوريڤ.. بن عشريم
يوڤا لمنوحوت محر باحاد عسرة ببيت هعلمين هتسڤئي بأشكلون.[1]
لم يفاجئني عدم إيراد اسمي بين القتلى، ولا حتى بصفتي القاتل، فأمثالي لدى هؤلاء لا يُحسبون في عداد الأحياء، وحتى لا يُحسبون في عداد الأموات.
انفجرت كاتيا بالبكاء لسماع اسمها في الراديو، وكأنها لأول مرة تعلم بموتها، لكنني أدركت من حديث ڤارده معها بأنها قد قُتلت فعلاً للمرة الثانية. كانت كاتيا ابنة وحيدة لأمها التي قدمت من أوكرانيا، حاملاً بها في الشهر السابع. والدها يهودي أوكراني هاجر لأمريكا بعد ولادتها بعامَين، تاركاً ابنته وزوجته تواجهان مصيراً مجهولاً، فقد اكتشفت كاتيا بأنها ليست يهودية وفقاً للشريعة (الهلاخاه)، بعد أن حاولت إخراج وثيقة زواج لأمها من الربنوت،[2] حتى تتسجّل كيهودية في الوثائق - الأوراق الضرورية للحصول على منحة دراسية من الوكالة اليهودية. رفض الراب منحها مثل هذه الوثائق، بحجة أنها ولدت لأم غير يهودية.
موت كاتيا بالزي العسكري، وأثناء تأديتها خدمة العلم، لم يشفعا لها، فعدم الإعلان عن زمان ومكان الدفن، أكد لها بأن يهوديتها ما زالت مسألة مشكوكاً بها.
***
ماذا لو كنت في مكانها؟ بمعنى، أعلم مسبقاً بأنني سأُدفن خارج المقبرة الإسلامية، أو بمحاذاة السور، كما قالت كاتيا أنهم سيفعلون بجثتها.
ما الذي أهذي به الآن؟
ما معنى طرح مثل هذا السؤال على نفسي!؟
لكن، ماذا لو كانت فعلاً مثل هذه الاعتبارات، أو شبيهاً لها، يؤخذ بها في الدين الإسلامي، وتحول دون اعتبارك عربياً أو مسلماً!؟
المحرّم دفنهم في مقابر المسلمين، هم الكافر والمنتحر.
أنا لم أكن متديناً، فهل سيعتبرونني منتحراً!؟
ورائد الريماوي، ابن جورجيت، هل كان سيفجر نفسه، لو علم مسبقاً بأنه لن يشيّع كباقي الشهداء إلى مقابر المسلمين؟
لكن ما بي الآن أطرح مثل هذه التساؤلات على نفسي، وكأنني سأعيد النظر بقراري؟!
***
استطالت عنقي وأنا أحاول استراق النظر من خلف كتف إيڤا علّني أرى ما تحمله في يدها وتتأمله، حتى أتيقن من سبب انهمار الدموع من عينيها. لكن محاولاتي باءت بالفشل، فهي امرأة عريضة الخشب، كما تصف أمي نساء الحارة من الأصحاء، طولها وكتفاها العريضان، حجبا المشهد عني كلياً.
استدارت إيڤا نحوي، اتكأت بذراعها للخلف على مسند الكرسي، فبدت وكأنها شخص آخر، فتعابيرها أصبحت أكثر ودية، ولغة جسدها حانية، وصوتها به هدهدة حزينة. مسحت دموعها بظاهر كفها، وقالت، فيما واصلت شفتاها البكاء: "لا داعي لأن تجهد نفسك، سأريك ما أحمل في يديّ." مدت أصابعها التي أمسكت بصورة طفلين، وواصلت حديثها: "هؤلاء هم أبنائي ميخائيل وعنات. في الحقيقة هم ليسوا أبنائي تماماً، فأنا لم أتزوج، وإنما أبناء أخي عيران."
أجهشتْ بالبكاء مجدداً، استجمعت قواها وواصلت حديثها، ثم دسّت يدها داخل حقيبتها وأخرجت صرة من المفاتيح، وقالت: "ليس لدينا متسع من الوقت للشرح المطول. بقي على موعد الجنازة أقل من ساعة، وأريد أن نمر إلى بيتي أولاً، ومن ثم نذهب إلى المقبرة. لا تقلق، فلن تجد أحداً في البيت، فهم بالتأكيد في مثل هذه الساعة متواجدون في المقبرة لتشييعي."
"إذا كان الجميع في المقبرة، فما حاجتنا لأن نمر عبر البيت؟" لم يكن سؤالي ينتظر رداً، وإنما أردت تعجليها للوصول إلى جوهر الموضوع، فهي ككل العجائز تسهب في الشرح والتفاصيل، وأنا متشوق لمعرفة النهاية.
"هناك مغلفان جهزتهما ووضعتهما في صندوق خاص في علِّية البيت، بعيداً عن متناول الأطفال. واحد معنون لميخائيل وعنات، والثاني لإستر بن پورات. أريدك أن تسلّمهما لميخائيل، فهو صبي ذكي سيقرأهما، وسيعرف ما يتوجب عليه فعله، فقد جهزتهما منذ مدة تحسباً لأي طارىء."
"ما الذي تعنينه بـ"أي طارىء؟!" هل كانت إيڤا تستعد للموت رغم أنها تبدو في صحة جيدة! أم تراها كانت جاهزة لمثل هذا الموت بعد أن كثرت عمليات التفجير! وهل تعني بأنه "سيعرف ما يتوجب عليه فعله" بأنها قد رتبت كل شيء مسبقاً لتسليمي للأجهزة الأمنية، عبر أطفالها الذين ادّعت بأن كل ما تريده هو التواصل معهم؟ أم تراني أنسب لحديثها معاني وتفسيرات مبالغاً فيها وغير منطقية؟
منذ ستة شهور لم أعد أعرف ما هو المنطقي وغير المنطقي. كل شيء منذ أن استشهدت هيام أصبح ممكناً ومنطقياً. فقتل الطفل الرضيع علاء في حضن جدته، برصاصة في ظهره، وهدم بيت أبو الوعر على رؤوس أبنائه وزوجته، والست اعتدال التي فجّرت نفسها بعد أن غرقت مدرستها بالدم، كما كانت تقول وهي تحاول إقناع الشباب لمنحها الحزام الناسف، هل كان كل هذا منطقياً؟ ألم تكن فكرة تفجيري لنفسي قبل عدة أشهر فكرة مستحيلة وغير منطقية؟ أنا على يقين بأن الكثيرين سيتفاجئون حين يعلمون بأنني منفذ العملية، خصوصاً جدتي التي كانت تلقّبني بـ"أبو الرايق"، من شدة هدوئي. لا شيء كان بمقدوره أن يخرجني عن طوري، أو يحرفني عن هدفي بإنهاء دراستي الجامعية.
فيما كنا قد أصبحنا في منتصف الشارع المؤدي إلى بيتها، كانت إيڤا ما زالت تواصل شرحها لي مزيداً من التفاصيل، بعد أن وضعت صرّة المفاتيح في يدي وأبرزت من بينها مفتاح الصندوق، ثم قالت بأنني سأحتاج السلّم للوصول إلى مدخل العلية وسأجده في زاوية الحمام في الطابق الثاني من البيت، وعادت ووصفت لي شكل الصندوق ولونه، إلى أن وصلنا مدخل بيتها. أخرجت من جزدان صغير مفتاحاً آخر وأدارته في قفل الباب. نظرت إليها أنتظر دخولها. تراجعَت خطوة إلى الخلف ووقفت عند العتبة، وقالت: "ستدخل وحدك، سننتظرك عند أول الشارع."
"لماذا سيدخل لوحده؟" قال الجندي لإيڤا، ولم ينتظر رداً. "لماذا سيدخل أصلاً؟ فكل ما في الأمر الصندوق في العلّية والرسالتان في داخله. لماذا لا أدخل لإحضارهما وحدي؟ أو ندخل جميعنا. لماذا تأتمنين قاتلاً على بيتك؟ وأي قاتل، إنه قاتلك، قاتلنا جميعاً."
"هدىء من روعك، أنت تصرخ في أذني، كل ما في الأمر هو أنني لا أريد أن يُسكن بيتي بالأرواح، ويحوِّل حياة أطفالي إلى جحيم، فروح الميت"، قالت إيڤا، "إذا عادت إلى بيتها، سيصعب عليها مغادرته."
أمسكتُ بمقبض الباب، وقبل أن أدفعه إلى الداخل، قلت لإيڤا: "وأرواح الأحياء التي طُردت من بيوتها.. هل ستعود؟ وأرواح مَن ماتوا تحت الردم، ألن تطارد أطفالك؟! أي مستقبل تركتِ لهم؟! تخشين ممّا قد يفعله الأموات، ولا تخشين ممّا تفعلونه بالأحياء؟!"
***
دخلت رواقاً مظلماً في آخره مصباح ضوؤه باهت، وإلى جانبه طاولة صغيرة وُضعت عليها صورة إطار لإيڤا، وعُلّق على زاوية الإطار شريط أسود. وفي الخلفية على الجدار عُلّقت صور قديمة أيقنتُ من ترتيبها الهرمي أنها شجرة إيڤا العائلية. كانت غرفة الصالون، والغرف المجاورة مثقلة بمئات الصور التي في غالبها صور قديمة بالأسود والأبيض، فبدا البيت كأنه متحف أو نصب تذكاري.
كان عليَّ صعود الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي الذي يتألف من ثلاث غرف تنتهي بحمام واسع، وأن أحضر سلّماً صغيراً من داخله، وأن أصعد العلّية عبر فتحة فوق باب الحمام مباشرة.
الصندوق مركون في الزاوية، كما وصفته لي إيڤا. سحبته إلى منتصف العلّية بالقرب من كرسي وطاولة صغيرة، أشعلت المصباح المتدلي من السقف فوق الطاولة مباشرة. ثم جلست أتأمل المكان قبل أن أفتح قفل الصندوق. كل شيء كان مرتباً ونظيفاً. مرّرت أطراف أصابعي على الطاولة، فلم تعلق بها ذرة غبار واحدة. يبدو أن هذه العجوز تعتني بالعلّية أكثر من البيت وتنظفها يومياً، فالعلّيات في العادة مغبرة، وهذا المكان لا يشبه العلّيات أو الأقبية التي صادفتها.
لم أكن في الحقيقة أتأمل المكان بقدر ما كنت أتعرف على إيڤا، وأجول في عقلها الباطني، فالعلّيات كما الأقبية هي العقول الباطنية للبيوت. فيها نخبىء مخاوفنا ونخفي هواجسنا، وفيها تُدفن أحلامنا التي ماتت قبل أوانها. في العلّيات نخفي الشيفرات السلوكية، وهذا المكان لا بد وأنه يشبه إيڤا.
تأملت الرفوف التي غطت الجدران، واكتظت بالأغراض. كان أكثرها أطعمة محفوظة، ولحوماً، وفواكه، وخضاراً، ومئات المعلّبات التي رُتّبت أسراباً كجنود في طابور عسكري. وبعضها حُمّلت بأكياس بلاستيكية محكمة الإغلاق، احتوت على ملابس وأغطية جديدة. رف آخر حُمّل بمواد تنظيف، كمية كبيرة من الصابون ومعجون الأسنان والفراشي. فيما الرف القريب من فتحة العلّية، احتوى على مصباح كهربائي، وكمية كبيرة من البطاريات، وراديو ترانزستور.
هذه المرأة، قلت لنفسي، تعاني هوس العازة الذي تعانيه جدتي. فجدتي تملأ القبو بمواد غذائية من جبنة وطحين وزيت وزيتون، ومؤن أُخرى بكميات تفوق حاجات أهل البيت بكثير، وتكفينا عاماً من الحصار. ما أكبر الشبه بين العلّيات والأقبية. لكن إذا كانت ما تخشاه إيڤا هو الحرب، وتستعد لمواجهة عازتها، فلماذا لا تخزن المواد الغذائية في قبو أو ملجأ؟ ما معنى الاحتماء من القصف في علّية سقفها من القرميد؟ أم تراها تستعد لحرب من نوع آخر، ليس أشد وأخطر ما فيها هو القصف!؟
أصبح الصندوق مشرعاً أمامي، قاومت فضولي الشديد، وأجّلت فتح الرسالتَين اللتين كتبتهما إيڤا. رفعتهما من فوق مجموعة من الملفات وألبوم صور اهترأت أطرافه، ووضعتهما جانباً على الطاولة، وواصلت تقليب باقي محتويات الصندوق. فتحت کیساً كبيراً من النايلون المقوّى، وأخرجتُ منه مجموعة من قصاصات الصحف، وبعض الصفحات التي تم الاحتفاظ بها كاملة كما هي. جُمعت القصاصات بمشبك ورُتبت بعناية، وفق تسلسل زمني. بعضها أُخذ من صحف عبرية، والبعض الآخر، قدَّرت أن تكون اللغة التي كُتبت بها، هي الألمانية.
إحدى القصاصات توسطها عنوان بالعبرية: "تتواصل الجهود للكشف عن مصير الطفلة إستر بن پورات." وهي صادرة عن صحيفة "عل همشهار" في تاريخ 1 / 6 / 1948، وأُخرى صادرة عن صحيفة "دڤار" في تاريخ 13 / 5 / 1948، وتحمل عنواناً هو: "مخاوف جدية من أن تكون إستر بن پورات قد اختُطفت من قبل متطرفين عرب."
كان نبأ اختفاء الطفلة، والتقارير الصحفية قد نُشرت في صحف مختلفة. وفي جميع الصحف، بما فيها الصحيفة الألمانية، تم نشر الصورتين اللتين كنت قد شاهدتهما معلقتين على الحائط في آخر الردهة. لفت انتباهي بأن الصحف تناولت تاريخ أسرة پورات، ومقتل الأب والأم أثناء المحرقة، أكثر ممّا تناولت قضية اختفاء الطفلة إستر.
كان فضولي ودافعي الأول لقراءة رسائل إيڤا هو الاطمئنان ألّا تكون قد كتبت شيئاً ما قد يشي بي، أو أمراً يوقعني في إشكال أمني. لكن قصة اختفاء إستر أصبحت الآن دافعي الأساسي لقراءتها لدرجة أن مقاومتي لفتحها، قبل أن أنهي تنبيش [....] ما تبقّى من أوراق، في صندوق إيڤا، قد ضعفت. أملت أن تكشف الرسائل عن تفاصيل أُخرى وأن تشبع فضولي بشأن مصيرها.
نظرت إلى الرسالتين اللتين وضعتهما على الطاولة. كانت إحداهما، والتي كُتب عليها بخط جميل "إستر"، مغلقة تماماً، فيما الرسالة التي كُتب عليها "ميخائيل.. عنات" مفتوحة. أردت أن أبدأ بالذات بقراءة الرسالة المغلقة، لكنني ترددت بفضّها خشية من ألّا أنجح بإعادة إلصاقها كما كانت فتكتشف إيڤا الأمر.
لكن لماذا تركت لهم رسالة مفتوحة وأُخرى مغلقة؟ لماذا لم تتركهما مفتوحتين أو مغلقتين؟ هل أرادت إيڤا إخفاء ما كتبته في رسالتها لإستر عن ميخائيل وعنات؟! أم تراها بالصدفة تركت إحداهما مفتوحة، رغم أنها لم تترك شيئاً للصدفة، ولا حتى بعد موتها؟
أخرجتُ الأوراق من المغلف المفتوح، تأملت خط يدها المرصوص، كانت كل مجموعة حروف متلاصقة وكأنها فرقة من الجنود مشكَّلة لكلمة، والكلمات تبعد عن بعضها البعض مسافة متساوية، وهذه المسافات المتساوية لا ينجح في الحفاظ عليها خط يد وإنما آلة طباعة. لكن إيڤا، صفّت الأحرف والكلمات، مثلما صفّت معلّباتها على الرفوف في طابور عسكري، فبدا النص بكامله مارشاً لمئات الجنود، كما في الاحتفالات الوطنية للدول، لكنها، مع ذلك، بدأت رسالتها كأي أم.
***
أبنائي الأعزاء..
أحبائي ميخائيل وعنات
ها أنتم بعد رحيلي كل ما تبقّى من عائلتنا، وحيدون تماماً كما كنا قد بقينا هناك. أنا ووالدكم وعمتكم إستر، بعد أن قتلوا جدكم وجدتكم في زمان ومكان آخر.. أوروبا بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
وقبل أن تسألوا مَن هي هذه العمة إستر، سأبدأ بسرد الحكاية مبكراً دون أن أطيل في السرد، أو أسهب في التاريخ، الذي طالما شكاه میخائیل وتذمر من حصصه المدرسية المملة.
إن ما تعتبره باقي شعوب المنطقة تاريخاً، هو جز من تاريخ أسرتكم الذي نحمل جراحه في أرواحنا، وأعباءه على أكتافنا.
لقد عمل جدكم مهندساً في مصنع للنسيج، وجدتكم مدرّسة للأدب الفرنسي. کنا أسرة سعيدة متماسكة، نعيش أوضاعاً اقتصادية أكثر من متوسطة، إلى أن صعد هتلر لسدة الحاكم، فانقلبت حياتنا إلى جحيم. لم يكن طردنا من بيوتنا، ومصادرة أملاكنا، وتجميعنا في الغيتو نهاية الجحيم، وإنما بدايته. فبعد عدة شهور أمضيناها في الغيتو، وجدنا أنفسنا مع مئات العائلات داخل عربة قطار نُنقل إلى معسكر الإبادة.
كنا نحمل شنطنا وأشياءنا القليلة التي سُمح لنا بحملها على عجل. كانت أمي تسير في مدخل المعسكر في مقدمة الطابور، وهي تمسك بيد إستر، وفي يدها الأُخرى تضم والدكم عيران إلى صدرها. كنت أسير خلفها أنا ووالدي الذي حمل حقيبة احتوت على بعض الملابس والقليل من الأدوية، فيما حملتُ بعض الغيارات، ودميتي التي كانت إحدى نساء الغيتو قد صنعت اثنتين منها: واحدة لي، والثانية منحتها لعمتكم إستر. ظلت الدمية تلازمني كأنها حجاب أو تعويذة، ربما هي التي جلبت لي الحظ، فبقيت على قيد الحياة.
أذكر تماماً ذلك اليوم حين وقفت أمي أمام ضابط الغستابو الذي صرخ بها: "عليكِ أن تختاري واحداً من الطفلين."
كانت الأخبار التي تصل الغيتو بشأن ما يجري في المعسكرات قبل نقلنا إليها مشوشة، لا تنفي ولا تؤكد تماماً بأنها معسكرات للإبادة الجماعية. ظلت أمي ترتجف دون حراك مسمّرة في مكانها. صاح الضابط مجدداً: "قلت عليكِ الاختيار بينهما أو ستخسرين كليها."
ارتعشت كف أمي الممسكة بيد إستر، وارتخت قبضتها، ثم سحبتها ببطء تاركة الكف الصغيرة تلوح يتيمة في الفراغ. عادت ومدت يدها وداعبت بأطراف أصابعها رأس الصغيرة. سارت الطفلة نحو الضابط الذي صرخ يحثّها على الإسراع. انحنت إستر مع الطريق حتى غابت عن عيوننا بين حشد الأطفال الذين جمعوا في ساحة كبيرة خلف الأسلاك الشائكة.
انهارت أمي وجثت على ركبتيها تبكي، وبالكاد تحمل الطفل بين ذراعيها. واصل الضابط نباحه، وانهال بهراوة غليظة على أبي الذي كان يحاول إعانتها على النهوض، والسير بضع خطوات لتخطي مدخل المعسكر.
سرنا نحو مبنى كان قد تجمع به المئات من الرجال والنساء والأطفال، واعتقدنا بأنها محطتنا الأخيرة التي سنمضي بها الوقت معاً. لكن الغستابو أجرى بعد بضعة أسابيع سليكتسيا [عملية اختيار] أُخرى، فعادوا وفصلوا باقي الأطفال عن الكبار.
كانت أمي تودعنا وهي تُخرج جميع ملابسنا من الشنط، وتساعدنا على ارتدائها، وتوصيني أن أحافظ على نفسي وعلى عيران، ثم بكت بعد أن قبلتنا وقالت بأنها ليست قبلة الوداع، وإنما قبلة إلى اللقاء. لكنني أدركت من لحظة أن أدارت ظهرها وسارت تاركة ملابسها في الشنط ملقاة على الأرض [معلنة] بأنه لا لقاء وأنها النهاية.
فبعد أيام قليلة، علمنا أن المبنى الذي اقتادوهم إليه يحتوي على أفران الغاز.
في نهاية الحرب، بقينا على قيد الحياة أنا وعيران وبضع عشرات من الأطفال، حيث كنا قد مررنا بكل أشكال الجحيم. وفي هذه المرحلة قلّ عدد حراس المعسكر تدريجياً، ولم يبقَ سوى عدد قليل منهم، بعد أن غادر جميع الضباط.
لم يعد في المعسكر شيء يؤكل، والحراس توقفوا عن تقديم الطعام للأسرى الذين بقوا، رغم البرد والجوع، على قيد الحياة. عيران الذي تعلّم النطق والسير حديثاً، ساءت حالته الصحية، فقررت التسلل ليلاً عبر الأسلاك الشائكة بحثاً عن طعام. سرت أكثر من ساعتين حاملة إياه على ذراعي، إلى أن وصلنا إحدى القرى المجاورة. دخلت حظيرة بيت قريب لأختبىء فيها حتى الصباح، أو علّني أجد فيها طعاماً، وكانت مفاجأتي عظيمة، فقد وجدت إستر برفقة خمسة أطفال، كانوا قد نجحوا بالهرب سوياً من المعسكر في الليلة الماضية، وتدبروا أمرهم، وحصلوا على كمية لا بأس بها من الخضروات المتعفنة، وقليل من الخبز الجاف.
كانت الكلمات الأولى التي تفوهت بها إستر في لقائنا قد نزلت عليَّ كالصاعقـ[ـة]، رغم أنني توقعت أن تقول أمراً من هذا القبيل. فقد قالت لي: "أعرف لماذا تركتني أمي في المعسكر." لكنني أردتها أن تقول ذلك بحرقة وببكاء مرّ شديد، أو بنبرة عتاب على الأقل، بل تمنيتها أن تصرخ في وجهي. لكن إستر تحدثت ببرودة أعصاب، وكأنها تتحدث عن شخص آخر. ثم واصلت حديثها، وقالت: "حسبتها ستسير خلفي، وأنكم جميعاً، بعد أن أفلتت كفي وتركتني أواصل السير، ستنضمون إليّ. لقد اختارتكِ أنت وعيران وأرسلتني للموت.. جميع الأطفال هنا يعرفون ذلك. جميعهم تم التنازل عنهم مثلي."
"لا.. لا، لم تتنازل عنك، لم ترسلك إلى الموت.. لم يكن أمامها خيار آخر، الألمان هم مَن أرادوا الموت لنا جميعاً." نطقت بهذه الكلمات دون ترتيب. فماذا كان بمقدوري أن أقول لها؟ كيف يمكن إقناع طفلة بأن موتها ضرورة لإنقاذ حياة الآخرين؟ هل يحق لأي كان أن يقرر موتك، حتى وإن كان موتك ينقذ البشرية جمعاء؟!
كنا أصغر سناً من أن نكون قادرين على مناقشة مثل هذا الموضوع، والكارثة أكبر من أن تستوعبها عقولنا كأطفال. وما جرى لإستر أصبح أعظم من أن تنساه، أو تتعايش معه. فكلما كبرت عاماً، كبرت الكارثة في داخلها عشرات الأعوام. ظلت غير قادرة على مواصلة الحياة بشكل عادي. عاشت عالمها الخاص الذي توقف هناك في طابور السليكتسيا: مَن هم للموت، ومَن هم للحياة. لم يفارقها الإحساس بأنها مخلوق فائض عن الحياة، لا أحد يريده. لقد ظلت تحلق في عوالمها الخاصة، ترى أموراً لا نراها حتى بعد أن غادرنا أوروبا على ظهر باخرة، ووصلنا ميناء حيفا.
في حيفا، ظلت إستر تقف في كل الطوابير التي تصادفها، فكلما وجدت طابوراً في طريقها، اندسّت بين جموعه حتى لو كان طابوراً للسينما، أو لتوزيع المؤن. كانت تحاول استعادة اللحظة في طابور السليكتسيا، ربما لتغير مجرى الأحداث، أو لتصلح ما دمرته [المحرقة] في روحها، أو ربما تريد استعادة اللحظة لتأخذها إلى أقصى مدى، إلى منتهاها، إلى الموت الذي كان هناك محتماً فعزّ عنها، وبقيت روحها معلقة معذبة، في المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة. لقد اندست إستر في كل الطوابير الوهمية التي صادفتها حتى تتخلص من عذابها، إلى أن صادفت طابوراً بدا لها طابور موت حقيقي.
كان العرب في ذلك الصباح، يتوافدون من كل أنحاء مدينة حيفا، ويتدفقون أفواجاً أفواجاً ليشكلوا في نهاية الشارع المؤدي إلى الميناء طابوراً ضخماً. بعضهم نجح في عبور البوابة الرئيسية للميناء، والبعض الآخر، ممّن بقوا خارجها، انحنوا في طابور آخر نحو الشمال الشرقي، ومروا أمام مدخل بيتنا الذي أطل على المشهد.
وقفت إستر في مدخل البيت تتأمل التدفق البشري الهائل من النساء والرجال والأطفال الذين حملوا شنطهم وأسمالهم القليلة وساروا بخطى سريعة، وكأن أحداً في نهاية الطريق يوزع حصصاً، فيخشون أن تنتهي بهم الطريق.
كنت أراقبها من شباك غرفتي في الطابق العلوي، هبطت بسرعة مهرولة، فقد خشيت أن تكون الذاكرة قد نالت منها فأصابتها بسوء. أيقنت مباشرة، بعد أن دخلتْ إلى البيت مسرعة تحمل دميتها في يدها، بأنها قد عادت إلى أوروبا إلى معسكر الإبادة. وقفت خلفها تماماً كما حصل هناك. انضمّت للتدفق البشري المتجه نحو الشرق. سارت بجانب امرأة ضمت إلى صدرها طفلاً. نظرت المرأة نحو إستر ومنحتها كفها وابتسمت. كان عليَّ أن ألحق بها لإعادتها، لكنني لم أفعل. أقنعت نفسي لسنوات طويلة بأنه كان مجرد طابور وهمي آخر من جملة الطوابير التي اندست بها خلال السنوات الماضية، وأنها لا بد ستعود. أو ربما آمنتُ في عقلي حينها، بأنها لن تشفى من عذابها إلّا إذا ذهبت إلى النهايات في طابور آخر يشكل لها صدمة جديدة. لكن ما فعلتُه في الواقع هو التضحية بها مرة أُخرى. كنت خائفة، وهي قربان خوفي الذي أظهر دوماً قدراً كبيراً من الشجاعة يفوق ما أملك.
لقد توغلت إستر بين الناس، وسارت نحو الشرق عميقاً. بقيتُ جالسة ما يقارب اليومين في الطابق العلوي، أراقب عبر الشباك مدخل البيت على أمل أن تعود، لكنها لم تعد. أبلغت أحد الجيران، ممّن عرفوا والدي في ألمانيا، بما حدث. غاب الرجل بضع ساعات، وعاد بصحبة شخصين من القيادة اليهودية في حيفا. طلبوا أن أعيد عليهم تفاصيل القصة كاملة، ثم أكدوا عليَّ مراراً، ألّا أروي هذه التفاصيل لأحد. ثم قال أحدهم: "نحن في حالة حرب ونشر التفاصيل قد يضرّ بالحالة المعنوية للييشوڤ.[3] إن سُئلتِ من الصحافة، اِكتفي بالقول بأن 'إستر اختفت عندما غادر العرب مدينة حيفا'."
لقد أرادوا أن أروي القصة باختصار، وأن أبقيها مفتوحة على كل الاحتمالات للتأويل. لكن، وكما كنت أعلم بأن إستر لم تختفِ بل غادرت، أدركت بأن العرب لم يغادروا، بل تم إخفاؤهم، لكنني أدركت ذلك متأخراً. وفي الواقع كنت في سن لا تؤهلني تحمُّل مثل هذه المسؤولية، والوقوف أمام حقائق أراد مني الكبار أن أتجاهلها، فأرحت ضميري وأقنعته بالحقيقة الموضوعية في روايتي. والحقيقة الموضوعية هي تزامن الحدثين معاً. لم أكذب، ولكنني لم أقل الحقيقة.
جاء العديد من رجال الشرطة والصحافة، ولجميعهم كررت القصة المختصرة والمعدّلة. لا أعرف بعد مرور كل هذه السنوات الطويلة، ما الذي يؤلمني أكثر: أنني لم أمنعها من المغادرة، أم تعاوني في إخفاء الرواية الحقيقية لمغادرتها. وأتساءل أحياناً: هل يهمّ الآن إذا كانت إستر قد اختفت عندما غادر العرب، أو غادرت عندما اختفوا؟! هل كان نشر التفاصيل بكاملها سيجعل البحث عنها أكثر نجاعة؟ هل إخفاؤنا للحقيقة جعلنا غير قادرين أن نصل إليها؟ وهل كنا بتحويل إخفائنا العرب إلى مغادرة، نعمّق اختفاءها؟
إن هذه التساؤلات ما زالت تؤرقني وتقضّ مضجعي، رغم أنه قد مر على رحيل إستر عشرات السنين التي كنا خلالها قد سمعنا قصصاً وروايات مختلفة عن مكان تواجدها. بعضهم قال لنا إنها شوهدت في لبنان في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. قدمنا المعلومات للجيش كي يتحقق من صحتها. عادوا إلينا بعد بضعة أشهر بصور فتيات يشبهنها إلى حد بعيد، لكنهن أصغر منها سناً. آخر رواية تلقيناها، منذ بضع سنوات، حيث زارنا أحد سكان مستوطنة "شفي شومرون"، والذي حسب ادعائه يحقق ويتابع قضية اختفاء إستر منذ أكثر من عقدين. وقد قال لنا بأنها عاشت وماتت بالقرب من قرية عَجَّة قضاء جنين، وأنها دُفنت هناك كيهودية. عُرفت بين السكان باليهودية صاحبة البركات، وتحوّل قبرها إلى مزار استولى عليه المواطنون الفلسطينيون، وبنوا من حوله مقاماً تؤمُّه العوانس والعاقرات والمشعوذون من المسلمين. ثم أخرج الرجل من حقيبته خارطة ومجموعة من الصور التي التُقطت للمقام ومحيطه، وطلب منا مساعدته على تخليص روحها من هذا الامتهان لذكراها عبر استعادة القبر والساحة المحيطة به للسيطرة اليهودية.
لم أتردد بطرد هذا الدجال من بيتي، فقد صادفت الكثير من الدجالين خلال العقود الماضية، ممّن امتهنوا حرفة استخدام ذكرى إستر لتحقيق مآربهم.
ها أنا أوشك أن أنهي رسالتي وقد وضعت أمامكم حكاية أسرتنا، بحقيقتها وبزيفها، بظاهرها ممّا تعرفونه، وبخافيها بما قد كشفت لكم عنه. أنتم وحدكم مَن يتحمل وزر هذا التاريخ ما دمتم على قيد الحياة. لكن عليكم أن تدركوا جيداً بأن قراءة التاريخ شيء وفهمه شيء آخر. لا أحد يختار ماضيه، لكنكم وحدكم مَن سيقرر شكل المستقبل. لقد وضعت أمامكم الماضي، ولن أطلب منكم شيئاً بشأن المستقبل، إلّا بقدر ما تقررون. لكننا، وبقدر ما نقرر مستقبلنا، لا يمكننا الهروب من ماضينا. لقد عشت هذا الماضي، ولم أجرؤ على مواجهته. كنت أخشى التوغل به، وأكثر ما خشيته هو اللقاء بإستر. فبقدر ما أردت اللقاء بها قبل موتي، بقدر ما كنت أخشى أسئلتها ومواجهة ما آلت بها الأيام. وإن كنت أجهل مصيرها، لكنني قادرة على تخيل فظاعته وقسوته.
إن تجديد البحث عنها هو قراركم وحدكم، وكل ما أطلبه منكم، إن وجدتموها على قيد الحياة، أن تسلموها رسالتي المرفقة مع هذه الرسالة. وإذا كانت قد فارقت الحياة، فإنني أريدكم دفنها في نفس المقبرة التي سأُدفن بها، فقد اشتريت لها قبراً بجانبي، بعد أن حُرمنا من العيش سوياً في بيت واحد.
***
توقفت عن القراءة، ودسست الرسائل في جيب الجاكيت الداخلية، ليس بسبب التفاصيل التي بدأت إيڤا تتطرق إليها، مثل أموالها وأملاكها وكيفية توزيعها، وإنما خشيت من أن يثير الوقت الطويل الذي استغرقني منذ دخولي، شكوكها بشأن اطلاعي على محتوى رسائلها.
قرأت سريعاً ما كتبتْه منهية به رسالتها: "ملاحظة: الدمية التي ذكرتها مثلت الكارثة والذاكرة المؤلمة، لكنها مثلت لي أيضاً الأمل والتعويذة التي حمتني طوال سنوات حياتي، احتفظوا بها حتى تتذكروا، وكي لا تنسى الأجيال القادمة."
أعدت كل شيء في العلّية إلى ما كان عليه، وأغلقت الصندوق وسحبته إلى ركنه، وأطفأت النور، ثم نزلت الدرج مهرولاً. توقفت أمام الطاولة في زاوية الردهة أتأمل الصور المعلقة على الحائط مجدداً. كنت الآن أعرف الأشخاص والأسماء، بل أعرفهم أكثر ممّا يعرفون بعضهم البعض. صورة الرجل في الأعلى وبجانبه زوجته هي صورة والدَي إيڤا. أمّا الأطفال الثلاثة الذين يجلسون أمامهم في مقدمة الصورة فهم: إيڤا وإستر وعيران. وفي الأسفل عُلّقت صورتان: واحدة بالألوان لشقيقها عيران في ملابسه العسكرية، وبجانبه طفلاه ميخائيل وعنات اللذان سأسلمهما الرسالتين عمّا قريب. أمّا الثانية، فهي صورة لإيڤا وإستر بالأسود والأبيض، وُضعت في حجر دمية صغيرة بحجم كف اليد، وهي تضم الصورة بذراعيها. قَدّرت أن تكون الدمية ذاتها التي ذكرتها إيڤا. تناولتها، ونزعت الصورة من بين ذراعيها، حتى أتمكّن من تأمّلها عن كثب. كانت العينان والأنف، التي رُسمت بقلم حبر أسود، باهتة بعد أن حل الحبر مع مرور الزمن، وسال على الوجه المصنوع من القماش الأبيض، فيما الفم بقي واضحاً في مكانه يمنح الوجه بعض ملامحه التي تآكلت. أعدتها إلى الطاولة، وحاولت إجلاسها كما كانت ممسكة بالصورة. لكنها عادت وسقطت، كررت المحاولة دون نجاح، فبدا لي الفم مفتوحاً والشفتان منفرجتان تتأهبان لقول شيء، كأنهما لم تكملا كلمة أرادتا نطقها، أو صرخة لم تنجحا بإطلاقها.
تناولتها مرة أُخرى عن الطاولة وتأملتها. تذكّرت ملاحظة إيڤا حول المحرقة والذاكرة، والأجيال القادمة حتى لا تنسى، ثم دسستها في جيبي وغادرت البيت.
كانت إيڤا والباقون ينتظرون عند أول الشارع كما اتفقنا. وما إن أطللت [حتى] هبَّت إيڤا ناهضة وسارت نحوي وهي تسأل بقلق شدید: "لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ ألا تدرك بأن العيون علينا، صورنا منتشرة في كل الصحف ومحطات التلفاز."
لم أجبها، فقد كنت مستغرقاً في تأملها، أحاول قراءتها مجدداً كأني أراها لأول مرة.
قلت لنفسي: هذه المرأة تعيش إحساس المطارد، رغم أنها لم تعد مطاردة. على الأقل ليس الآن حيث لا أحد يراها. لكنها في هذه اللحظة، وهي تحاول إنقاذ ما تبقّى من لحمها الحي، تتصرف بفزع، وكأن الغستابو يوشك كل لحظة أن ينقضّ عليها لينقلها في أول عربة قطار إلى معسكر الإبادة.
هذا الإحساس أعرفه تماماً، فقط المطارد يفهم إحساس المطارد. فحين تُعرّيك أعين المارة، تتفحص لون بشرتك وشعرك وشاربك الشرقي، تتمنى أن تصبح ريحاً لتختفي من المكان بسرعة.
قلت لإيڤا: "أفهم إحساسك، وأعرف هذا الشعور جيداً."
"أي شعور؟" قالت إيڤا، "سألتك لماذا تأخرت، لم يبقَ أحد في هذه المدينة لم يرنا."
أجبتها وأنا أتحسس جيبي لأطمئن على وجود الرسالتين: "لا داعي للقلق، لا أحد من اليهود يمكنه أن يراك."
"ومَن تحدث عن اليهود، فهي تقصد العرب، فهم اليوم بأعداد أكثر من أي وقت مضى، على الأقل أنا لأول مرة أنتبه لوجودهم بهذه الأعداد الكبيرة." قالت ڤارده محاولة توضيح سؤال إيڤا، فوجدتها فرصة لإطالة الحوار معها حتى لا تتنبه إيڤا وتسألني إن كنت قد قرأت الرسالة. لكن ما بالها تقول: "وجودهم" وليس "وجودکم"، فأنا عربي مثلهم. لماذا لا تشملني بهذا الوجود؟! ألهذا الحد تبدو ملابس التخفي متقنة؟
واصلت التخفي، وقلت: "لقد كانوا هنا دوماً، أنتم مَن اختار تجاهلهم." ردت إيڤا، وقد شرعت بالسير تاركة إياي خلفها بضع خطوات: "دعك الآن من هذه التلميحات، أرجوك أمامنا طريق لنقطعها حتى نصل المقبرة."
سرنا جميعاً خلفها نحاول اللحاق بخطواتها السريعة. وبدت في هذه اللحظة أصغر سناً من عمرها. قدماها تلتهمان الطريق وكأنها لا تسير نحو مقبرة للمشاركة بجنازتها، وإنما تخطو نحو قاعة أفراح لإحياء حفل زفافها. لكن الجندي نتن إلـ كان يؤخر سير القافلة بإصراره على السير خلفي محافظاً، كما تدرب، على مسافة آمنة مني، فدفع بالباقين نحو الخلف، وحوّل القافلة إلى رتل عسكري.
تجمّع في آخر الشارع الذي تنتهي به المقبرة، حشد على الرصيف. توقفت إيڤا والتفتت إلى الخلف طالبة منا الانتقال إلى الرصيف الآخر. سألها الجندي نتن إلـ عن السبب، فلم تجبه. کرر سؤاله بإلحاح، فصاحت به: "لماذا أنت مصرّ على إفشال تواصلي مع أطفالي!؟"
رد بغضب، وقال: "وكيف سأفشلك؟ ما علاقة ذلك بسؤالي؟"
قالت إيڤا متوددة بصوت منخفض: "أرجوك انتقل إلى الرصيف الآخر الآن، وستكتشف العلاقة لاحقاً."
كان الحشد في آخر الشارع مظاهرة تطالب بالمساواة بأعباء الخدمة العسكرية، وتدعو لتجنيد طلاب المدارس الدينية الحريديت، وأنا كنت صيداً حريدياً مهماً سيطلقون [....] كل شعاراتهم وشتائمهم في وجهه. وإيڤا أرادت إن تخفي الأمر عني، فأسكتت الجندي نتن إلـ حتى لا أخشى تجاوز المتظاهرين، وأتراجع عن مهمة تسليم الرسالتين في اللحظة الأخيرة، ونحن على بعد بضع خطوات من المقبرة.
والآن، وقد أصبحت في وسط المتظاهرين، لا مجال للتراجع. اندفع نحوي عدد منهم وهم يصيحون: "اذهب وتجنّد... اذهب للباقوم[4]... سئمنا دفع الثمن وتحمّل الأعباء وحدنا.. اذهب واخدم الدولة كما تخدمك.. كفى.. لا للطفيليين."
كان المشهد سوريالياً، فقد كنت في هذه اللحظة الآخر - اليهودي في نظرهم، وكادت ترتسم على وجهي ابتسامة، حين خطر في بالي الرد عليهم واستفزازهم. بل لولا أن الموقف أصبح جدياً وخطيراً لانفجرت ضحكاً على نفسي، فقد اعتقدت بأن اختياري التخفي بملابس طالب المدرسة الدينية، هو الضمانة لي للاندماج أفضل في المشهد الإسرائيلي، دون شدّ الأنظار، وإثارة الشكّ من حولي. وها أنا أكتشف، منذ صعودي الباص وحتى هذه اللحظة، بأنني تخفيت في ملابس شدت كل الأنظار من حولي تماماً كما لو كنت قد اعتمرت حطة وعقالاً.
كاد تنميطي للإسرائيلي أن يقتلني، لكن إيڤا أمسكت بيدي، وشدتني لتخلصني من بين المتظاهرين للوصول إلى بوابة المقبرة، وهي تقول: "لم تكن موفقاً حتى باختيار الملابس الملائمة. ألا تعلم بأن هذه الملابس، كانت وما زالت، تجذب إليها كل العنصريين في أوروبا؟"
قلت لها: "إذاً، فهؤلاء مجموعة من العنصريين."
"لا.. لا" قالت إيڤا، "هؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا من العنصريين، فهم يهود مثلك، أقصد مثل الحريدي الذي قدمته لهم على أنك هو."
قلت: "لكنهم شتموني بصفتي حريدي."
"نعم" قالت إيڤا، "فهم يتظاهرون ضد ما تمثله هذه الملابس من إدارة ظهر للدولة والعيش على حسابها، فيما هي تحميهم وتدفع بحياة خيرة أبنائها للدفاع عنهم." ثم توقفت عن السير والتفتت نحوي، وكأنها تذكرت أمراً مهماً، وقالت: "أنت قاتل ووقح. مَن منحك الحق أن تناقش معي مثل هذا الموضوع. أنت آخر مَن ينعت الآخرين بالعنصريين، وهو يقتلهم لا لشيء إلّا لأنهم یهود."
كان نتن إلـ يتابع نقاشنا، ويأمل أن يتطور في اللحظة الأخيرة إلى خلاف حاد، لدرجة يقنع بها إيڤا [....] العدول عن فكرة التواصل مع الأحياء من أقاربها، لكني اخترت تجاهل ملاحظتها الأخيرة، وواصلت حديثي: "ما الفرق بين الموقف العنصري منهم هناك، والموقف العنصري منهم هنا؟ هناك كما هنا أرادوا العيش على طريقتهم، ووفقاً لمعتقداتهم الدينية وثقافتهم الخاصة، وكلا الموقفين، هنا وهناك، كلاهما موقف عنصري." أبطأت إيڤا من خطواتها واستغرقت في التفكير. أحسست للحظة بأنها اقتنعت بجملتي الأخيرة. لكن عبثاً، كان إحساسي متسرعاً، فقد عادت لتقول لي: "هنا يتظاهرون ضد مهجرية الحريدي، وهناك قُتل لأنه يهودي."
كنت أناقشها، وفي ذهني الصورة التي كونتها حولها، من خلال ما قرأت في رسالتها لعنات وميخائيل. حاولت أن أستخلص معها درساً من دروس التاريخ التي دعتهم أن لا يكتفوا بقراءته وإنما فهمه. أردت أن أقول لها بأن العنصرية لا تبدأ بالقتل، وإنما تنتهي به، ولا تصبح نظرية وأيديولوجيا كبيرة وشاملة، إلّا بعد أن تكون كلمات صغيرة وسلوكيات أفراد متناثرة تمثل الشرّ اليومي الاعتيادي الذي نتسامح معه، حتى يغدو بُنية تحتية للشر المنظّم القانوني. وشرُّ دولتكم يبدأ هناك في التفاصيل الصغيرة لحياتنا، في نظراتكم ونحن نسافر للعمل في ورشكم، في اختيار أحدنا ونحن ننتظر تحت الجسر عند مفترق الطريق مقاولاً يشتري صحتنا وكرامتنا، فيتفحّصنا وكأننا عبيد في سوق نخاسة.
وإذا كنتُ عنصرياً، فهذا لأنني أشبهكم، نحن مرايا لبعضنا البعض، وأنت تخشين ما ترينه في مرآتي وأذكّرك به. وإن لم تدركي بأن أمثالي قد أصبحوا يهود التاريخ، فأنتِ لم تفهمي التاريخ الذي تدعين أطفالك إلى فهمه، وستواصلين اختيار دور الجلاد، وسترين بي القاتل وليس القتيل.
دخلنا المقبرة وجمع المشيّعين يتأهب للمغادرة، [و]بكت إيڤا وانتحبت بمرارة، وقالت: "أخّرتنا عن حضور مراسم الدفن، وكأنه لم يكن يكفيك قتلنا".. ساوت بين موتها وعدم حضورها المراسم. كانت إيڤا حريصة على الذاكرة. أرادت أن تتيقن بنفسها ممّن سيتذكرونها، فكل ما تملكه في حياتها هو الذاكرة. حتى بيتها الذي حولته لنصب تذكاري، وملأت جدرانه بصور مَن ماتوا، وقصاصات صحف تحكي حكاية موتهم، لم يعد بيتاً للحياة، وإنما ذاكرة للموت. بل إن الذاكرة هي مَن دفعت بها حد الاستعانة بقاتلها لينقل رسالتيها إلى أطفالها حتى لا ينسوا.
تأملَت الحضور الذي بدا لها أكثر عدداً ممّا توقعت مشاركته في جنازة عجوز بمثل عمرها. مسحت دموعها واقتربت تلامس كتف رجل يقارب سنها. أجهشت بالبكاء مجدداً، ووقفت أمامه بعض الوقت أكثر من سواه من المشيعين. تخيلته الرجل الذي أحبت، وقد ضحت بحبها له مكرسة حياتها لتربية شقيقها عيران وأطفاله بعد وفاته. واصلت تأمل وجوه المشيعين المارين أمامها، وهم يسيرون نحو البوابة التي دخلنا منها. سارت مجموعة من الرجال والنساء، يتقدمهم الطفلان ميخائيل وعنات. دنت إيڤا من الطفلين اللذين نظرا من حولهما بعيون سوداء واسعة، وخدود متوردة، أضفت على هدوئهما التام جمالاً وعافية. مدت كفها تحاول ملامستهما، لكنها كانت سراباً، ونظرت نحوي، وقالت بعيونها: "[هذان] هما الطفلان.. تقدّم وأَنْهِ المهمة اللعينة وانصرف."
كنت حتى هذه اللحظة قد قررت أن أجد طريقة ما للتملص من تسليمهما الرسالتين. فما قرأته في رسالتها الموجهة للطفلين، جعلني أتخيل نفسي أسلّمهما وثيقة تثبت ملكية يهودية للمقام القريب من قرية عَجَّة، الأمر الذي يعني بالنسبة لي، نقطة استيطانية جديدة، وإسهاماً في استيلاء المستوطنين على المزيد من الأرض. فإذا كانت إستر قد غادرت حيفا فعلاً عام 1948 باتجاه جنين، فإن تسليمهما الرسالتين، وإن كان يحمل موقفاً أخلاقياً من مأساة أسرة قد يساعدها على الكشف عن مصير ابنتها المفقودة، إلّا إنه سيصبح لهذه الأسرة الحقّ في أراضي القرية، ولن يفيد أهل القرية إذا كانت إستر ليست مدفونة هناك، أو أنها ما زالت على قيد [الحياة]، ولم تمت أصلاً. فالمستوطنون دوماً سيجدون لها قبراً. والمقام القريب من عجَّة أعرفه تماماً، فهو يقع في المنطقة الفاصلة بين القرية وأراضيها الزراعية. سيستولون عليها تحت حراسة الجيش. وصناعة القبور أصبحت صناعة مزدهرة، وثروة المستوطنين الوطنية. من قبر رحاب الزانية، إلى قبر راحيل، وقبر يوسف، ومن قبلها قبر سيدنا إبراهيم الخليل. وأنا قررت أن لا أزيد ثروتهم هذه قبراً إضافياً، ولن أسلمهما الرسالتين.
***
ألم أكن أصنع لهم بهؤلاء القتلى الذين تسببتُ بموتهم مزيداً من المقامات!؟
هل كنت أضيف لثروتهم خمسة قبور أُخرى!؟
لكنهم قتلوا منا الكثير.
هل تراهم كانوا يصنعون لنا ثروتنا!؟
ما الذي يثبّتنا على هذه الأرض؟
الأموات أم الاحياء؟
أليس الحي أبقى من الميت؟
والشهداء؟ أليسوا هم الخالدين؟
***
تقدمت نحو الطفلين، حاولت أن أبدو كسائر المعزين، وأن أتصرف بشكل طبيعي. صافحت الرجل الواقف قريباً منهما، لمحت بطرف عيني إيڤا تراقبني بانتباه شدید، وتتابع کل خطوة أخطوها. كان من الضروري بذل الجهد لطمأنتها، حتى أتمكن من تنفيذ خطتي. أدخلت كفي إلى جيب الجاكيت الداخلي، تحسست الرسالتين، وسحبت إحداهما بعد أن تأكدت أنها رسالة إستر المغلقة. سرت خطوة أُخرى، حتى أصبحت أقف بين الطفلين، وإيڤا التي أوهمتها أنني أحمل الرسالتين في كفي، انحنيت لأصافحهما مانحاً لها ظهري. قلت لهما: "جئت أعزيكما بعمتكما، وقد تركت بحوزتي رسالتين طلبت أن أسلّمهما لكما في حال حصل لها أي مكروه"... حاولت ألّا أكثر في الحديث معهما، وأن أغطي بجسدي ما تحمله كفي اليسرى. مددت الرسالة نحو ميخائيل الذي ظل مبحلقاً دون أن يتناولها. قدرت أنه لم يدرك ما قلته له من شدة الحزن فکررت كلماتي، ودفعت بالرسالة سريعاً في جيب جاكيتته. ربتّ على كتفه، وسرت نحو مدخل المقبرة بخطوات سريعة وحازمة. هرولت إيڤا خلفي، وهي تقول لي: "انتظر قليلاً، فأنا أريدك أن تقول لهما بضع كلمات أُخرى." رفضت طلبها بشدة، وذكَّرتها باتفاقنا الذي لا يشمل هذه الإضافة، وبررت لها ذلك بخشيتي من أن يتنبه أحدهم للكنتي. لكنني كنت في الحقيقة أخشى أن تكتشف أنني قد سلمتهما رسالة واحدة فقط.
* نُشر هذا النص بإذن خاص من عائلة الأسير وليد دقة، وجميع الحقوق بما فيها الترجمة محفوظة ومحصورة بالعائلة. وقد حرره وطابق مخطوطتَيه، العربية والعبرية، عبد الرحيم الشيخ.
المصادر:
[1] إيڤا بن پورات.. ابنة السبعين: يشيّع جثمانها اليوم الساعة الخامسة في مقبرة رمات چان؛ ڤارده محپود.. ابنة الواحدة والثلاثين: يشيّع جثمانها اليوم الساعة السادسة في مقبرة إليخين؛ شئول إلفاسي.. ابن الثانية والأربعين: يشيّع جثمانه غداً الساعة العاشرة في مقبرة رحوڤوت؛ كاتيا بتروڤسكي.. ابنة الخامسة والعشرين: لم يتم تحديد مكان وموعد الجنازة؛ الرقيب الأول نتن إل بن حوريڤ.. ابن العشرين: يشيّع جثمانه غداً الساعة الحادية عشرة في المقبرة العسكرية في أشكلون. (المحرر)
[2] المقصود هنا "الحاخامية الكبرى لإسرائيل"، أو "هربنوت هراشيت لإسرائيل". (المحرر)
[3] مصطلح "ييشوڤ" يشير إلى وجود اليهود الاستيطاني في فلسطين 1882 – 1948. (المحرر)
[4] "باقوم-בקו״ם" هي اختصار عسكري لمسمّى "בסיס קליטה ומיון" وتعني "قاعدة الاستقبال والفرز" وتقع في "تل هاشومير" بالقرب من مطار اللد، وهي المحطة الأولى لتجنيد مَن يبلغون سن الثامنة عشرة، أو إرسال رافضي الخدمة إلى السجن. (المحرر)