لقد علمني وليد بصبره وقوته كيف تكون القدرة على اجتراح أجمل الروابط، وكيف أحافظ على أقدسها، وكيف أتنفس على الرغم من الهواء الفاسد في عصر التلوث الوطني والأخلاقي، وأن أبقى في قيد الحياة الأخلاقية، وفي قيد حياة ذات معنى وقيمة بعد أن أصبحت قيمة الإنسان كقيمة كأس أحادية الاستعمال... وعلى الرغم من كل ما تعلمته منه، كان يقول أنه تعلم مني أن الحب قيمة كالحرية، ووصفني في "رسالة رفيق" بأنني "أل" التعريف في حياته.
لم تكن حياتنا سهلة يا وليد، وما زالت حياة ليست ككل حياة. كل شيء انتزعناه من هذه الدنيا انتزاعاً، فأصبح لكل شيء معنى خاص، ولكل فترة مررنا بها حكاية تُروى، نرويها لأنفسنا وللناس، ودرّة هذه الحكايات هي ميلاد. ومع أننا، ميلاد وأنا، سنكمل هذه الحياة غير السهلة وحدنا مع طيفك، إلّا إنك ستبقى معلمنا الأول، وسنتبع خطاك وأحلامك. سنبقى نحلم، فالحلم شيء جميل، وهو يضاعف قوتنا في مواجهة متاعب الحياة وتفصيلاتها، غير أن الناس، في معظمهم، يخشونه؛ يخشون الحلم لأنهم يقابلونه بالكابوس، لكنني أنا وميلاد سنبقى نحلم، ولن نخشى الحلم، ذلك بأن أكثر ما يمكن أن نخسره هو العودة إلى الواقع، وأن نكون يقظين.
أذكر زيارتي الأولى لوليد كما لو أنها زيارة مكمّلة لزياراتي لوالدي الذي كان معتقلاً في السبعينيات لفترات قصيرة (اعتدنا على أن الأعوام العشرة وما فوق هي فترات قصيرة مقارنة بالعقود الطويلة التي بات أسرانا يمضونها في السجون الإسرائيلية)، فالأسرى الذين هم رموز الحركة الأسيرة، والذين أمضوا فترات طويلة في الأسر، مثل الشهيد عمر القاسم، تعرفت إليهم من خلال والدي، ولم أكن أعلم أنني سأرتبط بأسير ستتقاطع حياته وتتشابه على نحو كبير مع حياة الشهيد عمر القاسم.
وليد الشهيد الآن، والشاهد في الوقت نفسه، أذكر أخلاقه العالية وأدبه الجمّ في تلك الزيارة الأولى التي بادرتُ إليها كي تتسنّى لي الكتابة عن أخبار الأسرى منهم مباشرة. وأذكر أنني سألته من باب المجاملة: ما الذي يمكنني أن أقدمه لكم يا وليد؟ هل من شيء أقدمه لكم؟ فأجاب بسرعة: نعم. نعم. لو سمحت أحضري لي كتاب "العقلية العسكرية الإسرائيلية". ومنذ ذلك اليوم باتت الكتب مطلب وليد الأساسي، ففي بداية كل زيارة كان يسألني: "جِبتي كتب؟" وهذا السؤال تحول بعد ولادة ميلاد إلى سؤال: "جِبتي صور؟"
كانت زيارتي للسجن عبارة عن طقوس كاملة، فكل زيارة لها ما قبلها وما بعدها، كما أن شحنات الطاقة والأمل والعمل التي كان يمدني بها هذا الإنسان، كانت شيئاً غير عادي. وكنا نقسم الزيارة إلى قسمين: زيارة عمل، وزيارة أمل. وكانت زيارة العمل تتضمن كثيراً وكثيراً من التعليمات والمجهود والنشاطات الداعمة لقضايا الأسرى داخل السجن. وأنا لا أذكر أن وليد تحدث يوماً عن نفسه ووضعه داخل السجن، بل كان همّه الأول والدائم هو الأسرى، والحركة الأسيرة، والهم السياسي والوطني العام، وحتى محيطنا العربي الأوسع. وأذكر أنه قال لي في إبان الثورة المصرية، عندما زرته في سجن "جلبوع"، وكان قد مضى على اعتقاله 25 عاماً: "إذا كان المطلوب أن أُمضي في السجن 25 عاماً إضافية كي تنتصر الثورة المصرية فأنا مستعد." أمّا زيارة الأمل بتحرر وليد أخيراً، فلم تنتهِ حتى هذه اللحظة.
منذئذ، مضت الأيام، والأسابيع، والأشهر، والسنين... وبنينا كثيراً من الذكريات التي لا يتسع لها المقام هنا، ومع ذلك ظل وليد صامداً، يناضل داخل الأسر وخارجه، ويساهم في طرح الأسئلة الصعبة والحلول الأصعب للحركة الوطنية الفلسطينية في فلسطين كلها. وقد واصل الكتابة، وصناعة الأمل، والرغبة في الحرية والتحرر.
غير أن وليد خذلته حركته الوطنية ونسيته، ولا أزال أذكر الصرخة القاسية التي وجهتُها إلى أبناء منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية والعربية وأنصار فلسطين في العالم، في كلمتي في رام الله في 8 أيار / مايو 2023 (في الذكرى 21 لأسر القائد الوطني مروان البروغوثي)، وأكررها هنا مطالبة بتحرير جثمان وليد الشريف ليُدفن في تراب فلسطين الشريفة، ولا يبقى في ثلاجات الاحتلال الظالمة. هل قُدِّر للأسير أن يخوض معركة الحرية وحده؟ وهل على أهله أن يخوضوا معركة تحريره أو تحرير جثمانه وحدهم، نيابة عن الحركة الوطنية؟ كيف يمكن تفسير بقاء أسير في الأسر أربعة عقود، إلّا بالخذلان؟ أيهما أقسى: صمت الخاذل؟ أم صرخة المخذول؟
وقفتُ حينها أمام القيادات الفلسطينية في رام الله وصرخت، ولا زلت أصرخ بكلام وليد الذي لم يكتبه ولن يكتبه بعد الآن، بعد أن أنهكه المرض، وأعياه الخذلان، ونالت منه لعنة الانتظار الطويل... حتى الشهادة. كانت كلماتي واضحة وضوح مظلومية وليد وأسرى الحركة الوطنية الفلسطينية، وضوح القيد ووضوح الحرية، وضوح الشهادة ووضوح الشهيد.
بعد ثلاثة أعوام من انضمام وليد إلى النضال في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جرى اعتقاله في 25 آذار / مارس 1986، وحكمت عليه المحكمة العسكرية في مدينة اللد المحتلة في آذار / مارس 1987 بالسجن المؤبد. وفي سنة 1998، انتمى وليد ومجموعة من رفاق دربه، من أبناء القدس وفلسطين 1948، إلى حزب التجمع الوطني الديمقراطي بشكل رسمي (وكانوا ناشطين فيه قبل ذلك)، وهم الذين نسيتهم حركتهم الوطنية في غياهب السجون، ومع ذلك واصلوا نضالهم في صفوفها. وقد تم تحديد أعوام حكم المؤبد في سنة 2012 بـ 37 عاماً، أي أن تاريخ تحرره كان يُفترض أن يكون في 24 آذار / مارس 2023. لكن في 28 أيار / مايو 2018، أصدرت المحكمة العسكرية في بئر السبع حكماً جائراً في حقّه عبر زيادة عامَين إضافيَّين على محكوميته بادعاء ضلوعه في قضية إدخال هواتف نقالة من أجل تسهيل تواصل الأسرى مع عائلاتهم. وبناء على ذلك، صار تاريخ تحرره الجديد هو 24 آذار / مارس 2025. وجرّاء ضعف احتمالات إلغاء القانون الصهيوني الذي لا يتيح الإفراج المبكّر عن وليد لغرض العلاج (إلّا بعفو من رئيس الدولة)، فإن العائلة شرعت تتخذ خطوات في مسار قانوني لإبطال الحكم الإضافي الجائر بالعامَين الإضافيَّين، وطلب تخفيض الثلث من هذه المحكومية الإضافية.
في الفصل الأخير من مرض وليد، وقد ضاقت الجدران بعد تردّي الحركة الوطنية الفلسطينية، وجدت العائلة نفسها وحيدة أو تكاد، فأطلقت "حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقة" في 28 آذار / مارس 2023، والتي انضم إليها آلاف الداعمين والمناصرين والمتضامنين من أبناء شعبنا الفلسطيني، وأمتنا العربية، وأنصار العدالة والحرية في العالم. وكان لحملتنا هدف واحد هو: "الإطلاق الفوري لسراح الأسير وليد دقة كي يتمكن من تلقّي العلاج من دون قيد." لكن حال دون تحقيقنا هذا الهدف ظلم آلة القضاء العنصري الصهيوني، والملاحقة الميدانية لوقفات المناصرة على الأرض، ومحاربة محتوى صفحات الحملة في وسائل التواصل الاجتماعي، وسلاح الشائعات التي بذلنا جهداً هائلاً لنفيها. آنذاك انتفض الأسير القائد زكريا الزبيدي في عزله الانفرادي وقدّم طلباً مستعجلاً للتبرع بالنخاع لأخيه وليد دقة، ليكون رفيق دربه حتى النخاع. أمّا الآخرون، فتراجعوا... وللأسف لم تنجح جميع تلك المحاولات... إلى أن أُعلن استشهاد وليد بشكل صاعق، وغير رسمي، في 7 نيسان / أبريل 2024، فتحولت حملتنا من حملة لإطلاق سراحه إلى حملة لتحرير جثمانه.
لم يكن وليد دقة يوماً إلّا وحدوياً، ولم يكن يوماً إلّا ناقداً صارماً للغلط سواء في إطاره التنظيمي أو في إطار منظمة التحرير الفلسطينية أو الحركة الوطنية الفلسطينية بأسرها. أمّا نحن اليوم، فلن نعلّي صوتنا على صوت وليد، لكن من حقنا، وقد استُثني وليد من دفعات الإفراج وصفقات تبادل الأسرى أربع مرات خلال سنوات: 1994، 2008، 2011، 2014... من حقنا أن نسأل كل فرد وقائد في حركته الوطنية: ماذا فعلت وستفعل لوليد دقة المحتجز جثمانه مع إخوته ورفاقه؟ وماذا فعلت وستفعل للأسرى المرضى وجميع الأسرى، وهم في قبضة العدو؟ وكيف ستواجه طيف وليد الذي لم تعمل على تحريره حياً؟
كتب وليد كثيراً عن المقاومة في جنين، وعن مقاومة صهر الوعي، وعن مقاومة فعل الزمن العادي والزمن الموازي في جسد الأسرى... حتى إنه في ثلاثيته للأطفال كتب عن الأسرى واللاجئين والشهداء، لكنه لم يشأ أن يكتب عن الموت، فكتب مسرحية عن الأسرى الشهداء، عنوانها: "الشهداء يعودون إلى رام الله". وقد طالَبْنا في مناسبات كثيرة ألّا يُترك وليد وحيداً، وألّا تتحق نبوءته بالعودة شهيداً ليكتب على حيطان وزارات السلطة ومقارّها ما كتبه شهداء المسرحية في ثلاجات العدو حين عادت أطيافهم إلى رام الله: "حرروا الأسرى الشهداء، حرروا الشهداء الأسرى."
افتتح وليد دقة في 25 آذار / مارس 1986 جامعة لا تشبهها أي جامعة في العالم، وتتوزع فروعها اليوم على 28 موقعاً في شمال فلسطين المحتلة ووسطها وجنوبها، وهي: 19 سجناً، و4 مراكز تحقيق، و3 مراكز توقيف، ومحكمتان عسكريتان... وهذه السجون تغطي كامل فلسطين التاريخية (27,027 كم)، من دون نقاط تفتيش تعبرها، فكأنك تملك البلد كله، ولا أحد يستطيع إيقافك.
لم يستطع شيء إيقاف وليد، ولا حتى الاستشهاد الذي أُعلن بشكل غير رسمي في 7 نيسان / أبريل 2024، فهو ظل على العهد؛ ومثلما قال لي ولأحد رفاقه في مكالمة مسجلة قبل اندلاع حرب الإبادة على غزة وفلسطين: "لن أسمح لهم بكتابة الشطر الأخير." وها هو يواصل فعله النضالي والكفاحي حتى بعد غيابه الجسدي بثلاثة نصوص: رواية، ومسرحية، ودراسة فكرية، في هذا الملف الخاص من "مجلة الدراسات الفلسطينية" التي كان عضواً في مجلس تحريرها. وسنواصل مع مَن حملوا مقولة وليد عملَنا على حمايتها، وتظهيرها، وترجمتها ضمن برنامج دقيق يشمل جميع إنتاجاته التي سنشتغل عليها مثلما أراد وليد، ومثلما يليق به وبفلسطين. فوليد ما زالت روحه تقاتل، وطيفه حاضر وإن كان جسده لا يزال رهن الاحتجاز الظالم وغير القانوني وغير الإنساني. وليد دقة لا يزال يقاتل دفاعاً عنا: عن قضية شعبه، وقضية الأسرى، وقضية الحرية والتحرير.