الجغرافيا السابعة: الاستشهاديون، والشهداء، والكابو، في برزخ وليد دقة
النص الكامل: 

... إلى وليد وميلاد وسناء 

في مساء 7 نيسان / أبريل 2024، وبعد ستة أشهر على بدء الإبادة في غزة والحرب المفتوحة على عموم فلسطين، أعلنت وسائل الإعلام الصهيونية، ومن دون إشعار رسمي للعائلة، استشهاد الأسير وليد دقّة في مستشفى "أساف هاروفيه" في مدينة الرملة المحتلة بعد 38 عاماً و14 يوماً على أسره في 25 آذار / مارس 1986، مع أن محكوميته الفعلية كانت قد انتهت منذ 24 آذار / مارس 2023. وبينما تواصل سلطات الاحتلال الصهيوني، ومن دون سند قانوني أو دستوري أو صلاحية، انتهاكها للحقّ في الكرامة للأسير دقّة وعائلته، عبر الاستمرار في احتجاز جثمانه إلى أجل غير مسمى، يواصل الأهل ومعهم المؤسسات القانونية النضال لتحريره وإعادته إلى مسقط رأسه باقة (الغربية) في المثلث الفلسطيني المحتل حيث ولد في 18 تموز / يوليو 1961. ونواصل تظهير كتاباته المتأخرة وغير المنشورة تباعاً، مساهمة في إدامة فاعليته وقد مضى من عالم الوجود إلى عالم الخلود، وإصراراً على حراسة مقولته من الخلخلة.

 

المناضلة سناء سلامة تحمل صورة الأسير وليد دقّة وابنتهما ميلاد، مسيرة العودة - هوشة والكساير، حيفا المحتلة، 15 أيار / مايو 2024

 

مع اندلاع حرب الإبادة على غزة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، انقطع الاتصال المباشر مع دقّة وبقية الأسرى باستثناء بضع زيارات من محامية العائلة الأستاذة نادية دقّة، ولحظات تواصل مسروقة خلال وجوده في المستشفى. لكننا كنا قد ناقشنا قبل ذلك نشر ثلاثة نصوص، هي: "صمت القبور"؛ "[حكاية سرّ الطيف]: الشهداء يعودن إلى رام الله"؛ "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء". وكان دقّة يرغب في أن ينشر هذه النصوص بعد تحرره من السجن في 24 آذار / مارس 2025، لعدة اعتبارات سنلقي الضوء على بعضها، إذ لكل منها حكاية سنؤطرها سياقياً ونسابياً، مع أنها بالتأكيد ستبقى ناقصة بسبب غياب استدراكات دقّة الدليلية لقراءة هذه النصوص في زمن الإبادة الذي أربك المفاهيم وأجهزة إنتاجها. ولو لم يكن ما كان، لكنت رغبت في أن أناقش مع دقّة، استئناساً بهذه النصوص الثلاثة، مسار تحولات الصهيونية ودولة مستوطنيها "إسرائيل"، فكرةً وحركة ومشروعاً، من "غرفة الغاز" إلى "ثلاجة الحداثة"، لا بمنطق محمود درويش في "تقاطع مصائر الناجين والضحايا"، بل بمنطق تحول "إسرائيل" نفسها من مقولة ضحوية اليهود المطلقة في "غرفة الغاز" إلى محض "ثلاجة لمشروع الحداثة" الاستعماري، حقيقة لا مجازاً.

تكتسب النصوص الثلاثة المنشورة في هذا الملف فرادة خاصة، على مستويات زمن الكتابة، وموضوعاتها، ومفارقاتها. ولعل أكثر تلك المفارقات التراجيدية فداحة انتقال دقّة إلى عالم آخر، من أسير في زنزانة إلى أسير في ثلاجة اشتغل على مفهمتهما وما وراءهما مطولاً في نصوصه الثلاثة، بينما تحلق روحه في برزخ "الجغرافيا السابعة" التي يقطنها الفلسطينيون الذين لم تتح لهم السكنى في الجغرافيات الفلسطينية الست الأُخرى (القدس؛ الضفة الغربية؛ قطاع غزة؛ فلسطين 1948؛ الشتات؛ السجون). فبعد أن تمرد على قوانين "ملهى الإغراء والإغواء" بإرادته الفذة ووعيه العصيّ على الصهر، تحوَّل دقّة من "أسير مطارَد" من طرف الكابو ومجرمي سلطة السجون الصهيونية إلى "طيف مطارِد" لهم، ومساجِل لأرواح كثيرة بعد أن حل ضيفاً على "العام صفر" في برزخ خاص بين الحياة والموت تقف على سواحله الجليدية صنافيات "الزمن الموازي" و"الزمن الاجتماعي".

منهجياً، سنقدم للنصوص التالية من ثلاثة جوانب: خلاصتها، ووصف مخطوطاتها، وتأطيرها سياقياً ونسابياً من حيث موقعها في نتاجات دقّة الفنية والإبداعية والنظرية المعروف منها، والذي لا يزال في عهدة أرشيف وليد دقّة الموازي، الذي جمعناه على مدار 20 عاماً، وهو "الصندوق الأسود" لتاريخ المعاناة في سجون العدو، و"الصندوق الأبيض" لتاريخ صمود دقّة ورفاقه في الحركة الفلسطينية الأسيرة. أمّا من حيث النوع والثيمة الأساسية، فالنص الأول "صمت القبور" هو نص روائي يتناول الاستشهاديين، والنص الثاني "[حكاية سرّ الطيف]: الشهداء يعودون إلى رام الله" هو نص مسرحي يتناول الشهداء، والنص الثالث "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء" هو نص نظري يتناول الكابو. وقد تم ترتيب النصوص كرونولوجياً بحسب تاريخ كتابتها 2003 - 2023، مع أن التفكير في النصوص ثيماتياً كان من شأنه أن يجعل الترتيب معكوساً، بحيث يكون دقّة شاهداً على "ما بعد صهر الوعي: ملهى الأغراء والإغواء"، واستشهادياً في "صمت القبور"، وشهيداً مع "الشهداء يعودون إلى رام الله".

وقد اقتضت المسؤولية الأخلاقية المركبة في تحرير هذه النصوص التي تضيء ثلاثة من عوالم دقّة، بأكثر من معنى للتحرير، إجراء قراءة طباقية لعدد كبير من كتابات دقّة النظرية ونصوصه الإبداعية وأعماله الفنية ووثائق أرشيفه، والعودة إلى مئات التسجيلات الصوتية للعثور على "علامة" هنا وأُخرى هناك على الطريق. ولم تكن هذه العملية إنقاذاً للنصوص، بقدر ما كانت تعلقاً فيها للنجاة من الواقع الذي كُتبت من أجل تغييره. فالإنقاذ مقولة أخلاقية وسياسية ومعرفية لا تخلو من الادعاء، لكن من المفيد دائماً أن نتذكر اللوحة التحذيرية على حوافي البحر الهائج، والتي تفيد بأن "السباحة هي مسؤولية مَن ينزل إلى الماء." وعلى الرغم ممّا في هذه المقولة من إعفاء المنقذ وسلطة الشواطىء من المسؤولية، وإلقائها على عاتق السابح الذي قد تقوده رعونته إلى حتفه وتلويث البحر، فإن فيها، كذلك، كثيراً من المسؤولية في صدقية التبليغ عن ثمن المغامرة المحتمل. ولعل هذا المجاز ينطبق على نصوص دقّة الذي لم يعد بيننا عياناً. لقد غادر المنقذ الوحيد، ولن يعود إلّا لمقتضيات النشيد كلّي القدرة على إرباك معنى الغياب، والسخرية من الحاضرين الذين امتهنوا الإفتاء. فكل ما يمكن أن نتعلمه منه تعلمناه، وهو مهارة الحركة فقط، وسنقضي وقتاً طويلاً في قراءة نص الحضور ونص الغياب، وقد يسعف الدمع في تذوّق معنى البحر. نقرأ الحضور والغياب دفعة واحدة، ونفهمهما على دفعات. أمّا الوفاء، فهو تدريبنا الثقيل على سدانة صورة الغياب وصوت الغائب الذي مضى بالحقيقة، ونثر لنا معالمها على الطريق. 

I الاستشهاديون: صمت القبور (2003 - 2004)

"صمت القبور" هو نص روائي قصير يصوّر سجالاً محموماً بين روح استشهادي فلسطيني كان طالباً في جامعة بيرزيت، وأقدم على تنفيذ عمليته متخفياً في زي متدين يهودي، وذلك بعد استشهاد رفيقته هيام على حاجز حوّارة عند مدخل نابلس الجنوبي، وبين أرواح خمسة مستوطنين يهود قُتلوا في العملية. ويكتشف الاستشهادي فور الانفجار أن الأحياء من اليهود لا يرون إلّا الأموات العرب وأن الأحياء من العرب لا يرون إلّا الأموات اليهود. يتواصل النقاش الحاد بين الأرواح بعد أن تطلب إحدى القتيلات من الاستشهادي أن يوصل رسالتين إلى أبناء أخيها، بينما يشترط هو أن يبلّغوا رسالة إلى عائلته. وفي هذا الزمن الصفري الذي اختلفت فيه علاقات القوة بين الأرواح عمّا كانت عليه بين الأجساد قبل الموت في الصراع بين هويتين، أصلانية واستعمارية، يستثمر طيف الاستشهادي معرفته بالتاريخ والجغرافيا لمحاولة أشكلة "تقاطع المصائر" بين الناجين من المحرقة وضحايا النكبة،[1] وسياسات الحياة والموت والاقتصاد السياسي للقبور في فلسطين المحتلة، وتناقضات المجتمع الاستعماري الصهيوني الهجين في طبقاته العرقية والدينية والعلمانية واللغوية. وهنا تُظهر روح الاستشهادي تفوقاً أخلاقياً لافتاً لمقولة المقاومة التي يتمثّلها الأصلاني الفلسطيني على مقولة الإرهاب التي يتمثّلها الاستعماري الصهيوني عبر إحداث صدع في مفاهيم الزمان والمكان والإنسان. وخلال مرافعتها الأخلاقية، تتقن الروح الانتقال الرهيف بين عالم الحياة وعالم الموت اللذين يتساقيان فيما يشبه لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد هندس استراتيجيا النصر فيها استشهادي نجا من لعنة الامتثال بعبوره الساخر إلى عالم المثال الذي أحاله إلى مسرح للعبث.

كُتب القسم الأول من هذه المخطوطة بالعبرية (الصفحات الخمس الأولى)، ربما لجمهور آخر هو الجمهور الصهيوني الناطق بالعبرية، بينما كُتب سائر المخطوطة بالعربية (في 21 صفحة).[2] ومن الجدير ذكره، أن وجود دقّة في السجن في أوج انتفاضة الأقصى وتصاعد العمليات الاستشهادية، أتاح له العيش مع أسرى خرجوا في عمليات استشهادية لم تبلغ غايتها، فبقوا في قيد الحياة. وقد أجرى معهم دقّة حوارات موسعة، وكتب عن ذلك بالعبرية والعربية، حتى إن أكاديميين وصحافيين "إسرائيليين" اعتمدوا على كتاباته في هذا الشأن، مع أنه أبدى أسفاً على تعاونه معهم في مرحلة متأخرة في حياته، وخصوصاً في دراسة "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء".[3] وقد تفسِّر لغة الكتابة الفكرية بالعبرية والعربية في هذا الموضوع إقدام دقّة على البدء بترجمة، أو إعادة كتابة هذا النص الروائي بالعبرية، لكن ربما يكون التفسير الأصوب هو أن دقّة بعد كل ما عاناه من تأويل كتاباته وخطابه، أراد فعلاً أن يتماثل مع الاستشهادي ويتماهى معه تماماً، وأن يكون استشهادياً معرفياً يقترف "الخطيئة السعيدة"، ويتخذ من الموت حصاناً يعدو به إلى ما وراء السياج، حيث يناقش سؤال انعدام التكافؤ الأخلاقي بين العنف الاستعماري الصهيوني والعنف الثوري الفلسطيني المضاد. ومن الجدير ذكره أن دقّة، في سنة 2023، فوجىء بعثورنا على هذا النص الذي كان يعتقد أنه ضاع خلال عمليات تناقله بين السجون وإلى خارجها منذ 20 عاماً.

 

 الفقرة الأولى من مخطوطة "صمت القبور" بالعربية والعبرية، 2003 - 2004

  

ثمة عدة دلائل على هذا التفسير في مسيرة دقّة توضح الفرق بين موقفه السياسي والأخلاقي غير المتجانس مع أسلوب العمليات الاستشهادية كوسيلة في المقاومة، وبين ضرورة السجال بشأن التفوق الأخلاقي الفلسطيني على العدو الصهيوني الذي تمكَّن دقّة فعلاً من إظهاره من خلال خطابه الأخلاقي في "صمت القبور". ولتوضيح هذا السياق تاريخياً، لا بد من التوقف عند ثلاث تجارب كتابية توضح: موقفه المتدرج من حلول القضية الفلسطينية، ورؤيته إلى العنف الثوري وجدوى الكفاح المسلح، وسيتم سبرهما في الجزء الثالث من هذه الدراسة، وكتابته البحثية الإثنوغرافية المتخصصة عن الاستشهاديين، والتي سيتم عرضها تالياً في خمس مراحل. 

1 - الإنسان ما قبل الانفجار الكبير

في أجواء الانغلاق السياسي التي تلت "هبّة النفق" في 25 أيلول / سبتمبر 1996، وسبقت انتفاضة الأقصى في 28 أيلول / سبتمبر 2000، تصاعدت العمليات الاستشهادية ضد "إسرائيل"، وبلغت سبع عمليات نُفِّذ آخر اثنتين منها في طبرية وحيفا في 5 أيلول / سبتمبر 1999، بعد يوم واحد من "اتفاقية شرم الشيخ"، وتبنّتهما "كتائب عز الدين القسّام" الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية / "حماس". آنذاك، كان قد مضى نحو عامَين على التحاق دقّة بحزب التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان موقف أكثر حزماً من تخبّط استراتيجيات النضال الفلسطيني. ولم يتأخر دقّة في مخاطبة أعضاء الكنيست العرب ولجنة المتابعة العربية برسالة مكتوبة بخط يده وموقّعة باسم "الأسرى العرب من مواطني إسرائيل" في سجن عسقلان،[4] أي أنها غير موجهة في الأساس إلى الجمهور الفلسطيني، بل إلى "الإسرائيليين"، وتحديداً أعضاء الكنيست والحكومة.

وبقراءة التعبيرات التي اختيرت بعناية، يتضح أن للرسالة غايتين أساسيتين، علاوة على تأكيد الموقف السياسي والأخلاقي حيال أسلوب العمليات الاستشهادية، وهما: عدم وقوف أي اجتهاد نضالي فصائلي منفرد أمام تحديد أحكام المؤبد بالسنوات، وتحسين شروط الحياة لأسرى القدس وفلسطين 1948. ولذا، تبدو الرسالة كأنها تقوم بأداء "هسباراه معكوسة"، فهي تحمل خطاباً تكتيكياً خذلت أصحابَه الحركةُ الوطنية الفلسطينية، وصار لهم بعد أوسلو هدف محدد هو التحرر من السجن ضمن شروط سياسية مغايرة تقتضي إحراز توازن من نوع خاص بين الحفاظ على أخلاقيات النضال "الوطني" في إطار حركة التحرر الوطني الفلسطينية الأوسع من ناحية، وتبنّي لغة تتلاءم مع أخلاقيات النضال "المواطني" في إطار الحركة الوطنية في فلسطين 1948، من دون أن يطغى أي من الموقفين على الآخر.

ويتصادى مع هذا المنطق في التعامل مع العمليات الاستشهادية، موقف دقّة الوارد في مخطوطة مقالة تتناول أول عملية استشهادية في انتفاضة الأقصى، والتي نفذها الاستشهادي نبيل فرج العرعير من غزة بتاريخ 27 تشرين الأول / أكتوبر 2000، وتبنّتها "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.[5] ففي ملاحظة هامشية، يبدي دقّة رغبته في أن تقرر العائلة نشر تلك المقالة أو لا، نظراً إلى ما تحمله من موقف نقدي لهذا النوع من العمليات منطلق من معرفة خاصة بالموقف الأخلاقي والحضاري للشهيد فتحي الشقاقي الذي عرفه دقّة خلال وجوده في السجن، وبفكر العلامة محمد حسين فضل الله في موقفه من القضية ذاتها. وفضلاً عن الموقف المبدئي من هذه العمليات، فإن دقّة يُبرز ما يعتبره عنصر تفوق عسكرياً لدى حزب الله في عملياته العسكرية ضد "إسرائيل" قاد إلى دحرها من الجنوب اللبناني، وهو الحرص على حياة المقاتلين وتقدير العنصر البشري على الرغم ممّا يتمتع به المقاومون من الروح المعنوية العالية والإقبال على التضحية من دون أن يكون ذلك "فورة دم" عشائرية، ومن دون أن يكون له هدف سياسي - إعلامي للترويج لوجود أي فصيل مقاوم على الأرض. 

2 - نقد الخطاب الأكاديمي الأمني - الاستشراقي

مع تصاعد انتفاضة الأقصى التي اندلعت في 28 أيلول / سبتمبر 2000، بدأ الأسير دقّة يرصد التحولات التي ألزمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالعودة إلى العنف الثوري وتفعيل خيار الكفاح المسلح. وقد عمل دقّة على إجراء مقابلات بحثية معمقة لفهم هذا التحول سياسياً وميدانياً مع تركيز خاص على مقاومة الاجتياح "الإسرائيلي" لكل من نابلس وجنين. وبينما لم تظهر نتائج بحثه بشأن نابلس، خرجت نتائج بحثه عن جنين في كتاب لافت بعد عامَين على معركة المخيم،[6] تضمّن مقابلات مع أربعة من قادة المعركة والمشاركين فيها، وهم: الحاج علي الصفوري؛ جمال حويل؛ يحيى الزبيدي؛ عبد الجبار خباص. وحرص دقّة في هذا المشروع على دراسة أربعة محاور أساسية ينفي من خلالها المقولات "الإسرائيلية" والصهيونية عن الانتفاضة عامة، والمقاومة في مخيم جنين خاصة، وهي: توثيق التجربة الفلسطينية بوعي يضمن سلامة المسافة بين الحدث والتأمل فيه وجعل التأمل قوة تغيير لشروط الحدث ونتائجه؛ ربط ذلك بسيرته الشخصية وانتقاله من العمل العسكري في الخارج إلى تنظيم "جيش الحركة الأسيرة" داخل السجون الصهيونية، والمساهمة بفاعلية في الحركة الوطنية في فلسطين 1948 كعضو في حزب التجمع الوطني الديمقراطي؛ التأمل في تجربة فلسطينيي 1948 بين عنصرية دولة الاحتلال الصهيوني وانعدام الرؤية الاستراتيجية لدى الرسمية الفلسطينية لاستثمار نضالات هذه الفئة من الشعب الفلسطيني، أي جدلية "الوطنية" و"المواطنة" التي يعيشها الفلسطينيون في "دولة العِرق"؛ التأمل في تجربة الكفاح المسلح طريقاً للعودة والتحرير ومقاومة الاحتلال الصهيوني الذي لم يغيّر مواقفه تجاه الفلسطينيين على الرغم من تغيير الرسمية الفلسطينية موقفها منه: من اعتباره حركة استعمارية إلى اعتباره "شريكاً ممكناً" في الأرض، والحكاية، والأسطورة.

في خطوة تالية، وخلال اشتغاله على هذا المشروع، قرأ دقّة خبراً في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 29 كانون الأول / ديسمبر 2002، يفيد بأن جهات أكاديمية، وبالتعاون مع جهات أمنية "إسرائيلية"، تقوم بإجراء بحث شامل عن ظاهرة الاستشهاديين من خلال مقابلة مقاومين أسرى "فشلوا" في عملياتهم قبل تنفيذها جرّاء خلل فني أو لوجستي. وقد حفَّز ذلك دقّة على كتابة مقالة ينتقد فيها الخطاب الأكاديمي ذا النزعة الأمنية - الاستشراقية،[7] إذ تتبجّح "إسرائيل" بكونها الدولة التي تحتجز أكبر عدد من "الانتحاريين"، الأمر الذي يعطيها أفضلية على بقية الدول "المكافحة للإرهاب".[8] وتضمّن الخبر إشارات استشراقية إلى دوافع العمليات (الدِّين: الفوز بالجنة؛ الفقر: سدّ الحاجة؛ التربية: التعبئة الأيديولوجية)، وهو ما يؤكد الفرضيات المسبقة للقادة السياسيين والأمنيين "الإسرائيليين" التي بُثَّت في إطار دعائي بهدف التحريض على الفلسطينيين ونزع الشرعية عن انتفاضتهم، أكثر من كونها نتائج بحث أكاديمي.

وفي حين انتقد دقّة المغالطات المقصودة في مساواة النضال الفلسطيني بالإرهاب العالمي، والتحريض السياسي، وتبرير جرائم الاحتلال، تركَّز نقده على الدور الاستشراقي المتواطىء الذي تمثله الأكاديميا في خدمة أجهزة الأمن، والتورط في عسكرة المعرفة في دولة الاحتلال عبر استخدام البحث العلمي المفتقر إلى أدنى الأخلاقيات، كغطاء لدور استخباراتي تنفضح فيه كذبة الموضوعية، وخصوصاً عندما يكون الحديث عن "باحثين إسرائيليين" يدرسون "استشهاديين فلسطينيين". وعلى الطرف الآخر من بحث التواطؤ هذا، استعد ضباط "مصلحة السجون 'شباص'" و"الاستخبارات الداخلية 'شباك' " و"جهاز 'شرطة إسرائيل' " لخرق القانون الدولي والمحلي من خلال التضليل المتعمد للأسرى الذين سيقوا إلى سجن "هداريم" لإجراء المقابلات، والكذب عليهم بشكل مقصود فيما يتعلق بالوجهة والسبب، وإجبارهم على المكوث لفترة تتجاوز المنصوص عليها في "معبار" سجن الرملة، وانتزاع معلومات خلافاً لإرادتهم من أجل إنجاح "البحث" الذي أُجري على عين الضباط من مختلف الأجهزة، وتحت هراوات وحدة القمع "نحشون"، الأمر الذي جعل دقّة يدعو إلى التوجه إلى القضاء للطعن في نزاهة هذا "البحث"، والمطالبة بعدم نشره أو استخدامه، وفضح ممارسات الأكاديميا الإسرائيلية في العالم. 

3 - البحث الإثنوغرافي في حاضنة السجن

بعد نشر هذه المقالة، وكتابات أُخرى متعلقة بمراجعة الاستراتيجيا والتكتيك العسكري لانتفاضة الأقصى، وخصوصاً بعض الأفكار التي سترد لاحقا في كتابه عن "يوميات المقاومة في جنين،" اتجهت الأنظار إلى دقّة بصفته "خبيراً" في السجن ومَن فيه، بمَن فيهم الأسرى الذين اعتُقلوا على خلفية قيامهم بعمليات استشهادية "فاشلة".

وواصل دقّة بحثه الميداني الذي أنجز فيه نحو 60 مقابلة مع فدائيين واستشهاديين من عدة مناطق في فلسطين، شملت جنين ونابلس وطولكرم ورام الله والقدس وغزة. وأعد دقّة لهذه المقابلات نماذج أسئلة قام بإجراء جزء منها بنفسه في سجنَي شطَّة وعسقلان، بينما قام أسرى قدامى آخرون بإجراء المقابلات في السجون الأُخرى. واشتملت المقابلة على 60 سؤالاً توزّعت على: المعلومات الإحصائية التفصيلية؛ الحرية والاستقلال ونوع الحل السياسي؛ تقييم اتفاق أوسلو في ظل انتفاضة الأقصى؛ الموقف من العمليات الاستشهادية وتقييمها؛ الرغبة في استمرارية الانتفاضة وجدوى الكفاح المسلح؛ العدو الذي يجب أن ينال منه العنف الثوري: "يهودي"، أم "صهيوني"، أم "إسرائيلي".

كُتبت أصول هذه المقابلات بخط أصحابها، ووجدت طريقها إلى الحرية بأساليب متنوعة، من ضمنها عن طريق أعضاء الكنيست العرب. لكن قبل اكتمال هذا البحث، يبدو أن أكاديميين وصحافيين ممّن يشتركون مع أجهزة الأمن في "الفضول المعرفي" بشأن ظاهرة الاستشهاديين الفلسطينيين، تمكنوا من اغتنام بعض المقابلات التي عمل دقّة للأسف حتى على ترجمتها إلى اللغة العبرية، الأمر الذي سيستدركه في الأمد القريب بنشر مقالته الخاصة عن الموضوع مثلما سيظهر في القسم التالي أدناه، وعلى المدى البعيد بتوضيح بُنية التواطؤ بين الأمن والأكاديميا الصهيونيين كما سيظهر في بحثه "ما بعد صهر الوعي" المنشور في هذا الملف. 

4 - السجال المعرفي بين الإخبار المحلي ومخاطبة العدو

لقد كان من ضمن المستفيدين من مقابلات دقّة "باحثات" مثل نيكول آرغو، و"صحافيات" مثل عميرة هاس. وبينما لم يظهر من عمل آرغو إلّا بعض المداخلات في مؤتمرات وتقارير ذات صبغة استخباراتية والإعلان بشأن كتاب يفصله عن الحدث أكثر من عقدين من الزمن ولم يظهر بعد، كما لم يظهر صوت دقّة مثلما وعدته "الباحثة" إلّا كهامش دليلي لإثبات أصالة البحث،[9] نشرت هاس نصاً صحافياً[10] يصلح مثالاً لبحث مآلات رغبة الفلسطيني في السجال المعرفي والنضال السياسي، والتي من السهل أن تُعتبر تورطاً في شبهة الإخبار المحلي مع أن الهدف هو مخاطبة العدو بلغة يفهمها. علاوة على ذلك، إن معرفة خلفيات النص الصحافي الذي نشرته هاس، يجعل من الصعب تصنيفه كمقالة أو ريبورتاج أو تحقيق، إذ ينحصر جهدها، كما يبدو، في التأويل، الأمر الذي يجعل النص مثالاً لنوع فريد في الكتابة الإعلامية لم نعثر له على اسم بعد، أكثر من كونه ترجمة بتصرف عن ترجمة نزيهة، وخصوصاً إذا أجرينا عملية تشريح للبُنية، والتأطير، والأجندة.

على مستوى البُنية، يتكون النص من أربعة أجزاء: الأول، مقدمة استشراقية مهجوسة أمنياً، تتضمن رشوة للقارىء قوامها أصالة المعلومات كونها صادرة عن مخبر محلي، وتصلح كبداية لفيلم أكشن يصف لحظة التقاء دقّة بالاستشهادي (الفاشل)، ولحظة البوح بالدوافع والأجواء الغرائبية في كل حالة استشهادية. كما تَعِد المقدمة بكشف الأبعاد الدينية، والاجتماعية، والأيديولوجية، بينما تظل الأسباب السياسية ظلاً شاحباً في الخلفية. والثاني، إيراد سيرة دقّة لإثبات أصالة المعلومات وليس بالضرورة صدقيتها، وآرائه السياسية التي تبرر استخدامه كمخبر محلي له "رأي" وإن لم يكن له "صوت" إلّا ضمن ما تمنحه إياه الكتابة العبرية بصوته. فدقّة، في حينه، أسير قديم نسبياً وموجِّه للأسرى (أي يحظى بثقة ومحترمية)، مع أنه يرى أن الموت بهذه الطريقة "غير الأخلاقية"، التي لم يناقشها الفلسطينيون ولا حزب دقّة الجديد (التجمع الوطني الديمقراطي) إلّا لماماً، "يضر بالقضية الفلسطينية". لكن هذا لا يُغني عن تقديم دقّة كإرهابي، من خلال الحديث عن ماضيه في حزبه القديم (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وتهمته، ورعونته كشاب مندفع بالأحاسيس لا بالأيديولوجيا حين شعر بأنه "يجب أن يكون جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية كي يكون من الشعب الفلسطيني." فالصحافية تقدّم دقّة كإرهابي، وتماهي بين ماضيه وحاضر الاستشهادي لتجعل ما تؤوّله من مقولاته أكثر صدقية لجمهورها العبري حين يجهر بموقفه الواضح ليس ضد العمليات الاستشهادية فحسب، بل ضد فصائل العمل الوطني المفتقرة إلى الاستراتيجيا أيضاً، والتي "تستهلك دم الناس"، وتجعل حلم الدولة يتبخر مع الانفجار الذي يطير به الاستشهاديون إلى الجنة، بعد أن فشلوا في التعامل مع الاحتلال. والثالث، عرض لثلاث مقابلات مع استشهاديين مجهولي الأسماء يصلحون كعيّنة تمثيلية (من مخيم وقرية ومدينة)، ويمثلون أحزاباً دينية وأُخرى علمانية ("حماس"، "فتح"، "جهاد")، وصغار السن (18، 19، 20 عاماً). ويتوالى استجواب الاستشهاديين بشكل فجّ استناداً إلى الثلاثية الاستشراقية (الدين، والفقر، والتربية) مع تركيز خاص على موقفهم من "الضحية اليهودية في الصراع." والرابع، بعد ضمان صوت دقّة لمصلحة مقولتها التي تستغل أصوات الحالات الثلاث لمصلحة أجندتها، تعود لتأكيد "اختبار الصدقية" عبر إضاءة مُعادةٍ لأصالة معلومات مخبرها المحلي، لا أصلانيتها، وهو الذي يفكر ويدعو الاستشهاديين إلى التفكير بشكل دنيوي، وعبر التذكير بملخص البحث الأكاديمي - الاستخباراتي الذي حفز دقّة على إجراء بحثه الخاص.

وعلى مستوى التأطير، يبدو النص نموذجاً للمعرفة الاستعمارية السعيدة بـ "اكتشاف" وعي المستعمَر ولاوعيه في آنٍ معاً، ذلك بأن فكرة إدوارد سعيد القديمة بشأن الصراع بين "التأويل" الصهيوني و"الوجود" الفلسطيني لا تزال حاضرة بوضوح في طبقات هذا النمط من الكتابة.[11] فنصّ "هآرتس" بالعبرية تكوِّنه نصوص متراكبة لثلاث مقابلات كتبها أصحابها بالعربية، ونقَّحها دقّة، وترجمها إلى العبرية، وأضاف إليها تحليله نصاً رابعاً. وهنا، تعاد بشكل فج متلازمة المعرفة الاستعمارية التي تبدأ بصناعة الحدث عبر العنف الاستعماري، ويردّ الأصلانيون بالعنف الثوري المضاد، فيطرح المستعمِرون فرضياتهم، ثم يبحثون في أصوات المستعمَرين (ضحايا التاريخ لا كتّابه) عن تفسير لحدثيّة الحدث، وأخيراً يغتصبون صوت الضحية لتأكيد فرضية الجلاد عبر التأويل، بمعنى أنهم يصيرون الممثل الشرعي والوحيد للتاريخ. الصهيونيون يفعلون بالعبرية، والفلسطينيون يقولون بالعربية المعدَّة للترجمة بالعبرية ويترجمون، ثم يغلق الصهيونيون الدائرة بالتأويل ومطاردة "نيات العدو" لإنقاذه من شرّانية ثقافة الموت. لكن الفلسطينيين يأبون أن تكون الكلمة الأخيرة للصهيونيين، فيردون بالترجمة: ترجمة ترجمةِ كلامهم الذي صيغ بالعربية، ونُقل إلى العبرية، ثم تُرجمت العبرية لفهم "المشهد الإسرائيلي" و"عقلية العدو" مثلما جاء في تقرير المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار![12] هنا، نشهد حالة فريدة من الترجمة بصفتها "خيانة"، وترجمة الترجمة بصفتها "خيانة مزدوجة"، لأن اللغة المترجِمة لا تخون اللغة المترجَمة فحسب، بل تخون ذاتها أيضاً.[13] وفي خطوة أكثر إلحاحاً على قراءة تأويل الحضور، تُنتَج الأفلام الوثائقية والسينمائية المستندة إلى شهادات "الاستشهاديين الفاشلين" أنفسهم.[14]

أمّا على مستوى الأجندة، فنقرأ بوضوح تآلف أربعة عناصر كاشفة: الأول، أن النص في سياق مقولته الفعلية يستدعي ثلاثية الدين والفقر والتربية، لكنه يحاول تأطيرها، عبر فعل التأويل، من خلال صوت دقّة بصفته خمرة قديمة في كؤوس جديدة. والثاني، أن النص يَذكر الاحتلال، لكنه لا يَذكر، ولو لماماً، على لسان المقابَلين أنفسهم الذين تمت شيطنتهم، ونزع إنسانيتهم وحيونتهم، الجريمةَ الكبرى المتمثلة في الاستعمار (1948) لا الاحتلال (1967). وبالتالي، فإن النص متورط في أجندة الصهيونية الناعمة التي تذهب لأعراض "الخطأ الاحتلالي العابر" ولا تعالج الداء المتمثل في "الخطيئة الاستعمارية الأولى". والثالث، أن النص لا يساهم في الإشارة إلى الحلول مطلقاً، وإنما يستخدم "الكرت اليهودي" للإشارة إلى أن ثمة عداء لليهود بصفتهم يهوداً، مع أن أسئلة المقابلة تشير إلى سلَّم العداء عبر صنافيات "يهودي"، "صهيوني"، "إسرائيلي". وفي هذا الإطار، يتم نزع إنسانية الاستشهادي (المقابَل) بصفته لا يبكي، ولا يودع صغاره كي لا ينكص عن التنفيذ، وهو رجل بلا قلب يأكل الحمّص قبل العملية الفاشلة، ويقوم بها مرة أُخرى لو تيسر له ذلك بهدف قتل اليهود! ومهما يحاول دقّة الذي حشره النص في إهاب المخبر المحلي، ابتزاز الاستشهادي عاطفياً حيال الأطفال والشيوخ والنساء، فإن الاستشهادي يبقى على رأيه، حتى لو تم قلب الحقائق في "قلب جنين"، إذ تبرع الرجل الفلسطيني (إسماعيل خطيب) بقلب ابنه الشهيد (أحمد) لمستوطن صهيوني، وليس العكس، مثلما يزعم السؤال في المقابلة مع الاستشهادي "أ".[15] والرابع، عدم مناقشة النص سؤال عدم "التكافؤ الأخلاقي" بين العنف الاستعماري الصهيوني والعنف الثوري الفلسطيني المضاد، وربما هذا ما دعا دقّة إلى تخصيص مقالة لاحقة لمناقشة الموضوع "كما ينبغي"، ونص روائي هو "صمت القبور" يكون فيه دقّة نفسه راوياً استشهادياً معرفياً ينطق بحكمة اللاتكافؤ. 

5 - تفكيك الخطاب الأكاديمي الأمني - الاستشراقي

بعد نشر "هآرتس" الذي يقف دقّة وراءه من دون أن يمثل النص دقّة ومبحوثيه فعلاً، واصل دقّة العمل على توثيق معركة مخيم جنين، وأعدّ مقالة أُخرى بالعبرية كي تُنشر في "هآرتس" نفسها باسمه هو، بعنوان: "عندما يكون الموت أفضل من الحياة"،[16] فيما يبدو كأنه تصحيح لخطأ توكيل صحافية "إسرائيلية" بمطاردة نيات الفلسطينيين وتمثيل أصواتهم. وتوضح المقالة خلاصات بحث دقّة الإثنوغرافي، وتفكيك طبقات الخطاب الأكاديمي الأمني - الاستشراقي، بدءاً من بحث الأكاديميين المتواطئين مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، وانتهاء بالتأويلات الصحافية لمقولات بحثه ولصوت مبحوثيه. ومن خلال رصد المعمار المنهجي للمقالة، يتبيّن أنها قائمة على خمس مقولات نافية للقارّ والوثوقي بشأن العمليات الاستشهادية:

 

الصفحة الأولى من مخطوطة وليد دقة "عندما يكون الموت أفضل من الحياة"، 2005

 

الأولى: موقعية، تنفي دور الباحث الاستعماري من العملية البحثية في إطار بالغ الحصرية كالسجن، وتستعيد فاعلية الباحث الأصلاني القادر على رصد الحالة السياسية والعسكرية فلسطينياً و"إسرائيلياً" من موقعية فريدة تؤمِّن الصدقية ولا تأبه بالموضوعية. وهذا من شأنه منح أفضلية معرفية وجرأة أخلاقية للباحث الفلسطيني في تحديد مسببات الظاهرة بمنطق سياسي فحواه أن جريمة الاحتلال التي تواصلت بعد أوسلو ساهمت في تسريع انهيار منظمة التحرير الفلسطينية، والبُنى الحزبية، والمجتمع المدني... الأمر الذي نتج منه حالة "لا دولة، ولا حركة تحرر" دشنت حاضنة مثالية لأشكال متنوعة من العنف الثوري.

الثانية: منهجية، تنفي قابلية الاستشهادي الفلسطيني للنمذجة في بروفايل مشتهى حاولت الأجندات البحثية الأمنية والاستشراقية الصهيونية والعالمية صناعته. ولعل أكبر دليل على فشل أجهزة الأمن والأكاديميا الإسرائيلية في هذا الجانب هو عدم قدرة هذا البروفايل على التنبؤ بالاستشهادي المقبل، وهو ما أدى إلى تواصل العمليات. والمقولة إذ تؤكد فرادة الاستشهادي الفلسطيني، ومغايرته لـ "الإرهابي العالمي"، نظراً إلى خصوصية قضيته الوطنية وسياقه الاستعماري ومنطقه الأخلاقي، فإنها تنفي عنه استيهام المشابهة.

الثالثة: معرفية، تنفي الانطباق النظري للنموذج الدوركايمي في الانتحار (الأناني، والإيثاري، واللامعياري، والقَدَري) على الاستشهادي الفلسطيني الذي لجأ إلى آخر حصونه، وهو الجسد الذي يشكّل الوسيلة والتفسير في آنٍ معاً، وقد توسطتهما عناصر التنظيم والتقنية، لا لتحرير نفسه من مجتمعه، وإنما لتحرير مجتمعه بنفسه. فالاستشهادي الفلسطيني لا ينطبق عليه أي من تفسيرات إميل دوركايم الأربعة بشكل منفصل، بل يشكّل توليفة منها: فهو أناني في قراره، وإيثاري في تفسيره، ولامعياري في وسائله، وقَدَري في غاياته.

الرابعة: أخلاقية، تنفي، من ناحية، شبهة التكافؤ الأخلاقي بين العنف الاستعماري الصهيوني والعنف الثوري الفلسطيني، وتشير، من ناحية أُخرى، إلى أن فشل الاحتلال المقصود في النظر إلى الظاهرة من خلال باعثها السياسي (الاستعمار)، والإصرار على الباعث الأيديولوجي (الدين) والاقتصادي (الفقر) والاجتماعي (التربية)، من دون حل المسألة الوطنية، أديا إلى استمرار الظاهرة، بل تصاعدها. ومن المفارقات أن هذا النأي بالنظر إلى العلة الأولى للعنف الاستشهادي (الاستعمار وليس الاحتلال فقط)، قاد إلى تطرف أصحاب البلاغة التحريضية من "الإسرائيليين" إلى اقتراح إجراءات عقابية وتنفيذها من نوع لفّ أشلاء الاستشهادي بجلد خنزير، واحتجاز ما تبقّى من جثمانه، ومعاقبة عائلته، بدلاً من التفكير في استنتاجات أخلاقية وسياسية بشأن تبعات الاستعمار الكارثية.

الخامسة: توجيهية، تنفي الجدوى عن ديننة الصراع التي تمضي فيها "إسرائيل" التي لا تستثمر فقط في أمكنة الحياة للمستوطنين على حساب الفلسطينيين، بل في اقتصاد أمكنة الموت، إذ تنشر القبور الوهمية وتغتصب القبور المكرسة وجوارها (من قبر راحيل في بيت لحم إلى قبر ابنها يوسف في نابلس) لمصلحة مخططاتها الاستيطانية، وتلزم الله بإدارة الصراع بين قبيلتين، لا بين مستعمِرين ومستعمَرين، بعد أن أعلن خياراته ووعوده المنحازة مسبقاً... ثم تصرخ بالشكوى من عنفية الأيديولوجيا الدينية التي تدعو الفلسطينيين إلى "قتل اليهود وتدمير إسرائيل"! إن خداع الذات الذي تقوم به "إسرائيل"، كتمرين أول على خداع الآخرين، جعلها تمعن في تهميش قوى المقاومة الدينية الصاعدة (المتمثلة في حركة المقاومة الإسلامية / "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي) في السياق الفلسطيني على حساب تراجع القوى العلمانية المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية وانهيارها. وقد قاد هذا إلى إحداث تحوُّل في مفهوم العدو بين صنافيات "اليهودي" و"الصهيوني" و"الإسرائيلي"، على نحو غير مسبوق. 

II - الشهداء: [حكاية سرّ الطيف] الشهداء يعودون إلى رام الله (2019 - 2021)

"الشهداء يعودون إلى رام الله" هو نص مسرحي يصوِّر مُسارَرة بين ثلاثة من الأسرى الشهداء المحتجزة جثامينهم في ثلاجات العدو، وهم: أنيس دولة، وبسام السايح، وكمال أبو وعر الذي تتمحور المسرحية حول استشهاده واحتجاز جثمانه والتقائه بمَن سبقوه. تجري مواجهة مع قوات القمع في السجن يُنقل في إثرها جثمان أبو وعر إلى ثلاجة الموتى في معهد الطب العدلي في أبو كبير قرب يافا لقضاء ما تبقّى من محكوميته. هناك، يتداول الرفاق فيما حلّ بفلسطين، بين السجن الأصغر والسجن الأكبر، وحصيلة التداول أوجزه اتصال هاتفي مع أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية التي لم تتمكن من تحرير الأسرى ولا استرداد جثامينهم. ويستثمر الراوي الذي يتقمصه طيف أبو وعر، معرفته بسياسات الحياة والموت في الجغرافيات الفلسطينية الستة (القدس؛ الضفة الغربية؛ قطاع غزة؛ فلسطين 1948؛ الشتات؛ والسجون)، لنقد تحولات سياسات الذاكرة والنسيان بعد أن غرقت منظمة التحرير الفلسطينية في مستنقع السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو في سنة 1993. تدور أحداث المسرحية بين السجن والثلاجة والمقبرة والأمكنة المتنقلة لـ "الهيئة الوطنية لإعادة هيكلة وتوظيف الأسرى والشهداء وتأهليهم". وفي النهاية، تتحرر أطياف الشهداء ويعودون إلى رام الله حيث يتمردون على جبروت الاحتلال وعسف السلطة وقوانين المادة، ويقودون ثورة مسلحة شعارها الممارسة: التحرير طريق الحرية، ليس فقط للشهداء الأسرى والأسرى الشهداء في ثلاجات العدو ومقابر الأرقام، بل للشعب الفلسطيني الأسير بأكمله. 

1 - حكاية "حكاية سرّ الطيف"

فور انتهاء دقّة من روايته لليافعين "حكاية سرّ الزيت" في صيف سنة 2017، شرع في العمل على "حكاية سرّ السيف" التي أنجزها في صيف سنة 2018.[17] حينها، بدأ النقاش بيننا عن أن هذه الثنائية، بشأن الأسرى في الأولى واللاجئين في الثانية، تستدعي ضلعاً ثالثاً هو "حكاية سرّ الطيف" عن الشهداء. وكان الاقتراح محمولاً على رغبة خاصة، من جانبي، كي أُحدث نوعاً من التمرئي بين نتاج دقّة وانحيازي إلى الجغرافيات الفلسطينية المهمشة: السجن والمخيم والمقبرة، وهي العناوين التي أشتغل عليها أكاديمياً وفكرياً وروحياً، ليعرف اليافعون، قبل بلوغ الجامعة، أسرار أسراهم ولاجئيهم وشهدائهم.[18] وتَواصل هذا النقاش أكثر من عامَين، وتضمّن تبادل أفكار بشأن الشكل الفني والسيناريوهات والتماثلات بين الحالة الفلسطينية والحالة الجزائرية مثلما تتبدّى في رواية الطاهر وطّار "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"،[19] والتي لم يكن دقّة قد اطلع عليها في حينه.

في 14 آذار / مارس 2019، تبادلتُ مع دقّة ما يشبه السيناريو لأحداث "حكاية سرّ الطيف"، أو ما يمكن وصفه بـ "محضر مكالمة" تضمّن ملخصاً لأحداث الحكاية التي يفترض أن تكون استكمالاً للجزءَين السابقين في الثلاثية. بمعنى أنه بعد أن أنجز جود ورفاقه زيارة السجن وكشفوا سر الزيت، وزيارة قاقون المطهّرة عرقياً وكشفوا سر السيف وحققوا العودة بالذاكرة، يمكن لهم في الجزء الثالث "حكاية سر الطيف" أن يرسموا مساراً تحررياً من شمال فلسطين حتى جنوبها يقودهم فيه "سر طيف الشهداء" كدليل في تاريخ وجغرافيا الثورات والانتفاضات الفلسطينية المتوالية من الجليل إلى النقب. وحاول دقّة البدء بالكتابة، وأخبرني عن مقطع أولي سيبني عليه المسرحية التي كان بطلها، في حينه، الشهيد فارس بارود.[20] آنذاك، صاغ دقّة المقطع التالي، بالعامية الفلسطينية، كنواة للمسرحية:

 

... جِبِتْ عِدَّةْ، استوليت على كل شي اسمه ألوان عند الأسرى وأقلام ودفاتر رسم، وهاظ... وقعدت أكتب. بتعرف، ذاكر قصة.. إنت قلت لي أكتب شو اسمها، "الطيف".. آه "حكاية سر الطيف." رحت عملت فارس بارود عَمْ بِطْلَعْ من... بيجيبوه على ثلاجة مْكَلْبَشْ، فَ عْمِلْتُهْ رَسِمْ. فاهم؟ مع حوارت - كُومِيكْسْ يعني... هو بيروح ع الثلاجة وبلتقي في أسرى، راسم حلاوة، وهذول الأسرى - الشهدا اللي موجودين في الثلاجات اللي ما تَـَمِّشْ إطلاق سراح جثثهم. هسَّا سألهم إذا في "دُوبَيْرْ" هِيْنَا يعني. بِدُّهْ يحل قصته. فاهم؟.. فبحكي عن الموضوع... وهاظا... فيها كمان يعني سخرية... فبيقولوا له هَسَّا روح إنت ع ثلاجة 9 وبعدين بنحكي. فبطفوا الظَّي... بتعرف الثلاجة لما بتسكِّر الباب، بطفي الظَّي. فبيقول كيف طفا الظَّي يعني، شو القصة بالهاظا... فبعدها بِطْلَعْ من الثلاجة... وبحكي، في تلفون في معهد التشريح هناك... فبتَّصل في المسؤولين الفلسطينيين، يعني بيقول لهم أنا الشهيد هيك هيك.... يعني شو القصة؟ فالمهم، بيحولوه على هاظ، وبيحولوه على هاظ... في الآخر بيحولوه على "دُوبَيْرْ"... "دُوبَيْرْ" من السجون.. فاهم؟ المهم بعدها بِزْهَقْ. بيقول لهم أنا بَظَلِّنيشْ هِيْنْ. بِيْروح ع رام الله. بِيلِفْ بشوارع رام الله. بيمُر على مقبرة شهدا، وبِحكي معهم، بيقول لهم "إنتوا ارتحتوا يعني"... وإلى آخره. بِلْتَقي مع واحد حارس ع بوابة وزارة الأسرى، هناك... بقى سجين معه. بتخرَّف هو ويَّاه. المهم برجع، في الآخر بِرْجَعْ، بيصير يكتب شعارات: "حرِّروا الأسرى الشهداء". بيجيب بُوْيَهْ وبيصير يكتب على الحيطان. وبيفوت ع مكاتب المخابرات الفلسطينية. وبكتب شعارات عن الموضوع. بِحَاوِل يحرِّض الناس... يعني برجع يشتغل. فاهم؟... مش عارف وين بدُّه يروح بعدها.[21]

 

وفي تطور لاحق، أنجز دقّة المسودة الأولى من مسرحية "الشهداء يعودون إلى رام الله"، وكان يملي ما أمكن من مشاهدها هاتفياً، وخصوصاً المشهدين الأول والثاني من الفصل الأول من المسرحية التي صار بطلها الشهيد كمال أبو وعر.[22] انشغل دقّة، بعدئذ، بفكرة تأسيس مركز دراسات للأسرى مع مجموعة من الإخوة والرفاق، وبكتابة بعض المقالات الفكرية، ثم انشغل بالمشاركة في العدد الخاص رقم 128 من "مجلة الدراسات الفلسطينية" الذي حررناه في أعقاب "هبّة الكرامة" و"سيف القدس" في أيار / مايو 2021. لكنه في مطلع سنة 2021، شرع في كتابة "الشهداء يعودون إلى رام الله"[23] كنص مسرحي مكتمل، لأنه وجد صعوبة في كتابة سرّ الموت رواية لليافعين.[24] وبالتأكيد، ثمة وفرة من التفصيلات الضرورية التي لا يسمح المقام بإيرادها هنا، والتي تصف إنجاز "حكاية سرّ الطيف". لكن دقّة أنجز نصّ المسرحية كاملاً في مطلع نيسان / أبريل 2021 في سجن "جلبوع" في بيسان المحتلة، وفي الصفحة الأولى أضاف إلى عنوانه "الشهداء يعودون إلى رام الله"، جملة (عنوان مؤقت) بين قوسين، والتاريخ التالي: "العام الأول بعد ميلاد"، قاصداً ابنته من زوجته المناضلة سناء سلامة عبر نطفة محررة، والتي وُلدت في مدينة الناصرة المحتلة في 3 شباط / فبراير 2020.

 

 

أغلفة ثلاثية اليافعين: "حكاية سر الزيت" 2017؛ "حكاية سر السيف" 2018؛ "حكاية سر الطيف" 2021

 

2 - مخطوطة المسرحية واستدراكاتها الصوتية

مخطوطة المسرحية، بعنوان: "الشهداء يعودون إلى رام الله"، تتكون من 23 صفحة، علاوة على صفحة الغلاف غير المرقَّمة، ومكتوبة بخط يد دقّة، ومصوَّرة بالجوال تصويراً بنوعية رديئة، بعد أن أُرسلت من سجن "جلبوع" إلى سجن النقب لذلك الغرض. تتكون المسرحية من ثلاثة فصول، وكل فصل منها يتكون من مشهدين. وبعد التدقيق في مخطوطة المسرحية، تبيّن أن هناك أربعة استدراكات: شكلية تتعلق بعدم وضوح بعض الصفحات، واستكمالية تتعلق بمقطع محذوف من أغنية تتضمنها المسرحية، وتاريخية تتعلق بشخصيات المسرحية، وبُنيوية تتعلق بمشاهد غير مكتملة ونهاية غير موجودة للمسرحية. وقد عملنا على علاجها مع دقّة، ووضعها بين تنصيصات مربعة [....]. وكان علاجنا لهذه الاستدراكات على النحو التالي:

أولاً: الصفحة غير القابلة للقراءة بسبب رداءة التصوير: الصفحة رقم 5 من المخطوطة كانت غير واضحة نهائياً، وبالتنسيق مع دقّة،[25] تمكنّا من توضيحها عبر اتصال هاتفي مع الأسير س. س. في سجن النقب الذي يملك نسخة أصلية من المسرحية.[26]

ثانياً: استكمال المقطع المفقود من أغنية "إتمهلوا" الواردة في الصفحة رقم 1 من المخطوطة، بالتنسيق مع دقّة،[27] وهذا المقطع سبق أن ورد مكتملاً في المشهد الخامس من الفصل الثاني من مسرحية "حكاية المنسيين في الزمن الموازي - مسرحية غنائية" (ص 13 من المخطوطة).[28]

ثالثاً: استبدال إحدى شخصيات المسرحية في رسالتين متتاليتين خلال وجودي في بيروت حيث لا إمكان للتواصل المباشر إلّا عبر الأستاذة سناء سلامة؛ فقد استفسرت من دقّة عن شخصية الشهيد راسم حلاوة،[29] وألحقتُها برسالة أُخرى بشأن إمكان استبدال راسم حلاوة بفارس بارود،[30] ذلك بأن الشهيد حلاوة كان ثالث الشخصيتين المركزيتين في النص، أنيس دولة وكمال أبو وعر، بصفتهم شهداء محتجزين في مقابر الأرقام وثلاجات العدو. وقد ولد الشهيد حلاوة في مخيم جباليا في غزة في سنة 1953، واعتُقل في سنة 1970، واستشهد في 24 تموز / يوليو 1980 في سجن نفحة الصحراوي في إثر التغذية القسرية خلال الإضراب المفتوح عن الطعام. وبعد مماطلة من سلطات الاحتلال التي رغبت في احتجاز جثمان الشهيد، بعد تشريحه في معهد أبو كبير للطب العدلي، تم تحريره بشروط قاسية، ووري في الثرى في مقبرة الفالوجة. وقد وردت الإجابة من دقّة بالموافقة على استبدال اسم الشهيد حلاوة بالشهيد بسام السايح، كي لا تضطرب بُنية السرد التاريخي في المسرحية.[31]

رابعاً: استكمال المشاهد غير المكتملة، فهناك إشارة في نهاية المشهد الثاني في الفصل الثاني (ص 19) فحواها: "هذا المشهد غير مكتمل، سأنجزه لاحقاً"، وإشارة مماثلة في نهاية المشهد الأول من الفصل الثالث (ص 23) جاء فيها: "المشهد الثاني في الفصل الثالث لم يُنجز بشكل نهائي ومُرْضٍ، لهذا لم أرسله. سأنجزه قريباً." ولتدارك ذلك، وخلال الفترة نيسان / أبريل 2021 - تشرين الثاني / نوفمبر 2022، تم استكمال هذين المشهدين صوتياً، وتمت إضافتهما إلى المخطوطة الأولى للمسرحية. فالمشهد الثاني من الفصل الثاني يبقى كما هو، وتضاف في نهايته علامة عدم الاكتمال [....].آنذاك، كان المرض قد استحكم من جسد دقّة، فآثر إبقاء الفصل على ما هو عليه، وأعطى الأولوية لإنجاز نصه النظري: "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء". أمّا المشهد الثاني من الفصل الثالث فجرى استكماله بعد ورود رسالة صوتية من دقّة[32] تصف تكملة المشهد مثلما يرد في نص المسرحية الموجود في ملف "وليد دقّة: كتابات متأخرة" المنشور في هذا العدد من "مجلة الدراسات الفلسطينية". وردّاً على الاستفسار بشأن نهاية المسرحية، ورد في الرسالة الصوتية من دقّة وصفاً موجزاً بالعامية الفلسطينية،[33] صِيغ بالفصحى بحسب طلبه، كما هو وارد في نص المسرحية المنشورة في هذا الملف.

 

 كتابة جدارية لشعار "حرروا الأسرى الشهداء، حرروا الشهداء الأسرى"، بيرزيت، رام الله، 15 أيار / مايو 2024

 

وفضلاً عن إيضاح بعض هذه المعلومات السياقية في دراسة خاصة سابقة،[34] كانت هذه الاستدراكات موضوع نقاش متواصل مع "مسرح الحرية" في جنين، إذ أُرسلت نسخة من مخطوطة المسرحية، قبل التعديلات، إلى الأستاذ بلال السعدي بتاريخ 18 نيسان / أبريل 2021. وفي محادثة هاتفية مع دقّة، بعث برسالة تفيد بضرورة أن يلتزم "مسرح الحرية" بالتعديلات التي أُجريت على المسرحية خلال العمل على إعدادها وتكييفها مسرحياً.[35]

علاوة على ما سبق توضيحه عن الخط الحكائي للمسرحية، والذي يشكل رحماً لمفهمة الحرية والذاكرة والموت عند دقّة، لا بدّ من تسجيل إشارتين سياقيتين: الأولى، هي أن هذا العمل لم يكن النص المسرحي الأول لدقّة الذي اشتمل نتاجه الإبداعي على أنواع كتابية متنوعة منها المسرح، فقد كتب دقّة المسرح متأثراً بتجربة أسرى حزب العمال الكردستاني الذين أنتجوا المسرح والسينما داخل السجن، وبأعمال المسرحي الفلسطيني الراحل فرانسوا أبو سالم (1951 - 2011).[36] والثانية تتعلق بإرهاصَين كتابيَّين يشكلان محاولات جنينية لهذه المسرحية: الإرهاص الأول موجود في العمل المسرحي الأول لدقّة، وهو "حكاية المنسيين في الزمن الموازي"،[37] وهي مسرحية غنائية كتبها في سنة 2011.[38] وقد ظهر العمل بعد ثلاثة أعوام على عرض مسرحية "الزمن الموازي" التي أنتجها مسرح الميدان في حيفا في سنة 2014، والتي أثارت ردّات فعل صهيونية هستيرية.[39] وموضع الشاهد هنا، هو أن المشهد الخامس من الفصل الثاني في مسرحية "حكاية المنسيين في الزمن الموازي"، والذي يحكي قصة استشهاد أحد الأسرى داخل السجن واحتجاز جثمانه، يشكل قنطرة سياقية للانتقال إلى مسرحية "الشهداء يعودون إلى رام الله". أمّا الإرهاص الثاني فهو مخطوطة روائية قصيرة هي "صمت القبور".[40] ومن الجدير ذكره، أن وجود دقّة في السجن في أوج انتفاضة الأقصى وتصاعد العمليات الاستشهادية، أتاح له العيش مع أسرى خرجوا في عمليات استشهادية لم تبلغ غايتها، فبقوا في قيد الحياة، وأجرى معهم دقّة مقابلات موسعة، حتى إنه كتب عن ذلك بالعربية والعبرية، واعتمد صحافيون "إسرائيليون" على كتاباته في هذا الشأن، مثلما ورد سابقاً. 

III - الكابو: ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء (2022 - 2023)

"ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء" هو نص فكري مكثف يصوّر تحولات أنظمة الرقابة، والإخضاع، والسيطرة، والتنظيم، في السجون الصهيونية في تصادٍّ مع تحولات الحركة الوطنية الفلسطينية خلال الفترة 2010 - 2023. ففي استكمال لتأمله في المشروع الاستعماري الصهيوني، والمقارنة بين السجن الأصغر بصفته عالَماً مصغراً للمعازل الكبرى التي صارت سجناً مفتوحاً على امتداد فلسطين، يرصد دقّة النقلة التي حدثت في نظام السجن الصهيوني: من مراقبته للفلسطينيين إلى مراقبة الفلسطينيين لأنفسهم. وهنا، يتساءل دقّة عن المدى الذي بلغه انتقال نظام المراقبة والسيطرة الإسرائيلية من "نظام المراقبة الدائري (البانوبتيكون / Panopticon)" الذي ناقشه سابقاً في "صهر الوعي،"[41] إلى "نظام الإغراء والإغواء (السينوبتيكون / Synopticon)" في "ما بعد صهر الوعي".[42] وينفي دقّة عن نفسه صفة الاختصاص كـ "باحث" كمقدمة لتجاوز صعوبة التجريد النظري حين يكون الأسير - الباحث جزءاً من المادة البحثية، وصعوبة إعلان عدم الموضوعية كحقّ لا كواجب فقط، للأسير - الباحث عن حريته على الرغم من الانهيارات كلها من حوله. وبالتحرر من هاتين العقبتين، يرى دقّة أن تفكيك المشهد الفلسطيني الراهن يشبه نزع العصبة الفعلية التي يضعها الصهيونيون على أعين المعتقلين، والعصبة الاستزلامية على أعين السياسيين الذين خضعوا لآليات "راقب نفسك بنفسك"، وساهموا في تكريس التحول من مراقبة الأقلية للأكثرية (سابقاً)، إلى مراقبة الأكثرية للأقلية (لاحقاً)، والذي تجاوز التنسيق الأمني فيه حتى صيغته التي نصّ عليها اتفاق أوسلو. ويقسِّم دقّة دراسته النظرية إلى مقدمة في المنهج والهدف، وأربعة أقسام تتناول آليتَي "العصبة" و"التفتيش"، لا بهدف الوصف الحسي للتجربة السجنية، وإنما كأداتَي تحليل لتفسير تفوق المستعمِر الصهيوني على المستعمَر الفلسطيني في السجن الأصغر والسجن الأكبر عبر عمليات التعمية والتشييء.[43] كما تتناول تنافذ آليتَي "الإغراء" والإغواء" اللتين تتحقق من خلالهما مآرب "البيروقراطية الناعمة" مثلما مَفْهَمها كل من زيجمونت باومان وتوماس ماتيسين،[44] وهي تخترق جسم الحركة الفلسطينية الأسيرة عبر تحويل أقلية "الكابو" فعلاً إلى أكثرية "المتعاونين" حكماً مع مرور الزمن.

 

وليد دقّة، سجن عسقلان، المجموعة التاسعة، "العمى"، 15 أيار / مايو 2022

 

1 - ما بعد صهر الوعي

نسابياً، يُعدّ "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء"[45] الجزء الثالث لدراسة مطولة نُشر منها الجزء الثاني، بعنوان: "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب"،[46] ولا يزال برسم النشر الجزء الأول، وأمنحه لاعتبارات التصنيف، عنوان: "ما قبل صهر الوعي: تحولات حركة التحرر الوطني الفلسطيني"،[47] وعدد آخر من الكتابات ذات العلاقة. وقد كُتب نص "ما بعد صهر الوعي" وحُرر في الفترة 2022 - 2023 خلال وجود دقّة في سجن عسقلان، وبُدىء بتحرير نصوصه من السجن صوتياً، عبر مكالمات هاتفية مباشرة أو تسجيلات، بين 16 أيلول / سبتمبر 2022، و15 تشرين الأول / أكتوبر 2022. وقد استمرت عملية تفريغ التسجيلات، ومراجعتها وضبطها مع دقّة في مكالمات مسجلة لأكثر من شهر، إلى أن تمكنّا من الحصول على تصوير رديء الجودة للمخطوطة بتاريخ 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، مكوّن من 24 صفحة تتضمن الصفحة الثانية منها إشارة إلى عدم اكتمال بعض ملاحق الدراسة. وفي إثر ذلك بدأت عملية معاينة ومطابقة بين تفريغ النصوص المسجلة (والتعديلات المضافة عليها تباعاً خلال المكالمات) ونص المخطوطة المكتوب، وهي عملية استمرت حتى 25 كانون الأول / ديسمبر 2022، حين تمكنّا من إدخال نسخة نهائية محررة إلى السجن. غير أن دقّة لم يتمكن من الاطلاع عليها بسبب استفحال مرضه إلّا في وقت متأخر من ربيع سنة 2023، خلال وجوده في سجن الرملة. 

2 - ما قبل صهر الوعي

في سنة 2010، كتب دقّة مجموعة أوراق بهدف نشرها مترجمة في كتاب محرر كان يُفترض أن يصدر بالعبرية، لكنها لم تجد طريقها إلى النشر إلّا على شكل ملخصات نُشرت مسبقاً في صحيفة "فصل المقال".[48] وتمحورت الأوراق حول الحل السياسي الأمثل للقضية الفلسطينية، بدءاً بالدولة الفلسطينية (الميثاقية) التي أفشلتها تحولات منظمة التحرير الفلسطينية، ومروراً بوهم حل الدولتين الذي أفشلته "إسرائيل" وحلفاؤها عن سبق إصرار وترصّد بعد أن حولوا الفلسطينيين إلى "يهود التاريخ"، وانتهاء بحل الدولة الديمقراطية الواحدة الذي رأى فيه دقّة الحل الأكثر معقولية وإن لم يحقق إلّا العدل النسبي. وقدَّم دقّة لهذه الأوراق، شبه المكتملة، على نحو موجز، وأنهى مقدمته بمجاز غريب، جزئياً، عن فكره السياسي، جاء فيه:

 

إن هذه الأوراق التي لا تلغي التنافر الشديد والكراهية التي تراكمت بين الشعبين على مدار تاريخ الصراع، هي عبارة عن محاولة لمناقشة المتغيرات الحداثوية، ومرور الزمن على القضية الفلسطينية، خصوصاً مقولة الشعب والكفاح المسلح، في ظل إمكانية فشل العملية السياسية الجارية من أن تفضي إلى حل، بعد أن بدّدت إسرائيل عبر الاستيطان إمكانية حل الدولتين، وأنشأت على الأرض واقع الدولة العنصرية الواحدة. لكن وبرغم ما قد يبدو لنا من حلول مستحيلاً في هذه المرحلة، فإننا نعتقد أن هذا التنافر الشديد بين الأطراف هو بالذات ما سيقودها إلى حل الدولة الديمقراطية التي في إطارها يمكن إعادة ترتيب التقاطب من جديد وتعريفه وفقاً لصيغتها. فالانجذاب بين الأجسام يبدأ بالذات حيث تختلف الأقطاب، وما نراه اليوم من مواقف في أوساط اليمين الاستيطاني التي تتحدث عن دولة واحدة وفقاً لفهمه وشروطه، ما هو إلّا بداية ليست بالضرورة النهاية التي سيتشكل وفقها كيان الدولة الواحدة، أو حسب رغبة وإرادة اليمين. فالأقطاب المتحاربة، على كل حال، لا تقيم جسمها الجديد وتتجه نحوه بالضرورة كحلّ بفعل علاقات حب وصحوة ضمير، وإنما بفعل ضغط المحيط والواقع الذي جزء كبير منه أنشأته مواقفها التاريخية. لقد بُيِّت الصراع، وأصبح أقرب إلى الحرب الأهلية منه لحالات التحرر التي تسعى إلى الانفصال. إن هذا البلد، بفعل معطيات عديدة، أشبه بمولودين متلاصقين بقلب واحد، إنْ قتَلَ أحدهما الآخر سيضطره أن يجرّ على كتفيه جثة أخيه، والانفصال يعني الموت لأحدهما ما دام هناك قلب واحد. إن هذا البلد غير قابل للقسمة إلى وطنين، قسمة ممكنة تقيم عدلاً نسبياً، وما دام القلب لا يقسَّم، فإن الشراكة بقلب واحد هي الخيار الممكن الوحيد المتبقي والذي يحتاج إلى الكثير من التعاون والتنسيق. لقد أصبح تقسيم السلطة لا تقسيم الوطن في إطار الدولة الديمقراطية الواحدة لكلا الشعبين هو الحل والنظام الوحيد القادر على جعل هذه الشراكة ممكنة.[49]

 

غير أن دقّة تراجع عن ذلك جملة وتفصيلاً في المرحلة الأخيرة كردّ على سؤال بشأن أي المبادرات أفضل بعد فشل حلول الدولة، والدولتين، ودولة كل مواطنيها. فقد انتقد دقّة منطق المفاضلة بين "الحلول" من طرف الفلسطينيين، أكان ذلك وثيقة الأسرى، أم حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، أم مؤتمر المسار الفلسطيني البديل - نحو عقد ثوري جديد، أم مسار الثورة الشاملة في فلسطين كافة.[50] فهو، أولاً، يرفض الانتقال من حل إلى حل إذا ما فشل ما قبله (الدولة الميثاقية، الدولتان، الدولة الواحدة)، لأن ذلك ينطوي على قدر هائل من التنازلات الفلسطينية عن ثوابت كبرى، منها: حق العودة، وتقرير المصير، وفلسطين 1948، والقدس... في مقابل تمترس صهيوني وصلف في الإصرار على استعمار فلسطين كلها وإفراغها من أهلها. ويرفض، ثانياً، الانطلاق الواقعي من البحث عن حلول واقعية، ليس للسبب المبدئي ذاته أعلاه فحسب، بل لأن ذلك ينطوي على فقدان الثقة بالوسائل التي من شأنها تحقيق تلك الحلول (من الكفاح المسلح حتى حركة المقاطعة)، في الوقت الذي يجب الحفاظ على ثوابت الرواية الوطنية الفلسطينية بغضّ النظر عن الوسائل والغايات. وبدلاً من ذلك، يقول دقّة إن مشروع "دولة كل مواطنيها" الذي اجترحه مَن استثناهم المشروع الوطني الفلسطيني التقليدي وخذل أسراهم، لم يفشل لأنه مشروع نضال مستمر حقق الكثير وحمى الرواية الوطنية والأجيال من الأسرلة، وإنما بسبب عنصرية دولة العِرق - "إسرائيل"، وهذا المشروع إذا تضافر مع المبادرات الفلسطينية الأُخرى، داخل فلسطين وخارجها، يمكن أن يساهم بفاعلية في مشروع الحرية والتحرير، شرط أن يقوده تيار ثالث غير التيارين المركزيين اليوم في الحركة الوطنية الفلسطينية. 

3 - صهر الوعي

لقد كان من ضمن اهتمامات دقّة بمآلات تجربة الكفاح المسلح دراسة السياسات الصهيونية تجاه الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال البحث في الآليات الممنهجة التي تعمد إليها "إسرائيل" لصهر وعي الأسير الفلسطيني بصفته رأس حربة في النضال ضدها.[51] ويتخذ دقّة من الأسرى الفلسطينيين عيّنة تمثيلية للشعب الفلسطيني نادرة في صدقيَّتها، فنراه يحلل آليات الرقابة، والإخضاع، والسيطرة، والتنظيم التي تتوسلها سلطات السجون الصهيونية (التي تُعتبر عالَماً مخبرياً مصغراً لفلسطين خارج السجون) من أجل كسر إرادة الفلسطينيين ضمن عمليات هندسة اجتماعية محكمة تتضمن ضرب بُنيتهم التحتية، مستخدماً ثلاث مقاربات نظرية لتوضيح هذا التمرئي، هي: عقيدة الصدمة، والمراقبة والمعاقبة، والحداثة السائلة.[52]

في "صهر الوعي"، الذي بدأ بكتابته بعد الإضراب عن الطعام في سنة 2004، ينفي دقّة عن نفسه "تهمة" الاختصاص المعرفي، وهو المختص من خلال التجربة والمعاينة والتأمل بكونه ذاتاً باحثة في ذاتها، ويصف فرادة السجن الصهيوني الذي لا يشبه أياً من سجون المركز الأوروبي أو الجنوب العالمي، ذلك بأن المستهدف ليس جسد الأسير، وإنما روح الفلسطيني وحواسه ووعيه، فالعدو يهدف إلى "إعادة صياغة البشر وفق رؤيا إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون"،[53] عبر زجِّهم في ورطة مشابَهَةِ الواقع خارج السجن بالقراءة الخطأ والمعالجات التقليدية للقضية الفلسطينية الأم.

وكجزء مركزي من مفهمة صهر الوعي، عمل دقّة على استخدام مفهوم "الكابو" في كتاباته ونتاجاته الفنية والسردية قبل أن يتخصص بدراسته في "ما بعد صهر الوعي". و"الكابو" هو اليهودي الذي عيَّنه الألمان مسؤولاً عن اليهود في الغيتو، والذي لقاء تعاونه معهم يتلقى بعض الطعام، ولا يتم ترحيله إلى معسكرات الإبادة النازية. وقد توسّل دقّة هذا المفهوم في كتاباته المتأخرة لوصف تناسخ "التنسيق الأمني" الذي تجريه السلطة الفلسطينية بين سجن المعازل الأكبر وسجن الأسرى الأصغر.

استلهم دقّة تنظيرات ميشيل فوكو لتفسير كيفية تحويل سلطة السجون الصهيونية إجراءات ما بعد الإضراب إلى لعنة، إذ تغدو الوفرة المادية أداة للتعذيب عبر عملية صهر الوعي التي حوّلت "الوفرة" إلى مصيدة ذهنية، أي إلى عقاب. حينها يتحول الأسرى في السجن الأصغر، والمواطنون في السجن الأكبر، إلى حاملين للسلطة التي يمارسونها على أنفسهم نيابة عن جلادهم في حالة من الامتثال المفارِق بعد أن يتحقق الهدف المركزي من صهر الوعي، وهو تذرير الأسرى وفردنتهم وخصخصة نضالهم الجماعي على طريق خلق "قيادة بديلة" و"شريك فلسطيني" ممتثل له اسم واضح هو: "الكابو".[54] وهنا، يتحول الأسير من ذات فاعلة ضمن منظومة اجتماعية لها مطالبها وقيمها ونُظُمها الوطنية الجامعة إلى ذات ممتثلة وسلبية ومصهورة الوعي، همّها الأكبر هو الخلاص الفردي الذي لا يعلو سقفه عن توفير الحاجات اليومية التي خلقها سجّانه له وقرر نيابة عنه شروط الأهلية للحصول عليها، بمفردة واحدة هي: الامتثال.

وباستلهام تنظيرات زيجمونت باومان بشأن الحداثة السائلة كتجلِّ ناعم لما بعد الحداثة، يستكمل دقّة تحليل أنماط السلطة الحديثة التي تمارسها سلطة السجون الصهيونية على الأسرى، من خلال رصد هذه الأنماط وتحولاتها مستخدماً مرجعية نظرية فحواها أن سلطة السجون الصهيونية لم تكتفِ بالسيطرة على مكان الأسرى، بل جاوزت ذلك للتحكم في زمانهم، عبر صناعة زمنهم على عينها، وهو ما كان له عظيم الأثر على تصوُّر الأسرى لأنفسهم ولسجانهم ولماهية العلاقة الناظمة بينهما. وكان من شأن هذا التحول المعرفي في نماذج السيطرة (محاصرة، ومراقبة، ومعاقبة) أنه أحدث تحولات في تقنيات السيطرة والإمعان في سياسات التذرير والتقسيم الجغرافي للأسرى، وتحويل الجماعي إلى فردي عبر تعميق فاعلية جهاز الكابو.[55] وبطبيعة الحال، فإن ذلك شمل استهداف الحياة السياسية وتقاليدها الديمقراطية عبر سياسات النقل والعزل للأطر القيادية للحركة الفلسطينية الأسيرة، وخصوصاً بعد الانقسام في غزة في سنة 2007، وما تبعه من انهيار خلال العقد الأخير في البُنى السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في السجنَين الأصغر والأكبر شوَّه كل شيء، بما في ذلك طرائق النضال والاحتجاج على الانتهاكات الصهيونية في السجنين في آنٍ معاً.

وتواصلت محاولات دقّة لمفهمة الكابو فلسطينياً عبر نقده لتحولات حركة التحرر الوطني الفلسطيني التقليدية (وخصوصاً تحوُّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة فلسطينية) في أعماله الفنية التي تكررت فيها شخصية "الكلب"، وفي ثلاثية اليافعين التي طوَّر فيها شخصية الكلب "أبو ناب".

غير أن دقّة صوّر هذه الشخصية في إرهاص سابق على الثلاثية في هيئة قصة قصيرة بعنوان: "كلب مبدئي".[56] يحكي الراوي، بلسان دقّة، قصة كلب تعرَّف إليه في "البوسطة" خلال التنقّل بين سجنَين. وعلى الرغم من استغراب الراوي الأسير من اعتقال الصهيونيين كلباً، فإن فضوله حمله على الاستفسار من الكلب عن سبب اعتقاله أكان "أمنياً" أم "جنائياً"، وحين احتجّ الكلب على السؤال، غيّر الأسير الصيغة بسؤاله الكلب إن كان اعتقاله "عسكرياً" أو "مدنياً"؟ وبعد محادثة قصيرة، تبيّن أن هذا الكلب نشأ في عشيرة "الجهالين"، التي صارت "الجمالين" في "حكاية سر الزيت" المنشورة لا المخطوطة، وشهد تحولات المقاومة من عسكرية إلى سلمية على يد السلطة الفلسطينية، إلى حدّ أنه صار يدعوها "نضالاً نباتياً"، مع أن شيخ القبيلة ذبح نصف القطيع إكراماً للمتضامنين الضيوف. وانضم الكلب إلى الخدمة في أحد الأجهزة الأمنية بأوامر مباشرة من شيخ القبيلة، حيث صار يشتمّ المخدرات، والمتفجرات، والأفكار الخطرة. لكنه اشتمّ نيات "جماعتنا" الفلسطينية وخطورتها، فترك العمل. وهنا يتناقش الكلب - الأسير مع الإنسان – الأسير في قضايا الوفاء والوطنية، ويفضّل الكلب أن يكون مبدئياً على أن يكون وطنياً، ذلك بأن الوطنية باتت كلمة فضفاضة مثل المفاوضات، أمّا المبدئية فلها معنى واحد، لا يزول ولا يدول، وهو الوفاء للمبدأ. وفي نهاية القصة، يشتمُّ الكلب رأس الأسير، ويفصح له عن مقدار ما فيه من الحزن والوفاء والخذلان الشديد، بعد اعتقال دام أكثر من ثلاثين عاماً. حينها، يبدأ الكلب بالنباح، ويغمى عليه وهو يقول: "حرِّروا أهل الكهف، أوقفوا التنسيق الأمني"، بينما لا يزال الأسير يبحث عن عبث العلاقة بين "أهل الكهف" و"التنسيق الأمني".

 

وليد دقّة، سجن "رامون"، المجموعة الثالثة، "كلب مبدئي"، 2013 - 2017

 

أمّا في ثلاثية اليافعين، فتتحول شخصية الكلب "أبو ناب" إلى بطل مضاد يجسّد تحولات النضال الفلسطيني من الكفاح المسلح إلى كفاحِ المسلَّح، ويتخذه دقّة موضعاً وموضوعاً لنقد لاذع لثقافة أوسلو الهازمة لذاتها، والتي أحالت الفلسطيني في زمن "التنسيق الأمني المقدس" إلى كلب بناب واحد، لا يشبه نفسه، ولا يشبه حتى النمور الخانعة التي تأكل العشب في رائعة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر".[57] فالكلب "أبو ناب" ليس مجازاً، بل يشتغل فعلياً في التنسيق الأمني بعد أن كسّر الأميركيون أنيابه في دوراتهم الأمنية، وجعلوه نباتياً، ولم يُبقوا له إلّا ناباً واحداً لعضِّ إخوته. ووصل به الأمر إلى حدّ الخدمة العسكرية في جيش العدو، بعد أن كان بطلاً في الخدمة العسكرية الوطنية، حتى إنه كان يلقب بـ "الشَّبح" في انتفاضة الحجارة في سنة 1987. ومن طرائف دقّة ما كان يردده بحس ساخر، خلال مكالماتنا الهاتفية، من أنه يرغب حين يتحرر، في أن يعتزل الناس، وأن يقتني حصاناً وبعض الغنم والدجاج، وكلباً أخرس! 

4 - إضراب 2017: الكابو في كل مكان

وفي محاولة لاحقة، كتب دقّة مقالة مكثفة موجهة إلى الفلسطينيين، بعنوان: "الكابو الفلسطيني وإشكالية الإطار المفاهيمي للجان حقوق الإنسان"،[58] وأرفق بها تقريراً عينياً عن استغلال سلطة السجون الصهيونية لـلكابو في اقتصاد السجون، وتحديداً أجهزة الهاتف النقال. وكان يطمح إلى أن تتحول مقالته إلى "تحقيق" مصوّر يُنشر في الإعلام العبري، نمنحه لأغراض التصنيف، عنوان: "الكابو وتجارة الوصل والفصل".[59] غير أن هذين النصين لم يجدا طريقهما إلى النشر نظراً إلى الحساسيات الكثيرة التي سبقت ورافقت وتلت "إضراب الكرامة" عن الطعام الذي قاده الأسير مروان البرغوثي في ربيع سنة 2017. ومع أن تفصيلات "التحقيق" تبدو أكثر علاقة براهنية إضراب سنة 2017 وما تلاه من تصدّعات في جسم الحركة الفلسطينية الأسيرة، وهو ما لا يتيح المقام نقاشه هنا، شأن العديد من الكتابات ذات العلاقة بـ "سرقة إسرائيل أموال الأسرى" و"تحوُّل معاناتهم إلى مؤسسة للارتزاق"، إلّا إن الإشارة إلى فحوى المقالة تبقى ضرورية.

يرى دقّة أن لجان حقوق الإنسان والجمعيات التي تعنى بشؤون الأسرى لا تزال عاجزة عن تشخيص الانتهاكات التي تمارسها "إسرائيل" ضد الأسرى الفلسطينيين، وغير قادرة على تقديم صورة حقيقية يمكن من خلالها تجنيد الرأي العام والقانون الدولي لمصلحة نضالهم، ذلك بأن الأطر القانونية وطرائق المتابعة وسبل التوثيق والملاحقة الجنائية للاحتلال واللغة المستخدمة في ذلك كله لا تزال هي بحد ذاتها أسيرة المنظومة الاستعمالية التي كرّستها "إسرائيل" وحلفاؤها والمتواطئون معها، والتي لا تتناول إلّا الانتهاكات المادية الواضحة على أجساد الأسرى. أمّا الانتهاكات الناعمة، الموصوفة في صهر الوعي وما بعده وأهمها تغوّل الكابو، فأدواتها مركّبة وتُحدث دماراً جسيماً في بُنية الحركة الأسيرة. فخلال إضراب سنة 2017، تبيّن حجم تغلغل الكابو في السجن واستهدافه أعداداً كبيرة من الأسرى كأفراد، وسعيه للسيطرة على الحركة الأسيرة في مجملها، وامتداد أثره حتى إلى خارج السجن لينال من عائلات الأسرى، وتحديداً في استصدار تصاريح الزيارة. والأسوأ من ذلك، هو تواطؤ فواعل آخرين، من المنظومات السياسية والأمنية والقانونية في السلطة وخارجها مع الكابو، سواء بالسكوت على أفعالهم، أو بتنسيق عمليات "التنسيق" بين السجنَين الأصغر والأكبر. لقد رأى دقّة في ذلك محاولة لحسم خطاب الفلسطينيين بصفته خطاب سلطة لا خطاب حركة تحرر وطني، الأمر الذي لمّح إليه الأسير القائد مروان البرغوثي في مقالته في "نيويورك تايمز" التي تزامن نشرها مع اليوم الأول للإضراب، حين ربط بين النضال الفلسطيني والنضال الجنوب أفريقي.[60]

ولذا، حاصرت السلطة الفلسطينية الحاضنة الشعبية للإضراب خارج السجن، وواصلت معاركها الخاصة بحصار غزة وقطع رواتب الأسرى، بينما عمل الكابو داخل السجن، وبمباركة من مرجعياته في السلطة، على الفتِّ من عضد الإضراب والمضربين في أداء منسق بشكل واضح مع سلطة السجون والأجهزة الأمنية "الإسرائيلية". ولعل جسامة أثر الكابو المتصاعد منذ إضراب سنة 2017، حتى تشكيل "لجنة الطوارىء العليا للحركة الأسيرة" في مطلع سنة 2023 قبيل بدء الإبادة بأشهر قليلة، هو ما حدا بدقّة، وأمناء عامّين وأعضاء لجان مركزية ومكاتب سياسية ومجالس ثورية من الأسرى، على إطلاق هذه الصرخة لاستنفار الفواعل الوطنية ولجان حقوق الإنسان والجمعيات والمؤسسات التي تُعنى بشؤون الأسرى للتحرك الفوري لمساندة الحركة الفلسطينية الأسيرة في مواجهة الكابو ومَن يقفون وراءه. ومن أهم تلك الصرخات رسالة الأسير كريم يونس عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، قبل تحرره، إلى اللجنة المركزية والمجلس الثوري للحركة في منتصف آب / أغسطس 2020.

وعلى الرغم من تنظير دقّة لانتقال نظم المراقبة والسيطرة الإسرائيلية خلال الفترة 2010 - 2023 في المعازل والجغرافيات الفلسطينية، بما فيها السجون، من نظام البانوبتيكون (السجن الدائري)، إلى نظام السينوبتيكون (سجن الإغراء والإغواء)، فإن نظام المراقبة والسيطرة الشامل الذي تُواصل "إسرائيل" تطويره، وخصوصاً بعد بدء حرب الإبادة على غزة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، يكاد يقرب من نظام البوليوبتيكون - Polyopticon (سجن المراقبة الشاملة) الذي تراقب فيه الكثرةُ الكثرةَ على أساس التنظيم الجماعي للمراقبة الذاتية، وبتصعيد أكبر من أي فترة سابقة خارج السجون، والذي أشار دقّة إلى إرهاصاته من خلال الكتابة عن "الاحتلال الشمولي" و"السيطرة بالزمن".[61] أمّا في السجون، فيبدو من خلال الشهادات المروعة بعد بدء الإبادة أن سلطات السجون الصهيونية بدأت بتطبيق ما يشبه نظام الهايبروبتيكون - Hyperopticon (المراقبة المفرطة).[62] فقد أتاحت "حالة الطوارىء" و"قانون الساعة" وما ترافق معهما من إجراءات "إسرائيلية" فاشية ضد الأسرى الفلسطينيين، تعديلاتٍ هائلة في قوانين السجن ما قبل الإبادة، ونسف جميع مكتسبات الحركة الفلسطينية الأسيرة على مدار ستة عقود، واستدخال نظام رقابة كامل ومفرط يراقب فيه المراقِبون أنفسهم، بمَن فيهم رموز الكابو وضباط السجون.

بعد نشر "صهر الوعي" في سنة 2010، كتب دقّة مداخلة بهدف تقديمها في حال تم إطلاق الكتاب، أو على الأقل، جرت مناقشته في مناطق السلطة الفلسطينية.[63] غير أن الكتاب لم يُطلَق ولم يحظَ بالمناقشة الجادة إلّا بعد أربعة أعوام في جامعة بيرزيت، لكن ذلك لا يقلل من أهمية "المداخلة" التي كتبها دقّة كاستئناف على الكتاب الذي نجح على امتداد صفحاته في تشخيص الواقع وتحليله، من دون أن يقدم الحلول لتفكك الحركة الفلسطينية الأسيرة الذي سيكون له، إن استمر، "تداعيات على مقولة الشعب الفلسطيني." لقد كانت المداخلة محاولة لطرح بعض الحلول التي يكتنف تنفيذها صعوبات جمة في إنقاذ جسم الحركة الأسيرة المعتل الذي انهارت فيه البُنى الناظمة والقيم الوطنية الجامعة. ومع أن السلطة الفلسطينية ترعى التنسيق الأمني في السجن الأكبر وتوفر الغطاء للكابو في السجن الأصغر، إلّا إنها، من منظور دقّة، هي الوحيدة القادرة على القيام بدور "الطبيب" لعلاج ما ألمّ بالحركة الفلسطينية الأسيرة من أمراض. فعبر وزارة شؤون الأسرى التي تحوّلت إلى هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وإلى جانبها هيئة وطنية عليا، يمكن تدارك بعض الخلل في ظل عدم وجود أفق قريب للنصر (تحرير الأسرى). وعلى الرغم من تكريس الانقسام والاستئثار بجميع "أمراض السلطة" على يد السلطة الفلسطينية، وبدرجة أقل على يد بقية فواعل الحركة الوطنية الفلسطينية، فإنه، وعبر هيئة شؤون الأسرى وهيئة وطنية عليا مساندة، يمكن تحقيق هدف عام مبدئي هو: "استعادة القيم الوطنية الجامعة، وتدعيم مقولة الشعب الفلسطيني الواحد في أوساط الأسرى، وذلك عبر إعادة بناء وتنشيط الأطر الوطنية والاعتقالية بما يتلاءم والمرحلة."

وخشية وصفه بالنظري، فسَّر دقّة هذا المبدأ العام بالدعوة إلى ثلاثة إجراءات يجب تنفيذها، وهي: إنهاء الانقسام أو على الأقل الحد من مظاهره؛ دمقرطة البُنى الاعتقالية في أوساط الحركة الفلسطينية الأسيرة، ووضع حد لتغوّل الكابو عبر إعادة النظر كلياً في موقعية ودور الـ "دوبير" (المتحدث باسم الأسرى) في السجون؛ تحديد مدة ستة أشهر كحد أقصى لوجود أي متحدث في مكانه خشية تحويله إلى كابو. وقد أضاف دقّة إلى هذا المقترح بعد إضراب سنة 2017، توصية بضرورة الفصل بين الجهاز الطبي والجهاز الإداري في السجن، لأنهما يعملان بشكل مشترك على تعزيز وجود الكابو.[64]

لم يناقش أحد كتاب دقّة، ولم يقدّم أحد مداخلته، إلّا بعد عقد ونصف عقد على كتابتهما، كما أن أحداً لم يضع حداً لأحد على الرغم من أن دقّة أدرك ذلك بمرارة وكتب عن تقييد الذات وتحريرها خارج المشروع الجماعي الذي ساهم في فردنتها وقتلها.[65] ولذا، كان من مفارقات التاريخ أن دقّة قضى في السجن خلال فترة الاعتقال العقابية الجائرة التي أضيفت بعد إنهاء محكوميته في 24 آذار / مارس 2023، وذلك بعد سلسلة المضايقات والملاحقات من الكابو وسلطة السجون الصهيونية. 

استدراك: ماذا فعلنا بوليد دقّة؟

امتد زمن كتابة هذه النصوص، منذ إرهاصاتها الأولى حتى اكتمالاتها الأخيرة، نحو ربع قرن (1998 – 2023)، مرت خلاله دماء كثيرة تحت جسور السياسة، والكتابة، والمقاومة. وكانت سنة 1998 نقطة فارقة في مسيرة دقّة النضالية، فقد التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سنة 1983 متأثراً بمجزرة صبرا وشاتيلا، ومارس العمل الفدائي حتى أسره في 25 آذار / مارس 1986. واستمر دقّة في نضاله محافظاً على رؤية صارمة تفرّق بين الحرية كقيمة، والتحرير كهدف في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية التي لم تكن حسابات حقل الفدائيين فيها مطابقة لحسابات بيدر القادة.

فبعد توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية في سنة 1994، وجد فلسطينيو 1948 (في الجليل والمثلث والنقب) أنفسهم أمام تحدي الخيار بين "الوطنية الفلسطينية" و"المواطنة الإسرائيلية"، والذي لم يكن خياراً، وإنما ضرورة شطب إحداهما، والتي عنت بالضرورة شطب الاثنتين، إذ إن التنازل عن الوطنية الفلسطينية عنى تنازلاً عن المواطنة "الإسرائيلية" الكاملة للأقلية القومية الأصلانية، بدءاً بالحقوق المدنية وانتهاء بالحقوق السياسية. والتحدي الجديد الذي وفَّرته الشروط السياسية لاتفاق أوسلو، كان سلخ فلسطينيي 1948 قانونياً، بإقرار منظمة التحرير الفلسطينية الموقِّعة للاتفاق، عن النسيج الجغرافي والديموغرافي والثقافي للشعب الفلسطيني، واعتبارهم، في أحسن الأحوال، ورقة سياسية ضاغطة في السياق الصهيوني ليس إلّا، والتعامل معهم عبر "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي" التي تعتبرها القيادية الفلسطينية الحالية أحد منجزاتها الألمعية. وشكَّل هذا التحدي ضربة لا للمشروع السياسي لفلسطينيي 1948 فحسب، بل لمشروع الأمل الذي دشّنه ولا يزال أبناء الحركة الأسيرة الفلسطينية ممّن التحقوا بالعمل العسكري الفلسطيني وأُسروا في أوج مرحلة الكفاح المسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووجدوا أنفسهم بعد توقيع اتفاق أوسلو، أسرى بلا حاضنة سياسية ولا قانونية، إذ لم تعد قضيتهم قضية فلسطينية، وإنما شأن "إسرائيلي" داخلي.

 

شهادة من وزير الأسرى السابق هشام عبد الرازق إلى أحد أسرى الداخل - فلسطين 48، 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2000

 

في أعقاب عام مليء بالخيبات والخذلان في صفوف الأسرى الذين استثناهم اتفاق أوسلو من الإفراجات، تأسس حزب التجمع الوطني الديمقراطي في فلسطين 1948. وكان دقّة من أوائل الأسرى الذين فتحوا باب النقاش للانتماء إلى الحزب، معلناً: "إن انتمائي للتجمع لم يكن انتماء لبرنامج سياسي ومشروع فيه ركون أو هروب وكسل، بل انتماء فيه من النضال والعمل الذي يتجاوز حدود قضايا الأقلية القومية العربية في إسرائيل، وفيه مزيد من الالتصاق، ومزيد من الانتماء لشعبنا العربي الفلسطيني وقضاياه الوطنية والمطلبية."[66] واستمرت المداولات بين أسرى فلسطين المحتلة وتواصلهم مع قيادات الحزب نحو ثلاثة أعوام، حتى تقدموا بطلب رسمي للانتساب إلى الحزب بتاريخ 8 آذار / مارس 1998، وكان على رأسهم دقّة ومعه 29 أسيراً ممّن قاتلوا في صفوف حركة "فتح" والجبهة الشعبية. وجاء في الطلب أن الأسرى الذين وقّعوه يعتبرون عضويتهم في الحزب "بمثابة تواصل طبيعي لسنوات نضالهم في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، وتأكيداً عملياً على وحدة الأهداف والتطلعات الفلسطينية بكل أماكن تواجدهم."[67] وجاء الرد في البداية بإمكان حفاظ الأسرى على كلا العضويتين، لكنهم، بعد دراسة التبعات القانونية، أعربوا عن رغبتهم في الاستقالة رسمياً من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، مع الالتزام الكامل بكل ما يتعلق بالواجبات ذات الصلة بالأطر الاعتقالية داخل السجون.[68]

وأثار قبول عضوية هؤلاء الأسرى من طرف سكريتاريا الحزب بتاريخ 15 نيسان / أبريل 1998 سجالاً على مستوى الحركة الأسيرة خاصة، والحركة الوطنية عامة. فدقّة، المبادر الأول والمنظّر الأبلغ الذي صار عضواً في اللجنة المركزية للحزب كان واضح الرؤية منذ البداية، ذلك بأن إنهاء علاقته التنظيمية بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية لم يكن موقفاً تكتيكياً، وإنما لقناعته بأن القوى والأحزاب العربية في فلسطين 1948، هي مَن تمثل قضايا الأسرى الذين فاتهم قطار الإفراجات في محطاته كافة.[69] ومع ذلك، فإن إزالة الصفة التنظيمية عن هذه الفئة من الأسرى، كأعضاء سابقين في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، كان من شأنها أن تسهل عملياً تحديد أعوام الأحكام بالمؤبد، وأن تمنحهم موقعاً أفضل للنضال من أجل تغيير التعامل معهم بشأن حقوقهم داخل السجون "الإسرائيلية" كالزواج، والإنجاب، وتخفيض الثلث، والإفراج المشروط، وحتى التحرر في إطار الاتفاقيات السياسية وصفقات التبادل.[70] ومثلما تشير وثائق الانتساب، فإن المراسلات ذات العلاقة كانت مكتوبة بشكل رسمي بالعربية والعبرية، وتم استصدار شهادات "لمَن يهمه الأمر" من وزارة شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية تؤكد قطع كل منهم علاقته بفصيله السابق منذ أعوام، وأن المسؤولية عن أسير الـ 48 هي "مسؤولية إنسانية نظراً لكونه سُجن في إطار الانتماء إلى فصيل من فصائل منظمة التحرير. والآن حسب سجلاتنا هو ينتمي إلى حزب التجمع الديمقراطي الممثل في الكنيست الإسرائيلي."[71]

ثمة كثير من المعطيات التي تستحق إفراد مساحة أوسع لقراءتها كفصل تاريخي مهم في تحولات الحركة الفلسطينية الأسيرة من مناضلي فلسطين 1948، ولعل من الضروري ذكر ثلاثة منها هنا لاستكمال سبر هذا المنعطف. فمن ناحية، ثمة رسالتان متطابقتان، واحدة موجهة إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات، والأُخرى موجهة إلى الرئيس الحالي، تتضمنان لهجة عتاب، لكنهما تركزان على مطلبَين أساسيين بشأن خصوصية أسرى 1948: الأول طلب مساعدة الأسرى في توفير قطعة أرض لبناء بيوت لهم، والآخر تفنيد لمزاعم "إسرائيل" بشأن عدم انطباق معايير الإفراج عن "الأسرى السياسيين" عليهم، وهذا المطلب الثاني يتضمن مرافعة قانونية تقارن بين الأسرى العرب والسجناء اليهود المعتقلين لقيامهم بأعمال إرهابية على خلفية قومية.[72] ومن ناحية أُخرى، هناك رسالة موجهة إلى الراحل جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تتضمن عتاباً جارحاً من أسرى 1948 المنسيين في الزمن الموازي. وعلى أهمية البعد المطلبي في الرسالة، والمتعلق بالتدخل لدى القيادة السورية لإشمالهم في أي صفقة تبادل، فإن ديباجتها تفصح عن كثير ممّا بيّنّاه آنفاً من إحساس أسرى 1948 بأنهم صاروا أبناء غير شرعيين للثورة.[73]

 

رسالة أسرى الداخل - فلسطين 48 إلى الرفيق جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، 5 كانون الثاني / يناير 2000

 

كان دقّة أحد أنبل هؤلاء الأبناء غير الشرعيين للثورة، وأكثرهم إزعاجاً لأمه بالولادة - الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأبيه بالتبنّي - التجمع الوطني الديمقراطي، إذ حافظ على توازن نادر في النضال من موقعيته البينية في الحركة الوطنية الفلسطينية، نسباً وانتساباً حين غيَّر موقعه ولم يغيِّر موقفه، كما يقال. كما تمكَّن دقّة من الزواج برفيقة دربه سناء سلامة في 10 آب / أغسطس 1999 في سجن عسقلان، غير أن القوانين العنصرية لدولة الاحتلال لم تتح لهما فرصة الإنجاب على الرغم من جميع الالتماسات في هذا الصدد، إلى أن وُلدت لهما ابنتهما "ميلاد" في مدينة الناصرة بتاريخ 3 شباط / فبراير 2020، من نطفة محرّرة. ومع أنه تم تحديد حكم مؤبده (الصادر في محكمة مدينة اللد في آذار / مارس 1987) بـ 37 عاماً في 2012، إلّا إن دقّة استُثني من صفقات الإفراج وتبادل الأسرى خلال سنوات: 1994، 2008، 2011، 2014. وفي 28 أيار / مايو 2018، أصدرت المحكمة العسكرية في بئر السبع حكماً جائراً في حقّه عبر زيادة عامَين إضافيين على محكوميته بادعاء ضلوعه في قضية إدخال هواتف نقالة من أجل تسهيل تواصل الأسرى مع عائلاتهم. وبناء على ذلك، صار تاريخ تحرره المفترض هو 24 آذار / مارس 2025.

ومنذ أسره في 25 آذار / مارس 1986، حتى إعلان استشهاده في 7 نيسان / أبريل 2024، تعرّض الأسير دقّة لجور نظام المحاكم "الإسرائيلية"، ولاستهداف مصلحة السجون الصهيونية، وملاحقة الكابو وغيرهم، وصلت إلى حد محاولة الاغتيال.[74] وعلى امتداد أكثر من 38 عاماً في الأسر، رُفضت عشرات الالتماسات المتعلقة بتحديد فترة حكمه، وتخفيض الثلث، وإزالة تصنيف "أسير عالي خطر الهرب (سغاف)"، والزواج، والإنجاب، ووداع أفراد العائلة (توفي والده نمر دقّة في سنة 1998)، وزيارة الأهل لأغراض إنسانية (أصيبت والدته فريدة دقّة بمرض الزهايمر منذ سنة 2013)، أو الإفراج المبكر للعلاج من المرض بعد أن كُشف عن إصابته بسرطان الدم في سنة 2015، وبعد أن شُخّصت إصابته بمرض التليف النقوي، وهو سرطان نادر يصيب نخاع العظم، في 18 كانون الأول / ديسمبر 2022، وما نتج منه من تداعيات صحية خطرة استمرت نحو عاماً ونصف عام حتى إعلان استشهاده.

وعلى امتداد أكثر من 38 عاماً، لم تتمكن الحركة الوطنية الفلسطينية من تحرير دقّة. وحين استفحل به المرض، وجدت عائلته نفسها وحيدة في إعلان "حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقّة" في 28 آذار / مارس 2023. ومع أن آلاف الداعمين والمناصرين والمتضامنين الفلسطينيين والعرب والعالم انضموا إلى الحملة، إلّا إن الأطر الحزبية التي عمل فيها دقّة ومؤسساتها الشعبية وأطرها الطلابية تأخرت في أداء واجبها، بل إن بعضها وضع شروطاً للعمل في الحملة التي تحولت مؤخراً من حملة لإطلاق سراحه إلى حملة لتحرير جثمانه.

لم يكن دقّة بطلاً تراجيدياً بالاختيار لتستمر معركته أربعين عاماً، ولا مثقفاً نقدياً بالإكراه لينتج للثقافة الفلسطينية أجمل ما تم تحريره من سجون العدو، لكنه كان "عاشقاً سيىء الحظ"، خذله مَن أحبهم وقاتل من أجلهم، وإن لم تخذله فلسطين - الفكرة التي أمدته بروح الصمود والتحدي ليعلن بأنفاسه الأخيرة اللاهثة: "لن أسمح لهم بكتابة السطر الأخير." لم يكتب العدو السطر الأخير، وإنما كتبه دقّة شاهداً على "ما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء"، وشهيداً مع "الشهداء يعودون إلى رام الله"، واستشهادياً في "صمت القبور". واليوم، لا يزال دقّة يكتب السطر الأخير عبر فاعلية نصوصه التي تعلِّمنا كيف يرى المقاتل لحظة الانتصار في عيون الرفاق، مثلما تقول أغنية ثورية قديمة: "استمروا استمروا، يا صحابي استمروا. أوقدوا من دمائي شموع النهار. أوقدوها وسيروا على الجرح سيروا. وأضيئوا الطريق بناري، وارشقوا الزهر فوق ترابي. يا صحابي: لا يهم المقاتل حين يضحي أن يرى لحظة الانتصار. سأرى لحظة الانتصار، سأراها بعيني رفيقي. ودمي الآن خيط الشروق، فأضيئوا الطريق بناري. وارشقوا الزهر فوق ترابي... واستمروا يا صحابي استمروا."

 

المصادر:

[1] كان دقّة مؤمناً بضرورة كسر "حساسيات" المقاربة بين المحرقة والنكبة، وفي مقترح عن "استخدام رموز ومفردات المحرقة في النضال والتحرك الشعبي والخطاب الإعلامي الفلسطيني"، يوضح كيفية كسر الاستغلال والاحتكار الإسرائيلي - الصهيوني لمعاناة اليهود في المحرقة للتغطية على جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني. وهذا المقترح يشتمل على ثلاثة بنود: التوطئة، والساحات التي يستهدفها التحرك، والمقترحات العملية. ويبدو أن دقّة أنجز هذا المقترح قبل ظهور حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في سنة 2005، وقبل نشوء التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA) في سنة 2013، والذي تعود جذور تأسيسه إلى سنة 1998. للمزيد، انظر: وليد دقّة، "استخدام رموز ومفردات المحرقة في النضال والتحرك الشعبي والخطاب الإعلامي الفلسطيني" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، بلا تاريخ).

[2] وليد دقّة، "صمت القبور" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، بلا تاريخ). ويُقدَّر أن النص كُتب بين سنتَي 2003 و2004 خلال وجود دقّة في سجن شطة في بيسان المحتلة.

[3] من ضمن هؤلاء: عميرة هاس؛ جدعون ليفي؛ عكيفا إلدار؛ سامي ميخائيل؛ أوري نير؛ لئوري شلوم؛ يعقوب أفوراموفيتش؛ نيكول آرغو؛ شاي غورتلر. أمّا عنات مطر ويهودا شنهاف، فكان التواصل معهما في سياق مغاير.

[4] وليد دقّة، "رسالة إلى أعضاء الكنيست العرب" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 6 أيلول / سبتمبر 1999).

[5] وليد دقّة، "الإنسان أغلى ما نملك" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، بلا تاريخ).

[6] وليد دقّة، "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2004).

[7] وليد دقّة، "أبحاث وباحثون في خدمة جهاز الشاباك الإسرائيلي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 10 كانون الثاني / يناير 2003). وقد نُشرت المقالة في "القدس العربي" بعنوان مختلف. انظر: وليد دقّة، "علاقة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية بأجهزة الأمن"، "القدس العربي"، 16 كانون الثاني / يناير 2003.

[8] في هذا السياق كتب دقّة مقالة انتقد فيها التوحيد بين النضال الفلسطيني والمقاومة المشروعة، والإرهاب العالمي، أو ما يُعرف بـ "عقيدة بوش"، أو "إن لم تكن معنا، فأنت ضدنا"، أي "مع الإرهاب". انظر: وليد دقّة، "سؤال على الطريقة الأمريكية: زنى الغني وموت الفقير" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة. بلا تاريخ).

[9] Nichole Argo, "Human Bombs: Rethinking Religion and Terror", MIT Center for International Studies Audit of the Conventional Wisdom, 2006; Nichole Argo, “Understanding and Defusing Human Bombs: The Palestinian Case and the Pursuit of a Martyrdom Complex”, International Studies Association Conference, 2004.

[10] عميرة هاس، "يطيرون إلى الجنة" (بالعبرية)، "هآرتس"، 1 نيسان / أبريل 2003.

Amira Hass, “Confessions of a Dangerous Mind”, Haaretz, March 2003.

[11] Edward Said, The Question of Palestine (New York: Times Books, 1979), p. 28.

وانظر أيضاً: إلياس خوري، "سؤال النكبة: الصراع بين الحاضر والتأويل - إدوارد سعيد و(مسألة فلسطين)"، "الكرمل"، العدد 78 (2004)، ص 46 - 55.

[12] عميرة هاس، "يحلقون نحو الجنة"، جريدة "الأيام" (رام الله)، 8 نيسان / أبريل 2004.

[13] للمزيد عن الترجمة والخيانة، انظر: عبد السلام بنعبد العالي، "في الترجمة" (بيروت: دار الطليعة، 1997)؛ عبد السلام بنعبد العالي، "انتعاشة اللغة: كتابات في الترجمة" (ميلانو: منشورات المتوسط، 2021).

[14] انظر: فيلم هاني أبو أسعد "الجنة الآن"، في سنة 2005، وفيلم آندي هالبر وبول كارلن (Andy Halper and Paul Carlin) "المفجرون الانتحاريون: في داخل عقول استشهاديين فاشلين" (Inside the Mind of the Suicide Bomber)، في سنة 2004.

[15] انظر فيلم "قلب جنين" (The Heart of Jenin) لماركوس فيتر (Marcus Vetter) في سنة 2008.

[16] وليد دقّة، "عندما يكون الموت أفضل من الحياة" (بالعبرية)، (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2005).

[17] وليد دقّة، "حكاية سر الزيت" (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2018)؛ وليد دقّة، "حكاية سر السيف" (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2021).

[18] للمزيد، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "فلسطين الهوية والقضية: الجامعة وإعادة بناء السردية الوطنية الفلسطينية"، في: مؤتمر "إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني" (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات، 2017)، ص 157 - 174.

[19] الطاهر وطّار، "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" (الجزائر: منشورات مطابع الحزب، ط 2، 1980).

[20] ولد فارس بارود في مخيم الشاطىء في غزة في سنة 1961 لعائلة لاجئة من قرية بيت دراس، واعتُقل في سنة 1991 وحُكم عليه بالسجن المؤبد وفوقه 35 عاماً. واستشهد بتاريخ 6 شباط / فبراير 2019 في مستشفى "سوروكا" في بئر السبع بعد نقله من سجن "رامون" في صحراء النقب المحتلة بعد 28 عاماً من الأسر، ولا تزال سلطات الاحتلال تحتجز جثمانه حتى اللحظة.

[21] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 3 تموز / يوليو 2020).

[22] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 13 أيلول / سبتمبر 2020).

[23] وليد دقّة، "[حكاية سر الطيف]: الشهداء يعودون إلى رام الله" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2021).

[24] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 24 كانون الثاني / يناير 2021).

[25] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 13 أيلول / سبتمبر 2020).

[26] س. س.، "محادثة هاتفية" (سجن النقب، 5 كانون الأول / ديسمبر 2021).

[27] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 13 أيلول / سبتمبر 2020).

[28] وليد دقّة، "حكاية المنسيّين في الزمن الموازي – مسرحية غنائية" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2011).

[29] رسالة إلى وليد دقّة، بتاريخ 7 تشرين الثاني / نوفمبر 2022.

[30] رسالة إلى وليد دقّة، بتاريخ 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2022.

[31] وليد دقّة، "رسالة صوتية من سجن عسقلان"، بتاريخ 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2022.

[32] المصدر نفسه.

[33] المصدر نفسه.

[34] للاطلاع على قراءة طباقية لرواية وطّار ومسرحية دقّة، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "الشهداء يعودون إلى رام الله"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 133 (2023)، ص 128 - 155.

[35] وليد دقّة، "رسالة إلى مسرح الحرية" (أرشيف وليد دقّة، 3 آب / أغسطس 2023)؛ وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "الرملة"، 3 آب / أغسطس 2023).

[36] يذكر دقّة أنه استضاف المسرحي الراحل فرانسوا أبو سالم في بيت العائلة في سنة 1980، بعد تقديمه مسرحية "جليلي يا علي" على مسرح "غفعات حبيبة" المجاورة لبلدته باقة (الغربية). "محادثة هاتفية" (سجن "رامون"، 5 نيسان / أبريل 2019).

[37] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "وليد دقّة: دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر"، "مجلة الآداب" (20 أيار / مايو 2020)، في الرابط الإلكتروني.

[38] انظر: دقّة، "حكاية المنسيّين في الزمن الموازي..."، مصدر سبق ذكره.

[39] عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموازي في فكر وليد دقّة"، "المجلة العربية للعلوم الإنسانية"، المجلد 39، العدد 155 (صيف 2021)، ص 271 – 308.

[40] دقّة، "صمت القبور"، مصدر سبق ذكره.

[41] وليد دقّة، "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2010).

[42] وليد دقّة، "ما بعد صهر الوعي: نظام الإغراء والإغواء" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2022).

[43] بدأ دقّة التفكير في مفهوم "العصبة" في مرحلة مبكرة، لكنه لم يطورها كأداة تحليل إلّا مؤخراً. انظر: وليد دقّة، "رسالة بخصوص بحث الاستشهاديين" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 5 أيار / مايو 2005).

[44] انظر: زيجمونت باومان، "المراقبة السائلة"، ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019)؛ زيجمونت باومان، "الخوف السائل"، ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)؛ زيجمونت باومان، "الحداثة والهولوكوست"، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014). وانظر كذلك:

Thomas Mathiesen, “The Viewer Society: Michel Foucault’s ‘Panopticon’ Revisited”, Theoretical Criminology, vol. 1, no. 2 (1997), pp. 215-234.

[45] دقّة، "ما بعد صهر الوعي... "، مصدر سبق ذكره.

[46] وليد دقّة، "صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره.

[47] وليد دقّة، "ما قبل صهر الوعي: تحولات حركة التحرر الوطني الفلسطيني" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2010).

[48] وليد دقّة، "القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية - 1"، "فصل المقال" (10 / 2 / 2006)، في الرابط الإلكتروني.

وليد دقّة، "القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية - 2"، "فصل المقال" (14/ 2/ 2006)، في الرابط الإلكتروني.

[49] دقّة، "ما قبل صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره.

[50] عبد الرحيم الشيخ (إعداد وتقديم)، "ندوة الحركة الفلسطينية الأسيرة: الجغرافيا السادسة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 128 (خريف 2021). ص 39 - 42.

[51] دقّة، "صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره.

[52] انظر: نعومي كلاين، "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2007)؛ ميشيل فوكو، "المراقبة والمعاقبة" (بيروت: مركز الإنماء العربي، 1990)؛ زيجمونت باومان، "الحداثة السائلة" (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016).

[53] دقّة، "صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره.

[54] المصدر نفسه، ص 61.

[55] المصدر نفسه، ص 76.

[56] وليد دقّة، "كلب مبدئي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، بلا تاريخ).

[57] زكريا تامر، "النمور في اليوم العاشر" (بيروت: دار الآداب، 1981).

[58] وليد دقّة، "الكابو الفلسطيني وإشكالية الإطار المفاهيمي للجان حقوق الإنسان" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2017).

[59] وليد دقّة، "الكابو وتجارة الوصل والفصل" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2017).

[60] انظر:

Marwan Barghouti, “Why We are on Hunger Strike in Israel’s Prisons”, New York Times, 16 April 2017.

[61] انظر: وليد دقّة، "احتلال شمولي: الحواجز كأداة للسيطرة على مستقبل الفلسطيني" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2012)؛ وليد دقّة، "السيطرة بالزمن"، موقع "أوان"، 16 حزيران / يونيو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[62] للمزيد عن هذه الأنماط الرقابية، انظر:

Laura Piacentini and Gavin Slade, “Architecture and Attachment: Carceral Collectivism and the Problem of Prison Reform in Russia and Georgia”, Theoretical Criminology, vol. 19, no. 2 (2015), pp. 179–197;

Anton Symkovy, “Prison Order Through the Hyperopticon, Collectivism, and Atomisation: The Surveillance and Disciplining of Ukrainian Prison Officers”, Theoretical Criminology, vol. 27, no. 3 (2023), pp. 481-498.

[63] وليد دقّة، "مداخلة لمناسبة إطلاق صهر الوعي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2010).

[64] وليد دقّة، "حول ضرورة الفصل بين الجهاز الطبي والجهاز الإداري في السجون" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، أواخر حزيران / يونيو 2017).

[65] انظر: وليد دقّة، "أنت تطلب الإذن لتقييد نفسك"، "عرب 48 / فسحة ثقافية"، 7 شباط / فبراير 2018، في الرابط الإلكتروني.

وانظر أيضاً:

وليد دقّة، "حرّر نفسك بنفسك"، "صحيفة الحدث" (16 نيسان / أبريل 2020)، في الرابط الإلكتروني.

[66] وليد دقّة، "يوميات المقاومة..."، مصدر سبق ذكره، ص 16.

[67] وليد دقّة، "طلب انتساب جماعي لصفوف التجمع الوطني الديمقراطي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 8 آذار / مارس 1998).

[68] وليد دقّة، "رياحين الشباب.. بين مفاصل صخر الدولة العبرية" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2002 - 2022).

[69] وليد دقّة، "رسالة إلى سناء سلامة: حول الانتساب للتجمع الوطني الديمقراطي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 1998).

[70] وليد دقّة، "رسالة إلى الأسير المحرر وعضو المكتب السياسي لحركة (كفاح) منير منصور أبو علي" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 20 حزيران / يونيو 1998).

[71] هشام عبد الرازق، "لمَن يهمّه الأمر: بخصوص أحد أسرى الداخل - فلسطين 48" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2000).

[72] وليد دقّة، "رسالة فلسطين المحتلة من عام 48 إلى الرئيس والقائد أبو عمار" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 6 نيسان / أبريل 2004).

[73] وليد دقّة، "رسالة أسرى الداخل - فلسطين المحتلة من عام 48 إلى الرفيق جورج حبش" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 5 كانون الثاني / يناير 2000).

[74] دقّة، "رياحين الشباب..."، مصدر سبق ذكره.