يمتلك الشهيد عينَين: الأولى كي يشهد من خلالها لأن أحد المعاني الحرفية لكلمة شهيد هو من يشهد أي مَن يرى.
والعين الثانية تكون مغمضة لأنها تشير إلى موته، وعندما يتوغل في الموت تنفتح عين الشهيد من جديد.
أمّا الأسير المؤهل للشهادة في أي لحظة، فعيناه مفتوحتان على بياض السجن والتعذيب، واحتمال الموت يلوح أمام عينيه كشبح بارد مغطى بالزمن الذي لا يمضي.
عينا الأسير تنتظران الغياب في الموت كي تُكملا صورة الفلسطيني الضحية.
لم يكن وليد دقة ينتظر الموت في سجنه، وإنما كان يحاول أن يصنع الحياة بيده وعقله وقلمه وعينيه. فجاء الموت كضربة من السجان الإسرائيلي الذي أهمله في مرضه وقرر أن يقتله قبل أن يخرج من السجن ويلتقي ابنته وزوجته. رجل لم يرَ ممّا أنتجه في حياته سوى جزء من كتبه، أمّا ما تبقّى لنا فهو مخطوطات حاولنا تجميع بعضها في هذا العدد، لا من أجل أن نكون أوفياء للشهيد فقط، بل كي نكون أوفياء لأنفسنا ولثقافتنا ولمقاومتنا أيضاً.
"كان" وليد، وفعل الماضي الناقص لا يليق بهذا الرجل الشجاع والنبيل، فهو لم يكن، وإنما كان ويكون وسيكون.
هذا الوليد الذي قفز فوق قواعد اللغة العربية يستحق أن نرفعه بأيدينا فوق قواعد السجن لأنه لم يكن سجيناً، وإنما كان سجاناً لأعدائه، فقد حبسهم معه في تلك الزنزانة الصغيرة التي فتحها برسومه على الشمس والأطفال، فتلألأت فلسطين بين يديه نوراً ساطعاً، وصارت قِبلة لجميع الأحرار في العالم.
ليس غريباً يا رفيقي أن تصير غزة نقطة تحول في تاريخ العالم، فهذه الغزة ليست مصنوعة من كلمات فقط، بل هي استعارة لمزيج الدم والحبر أيضاً، كي تعلّمنا بلاغة الحق الذي لا حق سواه، وجماليات الصمود والبطولة التي لا جمال يفوقها.
لا تسألوني كيف غيرت غزة تاريخ العالم، فهذه المدينة انفجرت في قوى تعفنت بالاحتلال والقمع، وابتلعها الكذب الذي يسود العالم، فكان لا بد من غزة كي تعيد إلى العالم كثيراً من المعنى الذي يحتاج إليه.
هكذا أيها الناس رأينا غزة تولد، ورأينا الشهداء يعودون من جديد. فأرض فلسطين كلها صالحة للعودة، وعندما نقول حق العودة فإننا لا نعني حق الأحياء في العودة، بل نعني حق الشهداء أيضاً، أي حقهم في قبور تليق بأرواحهم وتضحياتهم، لا مقابر أرقام، أو مقابر جماعية دُفن فيها النساء والأطفال مكبلين ومرميين في حفر مجهولة.
في هذا المكان وُلد اللقاء بين عينَي الشهيد والأسير. كلاهما أسير، وكلاهما شهيد، بحيث اختلطت الأسماء والمعاني، وصار لزاماً علينا أن نستنبط قاموساً جديداً نروي فيه حكايات الفلسطينيين والفلسطينيات، والسجناء وأولئك الذين ينتظرون أولادهم.
لكن هذه المرة عندما خرج الأسرى من سجونهم لم يعودوا إلى قراهم أو بيوتهم، وإنما صنعوا من جامعات العالم بيوتاً، ومن شوارع العالم قرى، وفتحوا شوارع فلسطين لكل مَن يحب فلسطين. وغداً أو بعده عندما ستزورون فلسطين لا تتعجبوا من جمال أرضها، فهذه الأرض مصنوعة من جمال أهلها، وهي تعيد سكب نفسها اليوم في كأس الحرية كي نشرب جميعا نخب التحرر.
هكذا تقوم غزة بتحرير العالم بشكل لم يتوقعه أحد. كيف يقوم السجين بتحرير الحُر؟ هل لأن الحر لا يمتلك حريته؟ أم لأن السجين تحرر من سجنه؟! لا هذا ولا ذاك، فغزة تحررنا لأنها لبست كفن الشهداء، ولأنها تنظر إلينا من بين عيون أسراها وشهدائها لتروي لنا "سر الزيت" الفلسطيني الذي حوّل الطفولة إلى أداة حرية وتحرر.
الأحد الماضي، رأيت أطفال غزة كلهم، الشهداء والأحياء، محمولين على الأكتاف يحتفلون بعيد الشعانين، عيد دخول يسوع الناصري إلى مدينته القدس.
اليوم دخلنا مع أطفال غزة إلى القدس السماوية وتركنا القدس الأرضية تداوي جروحها بالجروح وألمها بالألم.
ماذا ننتظر بعد الشعانين؟
يعتقد كثير من الناس أن بعد الشعانين تأتي القيامة، وهذا اعتقاد خطأ، لأن بعد الشعانين هناك درب الآلام ومحاكمة يسوع وتعرضه للتعذيب والضرب قبل أن يصدر عليه الحكم بالصلب. فالقيامة الصغرى التي يُحتفل بها في الشعانين هي مقدمة للموت الكبير الذي يُحتفى به في يوم الجمعة العظيمة.
فنحن ذاهبون معه من موت إلى موت كي ننتظر القيامة على باب القبر.
الفلسطينيون اليوم ذهبوا إلى القدس كي يحتفلوا بالقيامة الصغرى منتظرين القيامة الكبرى، وهذا دأبهم منذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وهم حين سيعودون، فإن عودتهم ستكون بداية تاريخهم الممحو، وستُكتب بنور القيامة وبإيقاعات الحرية.
عندها تلتقي العيون وتتقاطع النظرات، الشهيد ينظر بعينَي الأسير، والأسير يقرأ كلام الشهيد، والضوء يعمّ العائدين إلى القدس.