لا بد من أن يصاب مَن يتابع ويشاهد فصول الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاستعمار الصهيوني في قطاع غزة بصدمة من هول المشاهد والشهادات التي تتوالى بشأن شتى أصناف القتل والتعذيب والتجويع والتعطيش والحصار والنزوح وسلسلة طويلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. هذا غير أن ما يجعل صدمة المرء أضعافاً مضاعفة هو أن يعلم أن ما نشهده الآن لا يحدث للمرة الأولى، وإنما هو تكرار، في كثير من الجوانب، لجرائم سابقة ارتكبتها قوات الاستعمار الصهيوني في مراحل متعددة من وجودها الدامي في بلدنا في اعتداءاتها وحروبها مع العرب والفلسطينيين.
ولعل الجانب الذي لم يأخذ حقه بالكامل في زخم الأحداث وهولها هو ما يتعلق بأَسرى غزة ومعتقليها الذين تتعامل معهم سلطات الاستعمار بمنطق خاص؛ فمع أن حياة الأَسرى أصبحت جحيماً في سجون الاستعمار الصهيوني بصورة عامة، تشهد عليها أجساد المفرَج عنهم، والتي تبدو كأنها هياكل عظمية مكسوة بالجلد فقط مع ما يتعرضون له من تعذيب وحرمان من أبسط مقومات الحياة، لكن كل ما يعاني جرّاءه الأسرى الفلسطينيون غير الغزيين يبدو كأنه مجرد نزهة أمام ما يعاني جرّاءه أسرى غزة.
وتعتقل سلطات الاستعمار الصهيوني الغزيين بموجب قانون "اعتقال المقاتلين غير الشرعيين" لسنة 2002، الذي سنَّه الكنيست الإسرائيلي ليتسنى لسلطات الاستعمار الإبقاء على معتلقين لبنانيين في السجون الصهيونية من دون محاكمة أو تهمة أو سقف زمني، لتستخدمهم في إطار أي صفقة تبادل ممكنة مع المقاومة اللبنانية في مقابل الطيار المفقود أرون أراد. وقد استخدمت قوات الاحتلال هذا القانون لاعتقال مواطنين غزيين في عدوان سنتَي 2008 و2009، وفي عدوان سنة 2014، وفي حرب الإبادة الجماعية الحالية. لكن الجديد في هذه المرة أن الكنيست الإسرائيلي أدخل تعديلاً رابعاً إلى هذا القانون، أجاز بموجبه اعتقال الغزيين لفترات طويلة من دون أي عرض على محكمة، وهذا من جملة تعديلات أُخرى؛ فعلى سبيل المثال، كان القانون ينص على عرض المعتقل على القضاء في غضون 14 يوماً من اعتقاله، ومع التعديل، فقد أصبحت المدة 75 يوماً.[1]
غير أن هذا القانون لا يحتوي على أي بند يجيز تعذيب المعتقلين أو إهانتهم أو اضطهادهم، إنما غرضه الذي صيغ من أجله هو شرعنة اعتقال أَسرى من دون تُهم أو محاكمة أو سقف زمني. وما نحن في صدده لا علاقة له بالقانون، ففي الحالة الاستعمارية، يُعدُّ القانون مجرد ديكور مصمَّم لشرعنة الاحتلال والإبادة الحالية، لكن الاحتلال لا يتورع عن التخفف من أي عبء قانوني إذا لم يستطع أن يجد قوانين يلتف بها على القانون الدولي أو يشرعن بها الاحتلال والإبادة.
وعندما أشاهد وأتابع تفاصيل الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وخصوصاً المتعلقة بمسألة الأَسرى، تعيدني ذاكرتي إلى برنامج "سرّي للغاية"، الذي كان يُعرض على قناة "الجزيرة"، من إعداد الصحافي المصري يسري فودة. وقد أعد فودة حلقتَين تحت عنوان "الطريق إلى عتليت: مذابح الأَسرى العرب في حربَي 56 و67"، ونُشرتا سنة 2000،[2] ثم أُعيد إنتاج الحلقتَين على شكل كتاب منشور سنة 2003 عن قناة "الجزيرة"، بفوارق طفيفة بين النسخة المرئية والنسخة المكتوبة. ومن يشاهد هاتَين الحلقتَين، سيُصدم من درجة التشابه والتكرار فيما تعرّض له الأَسرى الفلسطينيون والمصريون في تلك الآونة، ومع ما يتعرض له الأَسرى الغزيون في وقتنا الحالي.
ويورد فودة في تحقيقه شهادة للطبيب المصري أحمد الفنجري، الذي كان يعمل في مستشفيات القطاع في إبان العدوان الثلاثي على مصر، ومن ذلك قطاع غزة سنة 1956، ونجا من الموت المحقق مرتَين بأعجوبة، ويقول واصفاً يوم الغزو الإسرائيلي: "أنا كنت في البيت عندما سمعتُ الميكرفونات تدور في الشوارع، وتطلب من كل الرجال بين السادسة عشرة والستين أن يخرجوا من المنازل ويتجمعوا في ساحة وسط البلد، وتهدد بأنه مَن يبقَ في بيته، فسيُعدم في الحال... وقسّمونا إلى ثماني مناطق، وأنا كنت في منطقة ʾشمونيʿ، أي ثمانية، وهي منطقة الخَطِرِين الذين سيُعدمون... وهكذا، ولمجرد أنهم يريدون إبادة الشباب، كانوا يأخذون كل من يرون فيه قدرة على حمل السلاح، ويلقون به في صحراء النقب حيث يتم إعدامهم... ومرت أشهر على اختفاء نحو 300 شاب، ثم فجأة، هطلت في ذلك العام أمطار غزيرة وسيول جرفت الجثث من صحراء النقب إلى قطاع غزة، فذهبتُ مع جميع الأطباء إلى منطقة تجمُع الجثث، وبينما كنتُ أبحث بين الجثث المتعفنة، التفت سمعي إلى صرخة مفاجئة من سيدة عجوز تولول: ʾابني... ابنيʿ، فتجمّع الأهالي حولها باستغراب؛ إذ لم يكن أمامها جثة، والجثث في أي حال مطموسة الملامح، لكن وجدوها تمسك بِرِجْل خشبية [استدلّت منها على جثة ابنها الذي كان مبتور القدم]... وقد كانوا جميعاً في عز الشباب أحياء، فأخذوهم أمام أعيننا أسرى مدنيين أحياء، وأعادتهم السيول إلينا هكذا... جثثاً متعفنة."
وكأن من يقرأ هذه الرواية الآن يصف مشاهد المقابر الجماعية التي وُجدت بعد انسحاب قوات الاحتلال من مستشفى الشفاء أو غيره من مستشفيات قطاع غزة وأحيائه. وعلى سيرة المستشفيات، وما تعرضت له في القطاع خلال حرب الإبادة الجماعية الحالية من استهداف وتدمير وقتل للمرضى والنازحين والطواقم الطبية، يورد الفنجري شهادة أُخرى لا تقلّ فظاعة وإجراماً عن الأولى؛ وهي مجزرة مستشفى خان يونس، إذ يقول: "كنتُ وقتها أقوم بعملية نقل دم لضابط مصري جريح، وفجأة، انهالت علينا جميعاً داخل المستشفى طلقات الرشاشات من كل جانب. ومن كثافة الطلقات، وانتشار الذعر، وقعتُ على الأرض، وانقلبت الأسرّة بمن كان عليها من جرحى مدنيين وعسكريين فوقي، وغبتُ عن الوعي، وعندما أفقتُ، أطبق على سمعي صمت رهيب كأنني في مقبرة، وتحسستُ سائلاً لزجاً يحيط بي، فاكتشفتُ أنني كنت أسبح في بحر من الدماء، فتملّكني الذعر، ولم أستطع الوقوف على قدميّ، وزحفتُ على بطني بين الجثث المبعثرة حتى وصلتُ إلى غرفة العمليات، فوجدتُ جميع زملائي الأطباء قتلى في مشهد يشيب له الولدان."
لا حد للتشابه بين جرائم الماضي التي ارتكبتها قوات الاستعمار وما نشهده اليوم، من دون التغاضي عن حقيقة اختلاف السياق والأهداف، لكن على أقل تقدير، فإنه فيما يتعلق بموضوع الأَسرى، عسكريين أو مدنيين، فإن الموضوع يبدو وكأن التاريخ توقّف، وما نشهده اليوم ليس إلاّ تكراراً للجرائم نفسها بتفاصيلها. وفي تحقيق فودة، يدلي عدد من الجنود والضباط والمدنيين المصريين بشهادات عن الأَسر وعالمه، وعن إعدامات الأَسرى العزّل، عسكريين ومدنيين، بالجملة، وتعذيب من بقي منهم بـ "تلذُذ"، كما وصف أحد الجنود المصريين.
وقد تحدّث أحد الجنود المصريين عن نقلهم إلى معسكر اعتقال في شاحنات كالبهائم، مكدَّسين، ومَن لم يجد متسعاً بين عشرات الأسرى، فقد كان يُعدم لأنه لا يوجد متسع له، إلى جانب إجبارهم على التعري وخلع نعالهم والمشي على الحصى الملتهب البازلتي الذي أدمى أقدامهم، وإجبارهم على الجثو وطأطأة رؤوسهم طوال اليوم، ومن يتحرك، يُطلق عليه النار، فيردى قتيلاً فوراً. وبشأن الطعام، يقول أحدهم إنهم أُطعموا قشور البرتقال التي رُميت أمامهم كما تُرمى إلى البهائم، وفي حالة أُخرى، كان يُوزَّع نصف قطعة خبز على عنبر كامل.
هذه الشهادات التي جاءت إلينا من سنة 1967 هي نفسها التي نسمعها من أسرى غزة المُفْرَج عنهم من معسكرات الاعتقال الصهيوني، وهناك كثير من التفاصيل التي لا مقام لذكرها ومقارنتها مع ما نشهده اليوم، ولعل بعضها يفوق ما يتعرض له أسرى غزة حالياً.
وبخلاف المنظور القانوني الذي تتعاطى به سلطات الاستعمار الاستيطاني مع غزة وأسراها، والأسرى الفلسطينيين بصورة عامة، الذين ترفض اعتبارهم أسرى حرب بذريعة أن أسرى الحرب هم أولئك الذين ينتمون إلى جيوش نظامية لدول لا إلى مجموعات "إرهابية"، فإن المنظور القانوني مع أسرى الجيش المصري لا يمكن الجدال فيه بأن هؤلاء الجنود أسرى حرب تنطبق عليهم أحكام القانون الدولي، غير أن ذلك لم يَحُل دون ارتكاب أفظع الجرائم بحقهم.
ولم يكن هناك "طوفان أقصى" سنة 1956 أو سنة 1967، إنما بالعكس، فقد كانت الضربة الافتتاحية من نصيب دولة الاستعمار الصهيوني، وهو ما أدى إلى هزيمة نكراء للعرب حينها، لكن ذلك لم يمنع ارتكاب هذه المجازر وجرائم الحرب بحق الأسرى، وها نحن اليوم نقف أمام الجرائم نفسها، وبحق الأسرى بصورة خاصة.
لقد مرت جرائم إسرائيل الأولى من دون حساب أو عقاب أو تعويض أو اعتذار، وسقطت هذه الجرائم بالتقادم برضى العرب الذين لم يثيروها عندما جنحوا للسلام أو الاستسلام، غير أن الجرائم التي تسقط بالتقادم ستتكرر حتماً، والمجرم الذي يفلت من العقاب سيعيد جرمه مراراً وتكراراً. إذا عاد يسري فودة بعد أكثر من ثلاثة عقود بحثاً عن تلك الجرائم التي كانت طي النسيان، والتي رحل شهودها إلاّ أقلهم، وشارفت شواهدها على الاندثار، فإننا اليوم شهود على الجرائم نفسها التي تُبث على مدار الساعة بالصوت والصورة، وإذا مرت هذه الجرائم مرور الكرام، كما مرّ غيرها، وسقطت بالتقادم، أو ربما بالتسارع، فإن علينا أن ننتظر تكرُّرها بصورة أفظع في مكان ما.
[1] "قانون اعتقال المحاربين غير القانونيين للعام 2002"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا".
[2] "سري للغاية - الطريق إلى عتليت - الجزء الأول"، "يوتيوب"، 13/7/2008.
"سري للغاية - الطريق إلى عتليت - الجزء الثاني"، "يوتيوب"، 13/7/2008.