تلقي هذه المقالة الضوء على بعض الاستراتيجيات والخطط والوسائل العسكرية التي استخدمتها القوات العسكرية الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة، وخلال هجومها البرّي الذي بدأ بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وفي هذا السياق، سيتم نقاش الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية في تشغيل القوات، والاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية المتبعة في السيطرة على المستشفيات، والذرائع والتمويه المتعمّد في الإعلام العسكري الإسرائيلي، والوسائل والتقنيات الحديثة المستخدَمة في إدارة العمليات الأمنية.
إن ما يميّز هذه الحرب المسعورة التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة أنها تستهدف، بصورة غير مسبوقة، المدنيين والمنشآت المدنية والبنى التحتية لتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة. ولا بد من الإشارة في البداية إلى أنه في ضوء أحكام نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، فإنه يُمنع منعاً باتاً الاستهداف المتعمد للأهداف المدنية، وهو ما يشكّل جريمة حرب،[1] ويُحظَر (في البرتوكول الإضافي الأول) القيام بالأعمال العسكرية التي لا تميّز بين الأهداف العسكرية المشروعة من جهة، والسكان المدنيين والأملاك ذات الطابع المدني من جهة أُخرى.[2] لكن جيش الاحتلال كان، ولا يزال، يستهدف كل المرافق الصحية، مستخدماً القصف الجوي والمدفعي، واقتحام المستشفيات وتدمير معظم أقسامها وتسويتها بالأرض.
ولقد بدا جلياً أن الكيان الصهيوني، مستنداً إلى أقصى وسائل الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي، لم يكتفِ بتحوير طبيعة القانون الدولي، أو بإجراء قراءة انتقائية له، كما تفعل عدة دول معتدية، بل أيضاً ذهب إلى إنكار مرجعيته بالكامل، وتجلّى ذلك في رفض الكيان التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والتحقيقات الدولية في جرائم الحرب وصولاً إلى منع دخول الخبراء ولجان التّحقيق الأمميّين ومنظّمات حقوق الإنسان الأراضي المحتلة.
الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية في تشغيل القوات
كما هو معلوم، يُعتبر الجيش الإسرائيلي من أكثر الجيوش تطوراً من الناحية التكنولوجية في المنطقة، ويمتلك أعلى القدرات لجيش نظامي، مستفيداً من أحدث تقديمات التكنولوجيا الغربية، ولم يعد يصنِّع أسلحته فقط، بل أيضاً أصبح في المراتب المتقدمة في تصدير السلاح، وتقابله الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية وهي قوى غير نظامية بَنَت قدرات مقاومة في أوضاع صعبة وتحت الحصار والمراقبة اللصيقة، لذا فإن هذه الحرب التي تخوضها اليوم قوى المقاومة مع جيش الاحتلال هي حرب لامتناظرة. وبناءاً على قراءة في مجريات ردود المقاومة خلال عقد من الزمن على العمليات العدوانية في قطاع غزة، بدى واضحاً أن الصمود الأسطوري الذي يشاهده العالم اليوم لم يكن عن طريق الصدفة. وكنتُ قد نشرتُ في مجلة الدراسات الأمنية (قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر) في تموز/يوليو 2023 بحثي في هذا الموضوع بعنوان "قدرات المقاومة الفلسطينية في تصاعد... هل من حرب إقليمية!"[3]
وفي تحليل للمنهجية التي طبقها جيش الاحتلال في عملياته أمام قوات المقاومة، التي لا تعتمد تكتيكات الجيوش النظامية وعقيدة القتال التراجعي الجبهوي أمام توغُل قوات العدو، فقد رسم جيش الاحتلال خطوط عملياته في مرحلتَين:
المرحلة الأولى؛ الهجوم بصورة متزامنة من البر والجو والبحر على القطاع الشمالي، وتحقيق تماس مع كل دفاعات المقاومة عـلى محاور التقدم، والتقرب العملياتي والتكتيكي ليلاً عـبر نيران غزيرة وأحزمة نارية مكثفة، بقوام يزيد على 3 فرق قتالية، بما يعادل 60,000 مقاتل، وفي المرحلة نفـسها هـذه، تثبيت دفاعات القطاع الجنوبي، الذي هـو منطقـة جهد ثانوي، بالنيران المركزة والدقيقة، والاكتفاء فقـط بإجراء عمليات اسـتطلاع قتالي بغرض الخداع وجس النبض وتحقيق تماس دائم مع دفاعات المقاومة في هذا القطاع.
المرحلة الثانية؛ بعد إنجاز الواجبات العملياتية من الفرق القتالية الثلاث في القطاع الشمالي بالجهد الرئيسي، يتـم نقل متدرج لهذه الفرق نحو منطقة الجهد الثانوي في القاطع الجنوبي، والبدء بعمليات تحضير للهجوم الفعلي والحقيقي، وبصورة رئيسية تجاه محافظة خان يونس وحصارها، على غـرار ما حدث مع محافظة غزة ومحافظة الشمال، ثم توسيع الهجوم في اتجاه دير البلح والبريج والمغازي والنصيرات، والبدء بعمليات قضم جغـرافي وتدمير أصول ومقدرات المقاومة المتعددة هناك.
الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية المتبعة في السيطرة على المستشفيات
رافقت سيطرة جيش الاحتلال على المستشفيات حملة من التحريض بحجة إيواء عناصر وقادة المقاومة، أو استحداث غرف قيادة عمليات للمقاومة في مباني المشفى، لكن سرعان ما ثبت للعالم أنها خطة منهجية لهدم البنية التحتية وسبل العيش في كل القطاع. لذلك، فقد وضع خطط عدم استثناء أي مركز استشفائي، واعتمد على توجيه الإنذارات بإخلاء المنطقة المقصودة قبل التوغل، متبِعاً في تنفيذ عملياته المراحل الأربع التالية:
مرحلة التقدم: ويتم تطبيق الخطط المعدّة مسبقاً، بعد إجراء الاسـتطلاعات بالقوة وبالنار للوصول إلى تحقيق تماس حقيقي وناجح مع دفاعات المقاومة في الحافة الأمامية لمناطق صلاحياتها، بالإضافة إلى هجمات منسـقة ومتطورة عـبر خوض عمليات اسـتثمار ناجح في عدة مناطق دفاعية للمقاومة، لكن هذه المرة بمنهجية الأرض المحروقة، وظهر ذلك جلياًّ في تطبيق الاســتراتيجيا العسكرية التي أُقرت في عهد الجنرال أيزنكوت، والتي تقول: "عمليات التقرب وتحقيق التماس مع العدو يجب أن تكون متزامنة، وذلك عبر جناح الطائرة وجنزير الدبابة وماتور الزورق"،[4] فالقوات الجوية استعملت قذائف زنة 2000 رطل في هدم المباني والأبراج، وبمواكبة من سلاح البحرية ورماياته المركزّة يجري تقدّم القوى، كرأس حربة في البدء، بسبب الكثافة السكانية، ثم يُصار إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة التمدد.
مرحلة التمدد/التوسع: وتُنفَّذ بالتوغل في الشوارع الرئيسية وتقاطعات الطرق، مع تأمين تموضع مركزي لقيادة العملية وجدار حماية للآليات بواسطة الجرافات الكبيرة، والتي أضحت عنصراً أساسياً في التوسع، وفي مهام تدمير وإزالة آثار العدوان؛ إذ تعمد القوى المتقدمة إلى هدم كل ما يعترض طريق التموضع ومكانه، مفسحة المجال لقوى التطويق والعزل.
مرحلة التطويق/العزل: بعد التمدد بالآليات وتدعيم القوى المتوغلة بالعناصر الأمنية المولجة بالتوقيف والتحقيق والاعتقال، يتم إحكام الطوق على المنطقة المحيطة بالمستشفى، والبدء بتفتيش مباني الطوق وتمركُز القناصة على سطوح المباني لعزل أي مقاومة من الخارج، ثم تدخل القوى المتخصصة "بقعة العمل"، وينتقل معها الجهاز الأمني المولج بالتحقيق، وتبدأ مرحلة التطهير.
مرحلة التطهير: ولا تقتصر على مباني وأقسام المستشفى، فكل المباني في "بقعة العمل" هي هدف عسكري وأمني يمكن أن يحوي "إرهابيين" من أطباء وممرضين. ومثالنا هنا هو ما حدث في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي، وبدأت تمشيطه وتجريف ساحاته وتنفيذ عمليات استجواب للمرضى والطاقم الطبي، وأفادت تقارير إعلامية بأن أكثر من 100 جندي إسرائيلي اقتحموا حرم المستشفى بآلياتهم العسكرية.
الذرائع والتمويه المتعمَّد في الإعلام الإسرائيلي
روّج الإعلام الإسرائيلي لعملياته الانتقامية بادعاء أن عملية "طوفان الأقصى" تشكّل جريمة حرب، لكنه عاد ليتخلّى عن هذا التوصيف في موازاة التركيز على توصيف "حماس" بمنظمة "إرهابية" شبيهة تماماً بـ "داعش" و"القاعدة"، وبذلك، فإنه يشترك مع القوى المناهضة لـ "الإرهاب" في المنطقة، آملاً أن يعطي عملياته "مشروعية" إقليمية ودولية.
وفي الاتجاه نفسه، وإذ اعترف المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، الأدميرال دانييل هغاري، صراحةً بأن "مئات الأطنان من القنابل" قد أُلقيت فعلاً على القطاع الضئيل المساحة، فإنه أعلن أن "التركيز الآن على الأضرار وليس على الدقة"، بمعنى أن أهمية المعركة تحتّم بالنسبة إليه العمل على تحقيق أكبر ضرر في بنية "المقاومة"، حتى ولو تطلّب ذلك شنّ هجمات غير دقيقة (عشوائية)، وفي معزل عمّا ينتج منها من أضرار في أرواح المدنيين وأملاكهم. ووفق هذا المنطق، فإنه يصبح مقبولاً إنذار مستشفى بالإخلاء مهما يكن عدد المصابين فيها، أو حتى استهدافها في حال توفر أدنى مؤشر، ولو غير مؤكد، على استخدام أي من أجزاء المستشفى لخدمة "المقاومة".[5]
ومن أساليب التضليل الإعلامي طَلَبُ القوات الإسرائيلية أكثر من مرة من مدير مجمع الشفاء، محمد أبو سلمية، إخلاءه، بدعوى وجود أنفاق أسفله تستخدمها حركة "حماس" لأغراض عسكرية. وعلى الرغم من اعتراف إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بأن إسرائيل هي من بنت أنفاقاً أسفله خلال توسعة للمجمع الطبي أشرفت عليها خلال سيطرتها على القطاع في ثمانينيات القرن الماضي، فإن القوات الإسرائيلية حرّكت آلياتها لمحيط المجمع وحاصرته لعدة أيام، وقصفت بصورة متفرقة أجزاء منه، وبعد اقتحام المجمع الطبي بعدّة أيام، اعتقلت القوات الإسرائيلية مديره محمد أبو سلمية، ولا يزال قيد الاعتقال حتى الآن.[6]
ويؤكد المحرر الدولي لقناة "BBC"، جيريمي بوين، أنه "كان من الصعب حقاً تغطية الأحداث، لأن الطرف الرئيسي فيها - وهو ما يحدث في غزة - لا يمكننا الاقتراب منه." ومن ناحية الإنتاج الإعلامي، فقد قال إنه "في بعض الأحيان، يبدو الأمر وكأننا نتسلق الوحل، في محاولة لإنتاج المواد اللازمة لإعداد تقرير للأخبار التلفزيونية." وأضاف أنه "من الصعب جداً أن تكون مراسلاً تلفزيونياً لقصة لا يمكنك رؤيتها بنفسك". وهو ما يعني إبعاد المراسلين الدوليين عن مسرح الحداث وحصْر البث في ما يَصْدُرُ عن إعلام الجيش، وعلى سبيل المثال، فإنه عند الإشارة إلى الانفجار الذي وقع في المستشفى الأهلي في مدينة غزة، والذي أدى إلى ارتقاء مئات الشهداء المدنيين الفلسطينيين، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت حريصة جداً على الإشارة إلى أن مصدر الانفجار غير معروف. وفي الوقت عينه، فقد تبنّت وسائل الإعلام نفسها قصصاً لم تدقق في صحتها، ونشرتها على صفحاتها الأولى، كمزاعم ارتكاب "حماس" "فظائع" في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومنها الاعتداء على الأطفال، وهي الادعاءات التي تداولها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وعاد في وقت لاحق لينفيها.[7]
ويندرج ما روّجت له القوات الإسرائيلية عن وجود أسلحة ومراكز قيادة عمليات للمقاومة في المستشفيات ضمن تلك الاتهامات لتبرير عملياتها. ومن المفارقة أن تعمد إلى تصوير وبث فيلم عن اكتشاف أسلحة في أحد الأقسام، إذ تبيّن أن التصوير كان في إحدى غرف الأشعة، ومن البديهي أنها مغالطة وقع فيها جيش الاحتلال.
الوسائل والتقنيات الحديثة المستخدمة في إدارة العمليات
انتشرت تقنية التعرف على الوجوه في جميع أنحاء العالم خلال السنوات الأخيرة، والتي تغذيها أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة بصورة متزايدة. وتستخدم بعض البلاد هذه التكنولوجيا لتسهيل السفر الجوي. وفي تقرير نشرته "نيويورك تايمز"[8] أن مراقبة "حماس" في غزة – وفقاً لضباط إسرائيليين – جرت بدلاً من ذلك عبر التنصت على خطوط الهواتف، واستجواب السجناء الفلسطينيين، وحصد لقطات من الطائرات المسيّرة، والوصول إلى حسابات خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، واختراق نظم الاتصالات.
ولقد نما برنامج التعرف على الوجوه في غزة مع توسُع إسرائيل في هجومها العسكري هناك، وتم تزويد الجنود الإسرائيليين الذين دخلوا غزة بكاميرات مجهزة بهذه التكنولوجيا، وأقام الجنود أيضاً نقاط تفتيش على طول الطرق الرئيسية التي كان يستخدمها الفلسطينيون للفرار من مناطق القتال العنيف، مع كاميرات تفحُص الوجوه.
وقال ضباط الاستخبارات الإسرائيلية إن أهداف البرنامج كانت البحث عن الرهائن الإسرائيليين، وكذلك مقاتلي "حماس" الذين يمكن احتجازهم لاستجوابهم. وقال أحدهم إن المبادئ التوجيهية بشأن مَن يجب إيقافه كانت واسعة بصورة متعمدة، وقد طُلب من السجناء الفلسطينيين تسمية أشخاص من مجتمعاتهم يعتقدون أنهم جزء من "حماس"، ثم تبحث إسرائيل بعد ذلك عن هؤلاء الأشخاص، على أمل التوصل إلى مزيد من المعلومات الاستخباراتية.
وقبل الاقتحام الأول لمستشفى الشفاء، بعد تطويقه، وردت تقارير تفيد بإقدام جيش الاحتلال على حصر خروج كل الموجودين عبر مخرج واحد، وهذا ما مكّن أجهزة الأمن الإسرائيلية المختصة من توقيف مَن يتم التعرف إليه عبر ما تملكه من معطيات بحق المطلوبين، وعبر تقنية التعرف إلى الوجوه. ومن البديهي أن تعتقل الجميع، ولا يتم إجلاء أي منهم قبل التحقيق ومحاولة انتزاع الاعترافات بالقوة والعنف، أو تجنيد من تستطيع تجنيده. لكن المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بعد خروج جيش الاحتلال تشي بما كان يرومه هذا الجيش.
[1] نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، المادة 8، الفقرة 2، ب (2).
[2] البروتوكول الإضافي الأول (1977)، المادة 52.
[3] ناجي ملاعب، "قدرات المقاومة الفلسطينية في تصاعد... هل من حرب إقليمية!"، "مجلة الدراسات الأمنية"، فصلية تصدر عن قوى الامن الداخلي، العدد 95، تموز/يوليو 2023.
[4] أسامة خالد، "الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في تشغيل القوات ’السيوف الحديدية نموذجاً‘"، مركز الخطابي للدراسات، 4/1/2024.
[5] أحمد سمير يوسف، موقع "الشرق الأوسط"، مقالة مترجمة من نيويورك تايمز بعنوان: "Israel Deploys Expansive Facial Recognition Program in Gaza" نُشرت بتاريخ 27/3/2024، 11/5/2024.
[6] المصدر نفسه.
[7] مريم السبلاني، "الخنادق"، "التغطية الإعلامية الإسرائيلية للحرب: قرارٌ بالانفصال عن الواقع!"، 13/5/2024.
[8] المصدر نفسه.