الفكر الإبادي: جندي يهدد بالتمرد والانتقام
التاريخ: 
12/06/2024
المؤلف: 

وَلَّدت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، المتمثلة في الهجوم المباغت الواسع النطاق من جانب حركة "حماس" على ما يُعرف بمستوطنات غلاف غزة والقواعد العسكرية المحيطة بقطاع غزة، صدمة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، وأثرت بصورة عميقة في النفسية الجماعية، وتجسدت تداعياتها في تصاعُد العنف، لا على المستوى العسكري فحسب، بل أيضاً على المستويين الاجتماعي والشخصي.

وتم تداوُل مقطع فيديو على منصة التواصل الاجتماعي "X" في 25/5/2024، يظهر فيه جندي إسرائيلي يهدد بالتمرد على قرارات وزير الدفاع، يوآف غالانت، ويعلن نيته الانتقام بقتل الفلسطينيين.[1]  ويُعد هذا الفيديو دليلاً واضحاً على أن فكرة إبادة الفلسطينيين أصبحت شبه سائدة ومألوفة في إسرائيل بعد هذه الأحداث.

ويُظهر المقطع جندياً إسرائيلياً يرتدي زيه العسكري في منطقة ما في قطاع غزة، ويعبّر عن غضبه واستيائه الشديد إزاء قرارات وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بعدم تصعيد العمليات العسكرية إلى المستوى الذي يراه مناسباً للرد على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، مهدداً بصورة صريحة بالتمرد على الأوامر العسكرية، والقيام بعمليات قتل انتقامية ضد الفلسطينيين. ويشير هذا الفيديو إلى تصاعُد مشاعر العداء والرغبة في الانتقام وإبادة كل ما هو فلسطيني.

وبعد أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، شهد المجتمع الإسرائيلي تصعيداً نفسياً واجتماعياً ملحوظاً، وهذا التصعيد لم يكن محصوراً في العمليات العسكرية الرسمية فحسب، بل أيضاً امتد ليشمل مواقف الأفراد والجماعات في المجتمع الإسرائيلي. ويعكس هنا تعبير الجندي عن استعداده للتمرد والانتقام تحولاً خطِراً في العقلية الجماعية، إذ أصبحت الدعوات إلى العنف والانتقام جزءاً من الخطاب اليومي الإسرائيلي.

ولقد ساهمت الصدمة التي عاشها المجتمع الإسرائيلي بعد الهجوم في تغذية مشاعر الخوف والغضب، وهو ما أدى إلى زيادة مظاهر العداء تجاه الفلسطينيين، وهذه الحالة النفسية الجماعية تجعل من السهل تبنّي مواقف متطرفة والعنف كوسيلة للرد على التهديدات المتصورة.

ووفقاً لتقرير نشرته نقابة أطباء الصحة العامة في إسرائيل، فإن نحو 20% من سكان إسرائيل يعانون جرّاء اضطرابات ما بعد الصدمة.[2]  بالإضافة إلى ذلك، فقد أشارت صحيفة "هارتس" إلى تسجيل نحو 8000 حالة لجنود يعانون جرّاء اضطرابات نفسية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.[3]  وتلك الأرقام تكشف حجم الضغوط النفسية التي يواجهها الإسرائيليون نتيجة الحرب المستمرة منذ اندلاعها حتى كتابة هذه السطور.

ولذلك نلاحظ رواج الفيديوهات التي ينشرها الجنود من قلب غزة عبر صفحاتهم الشخصية، بالإضافة إلى الأغاني والشعارات التي تُستخدم في السياق السياسي والعسكري، وغالباً ما تكون هذه الأدوات وسيلة لتعزيز الهوية الوطنية، وتوحيد الشعب، وتعزيز الروح المعنوية، وتبديد الخوف للمقاتلين والشعب. ومن الأمثلة في هذا الشأن أغنية "عام إسرائيل حاي (شعب إسرائيل حي)" للمغني الإسرائيلي إيال جولان،[4]  و"مي ميشوجاع (من المجنون)" للمغني دودا جانج.[5] 

وتُظهر الأحداث الأخيرة أن انتشار السلاح بين المستوطنين لم يكن فقط لزيادة شعورهم بالأمان، بل أيضاً من أجل تأصيل العنف ضد الفلسطينيين كجزء من الواقع اليومي، وهذا التصاعد متجلٍّ في زيادة الاعتداءات المباشرة على المدنيين الفلسطينيين، إذ يتم استهدافهم من جانب المستوطنين المسلحين، ويمثّل الحادث الدموي الذي جرى في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين ارتكب المستوطنون مجزرة في بلدة قصرة جنوبي نابلس، ما أسفر عن استشهاد 6 فلسطينيين، بينهم أب وابنه، نموذجاً مناسباً.[6] 

وقد تحدثت وزارة الأمن القومي، التي يترأسها بن غفير، عن تزايُد كبير في طلبات الحصول على السلاح منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، إذ وصل عدد الطلبات إلى نحو 299,354 طلباً، تمت الموافقة على أكثر من 100,000 منها.[7]  ويُذكر أن هذا العدد لا يشمل المجندين في السلك العسكري بصورة وظيفية، ويعكس هذا الارتفاع الكبير في الطلبات قلق المجتمع الإسرائيلي، ورغبته في الشعور بالأمان في ظل تصاعُد التوتر مع الفلسطينيين، ودخول مرحلة جديدة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.

ويتصاعد هذا العنف بفعل خطاب الكراهية والتحريض الذي يتبنّاه بعض القادة السياسيين والإعلاميين الإسرائيليين،[8]  إذ يتبنى هؤلاء خطاباً يُبرر أعمال العنف ضد الفلسطينيين، ويحثون أحياناً على تنفيذها تحت أي ذريعة، وهو ما يؤدي إلى زيادة في مستوى الأعمال العدائية ضد الفلسطينيين.

على سبيل المثال، دعا وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، إلى حرق قرية حوارة جنوبي نابلس، بينما نشر الصحافي هليل بيتان روزين مثالاً آخر بشأن تبنّي خطابات كهذه، وذلك في سياق الرد على قرارات المحكمة الجنائية الدولية بشأن الحرب في غزة، إذ كتب باللغة العبرية: "بلا لاهاي ... بلا بيتسيلم، ليلة أُخرى لاحتلال رفح، الهجوم الهجوم، النهاية".[9] 

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً رئيسياً لتبادُل هذه الأفكار، كما أن التصريحات السياسية والإعلامية تؤدي دوراً كبيراً في تأجيج خطاب الكراهية داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ يمكن للخطاب الذي يتبنّى لهجة التصعيد والانتقام أن يشعل شعوراً شرعياً لدى الأفراد باتخاذ إجراءات عنيفة بأنفسهم، وتصريحات الجندي في الفيديو ربما تكون نتيجة مباشرة لخطاب كهذا.

وإن تصاعُد خطاب العنف، والتهديدات بالتمرد داخل الجيش يشكّل خطراً حقيقياً، إذ يمكن للفرد التزام الأوامر المُعطاة إليه في البداية، ثم ينتقل إلى السعي للانتقام الشخصي بما يتجاوز الإطار القانوني الاستعماري، وهذا يؤدي إلى فقدان السيطرة على الأفراد، وزيادة حالات العنف ضد الفلسطينيين، برعاية رسمية وشعبية. ويُظهر هذا التصاعد المتزايد أن المزيد من المجازر والانتهاكات يمكن أن تحدث ضد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وتؤدي قرارات القيادة السياسية والأمنية دوراً حاسماً في تشكيل ردات الفعل الشعبية، إذ يعكس عدم الرضا عن قرارات وزير الدفاع، يوآف غالانت، حالة من الإحباط وعدم الثقة في القدرة على حماية المجتمع.[10]  وهذا الفراغ القيادي ربما يدفع الأفراد إلى اتخاذ مواقف أكثر تطرُفاً، واللجوء إلى العنف كوسيلة لتحقيق الأمان والانتقام. وإن تصريحات الجندي تعكس أيضاً حالة من انعدام الثقة في القيادة السياسية والعسكرية الحالية، إذ واجه وزير الدفاع، يوآف غالانت، انتقادات واسعة بسبب استراتيجياته الأمنية، وهو ما أدى إلى شعور بعض الجنود بأنهم مضطرون إلى أخذ الأمور بأيديهم، ويُبرز هذا التوجه التوترات الداخلية والانقسامات التي يمكن أن تؤدي إلى تعميق التصدعات داخل المجتمع الاستعماري.

وفي الختام، يشكّل الفيديو المتداول على منصة التواصل الاجتماعي "X" ومواد مماثلة إشارة قوية إلى تصاعُد المشاعر العدائية والرغبة في الانتقام داخل المجتمع الإسرائيلي. وإن الظاهر في هذا المقطع جندي إسرائيلي، يُفترض به أن يكون ملتزماً بالأوامر، ومع ذلك يهدد بالتمرد على الأوامر العسكرية، ويعلن بوضوح نيته تنفيذ عمليات قتل انتقامية ضد الفلسطينيين، وهذا يُبرز أن فكرة إبادة الفلسطينيين لم تعد مجرد خيال، إنما أصبحت واقعاً يتجلى في تصرفات المستوطنين والجيش الإسرائيلي.

 

 

[1] مقطع الفيديولـ "الجندي المترد" عبر "منصة إكس" ("تويتر" سابقاً).

[2] "بسبب الحرب: نحو 20% من الإسرائيليين يعانون جرّاء صدمة ما بعد الصدمة والقلق"، "رابطة أطباء الصحة العامة في إسرائيل"، 13/2/2024 (بالعبرية).

[3] بار بيليج، "قسم التأهيل في وزارة الدفاع يستعد لاستقبال ما يقارب 8000 جندي من المصابين نفسياً نهاية العام"، "هآرتس"، 17/4/2024 (بالعبرية).

[4] أغنية للمغني الإسرائيلي "إيال غولان"، "يوتيوب"، 19/10/2023 (بالعبرية).

[5] دودا جانج، "نشيد المحارب"، 22/4/2021 (بالعبرية).

[6] محمد غفري، "مجزرة المستوطنين في قصرة.. عن السّتة الذين ارتقوا"، "ألترا فلسطين"، 13/10/2023.

[7] "بن غفير يكشف: كم عدد تراخيص الأسلحة التي تمت الموافقة عليها منذ 7/10؟"، "سورجيم"، 18/3/2024 (بالعبرية).

[8] "مؤشّر العنصريّة والتّحريض: مركز حملة يرصد 10 مليون مضمون عنف وكراهية باللغة العبرية في العام 2023"، حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 26/2/2024.

[9] منشور على منصة "إكس" ("تويتر" سابقاً) لهليل بيتان روزن، مراسل القناة 14، 24/5/2024 (بالعبرية).

[10] Rory Jones & Carrie Keller-Lynn, “Israel’s War Leaders Don’t Trust One Another”, The Wall Street Journal, 16/4/2024.

 

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.