في هذه الحرب، اكتشفتُ أنني يجب ألاّ أملك شيئاً. وإذا كان البعض يقول إن حياته أصبحت مختصرة بحقيبة ظهر، فهذه حقيقة، أمّا الحقيقة الأكثر مرارة، فهي أن ما اعتقدتُ أنها أملاك شخصية، أصبحت أشياء عابرة منذ بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وتعلمتُ الدرس الأكبر في حياتي؛ وهو أنني يجب ألاّ احتفظ بأكثر من ملابس تستر جسدي، كما أنه يجب أن أتوقف عن شراء كثير من الملابس حين تنتهي هذه الحرب، ففي هذه المرة، فقدتُ كل شيء، ولم أعد أفكر في الاحتفاظ بملابس تحمل ذكرى معينة، أو ملابس طفولة أولادي على سبيل المثال، بحسبما دأبتُ على أن أفعل كتذكار، فقد تركتُ خلفي في بيتنا المقصوف المليء بالركام كثيراً من ملابس أطفالي، وكنتُ قد خصصتُ رفاًّ في خزانتي لملابس تخصهم في سن طفولتهم، كي يعرضوها على أطفالهم، ويضحكوا، ويتندروا لأنهم كانوا أطفالاً ذات يوم، وأصبحوا اليوم آباء وأمهات.
وفي الدقيقة التي قُصف فيها بيتنا في غزة، كنا نركض في الشارع بغير هدى، وبملابس البيت التي تخففنا منها كثيراً بسبب الحر الشديد في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر، وانقطاع الكهرباء، وعدم وجود وسيلة لتبريد البيوت، وهكذا، فقد كنا نركض أنا وابنتاي الشابتان بملابس النوم تحديداً، حتى قطعنا الشارع الطويل الذي يمتد من المبنى الذي تركناه ركاماً خلفنا حتى الميدان الرئيسي الذي أخبرنا أننا ابتعدنا بما يكفي، وهنا نظرنا إلى أنفسنا ونحن حفاة، وسمعنا أصواتاً لنسوة فقيرات يأتين من بيت صغير مصنوع من الصفيح في الجوار، ووجدنا أيديهن تمتد نحونا وتضع فوق أجسادنا ملابس ساترة، وكذلك بعض الأخفاف المنزلية البالية، وأصبح علينا التوجه إلى بيت أحد الأقارب، بعيداً عما تبقّى من مبنانا.
وبعد أيام قليلة، حاولنا العودة إلى المبنى، والبَحْثَ عن بعض الملابس بين الركام، لكنني بحثتُ أولاً عن النساء اللاتي منحنني ملابسهن، بَيْدَ أن البيت كان خالياً، ويبدو أن أصحابه قد تركوه على عجل، فلم أستطع أن أعيد إليهن ملابسهن، فوضعتُها في حقيبة قماشية صغيرة، وأحكمتُ إغلاقها، وما زالت معي حتى اليوم، لأنني ما زلتُ على أمل أن أردّها إلى صاحباتها الطيبات.
وبعد أيام، كنا نتوجه نحو مدينة خان يونس، بعد أن نبشنا بين الركام بعض الملابس والمتعلقات، ومنها ألبوم صور قديم لعائلتي، وهو ما أسعدني فعلاً، وحين استقرينا في مدينة خان يونس كمحطة ثانية للنزوح، هاتفني أحد الجيران الذين صمموا على البقاء، على الرغم من أوامر الإخلاء، ليخبرني أن بيتاً يقع في الشارع نفسه قد قُصف، وخرجن منه فتيات صغيرات بملابس النوم كما خرجتُ مع ابنتَيَّ الاثنتَين، وتوجهن إلى ركام بيتنا بحثاً عن ملابس تسترهن، وعثرن فعلاً على بعضها، فارتدينها على عجل، وسحبهن الأب بسرعة في اتجاه مكان آخر، ظناً منه أنه أكثر أمنا.
حينها، سرحتُ كثيراً في ملابس بناتي التي سترت فتيات في سنهن، وأقنعتهن بأن الوقت لا يتسع لكي نتحسر ونأسف على ملابس ابتعناها بثمن مرتفع، أو ملابس تحمل ذكرى خاصة. وهكذا، فقد كنا نستقر في مدينة خان يونس، وقبل أن تكتظ بالنازحين، كنا نبتاع بعض الملابس من سوق المدينة العامر، والذي يقع في عمق المخيم الغربي منها.
وأصبحت لدينا ملابس جديدة، لكنها أبداً لا تشبه ملابسنا التي تركناها في بيتنا، والتي أمضينا وقتاً طويلاً في اختيارها، وكنا نبدو أنيقات إلى درجة ملحوظة. أمّا هذه الملابس، فهي لا تناسب سوى أجواء الحرب بعد أن قاربت الأسواق من أن تنفد من البضائع، ولأن الموسم كان موسم تبدُل الفصول، إذ يعاني تجار الملابس جرّاء شح الملابس، انتظاراً لدخول ملابس خريفية وشتوية من المعابر التجارية على حدود غزة.
وصرنا نرتدي ملابس بألوان قاتمة ومقاسات واسعة فضفاضة، وأصبح يشبه بعضنا البعض الآخر، وكأننا اعتمدنا زياً موحداً من دون قصد، لكننا تقبّلنا الأمر، وخصوصاً أننا لم نكن قادرين على غسل ملابس فاتحة اللون سرعان ما سوف تتسخ مع شح الماء وعدم توافر الكهرباء لتشغيل الغسالات الكهربائية.
وبعد شهرين تماماً، أصبحنا في مدينة رفح، وبعد أن بدأ الاجتياح البري لمدينة خان يونس، وتوجهنا إلى سوق الملابس، أملاً في العثور على ملابس أُخرى، ومع حلول البرد في مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر، وحين كنتُ أضع قدمَيَّ بين "بسطات" الباعة الجائلين الذين يعرضون بضائعهم، لفتني أحد الباعة، إذ كان يدلل على بضاعته بأنها مستعملة، والقطعة منها بـ 5 شواكل.
فتجمهرت نسوة كُثُرٌ حوله، ووقفتُ أنظر نحو الكومة التي تشبه تلاً صغيراً، وهنا، لفتتني قطعة ملابس سوداء، يلف ذيلَها تطريز فلسطيني خاص لا تخطئه عيني، فسحبتُها، واكتشفتُ أنها ثوب خاص بي، فصحتُ بالبائع: "من أين لك بهذه؟!"
فردّ البائع بلا مبالاة موجعة قائلاً: "كل هذه الملابس حصلنا عليها من تحت ركام المنازل، وقد تعبنا ونحن ننتشلها، ثم نفضنا عنها الغبار والأتربة لنقوم ببيعها."
لم أعلّق على كلام البائع الذي كان متبجحاً وأنا أخبره أن هذه القطعة تخصني، لكنني بعد دقيقة واحدة انتحلتُ له العذر؛ فهو فقير، ولا يملك مصدر دخل، ولم يجد أمامه شيئاً يجلب المال سوى ما تبقّى من ملابس الآخرين بين الركام.
لم أشأ أن أحصل على قطعة الملابس الخاصة بي مرة ثانية، وأمضيتُ 3 أشهر في مدينة رفح وأنا أتبرع بِقِطَعٍ من ملابسي إلى نساء في الخيام، وحثثتُ ابنتَيَّ الشابتَين على أن يفعلن مثلي، لأن النساء والفتيات لم يكنّ سعيدات الحظ ليحصلن على ملابسهن بين ركام منازلهن، وكثيرات منهن فقيرات، لا يملكن المال لشراء الملابس التي تَضَاعَفَ سعرها.
وبعد 3 أشهر كاملة قضيتُها في نزوح قسري قاتل في رفح، ومكابدة العيش بلا أدنى مقومات الحياة، أصبحتُ أملك قطعتَي ملابس، وكذلك باقي أفراد أسرتي، ولم أشعر بالحزن على ملابس تبرعتُ بها إلى أُخريات، ولا على خُفٍ منزلي أو حذاء رياضي يخص ابني، واستبدلنا الخفاف المنزلية بالجوارب. وهكذا، توزعت ملابسنا ومتعلقاتنا، وتضاءلت أملاكنا الشخصية حتى أصبحت بالكاد تملأ حقيبة ظهر صغيرة.
وفي اليوم الأخير قبل سفري إلى مصر، قالت لي أم مصطفى في رجاء: "اتركي لي كنزة صوفية، فقد هربتُ من بيتي في غزة وأنا أرتدي ثوباً صيفياً خفيفاً، ولا أملك المال لأشتري كنزة، أو حتى طعاماً." وكنتُ قد تعرفتُ إلى أم مصطفى عن طريق الصدفة قبل سفري بأيام، وفي الصباح الأخير، كانت تحتضنني والدموع في عينَيها، وقالت لي: "لن أنساكِ! فملابسكِ سوف تذكّرني فيكِ."
وفي الطريق إلى معبر رفح، سالت الدموع من عينَيَّ وأنا أكتشف أنني كنتُ أعيش في أمان زائف دعاني إلى تكديس كثير من الملابس والمتعلقات الشخصية، وها أنا أترك كل شيء، لكن ما يسعدني هو أنني تركتُ كثيراً لأُخريات بائسات عشن أوضاعاً كأوضاعي، هاربات تحت القصف والنزوح. وضممتُ حقيبة قماشية تحوي ملابس النساء اللاتي منحنني أغلى ما يملكن، وتنهدتُ وأنا أتمنى أن أعود ذات يوم إلى غزة، وأُعيد إليهن ملابسهن مع كثير من العناق والامتنان والدموع. فهل أعود؟