المتابع للشأن الإسرائيلي يتلمس بسهولة حجم التصدع السياسي حالياً بين تيارين، ليس بالسهولة أن يفوز أحدهما على الآخر:[1] الداعون إلى وضع استراتيجيا لما بعد الحرب (اليوم التالي)، وهم المتساوقون مع منطق الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا المؤيد، عن قناعة أو بحكم ضيق الخيارات، لدور للسلطة الفلسطينية في غزة؛ الرافضون لذلك، واستطراداً، وخصوصاً، لأي دور للسلطة الفلسطينية في القطاع.
أسباب كل طرف إسرائيلي في تبني استراتيجيا اليوم التالي من عدمه، ستتناوله هذه المقالة لاحقاً، لكن لا بد قبل ذلك من عرض التصدع الفلسطيني المقابل للتصدع الإسرائيلي، وتمترس كل طرف في موقعه على الرغم من إمكان استفادة كلا طرفي الانقسام الفلسطيني، ومن دون تغيير قناعاتهما بعقم المقاومة أو ضرورتها، مما يجري في إسرائيل من خلافات.
ظهر هذا الافتراق التام فلسطينياً بوضوح، أخيراً، في كلمة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام قمة المنامة العربية، والتي رأى فيها أن "العملية العسكرية التي نفذتها حماس بقرار منفرد في ذلك اليوم [7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023]، وفرت لإسرائيل المزيد من الذرائع والمبررات كي تهاجم قطاع غزة، وتُمعن فيه قتلاً وتدميراً وتهجيراً."[2]
وفي كلمة لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية لمناسبة ذكرى النكبة في 15 أيار/ مايو، كان واضحاً رفض الحركة لدور للسلطة الفلسطينية في غزة في "اليوم التالي"، وإن كان رفضاً موارباً وليس صريحاً، بقوله إن "اليوم التالي للحرب بالقطاع ستقرره حماس وباقي الفصائل الفلسطينية"،[3] من دون أي ذكر للسلطة الفلسطينية التي يدور جانب من الخلاف الإسرائيلي بشأن دور محتمل لها في غزة بعد الحرب. من الضروري هنا الاعتراف بأن "حماس" لم ترفض صراحة دوراً للسلطة، لكنها بالتأكيد لم تُلمّح إلى إمكان قبولها بدور للأخيرة في إدارة قطاع غزة.
تزامناً مع الموقفين الفلسطينيين، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية يُكرر موقفه الرافض لأي دور فلسطيني في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، إذ قال في كلمة مسجلة بثتها وسائل إعلام إسرائيلية وأجنبية لمناسبة ما تدّعيه إسرائيل "يوم الاستقلال" [النكبة الفلسطينية]، "لا نية لدي باستبدال حماستان بفتحستان."[4] وهذا موقف يتكرر منذ بدايات العدوان الإسرائيلي على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، توازياً مع رفضه أي حديث عن استراتيجيا "اليوم التالي".
وكان لافتاً الانتقاد الحاد الذي وجهه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في اليوم ذاته إلى نتنياهو، وقبل كلمة الأخير المسجلة، مطالباً إياه بـ "اتخاذ قرار بشأن حُكم غزة بعد الحرب"،[5] متساوقاً بذلك مع الرأي الأميركي الذي يرفضه نتنياهو، واستطراداً مع عدم استبعاد دور للسلطة الفلسطينية في غزة، مثلما تُريد الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن الكفة الراجحة فلسطينياً لمنطق تحالف السلطة بقيادة "فتح" أو جبهة المقاومة التي تقودها "حماس"، والذي ربما، بل على الأغلب، هو راجح لكفة المقاومة، وفق استطلاع للرأي أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" بين 5 و10 آذار/ مارس 2024،[6] فإن من الحكمة إدارة المعركة ميدانياً بمزيد من الصمود في قطاع غزة وتكثيف المواجهة في الضفة الغربية، وإدارتها سياسياً عبر دراسة جبهة العدو الداخلية المنقسمة على نفسها سياسياً، كما تُظهر المواقف المتعارضة حتى داخل الحكومة، وتبيّنها أيضاً التحليلات والمواقف الصحافية المتعارضة بدورها، كما أشرنا إليه أعلاه اقتباساً عن "مختارات من الصحف العبرية".
لا تقترح هذه المقالة أن يتخلى مسؤولو السلطة الفلسطينية عن رؤيتهم المعروفة بشأن العمل الدبلوماسي والسياسي، سواء وافقنا عليها أو رفضناها، وبغض النظر عن التجربة التي بات مؤكداً عقمها، وإنما أن يتوقفوا، لأسباب ذاتية ومصلحية حتى، عن تحميل حركة "حماس" مسؤولية ما يجري في غزة، إذ إن الإبادة المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني هناك تقترفها إسرائيل، وهي وقادتها مسؤولون عنها، وهي ككيان وهم كأفراد يجب أن يحاكموا عليها. وأبعد من ذلك، فإن ما يجري في الضفة، في عقر دار السلطة، إبادة "ناعمة" سوف تتحول إلى "عنيفة" إذا ما تسنى لإسرائيل إبادة غزة. لذا من مصلحة السلطة وحزبها، ومن المصلحة الفلسطينية بصورة عامة، أن يتم التركيز على جريمة الاحتلال، والتمسك بأن حكم غزة هو شأن فلسطيني، ولتعمل السلطة، بالاتفاق مع باقي الأطراف، على توافق بشأن موضوع إدارة غزة، بدلاً من رفض الآخر ونفيه.
كذلك لا تقترح المقالة أن تتخلى جبهة المقاومة التي تقودها "حماس" عن قناعتها بأن المقاومة المسلحة ضرورة في وجه العدوانية الإسرائيلية المتأصلة والمتصاعدة، قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر وبعد ذلك، فالمقاومة بالسلاح هي وسيلة لتحقيق هدف سياسي في آخر المطاف. وهنا أيضاً لا تقترح المقالة التراجع عن الهدف الاستراتيجي، وإنما تُصر على التمسك به، مع تقدير الموقف الحالي، والعمل على جمع ما يُمكن جمعه من ربح لمصلحة هذا الهدف، تمثُّلاً بالتجربة الجنوب أفريقية التي قادها نلسون مانديلا الذي فاوض سجّانيه العنصريين بشأن ملابس يرتديها المعتقلون في سجن جزيرة روبن، وحاورهم في الوقت ذاته بشأن مستقبل البلد، من دون أي تراجع عن هدف تقويض الحكم العنصري، ومع استمرار العمل المسلح، وهو ما حصل في نهاية المطاف.
إن ما تقترحه المقالة، أن تبحث جبهة المقاومة جدياً وتتعامل تكتيكياً مع مسألة إدارة فلسطينية وحيدة، ومن دون أي مشاركة غير فلسطينية، ولا بأس أن تقبل، ولو لفظياً، بأن يكون للسلطة الفلسطينية دور في هذه الإدارة.
إن إدارة المعركة لا تكون فقط بالتخطيط العسكري المبدع، بل أيضاً بأخذ الواقع المدني بعين الاعتبار، وبالحنكة السياسية التي تُحاور وتُناور، من دون تخلٍ عن الهدف الاستراتيجي، ومن دون تحويل الأهداف التكتيكية إلى نهايات استراتيجية.
[1] تنشر نشرة "مختارات من الصحف العبرية" على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية يومياً مقالات بأقلام إسرائيلية تؤكد هذا التصدع. وربما كان هذا الانقسام بارزاً جداً في نشرة يوم الخميس 16/5/2024، إذ تم نشر مقالتين لكل من المؤيدين لاستراتيجيا اليوم الثاني للحرب على غزة، ودعوتهم إلى إشراك السلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة، والرافضين لهذه الاستراتيجيا باعتبار أنه لا يمكن التفكير في استراتيجيا اليوم الثاني والحرب دائرة، واستطراداً هم يؤيدون حكماً عسكرياً إسرائيلياً في قطاع غزة، سواء أولئك الذين يريدونه دائماً مع عودة الاستيطان، أو الذين يريدونه موقتاً من دون السلطة الفلسطينية. انظر/ ي هذين الاتجاهين في نشرة "مختارات من الصحف الإسرائيلية".
[2] "الرئيس أمام قمة المنامة: قررنا استكمال تنفيذ قرارات المجلس المركزي بخصوص العلاقة مع دولة الاحتلال"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية/ وفا"، 16/5/2023.
[3] "هنية: اليوم التالي للحرب تقرره حماس وباقي الفصائل"، موقع "الجزيرة نت".
[4] “Netanyahu rebukes Gallant’s call to rule out Israelis governing Gaza”, The Jewish Chronicle, 15/5/2024.
[5] "غالانت يشنّ هجوماً حاداً على نتنياهو، على خلفية المماطلة في اتخاذ قرار بشأن حُكم قطاع غزة بعد الحرب، ونتنياهو يطالبه بالقضاء على ʾحماسʿ من دون أيّ أعذار"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية" على موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية".
[6] انظر/ ي نتائج الاستطلاع، في الرابط الإلكتروني التالي: نتائج استطلاع الرأي العام رقم (91): البيان الصحفي | PCPSR