وليد دقة أبو ميلاد؛ الرفيق الاستثنائي والإنساني والقامة الثقافية والفكرية والسياسية والنضالية، واحد من الذين حولوا السجن إلى مدرسة ثورية؛ انتمى إلى مشروع تحرّري جماعي متكامل لا يمكن عزله أو أسره أو تجزئة مكوّناته إلى جزر متباعدة أو فصلها عن سياقها المنطقي.
وليد دقة، امتشق الفكر والبندقية معاً على ذاكرة الإبادة حين ارتُكبت مجزرة "صبرا وشاتيلا"، ذاكرة تقطر دماً. على وقع الزمن المستمر في الروايات الفظيعة المستمرة التي تنقل في تسلسلها أخبار الأولاد يُنحرون أو يُخوزقون، والنساء الحوامل تُشق بطونهن، والرؤوس والأطراف تُقطع بالفؤوس.. إلى الجثث المكدسة.
ودائماً هناك يوجد القتلة والكارهون والمتفرجون، الشركاء في اغتيال ذاكرة المكان، وأن يظل جثة مشوّهة والأحياء فيه يشبهون ضحايا من مفاعيل المجزرة. هناك ولد وليد المقاتل الذي سيستمر بأسماء أُخرى، وسيتمدد كلما صودر الحيّز المكاني وأمام كل عنف فكري، وأمام كل محاولة سيطرة من المستعمر على الوعي، وعلى صوغ علاقات الإنسان والأمومة والأبوة. هناك وهنا، كان دوره رائداً في وعي الثنائية المتناقضة بين اللايقين والقهر، مدركاً دور السجن الحديث، ليس سيطرة وحجزاً للجسد فقط، وإنما سيطرة على زمن الأسير.
هكذا عاش أطروحته الفكرية التي تقارب الوسيلة الجديدة للتعذيب وتكمن في "الحداثة السائلة"، في محاولة لفهم مسيرة البنية الاستعمارية الحديثة وعملية التحول من مرحلة " الحداثة الصلبة"، إلى المرحلة السائلة، مشبّهاً الاحتلال في دراسته "صهر الوعي" بالاحتلال الشمولي، ومسلطاً الضوء على أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات المستخدمة، بهدف التلاعب بالوعي وبتفكيك قيمه ومكوّناته الوطنية الجامعة.
حذّر وليد دقة بشدة من هذه النظم العلمية ومنطقها العقلي، التي وضعتها "إسرائيل" والتي شبّهها إلى حد بعيد بحالة الإبادة السياسية "بولي - سايد"، ومشبهاً نظام السيطرة في مراقبة السجين والمواطن الفلسطيني والسيطرة على حياته بالكامل تماماً كـ "الأخ الأكبر" في رواية "1984" لجورج أورويل.
ولم يفت المثقف العميق أن يستند إلى ميشال فوكو في "التشامل" والبعد الحداثوي الخفي للتعذيب، فكشف التشابه بين السجون والمعازل في الأراضي المحتلة بما يفيد في حل الإشكالية المفاهيمية في توصيف الحال الفلسطينية.
لا ينتهي الشبه بين السجن الصغير والسجن الكبير فلسطينياً عند هذا الحد، إذ عزز السجّان من إجراءات تحويل بعض ممثلي الأقسام من العصافير إلى "كابو".[1] وفي هذا السياق يطلق وليد دقة في هذا المضمار صرخة في وجه المعالجات الخاطئة والتقليدية والعاجزة عن النهوض بالقضية الفلسطينية مثلما هو حال النهوض بقضية الأسرى.
كتاب "حكاية سر الزيت"، وكلمة حكاية كلمة أصيلة في العنوان، يصلح أن يكون مقدمة لميثولوجيا شعبية خاصة، تروي حكاية شعبية خاصة، في خضم محاولات السيطرة على الموروث الشعبي الفلسطيني، معجونة من خيال طفولي، بلغة سهلة واضحة مباشرة، لا تحمل كثيراً من التأويلات، لكنه يغذي خياله الخصب من خلال ابتداع عالم خاص بالطفل، بالحوار المباشر مع الحيوانات: الأرنب، والكلب، والحمار، والقطة، وكذلك الشجرة.
هؤلاء كان لهم استراتيجيا سردية واحدة، يؤدي كل منهم مساهمة في وصول بطل روايته، الفتى جود، إلى أبيه في السجن. كذلك فقد استخدم الكاتب الأسطورة، والحكاية الشعبية، عن شجرة عجوز يكمن السر في زيتها، وهذا يعيد إلى الذهنية الفلسطينية كل الحكايات الشعبية المتوارثة عن الأشجار والمغاور والكهوف وغير ذلك. والمغزى هنا أن الحرية مفهوم جماعي قبل أن تكون استقلالاً فردياً، فلا يستبدل الناس حريتهم الشخصية بحرية وطنهم. فالوحدة الحقيقية هي التي تؤسس لشراكة وطنية جماعية تنتصر لإرادة المقاومة. وتنتصر الحرية في النهاية الكامنة في العِلم؛ في الترياق الذي يقضي على الوباء الذي هو فقدان العقل والجهل، وفقدان الأخلاق. فالجهل أخطر السجون وهو قادر على تحويل عقلك ومستقبلك إلى زنزانة... فلا بد من التحرر من الجهل أولاً.
ويعي العدو أمر المعرفة والجهل، ولذلك تعرضت "سر الزيت" لكثير من التحريض والقمع في باقة الغربية، فكانت الشرطة الإسرائيلية تلاحق الأشخاص لمنع حفل لتوقيع الرواية وإشهارها، حتى اضطر رفاقه إلى توقيعه في بيت والدة وليد.
و"سر الزيت" هي واحدة من ثلاث إلى جانب "حكاية سر السيف" و"حكاية سر الطيف"، ويتم حالياً ترجمة الكتاب إلى العبرية.
لقد وعد فصدق، عندما قال "أكتب حتى أتحرر من السجن.."، بل إن وليد كتب حتى نتحرر نحن من سجن الوهم والجهل ونحرر المستقبل، كما وصفه أقدم سجين عربي.
وليد دقة المتعدد والمثقف العضوي، عمل على صوغ أيديولوجيا ثورية إبداعية، وفلسفة خاصة جديدة معجونة بطين الألم والأمل والحب، وهو من صنّاع ملحمة القيد والحرية التي خطها القادة إبراهيم الراعي، ومصطفى العكاوي، ونادر عفولة والخواجة.
كم يليق بك لقب "فوتشيك فلسطين"، نموذجاً بطولياً للرفيق الذي استشهد ولم ينكسر، فكانت حياته تحاكي رواية "تحت أعواد المشانق" ليوليوس فوتشيك[2] الذي أُعدم في سجون النازية وصارت روايته قاموس الثوريين في الزنازين، وحفظها وليد عن ظهر قلب ونسخها عشرات المرات بخط يده لتعمم على سائر السجون، وصارت وعبارته المشهورة عنواناً للبطولة عندما كتب: "لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها."
وليد دقة نموذج الفدائي، الذي تمسك بيقينه حتى النهاية. هذه الروح التي تلد وتستنخ الرموز. أمثال هؤلاء هم رأس مال المقاومة في روحها ووجدانها.
أمّا "الزمن الموازي"، تلك المسرحية التي تستند إلى نصّ كتبه عن تجربته في الأسر، فقد جرى تمثيلها على مسرح الميدان في حيفا، وهي تتقاطع مع دراسته الفكرية الجادة "صهر الوعي"، والآن يطلق مشروعه الحكائي كفعل ثقافي مقاوم، عاند كل أشكال الإبادة في مرضه وصموده وتحديه وسرديته.
وليد دقة صورة الزمن الفدائي الشامل، وبانوراما لتغريبة الشعب الفلسطيني وسيرته التحررية في ساحة الاشتباك التاريخي: ناضل، وناور وحاور، وصمد، وأصيب، وكبر، وعاند، وأضرب، وكتب، وبحث، ودرس، ورسم، وتعلم، وفكر، وألّف، ونشر، ثم أحب وتزوج وأنجب وفقد والدته ومرض واستشهد وهو داخل السجن.
ظل وراء يقينه حتى النهاية. هذه الروح التي تلد الرموز، هم رأس مال المقاومة في روحها ووجدانها.
إنه زمن وليد دقة صادقاً وواضحاً كالحقيقة؛ زمن لا تختلط فيه الحقيقة بالوهم، ولا يستسلم لدكتاتورية الوهم في انتهاك الحقيقة، حين نرى طغيان الدجل السياسي الذي لا ينطلي على عدد المجازر الممنهجة، والإبادة البيولوجية التي تفقأ أعين العالم وعلى الهواء مباشرة.
ليس هناك ما هو أقبح من هذا الوهم، إنه صورة العدو الذي يحارب الحقيقة.
وكي لا ينتصر الموت على الحياة، وليد لم يمت قبل أن يكون نداً، ظل واقفاً كي لا تُهزم الحقيقة وينتصر الوهم. كتب وليد رسالة إلى ميلاد، لطفلة لم تولد بعد، طرح فيها السؤال: "أيهما المجنون.. دولة نووية تحارب طفلًا لم يولد بعد فتحسبه خطراً أمنياً، ويغدو حاضراً في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.. أم أن أحلم بطفل؟"
[1] كابو (بالألمانية: Funktionshäftling)، هو سجين في المعتقلات النازية حوله السجّان إلى موظف يقمع، أو يشي بزميله السجين، في نظام تُدفع فيه الضحية إلى أن تصبح الجلاد بحق ضحية أُخرى.
[2] يوليوس فوتشيك (Julius Fučik) كاتب وصحافي تشيكي وزعيم حركة مناهضة للنازية، أعدمه النازيون في 8 أيلول/ سبتمبر 1943.