يتفنن الاحتلال الإسرائيلي ببراعة عالية في إذلال الفلسطينيين بأشكال كثيرة، وتحت وطأة بطشه، تتجلى معاناة الشعب الفلسطيني بأشكال مروّعة، ولا سيما منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، حين فرض الاحتلال حصاراً مشدداً ومخيفاً على مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها كافة؛ إذ زرع على مداخل المدن والقرى والمخيمات بوابات حديدية ضخمة بدلاً من الأشجار والحياة، مانعاً الخروج والدخول بالكامل من هذه المناطق وإليها، وأُقيمت حواجز عسكرية ونقاط تفتيش في كل مكان، وارتقى عدد كبير من الفلسطينيين الذين حاولوا تجاوُز هذه القيود للوصول إلى أعمالهم، أو إلى المستشفيات، أو أي وجهة ضرورية أُخرى.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر يقيم أكثر من 550 حاجزاً عسكرياً، وهذه الحواجز بدورها تقطّع أوصال الضفة الغربية، وتحولها إلى كانتونات معزول بعضها عن البعض الآخر، فتُحوّل حياة الفلسطينيين إلى جحيم حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ تمنعهم من الحركة، وتحرمهم الحياة الكريمة. وبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، ضاعف الاحتلال الإسرائيلي عددها المنتشر في الضفة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه سابقاً على الأقل، ويمكن لأي إنسان في العالم أن يتخيل هذا العدد الكبير والضخم من الحواجز العسكرية التي ينتشر عليها مئات الجنود الصغار في العمر، والمدججين بالسلاح، والمدعومين بقرارات سياسية وعسكرية تشجع على استخدام هذا السلاح من أجل القتل بسهولة ضد المدنيين الذين يعبرون باستمرار في طريقهم إلى أعمالهم.
والجنود والمجندات في مختلف أنحاء الضفة الغربية هم في مرحلة المراهقة، أو الشباب، ولا تتعدى أعمارهم 19 – 20 عاماً، ويتلذذون بتعذيب الفلسطينيين الذين يعبرون هذه الحواجز، ولا يهمهم هنا إن كان هذا الفلسطيني شيخاً كهلاً، أو شاباً، أو طفلاً، أو امرأة، أو مريضاً، أو امرأة حاملاً في طريقها إلى الإنجاب، أو حتى جنازة لشخص ميت يُراد دفنه في مكان ما!
وتعيد الصور المأساوية للحواجز الإسرائيلية إلى الذاكرة فصولاً دامية من التاريخ البشري في زمن الحقبة النازية، والتي شهدت خلالها الحواجز تنفيذ أبشع الجرائم ضد الإنسانية، كما استُخدمت أيضاً لفصل المدنيين وترويعهم، وعزل التجمعات المستهدفة، كاليهود وغيرهم، وها هي اليوم تُستخدم لفرض قيود مشددة على حركة الفلسطينيين، وهو ما يعكس صدى الممارسات القمعية التي تجسّد نظام الفصل والتمييز.
ويواجه الفلسطينيون تحديات مماثلة اليوم، إذ تفرض الحواجز العسكرية قيوداً تؤثر في جميع جوانب حياتهم، كالوصول إلى العمل، والتعليم، والرعاية الصحية. وهذا التشابه المؤلم يُبرز الحاجة الملحة إلى التعريف بمعاناة الشعوب تحت الاحتلال والقمع، ويعزز أهمية النضال المستمر للدفاع عن الحقوق الإنسانية والكرامة في وجه سياسات الفصل والتمييز العنصري.
ويمكن القول إن مئات المنشآت التجارية الفلسطينية، من مصانع صغيرة، ومطاعم قد أغلقت أبوابها بفعل هذا الحصار، كما تأثرت المدارس والجامعات الفلسطينية منذ أكثر من 5 أشهر؛ إذ لا يمكن للمعلمين أو الطلبة الوصول بأمان إلى مدارسهم. كما أن الاحتلال ينكل على هذه الحواجز بمئات الآلاف من الطلبة الفلسطينيين، ويمنعهم من المرور إلى مراكز تعليمهم في الجامعات والمدارس.
وقد وثّقت الهيئات والمنظمات الدولية وفاة عشرات الفلسطينيين المرضى أو الجرحى من مختلف الأعمار على هذه الحواجز، إمّا بسبب منعهم من المرور بالكامل، وإمّا بسبب تأخيرهم لعدة ساعات متواصلة من دون السماح لهم بالعبور، على الرغم من وجودهم في مركبات إسعاف أو في سيارات خاصة. كما تم توثيق ولادة عدد كبير من النساء الفلسطينيات على الحواجز؛ تصوروا أن تنجب امرأة طفلها على حاجز عسكري إسرائيلي، وطبعاً لا تتوفر فيه أي مقومات للحياة سوى إمكان الموت بسبب نقص كل ما تحتاج إليه المرأة الحامل عند الولادة!
ويمكن لأي شخص يقوم بزيارة الضفة الغربية أن يرى الاكتظاظ الهائل للناس على الحواجز الإسرائيلية، ومئات المركبات العالقة لأوقات طويلة، فيتكدس الناس من مختلف الأعمار في هذه المركبات لساعات طويلة، وفي واقع الحال هي أشبه بمعتقلات صغيرة متراصة على طول شوارع الضفة، يمضي فيها الناس أوقاتهم تحت ضغط نفسي قاتل وهُم ينتظرون أن يسمح لهم بالعبور مراهق يحمل سلاحاً نارياً يهدد حياتهم بالقتل! وتستغرق هذه العملية ساعات طويلة يمكن أن تصل إلى 7 أو 8 ساعات في اليوم الواحد، ويستخدم الاحتلال هذا الأسلوب من أجل تعزيز نظام الفصل العنصري الذي يفرضه في الضفة بصورة واضحة وبغيضة، وليس كإجراء أمني لحماية المستوطنين كما يدعي، ويتعمد منع الفلسطينيين من العبور عبر الحواجز واستخدام كثير من شوارع الضفة من أجل تسهيل حياة المستوطنين، والسماح لهم بالتجوال بحرّية وأمان، في مشهد مشين وفاضح لنظام الفصل العنصري، الذي يمنع أيضاً أصحاب الأرض الأصليين من حقهم في الوصول والحركة بصورة عنصرية مقيتة، ويمنح أولئك الغرباء، الذين تم استيرادهم من مختلف أنحاء العالم، والذين يمارسون أبشع أنواع العنف والقتل والسرقة والتدمير لأملاك الفلسطينيين في مختلف المناطق، كل الحماية للحركة بكل سهولة وبحماية كاملة من الجيش. وقد تضاعف عنف المستوطنين 5 أضعاف في الأشهر الخمسة الأخيرة. وبموجب القانون الدولي، فإن الحق في الحركة والوصول مكفول للإنسان في مختلف أنحاء العالم، وقد حمى القانون الدولي هذا الحق في أكثر من نص ومكان في المواثيق الدولية، لكنه كغيره من الحقوق والمعاهدات الدولية، يضرب به الاحتلال عرض الحائط، ولا يعيره أي اهتمام أو احترام، بل أيضاً يتعمد في أحيان كثيرة مخالفته، غير آبه بأي عواقب، لأنه على مدار 75 عاماً كان يمارس هذا الفعل، وكان يفلت من العقاب في كل مرة، وهو ما شجعه على التمادي وتطوير أساليب تعذيب جديدة، كما نشاهد على الحواجز التي تَحوّل أغلبها إلى مراكز اعتقال وتحقيق وتعذيب للفلسطينيين الذين تشتبه فيهم قوات الاحتلال، أو الذين ربما يبدو بعض التذمر والغضب عليهم جرّاء انتظارهم لساعات طويلة على الحواجز...
وتشكّل حالة الانتظار الطويل لساعات على الحواجز لدى الإنسان الطبيعي ضغطاً نفسياً يتسبب في إثاره شعور غريب نتيجة امتهان كرامته، وهذه الضغوط النفسية تصنع من هذا الإنسان شخصاً مختلفاً وقلقاً وخائفاً على حياته وحياة أطفاله ومستقبله، وعصبياً ينفعل لأتفه الأسباب، فتراه في بيته أو في عمله وقد بدت عليه علامات الغضب لأصغر الأسباب.
يمضي الفلسطيني ساعات طويلة على الحواجز في مركبته أعزل عن كل شيء، إلاّ جواله الذي يتصفحه تارة، ويقوم بحذف مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة به والتيلغرام منه تارة أُخرى، إذ إنه عند عبوره الحاجز، يقوم الجنود بتفتيش المركبة والهاتف الخاص به، وفي حال عثورهم على أي من هذه الوسائل أو التطبيقات، ينهالون عليه بالضرب المبرح، ويقومون بمصادرة هاتفه، وتحطيم مركبته. وقد سُجلت مئات الحوادث المشابهة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر على عشرات الحواجز المنتشرة في الضفة الغربية.
وتبلغ المسافة بين رام الله والخليل في جنوب الضفة الغربية نحو 65 كيلومتراً، وفي الوضع الطبيعي، ومن دون حواجز، تحتاج الطريق من أجل الوصول إلى ساعة سفر. لكن بعد سنة 2000، منع الاحتلال الفلسطينيين من دخول القدس، وحرمهم استخدام الطريق الرئيسي الرابط بين رام الله والخليل، وأجبرهم على سلوك طريق آخر يُسمى وادي النار، فأصبح الزمن اللازم للوصول ساعتَين، أي أنك تحتاج إلى 4 ساعات للذهاب والعودة بدلاً من ساعتَين كحد أقصى في السابق، وفي الأشهر الأخيرة، ضاعف الاحتلال عدد الحواجز التي بلغت 5 حواجز تفصل رام الله عن الخليل (قلنديا، وجبع، ووادي النار، وعتصيون، والخليل الشمالي)، فأصبح الزمن اللازم للوصول إلى رام الله بين 3 و4 ساعات، ومثلها عند العودة.
وتتكدس الحواجز في الضفة الغربية كما لو أنها معابر حدودية أو ثكنات عسكرية؛ فهي مجهزة بكل أنواع التكنولوجيا، وخصوصاً الكاميرات والحساسات والبوابات الإلكترونية، فعند عبور الحاجز، تشعر كأنك تعبر حدوداً دولية، ويتكدس الفلسطينيون بفعل الحواجز الإسرائيلية في مركباتهم كما لو أنهم سمك سردين أو تونة، وربما يمتد طابور المركبات على الحواجز الإسرائيلية بطول يمكن أن يصل إلى أكثر من 10 كيلومترات كما يحدث في بعض الأحيان على حاجز قلنديا، أو حاجز جبع، أو حاجز وادي النار.
ولا توجد على الحواجز الاحتلالية أي مرافق، أو حمامات، أو مياه للشرب، أو طعام، أو إسعافات أولية. ولك أنت تتخيل أن تمضي كل هذا الوقت في مركبتك الصغيرة في أجواء برد قارس أو صيف حار، من دون توفُر أي وسائل أو مرافق، مهما تكن بسيطة، لذا لا تستغرب إذا رأيت بعض الفلسطينيين عند التنقل، حتى في المسافات القصيرة بين المدن والقرى، يحرصون على إحضار طعامهم وشرابهم معهم، وخصوصاً إذا كان لديهم أطفال يرافقونهم.
ترى إسرائيل العقاب الجماعي للفلسطينيين بحرمانهم حرية الحركة، وتفتيت الضفة الغربية بالحواجز يشكّل استراتيجيا فاعلة لإخضاعهم ودفعهم نحو الهجرة طوعاً خارج فلسطين، وهذه الممارسات تذكّر بفترات تاريخية أُخرى شهدت استخدام الحواجز للتضييق على الشعوب، كالتي استُخدمت في جنوب أفريقيا في أثناء نظام الفصل العنصري؛ ففي تلك الحقبة، استُخدمت الحواجز لفصل السكان على أساس عرقي، ولمنعهم من الوصول إلى الموارد والخدمات، وهو ما فرض قيوداً مماثلة على حرية الحركة، وألقى بظلال من المعاناة على حياتهم اليومية. وبالتوازي بين هذه السياسات وتلك المطبَقة في الضفة الغربية، يَبْرُزُ التشابه في استخدام الحواجز كأدوات للسيطرة والإذلال، ويسلَّط الضوء على الحاجة الماسة إلى المجتمع الدولي للاعتراف بالأثر الإنساني العميق لإجراءات كهذه، وضرورة التحرك من أجل وقفها.
ربما نسيت أن أذكر أنني أكتب هذه المقالة من أحد الحواجز الإسرائيلية، الذي أمضيت فيه حتى الآن 3 ساعات من دون السماح لي بالمرور، وأنا في طريقي من الخليل إلى رام الله، إلى مكان عملي!
ووفقاً للقانون الدولي، فإن الحق في الحرية والتنقل يُعد حقاً أساسياً للإنسان، وهو مكرس في المادة رقم 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، والذي ينص على أن "لكل فرد الحق في حرية التنقل واختيار مكان إقامته داخل حدود كل دولة." وبالإضافة إلى ذلك، تعزز المادة رقم 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 هذا الحق. ومع ذلك، في الواقع الفلسطيني، تشكّل القيود الإسرائيلية المفروضة على حركة الفلسطينيين، عن طريق نظام الحواجز والتفتيش، انتهاكاً لهذه المواد، إذ تقيّد حرية التنقل، وتحول دون الوصول الآمن والمستقر للفلسطينيين إلى الخدمات الأساسية والفرص الاقتصادية، وهذه الانتهاكات تحتاج إلى تسليط ضوء دولي مكثف وتدخلات تهدف إلى ضمان التمتع بحقوق الإنسان من دون قيود أو تمييز.
حتى الآن، وبعد مرور أكثر من 4 ساعات من الانتظار على الحاجز، لم يُسمح لنا بالمرور! هذا الوقت كافٍ لأسافر من فلسطين إلى باريس أو برلين على سبيل المثال، إذ تحتاج الرحلة إلى الوقت نفسه تقريباً، أو ربما أقل بقليل!