في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وخلال الحرب المستمرة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، خرجت صور لمعتقَلين فلسطينيين وضعهم جيش الاحتلال في ملعب اليرموك في قطاع غزة، وذلك بعد أن حوّله إلى مركز اعتقال وتعذيب. وقد تأسس هذا الملعب، بحسب بيان لـ "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم"،[1] سنة 1938، وتم تجهيزه ليكون ملعباً دولياً يُعتمد كملعب بيتيّ فلسطيني، وكان يشهد كثيراً من الاحتفالات الوطنية، ولا سيما أنه يحتوي على أكثر من 8000 مقعد للجمهور، وهذا عدا مقاعد الشخصيات الرسمية.
وقد تحول ملعب اليرموك خلال هذه الحرب إلى معتقل، وأظهرت الفيديوهات التي تسربت منه وضع المعتقلين، إناثاً وذكوراً، وصغاراً وكباراً، بوضعيات مهينة لاإنسانية. كما قام الاحتلال بنزع حجاب النساء (بعضهن تجاوزن 80 عاماً) عن رؤوسهن، وتفتيش الجميع، فضلاً عن تعرُض النساء "للتحرش الصريح والضرب والتنكيل"، بحسب بيان للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي أضاف أن الاحتلال أجبر "الذكور بما فيهم أطفال قصر لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات على التعري الكامل باستثناء الملابس الداخلية (البوكسر) وضمنهم أيضاً مسنون تتجاوز أعمارهم 70 عاماً، وأجبروا على الاصطفاف بشكل مهين أمام النساء اللواتي احتجزن بمنطقة قريبة داخل ساحة الملعب."[2]
وهذا غيض من فيض ما حدث في الملعب الذي كان أرضاً لممارسة الرياضة، فتحوّل إلى معتقل مورست فيه شتى أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان، ولم يُعرف عنها إلاّ القليل جداً. فكثيرٌ ما هو مخبأ لدى الناس التي لم تتكلم بعد، أو تلك التي لم يصل إليها أحد ليسألها عن كل تفصيل قام به جنود الاحتلال بحقهم.
وأصدر الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بياناً أكد فيه أن انتهاك ملعب اليرموك هو "خرق واضح وصريح للميثاق الأولمبي وكافة القوانين والمواثيق القارية والدولية، وكجزء من استهدافه للحركة الشبابية والرياضية والكشفية الفلسطينية."[3]
وطبعاً، فإن هذا البيان، وكل الاستنكارات التي خرجت من مصادر عديدة، لم تغير واقع الحال، فحرب الإبادة التي تُشن على الشعب الفلسطيني في القطاع لا تميز بين أحد، فكل ما هو أمامها هو هدف، ومنهم أهل الرياضة؛ فمنذ بداية الحرب، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وحتى 31 آذار/مارس الماضي، "ارتفع عدد شهداء الحركة الرياضية إلى 179 شهيداً، منهم 104 شهداء في كرة القدم، بواقع 26 طفلاً و78 شاباً"[4] (يشمل الرقم الضفة وغزة).
وآخر الشهداء هو اللاعب يوسف حمادة (21 عاماً)، الذي لعب في نادي "اليرموك" في الدرجة الثانية، وانتقل لاحقاً إلى نادي "شباب جباليا" في دوري الدرجة الممتازة.[5] ومن الشهداء أيضاً المدرب العام للمنتخب الوطني الأولمبي هاني المصدّر جرّاء إصابته بشظايا صاروخ استهدف المنطقة الوسطى في قطاع غزة.[6] وفي 21 شباط/فبراير الماضي، استشهد الحكم المساعد الدولي الفلسطيني محمد خطاب وزوجته وأطفاله الأربعة وعدد آخر من أفراد عائلته، وذلك بعد قصف طال منزله في دير البلح في قطاع غزة. وخطاب هو حكم معتمَد في الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" منذ سنة 2020، وشارك في التحكيم في بطولات آسيوية وعربية. واستشهد أيضاً عبد الحفيظ المبحوح، لاعب منتخب فلسطين للجودو، وعمر أبو شاويش، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الثقافة الرياضية، وباسم النباهين، لاعب نادي "البريج" لكرة السلة، ومحمد الدلو، رئيس اتحاد كرة الطاولة، وغيرهم كثيرون.
ولأن هذه الحرب كغيرها، لم تفوّت إسرائيل هدفاً إلاّ واستهدفته، فقتلت لاعب كرة القدم لقصار القامة أحمد عوض سلمان، ولاعبَي نادي "هلال غزة" الطفلَين الشقيقَين محمد ومحمود أبو دان وعائلتهما، وشريكهما في الفريق هلال دبور وعائلته، ولاعب أكاديمية "خدمات خان يونس" محمد قنن، ولاعبَي أكاديمية "سكور" الشقيقَين عبد الله ومحمد أبو سنيمة، ولاعب فئات نادي "مركز طولكرم" أسامة أبو نهار، ولاعب أكاديمية "السامبا" عبد القادر العطار.
كما خسرت فلسطين في هذه الحرب بطلة الكاراتيه ولاعبة المنتخب الوطني الفلسطيني للكاراتيه نغم أبو سمرة (26 عاماً)، بعد تعرُض منزلها في مخيم النصيرات للاجئين وسط القطاع لقصف الاحتلال، وهو ما أدى إلى إصابتها إصابة خطِرة أدت إلى بتر ساقها ودخولها في غيبوبة استمرت نحو شهر، وعلى الرغم من حاجتها الضرورية حينها إلى مغادرة القطاع لتلقّي العلاج، فإن أحداً لم يستمع ولم يستجب لنداءات عائلتها. وكانت نغم قد أنهت دراسة الماجستير في التربية الرياضية، وافتتحت مركزاً لتدريب البنات على لعبة الكاراتيه. وكنغم، هناك الطفلة ياسمين شرف (6 أعوام)، والتي كانت تمارس لعبة الكاراتيه في أكاديمية "تشامبيونز" الرياضية في قطاع غزة، وكانت تحلم بالحصول على الحزام الأسود في لعبتها، ونيل إحدى البطولات.
كما تشير البيانات الصادرة عن الاتحادات الرياضية، وغيرها من المؤسسات المعنية بالرياضة، إلى تدمير 28 منشأة رياضية؛ منها 22 منشأة في قطاع غزة، و6 في الضفة الغربية. وآخر الاستهدافات للمنشآت الرياضية طال مقر نادي "اتحاد الشجاعية"، فنتج منه "15 شهيداً، كانوا قد لجأوا إلى المبنى، أملاً في أن يكون مكاناً آمناً وخارج دائرة الاستهدافات، لكن ذلك الأمل حولته صواريخ الاحتلال لأشلاء."[7]
تضامُن رياضي
في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تُوج السباح المصري عبد الرحمن سامح بالميدالية الذهبية في بطولة كأس العـالم "50 متراً فراشـة" في اليونـان، وخلال تتويجـه، أدلى بتصريح تاريخي، قال فيـه: "لا أعرف بصراحة إذا كان في إمكاني الاحتفال بهذا الإنجاز في الوقت الذي يتم فيه قتل إخوتي وأخواتي في فلسـطين الآن. مررت بأسبوع صعب للغاية من الناحية الذهنية، وتلقيت تهديدات بالقتل بسبب دعمي للشعب الفلسطيني."
وقد أدى موقف سامح التضامني إلى اتخاذ الاتحاد الدولي للسباحة ردة فعل إقصائية، فحذف صورة المتوج بالذهبية في بطولة العالم في اليونان من موقعه وصفحاته الرسمية، وحتى من الصورة الجماعية للمتوجين.
ولم يكن حال اللاعب الدولي الجزائري يوسف عطال، مدافع نادي "نيس" الفرنسي، أفضل؛ إذ أوقفته الشرطة الفرنسية بتهمة "الدفاع عن الإرهاب"، على خلفية دعمه للقضية الفلسطينية عبر حسابه في "إنستغـرام"؛ إذ كان قد دعا إلى نصرة فلسطين، وكان يرتدي وشاحاً عليه عبارات تضامنية، فاستاء عمدة نيس، وطالب عطال بالاعتذار.
أمّا النجم المغربي الهولندي أنور الغازي، لاعب نادي "ماينز" الألماني، فقد أُوقف عن اللعب بسبب موقفه المتضامن مع فلسطين والفلسطينيين، ورُوِّج عنه أنه اعتذر عن موقفه، إلاّ إنه أوضح عبر حسابه في "إنستغرام" قائلاً: "لست نادماً، ولا أشعر بأي أسف على موقفي. ولا أنأى بنفسي عما قلته، وأؤيده اليوم وحتى آخر نفس من أجل الإنسانية والمظلومين (في فلسطين)." وأضـاف: "أي تصريح أو تعليق أو اعتذار منسوب إليّ غير صحيح من الناحية الواقعية، ولن أسمح به."
"الفيفا" وفلسطين
شهدت الملاعب الرياضية بعض التضامن مع فلسطين والفلسطينيين خلال هذه الحرب؛ ففي إيرلندا على سبيل المثال، في بداية العدوان، هتف جماهير نادي "ديري" بعبارات داعمة لغزة والقضية الفلسطينية في أثناء مباراة في مواجهة نادي "شيلبورن" في الدوري الإيرلندي الممتاز، وأيضاً هتف جماهير فريق "ميلان" الإيطالي في ملعب "سان سيرو" أمام نادي "أودينيزي" لفلسطين والفلسطينيين الذين يتعرضون للإبادة في قطاع غزة، ورفعوا لافتة في المدرجات مكتوب عليها "اصمتوا عندما ينام الأطفال وليس عندما يموتون، أوقفوا الحرب"، وكذلك جماهير "ليفربول" الإنكليزي، و"سيلتك" الإسكتلندي، و"إشبيلية" و"ريال سوسيداد" الإسبانيان، الذين رفعوا الأعلام الفلسطينية خلال المباريات، وهو المشهد ذاته الذي حضر في بعض الملاعب العربية؛ في تونس والجزائر والمغرب على سبيل المثال لا الحصر.
وفي مقابل ذلك، لم تترجم "فيفا" (الاتحاد الدولي لكرة القدم) و"يويفا" (الاتحاد الأوروبي لكرة القدم) موقف الفرق والجماهير الرياضية الكثيرة حول العالم باتخاذهما موقفاً واضحاً من الإبادة، إنما بالعكس، فقد التزمتا الصمت، باستثناء بعض التعليقات الضعيفة، بالإضافة إلى رسالتَين أرسلهما رئيس "فيفا"، جياني إنفانتينو، إلى الاتحادين الفلسطيني والإسرائيلي أعرب خلالهما عن تعازيه قائلاً عبر حسابه على "إنستغرام": "أود أن أعرب، بالنيابة عن الاتحاد الدولي ومجتمع كرة القدم الدولي بالكامل، عن خالص تعازينا للاتحادَين الفلسطيني والإسرائيلي لكرة القدم، في ضوء أعمال العنف المروعة التي حدثت خلال الأيام الماضية." أمّا "يويفا"، فقدّم رئيسها، ألكسندر تشيفرين، تعازيه إلى رئيس الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم فقط، من دون أن يقدّم إلى الاتحاد الفلسطيني أي موقف، إنما بالعكس، فقد فرضت "يويفا" في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 غرامة مالية وقدرها 19,000 دولار على نادي "سيلتك" الإسكتلندي بسبب تلويح جماهيره بآلاف الأعلام الفلسطينية خلال مباراته ضد "أتلتيكو مدريد" ضمن دوري أبطال أوروبا في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبرر قراره العقابي هذا بكون هتافات جماهير النادي واللافتات المؤيدة لفلسطين بمثابة "رسائل استفزازية ذات طبيعة هجومية"، وقد كانت هذه العبارات هي "فلسطين حرة" و"النصر للمقاومة".
دبلوماسية فلسطينية رياضية
تقدَّم "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم" في 11 آذار/مارس الماضي بطلب رسمي إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" من أجل إدراج بند في جدول أعمال الكونغرس القادم لـ "الفيفا"، المقرر عقده في بانكوك - تايلاند في 17 أيار/مايو المقبل، ويطالب المقترح الذي أيّدته 6 اتحادات أعضاء في "الفيفا"، بصفتها المنظمة الدولية المسؤولة عن تنظيم وإدارة كرة القدم، باتخاذ عقوبات فورية ومناسبة ضد الفرق الإسرائيلية، بما في ذلك المنتخبات الوطنية والأندية، والتصدي من دون تأخير للانتهاكات المستمرة لأنظمة "الفيفا" من جانب الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم، وذلك بسبب إدراج فرق كرة القدم الموجودة في مستوطنات مقامة على أراضي اتحاد آخر، وهو الاتحاد الفلسطيني، ضمن الدوري الإسرائيلي، كما تضمّن معالجة الفشل المتكرر للاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم في اتخاذ إجراءات حاسمة ضد التمييز والعنصرية ضمن مناطق ولايته.[8]
ليس معروفاً ما إذا كان اتحاد "الفيفا" سيستجيب لطلب "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم"، كما ليس واضحاً إن كان المجتمع الرياضي في العالم سيتحلى بالروح اللازمة للوقوف إلى جانب شعب يُباد. لكن تبقى هذه المحاولة ضمن محاولات عديدة في مجالات واختصاصات متعددة لإسماع صوت فلسطين في كل المنابر في العالم، ما أمكن.
[1] "بيان من الاتحاد الفلسطيني بشأن تدمير الاحتلال لملعب اليرموك في غزة وتحويله لمركز اعتقال وتعذيب"، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، 27/12/2023.
[2] "إسرائيل مطالبة بالكشف عن مصير عشرات النساء اللواتي اعتقلتهن في غزة والتحقيق في التعذيب وممارسات التحرش"، المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، 26/12/2023.
[3] "بيان من الاتحاد الفلسطيني..."، مصدر سبق ذكره.
[4] "جرائم الاحتلال بحق كرة القدم الفلسطينية مستمرة... 104 شهداء و28 منشأة مدمرة"، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، 31/3/2024.
[5] المصدر نفسه.
[6] "الانتهاكات الإسرائيلية بحق رياضة كرة القدم في المحافظات الجنوبية"، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، 6/3/2024
[7] "جرائم الاحتلال بحق كرة القدم..."، مصدر سبق ذكره.
[8] "اتحاد كرة القدم يقدم طلباً رسمياً للفيفا لوقف انتهاكات الاحتلال بحق الرياضة الفلسطينية"، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، 19/3/2024.