إلياس خوري. "كأنها نائمة". بيروت: دار الآداب، 2007. 390 صفحة.
كيف تروي ما لا يُحكى بالبلاغة ولا يحتكم إلى التسلسل؟ كيف تخبّر عن نكبة لم تأتِ، وإنما هي في مخاض؟ كيف تسرد عن فضاء يضيق ويتقطع، وحكايات تتداخل بين أجيال يسري العطب والحب والخوف والشك فيها معاً؟ كيف تحكي عن اللاهوت من دون أن تمارسه، وتلمس الموت وأنت تمسك بالميلاد؟ كيف تقول اغتراب الذات في بيتها وبين عائلتها؟ ربما هذا هو الذي دفع الروائي إلياس خوري إلى هذه الخيارات الأدبية الفذّة، متمثلة في انتقاء "الأنثى" كشخصية محورية، وفي تناول "المنام" كعنصر قادر على قطع المسافة الزمكانية وتجاوز اللغة السردية القائمة على منطق الأحداث.
في سردٍ "كأنه" على حافة الشعر، يختار إلياس خوري في روايته "كأنها نائمة" تأنيث الرؤية السردية، واستبدال "البطل" التقليدي في الرواية بامرأة تقف في مركز الرواية وتحملها كلها. هذه المرأة هي "ميليا"، تلك المرأة البيروتية الناصعة البياض التي تتزوج منصور اليافوي المتيّم بالشعر، والذي غادر يافا المشتعلة بالأحداث في منتصف أربعينيات القرن الماضي باحثاً عن معادلة عائلية وسياسية أُخرى بين بيروت والناصرة، لتجبره لاحقاً إرهاصات النكبة والأحداث التي تسببت بمقتل أخيه على العودة إلى يافا بدلاً من الناصرة، وحمل فلسطين فوق ظهره بدلاً من القصيدة.
وخوري بهذا الخيار الأدبي يجعل من التاريخ السياسي إطاراً فقط، ومن التاريخ الإنساني جوهراً، ويحوّل زاوية السرد من الحدث الخارجي المجتمعي والسياسي إلى الحفر العميق في الداخل الإنساني مقدماً كولاجاً اجتماعياً سياسياً لبيروت وفلسطين أقلّ ضجيجاً وأبعد رؤية، إذ تعمّق الرواية عبر السردية الأنثوية النظر إلى الداخل الإنساني الاجتماعي والروحاني للطبقة المتوسطة في بيروت بين الحربين العالميتين، محاولاً أن يسبر تفصيلات حياة تلك المرأة ويتقمصها في ظلال الأحداث. فمن خلالها يعيش خوري حياة الناس في بيروت كأنه يمر في صورتها المتحولة من دون أن يبقى فيها، ويمر في أحداث فلسطين المشتعلة من دون أن يحترق، تماماً مثلما كانت تحيا ميليا حرفياً على شفا واقع وصهوة منام، بين لقاء الناس من دون مخاطبتهم، وبين الرؤيا وتجلياتها في الواقع، لينفذ بذلك إلى قلب تلك الحقبة التاريخية والحاسمة التي يموضع فيها السرد، وهي سنة 1947 وما تلاها من نكبة؛ تلك السنة التي شهدت قرار تقسيم فلسطين، فتصبح الرواية شاهداً على الفضاء المفتوح في بلاد الشام حتى انغلاقه وتقطيع أوصاله. ومن فوضوية الحدث المؤدية إلى كارثة تقف الرواية عند أبوابها مسبِلة عيون ميليا البيروتية التي أنجبت في الناصرة طفلاً لم تره إلّا في مناماتها، ويبقى مصيره غائماً خلال نكبة تستشرفها ميليا في مناماتها حدثاً بعد آخر.
تمتاز هذه الرواية لغوياً بأنها تقوم على "المنامات" التي تشكل العمود الفقري للسرد. فمنذ العنوان وحتى النهاية تسعى الرواية لموضعة القارىء في حالة بَيْنية لغة وحدثاً، ذلك بأن منامات ميليا التي يقرأ من خلالها خوري البعد الاجتماعي والموروث الديني المسيحي واللاهوتي والمنعطف السياسي في الأربعينيات، تشكل فسيفساء المشهد الأهم في تشكيل هذه الرواية. إن قدرة خوري الهائلة على نسج لغة المنامات داخل النص توازي قدرته على تأثيث سرد يلامس الواقع من دون أن يسقط فيه، كما أن البُنية السردية التي قد تضلل القارىء تُمَوْضِعه في بَيْنية سردية تتواتر بين سرد لمنام وسرد لواقع مواز، فلا يعود سؤال فصل لغة المنام عن الواقع همّاً مشروعاً للقارىء.
تزدحم منامات ميليا بقصص ثلاثة أجيال من عائلتها البيروتية، تلك العائلة التي شهدت التحولات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية بين حربَين، وتخترق سرد الحكايات بقصص الموروث الديني المسيحي. وهنا نتعرف إلى تراكمات تلك القصص في ذاكرتها من خلال فضاءات سردية ضبابية لها أكثر من وجهة نظر، وأكثر من رواية، وهي قصص يبنيها الروائي في لحظات غائمة وملتبسة بين الشك واليقين كلحظات النوم وساعة الولادة. وتحضر مزق الحكايات التي سمعتها ميليا من عدة أطراف، كما تحضر أطراف الحكايات التي عاشتها بمشاعر متبدلة، وظلال الحكايات التي لم تعشها بعد لكنها تشعر باقترابها، لتنصهر كلها في سرد عابر للزمن وعابر للمكان، بحيث تصبح منامات ميليا في نومها ويقظتها الرحم الملائمة لسردها وتقاطعاتها.
تزدحم الرواية بالشخوص والحكايات التي تمنح القارىء إطلالة معمقة على المجتمع البيروتي عبر ثلاثة أجيال متعاقبة من أواخر القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، وتقف في مركزها ميليا التي وُلدت في سنة 1923، والتي كان ميلادها يشبه موتها في علاقة شبه دائرية، مسكوناً ومشوباً بالضبابية وملوناً بالروحانيات. فتلك المرأة هي نقطة تلاقٍ لقصص رجال ونساء عائلة شاهين وعائلة شلهوب الذين يمرون في شريط مناماتها واحداً تلو الآخر لتخبرنا الرواية عن عاداتهم ومهنهم وعلاقاتهم الاجتماعية من حب وزواج، ومن فقدان وموت، ومن تغيرات اقتصادية خلال تلك الفترة مع بداية دخول قشور الحداثة إلى حياتهم. ولذا، تختزن الرواية التاريخ الاجتماعي للإنسان البيروتي بالتوازي مع الحفر المعمق في حكايات نساء العائلة: الجدّتان حبيسة / حسيبة وملكة، والجدّان سليم ونخلة، والموت التراجيدي للخال متري والخالة سلمى، والحياة المعطوبة للأم سعدى والأب يوسف، فضلاً عن قصة عائلة ميليا وإخوتها الأربعة.
وهذا الحفر العميق نراه أيضاً في تشكيل شخصية ميليا المرأة وميليا الرمز، اللتين تتقاطعان وتندمجان على طول خط السرد. فميليا الطفلة المتمردة التي نرى تمردها في لمحات خاطفة في النص، مثل قرارها بالذهاب إلى البحر للسباحة في معمودية نضج روحي وجسدي نفهم معناها متأخراً في النص، بعد أن اعترض إخوتها على ذلك، مجبِرة موسى الأخ الأصغر على اصطحابها، تصبح أكثر استسلاماً ظاهرياً لواقعها الاجتماعي المقيِّد. فـ "أمها أرادت ابنة بيضاء ذات جسد ممتلىء"، فكان ما أرادت الأم سعدى، لكنها في المقابل احتفظت في مناماتها بتلك الطفلة الخضراء العينين والمجعدة الشعر التي تقود مناماتها. وتلك الطفلة السمراء التي تتحرك بحرّية لا تمتلكها ميليا الكبيرة، والتي لا تريد أن يكتشف أحد لون عينيها الحقيقي وتمردها الدفين، تمثل رغبة ميليا الخفية في أن تتمتع بما يتمتع به الصبيان من حرية وخفّة اجتماعية، الأمر الذي يشكل وعيها الداخلي الذي يوازن بين عوالمها الخارجية المعطوبة. لكن هذه الرغبة تتغير حين تسقط ميليا عن الأرجوحة، لتكتشف ما أصبحت عليه من أنوثة ونضج، ولتخلع الصورة التي كوّنتها عن نفسها، والتي ساهم إخوتها بقيادة سليم في تطويرها حين كان يصفها مستهزئاً بها بـ "الطبلة" و "الناصحة"، وخصوصاً حين كان جسدها ينتفخ قبيل الدورة الشهرية، بينما كان موسى الصغير هو الوحيد الذي رآها جميلة. لقد ولّدت تلك الممارسات الذكورية لدى ميليا شعوراً بالاغتراب داخل تلك العائلة - وهي البنت الوحيدة - كما كرست أمّها اغترابها، حين أشعرتها بأن دورتها الشهرية، أو "الدنس الشهري" مثلما تقول الراهبة، هي جرحها وحدها حين كانت في الثانية عشرة من عمرها. غير أن ميليا كثيراً ما كانت تنتقد أمها سرّاً وعلانية، وخصوصا تلك العلاقة بين أمّها والراهبة ميلانة، إلّا إن هذا النقد لم ينقذها من مصيرها، وإنما نراها تستسلم لدور أعدته لها أمّها في العائلة، وتتقنه ميليا أكثر منها. فها هي تأخذ مكان الأم التي تعيش في عطب دائم لأنها تؤمن بأنها مريضة بعلّة لا وجود لها، فتعيش بعد موت الأب بين الدير وسرير المرض، وبين شهوة غير منتهية نحو الطعام، في إشارة بليغة إلى رغباتها الدفينة وشوقها الإنساني المغلفَين بغطاء الرهبنة المنشودة، تلك الرهبنة التي لا تصل إليها، وبإيمانها بأن الراهبة يمكنها أن تشفي الأمراض الجسدية. وفي المقابل يأخذ الابن نقولا دور الأب عملاً ومكانة لابساً طربوشه، في إشارة رمزية إلى استبدال الأدوار، فتصبح ميليا "أمّاً لأمّها" تدير شؤون البيت وتربي موسى وتحميه من الخوف الليلي، لكن شعور "اليتم" لا يفارقها.
وساهمت الأم أيضاً في جعل عالم ميليا يدور "في الداخل" وليس "في الخارج"، أي في اللاوعي وليس في "الفعل"، فقد أوصتها بأن "عليها في السرير أن تشرب لذّتها إلى الداخل"، وربطت بين الخطيئة والجنس في ذهنها، وجعلتها تكرس تفكيرها في مناماتها حين جعلتها تؤمن بأن مناماتها تتحقق. ولم يكن هذا السبب الوحيد الذي جعل ميليا لا تعطي جسدها لزوجها إلّا حين تكون "نائمة" فقط، الأمر الذي اعتبره زوجها "لعبة" جعلته يشعر بأنه "سيد السرير"، بل لأن تجربتها الأولى مع نجيب، حبيبها الأول، تركت جروحاً على "رقبتها" ونفسها باتت بعدها تشعر بالمهانة لتركه "المذلّ" لها والزواج بغيرها بتواطؤ من أخيها سليم، وبتشجيع ومباركة خفية من أمّها. إن شعور ميليا بأن العائلة "خانتها"، وبأنها عبء على العائلة التي عاشت ظروفاً اقتصادية صعبة في تلك المرحلة قادت الأبناء إلى خيارات زواج هدفها المال، جعلها توافق على هذا الزواج البعيد بين مدينتين، ذلك الزواج الذي دبرته الراهبة ميلانة بغطاء يشبه قصة رومانسية. ميليا الوحيدة والغريبة الدائمة لم تبدأ وحدتها في الناصرة، وإنما كانت امتداداً لشعورها بالاغتراب في بيروت، فهي ما تزوجت إلّا لتخرج من "بيت الأوجاع الذي صنعته أمها، وتبتعد عن ظلال الراهبة وعن عائلتها، وتبدأ حكاية جديدة لا علاقة لها بعالم القديسين." لكنها لم تعرف أن ذهابها إلى "مدينة الله" الناصرة لن يبعدها عن عالم القديسين، ولن يبعدها عن قصص العائلات المؤلمة، بل سيعيد صوغها عبر مرحلة أُخرى في حياتها.
تتعلق هذه المراحل بالمستوى الروحي لميليا، والذي يؤدي الدور الرئيسي فيه شخصيتان رئيسيتان: الأولى هي الراهبة ميلانة كشخصية فاعلة في الأحداث تجسد هيمنة الممارسة الدينية الطقسية على المجتمعات في تلك الحقبة التاريخية، وفكرة أن "الإيمان أهم من الفهم"، والتي كثيراً ما نرى خلال الرواية نظرة ميليا المستخفة بها وغير المقتنعة، وبالتالي عزوفها عن ارتياد الكنيسة وخوفها منها. هذه الشخصية هيمنت على المرحلة الأولى من حياة ميليا منذ لحظة ميلادها إلى زواجها، وقادت كثيراً مصيرها من خلال خضوع الأمّ للراهبة ولـ "المعجزات" التي آمنت بها الأم وفرضتها على ميليا، وجعلت أخبار العائلة وخصوصياتها مفتوحة أمام الراهبة، الأمر الذي أشعر ميليا بمهانة شديدة، ولا سيما أن الراهبة كثيراً ما نظرت إلى منامات ميليا – عالمها الخاص والمتفرد - كحضور للشيطان.
وفي المقابل تحضر شخصية الراهب طانيوس، وهي شخصية مبهمة الوجود تجسد فكرة القراءة والبحث عن المعنى المغاير، وترافق ميليا خلال حملها ولحظة الولادة / الموت. ومن خلال هذه الشخصية تتجلى محاولات ميليا أن تفهم، وأن تقرأ بلغة لم تعرفها، وأن تعيد قراءة واقعها من خلال سردية مخالفة للقصة الدينية المعتمدة أو ما كان يسميه طانيوس" المخطوط السري". وتظهر حيرة ميليا بين شكلَي الإيمان: المخالف والمعتمَد، لكنها تنحاز إلى طانيوس وتتبعه، أو مثلما تقول: "هي قديسة، بس أنا ما بحبها، الواحد مش مجبور يحب كل القديسين، الله ترك له حرية الاختيار."
يقدّم خوري في هذه الرواية توظيفات وقراءات جديدة لقصص "الفداء" الدينية، فعلى سبيل المثال رمز الخروف المتكرر كإحالة لقصة الفداء الدينية التي تتّسم بالذكورة في شخوصها، تأخذ شكلاً جديداً مع ميليا الأنثى، ذلك بأن ظهور الخروف في منامها قبل الحمل كان إشارة إلى الفقدان - ضياع فرصة الطفل وظهور الدورة الشهرية، إذ "كانت تشعر بالدم قبل أن يأتي"، كما أن توقّف ظهوره كان علامة لميليا على حدوث الحمل. إن ظهور الخروف الصغير في نهاية الرواية فوق صدرها وظّف كإشارة تناصية مقلوبة عن القصة الدينية لحدوث الولادة، وهذا التوظيف الأنثوي لقصة الفداء هو توظيف يتسع مع براعة تقمّص خوري لشعور ميليا الجسدي والنفسي في أثناء الدورة الشهرية. ومن هنا تبرز بواكير علاقة ميليا مع ذاتها كأنثى وأمّ، بصفتها العلاقة الأهمّ في هذه الرواية والأكثر حضوراً وانفتاحاً من العلاقات الأُخرى، أو مثلما تقول ميليا: "العلاقة السرية التي تنشأ بين المرأة ورحمها لا تشبه علاقة أُخرى"، ومن تلك العلاقة تنشأ علاقة الحب مع الابن المنتظر التي تمثل اكتمال العلاقة المنشودة لميليا مع ذاتها ومع العالم. إن مردّ هذا الخطاب هو شعور ميليا بالتعالي عن الواقع كلما تمسكت بما تمثله "المريمتان" في ذهنها، أو مثلما تخيلت أن القديس إلياس قاله لها في المغارة: "لو عرف الناس لتمنى الجميع أن يكونوا نساء... المرأة وحدها تستطيع أن تمتلك الشعورين المتكاملين: الحب والأمومة." وفي الرواية نلحظ أنماطاً متنوعة من الأمومة: أمومة بيولوجية وأمومة غير بيولوجية، تقابلها أشكال مغايرة من الأبوة. كما نجد أن العلاقات البيولوجية أكثر عطباً كعلاقة سعدى بابنتها ميليا، وأكثر تعقيداً كعلاقة منصور المركّبة بأمّه "الحديدية والمادية" التي كثيراً ما عاملته كـ "بنت" حتى أصبح أخوه أمين والآخرون يعاملونه بالطريقة نفسها، فكان ضحية دائمة للأذى الجسدي والنفسي، وهي علاقات يؤدي فيها التفضيل والإقصاء والتعلق دوراً أساسياً. وبالمنظور نفسه تظهر علاقات الأبوّة البيولوجية مركّبة سيكولوجياً، وتحيلنا إلى الموروث الديني، كعلاقة سليم الجدّ بابنه يوسف، وقصة الحجر الذي رماه الأب وفقأ به عين الابن في إشارة سيكولوجية بليغة، أو إقصاء الجدّ نخلة لابنه متري ومقتله التراجيدي معلقاً بجرس الكنيسة.
وفي المقابل تظهر علاقات الأمومة غير البيولوجية كعلاقات أسمى في الرواية، كعلاقة ملكة بمتري، وعلاقة ميليا بموسى. وتتقاطع هذه القصص جميعها على امتداد الرواية بقصتين معادلتين لفكرة الفداء، إذ يورد خوري سرديات متباينة لكل منهما: قصة النبي إبراهيم وابنه والفداء، وقصة يوسف النجار والنبي عيسى مثلما يسردها على لسان طانيوس، وهنا نلاحظ كيف أن جدلية علاقة الأبوين بالابنين في هاتين القصتين تأخذ أبعاداً متبدلة في الرواية، وخصوصاً حين تتشابكان بقصص الأمهات والآباء. ولذا، فإن العلاقة الأولى لإبراهيم بابنه تتعادل مع العلاقات البيولوجية والعطب الذي أصابها، أمّا قصة يوسف النجار – مثلما يسردها طانيوس - فلم تكن علاقته بابنه بيولوجية، وعليه كان شكل الفداء فيها مختلفاً وغير ممكن: فقد قُتل الأب "قبل صلب ابنه بعشر سنين، ولو بقي حيّا لما سمح لأحد بأن يصلب ابنه"، وهذه الحكاية بحسب طانيوس - أُقصيت على يد بولس لأنه لم يفهم بكاء يوسف الذي كان يرى ما سيحل بابنه. لكن خوري في الرواية يفسح لتلك الشخصية المقصاة والمهمشة ما يُظهر بُعداً جديداً لها ويلوّن العلاقة الأبوية الغائبة في الموروث الديني لها.
ولأن الأمهات هنّ مركز الحكاية – مثلما يقول منصور - فإن ميليا الأمّ تتعادل موضوعياً مع يوسف النجار الأبّ الذي "كان عايش بالمنامات والرؤى" مثلها، فهي التي رأت في مناماتها ما سيحل بابنها، لم ترغب في أن تلده في يافا، لأنها رأت تفصيلات النكبة التي ستعيشها المدينة. وبخلاف الأمهات والآباء في هذه الرواية، تقوم ميليا بفعل الفداء، وتتسامى في أمومتها لموسى وأمومتها للابن المنتظر.
تشتمل الرواية على تقنيات التناصّ الأدبي المتنوعة، فتنقسم إلى "ثلاث ليالي" ممتدة، مذكّرة القارىء بالكلاسيكيات الأدبية، لكن الليالي الثلاث الموظفة بشكل مغاير عن الليالي الشهرزادية مثلاً، تتداخل مساراتها السردية المتصلة - المنفصلة عبر تقنيات الاستباق والتأجيل والاسترجاع. فكل ليلة ترتكز على حدث رئيسي يتعلق بميليا الأنثى: على السطح تبدو الليالي الثلاث مرتبطة بثلاث دوائر في حياة الأنثى: الزواج والحمل والولادة، لكننا في قراءة موازية، سنرى في كل واحدة من هذه الدوائر مزيجاً لولبياً إنسانياً مختلفاً روحياً ووطنياً لدى منصور وميليا: من الاغتراب، والبحث، والموت / الإدراك.
يوظف خوري كذلك الميتا - أدب من خلال الحضور المكثف للشعر، فالرواية تعجّ بالأبيات الشعرية وقصص الشعراء، من عصور كلاسيكية متعددة مروراً بزمن الأحداث. وتأتي هذه التوظيفات بعدة أشكال في الرواية، إذ تتقابل تلك القصائد مع تغيّر المناخ السردي، فمن التركيز على البعد العاطفي للقصائد التي كان منصور "يرندحها"، إلى البعد السياسي مع تصاعد الأحداث السياسية. هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أتاح توظيف الشعر وحكاياته عالماً بديلاً تشاركت فيه ميليا ومنصور زوجها، وجسراً للتخاطب باللاوعي كان اللغة الوحيدة الممكنة بينهما، على الرغم من اختلاف نظرتهما وذائقتهما الشعرية. فميليا تماثل بين ضرورة الحكاية الدينية، وضرورة وجود حكاية خلف الشعر، فالحكايتان بالنسبة إليها ضرورة للخلود / للموت، بينما نرى منصور يمزج في ذائقته بين الحب والشعر والسياسة وفقاً للسياق.
ويبرز الميتا – أدب أيضاً متعلقاً بالتأليف، إذ نلحظ "المؤلف المضمر" خلال الحوارات بشأن الشعر ومنام ميليا عن شاعر فلسطين الذي سيأتي بعد خمسين عاماً. كما نلمح "المؤلف" للرواية قبيل النهاية عبر منامات ميليا الاستشرافية - كأنها زرقاء اليمامة - حين ترى طفلاً لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره يجلس تحت صورتها في الليوان، ويعبّىء فراغات الكلمات بجملة "لم تمت الصبية لكنها نائمة." هذا الطفل هو "مؤلف الرواية" الذي سيكتب قصة ميليا، وخوري يرسمه على صورة تشبه ميليا الصغيرة في مناماتها، فتى أسمر مجعّد الشعر، فهو الخيط الميتا - تأليفي الذي يجمع الحكاية من مزق الحكايات والصور، ومن أطراف منامات لم يرها.
عنوان هذه الرواية المستوحى من جملة السيد المسيح: "تنحّوا، فإن الصبيّة لم تمت لكنها نائمة" (إنجيل متى، الإصحاح التاسع، الآية 24)، يجعل قارىء الرواية يقف بين عالم الموت وعالم الحياة في سردية تجسد ذلك المخاض المتصارع بينهما، فميليا عاشت كأنها نائمة، وماتت كذلك. وبنظرة كاشفة للنهاية فإن موت ميليا الذي يشبه النوم كان حتمياً، لأن لقاء منصور (نصف حكايتها) الهارب من تعقيدات قصته العائلية، والباحث عن أفق آخر في واقعه المركّب، بميليا الباحثة عن حياة جديدة، لم يعد ممكناً مع حدث النكبة. فمنصور الذي يتسلل العجز إليه بعد استشهاد أخيه، ويلتبس بصورة أمّه، سيعود مرغماً أو طائعاً إلى واقعه الجديد التراجيدي الذي ترفض ميليا خوضه، ولذا، فإنها تعود إلى موتها كأنها نائمة. لكن بين هذا وذاك، بقي خلفها طفلان: أحدهما طفلها البيولوجي في يافا، وقد يحمل أسماء كثيرة: متري، إلياس، عيسى، أو أمين، والطفل الآخر في بيروت، وهو من نسل أخيها موسى، ابنها الذي لم تلده، وهو مَن سيكتب قصتها هذه. الطفلان وجهان لمأساة واحدة تنتظر أن تستيقظ الأمّ ميليا التي لا تزال "كأنها نائمة".