تنشر "مجلة الدراسات الفلسطينية" هذه الترجمة الجديدة لنصّ بن - غوريون لما له من أهمية تاريخية، ولما يحمله من دلالات على الحاضر على الرغم من مرور 106 أعوام على نشره بالعبرية أول مرة، وكانت قد نُشرت ترجمة عربية أُخرى قبل 32 عاماً، استفاد المترجم منها.
تقديم
لم تكن فكرة الأصول اليهودية للفلاحين الفلسطينيين فكرة بن - غوريون، بل كثيراً ما انتشرت بين العديد من الناشطين والمفكرين اليهود منذ فترة حركة "بيلو" (Bilu) في سنة 1882، والذين بشّروا بمستقبل إعادة اللحمة بين قسمَي القبيلة السامية (أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق).[1] وقد قام أحد ناشطي حركة بيلو المشهورين،[2] يسرائيل بلكيند (Israel Belkind, 1861-1929) بجولة في ضفتَي نهر الأردن (في سنة 1894) وتوصّل إلى نتيجة مشابهة.[3] والأمر نفسه ظهر عند المنظّر الاشتراكي الصهيوني دوف بير بوروخوف (Dov Ber Borochov, 1881-1917)، مؤسس حركة "بوعالي تسيون"، الذي توصل (في سنة 1905) إلى نتيجة فحواها أن فلاحي فلسطين هم أحفاد يهود فلسطين القدماء الذين انصهروا في عصر الفتح العربي الإسلامي مع الشرائح الجديدة، وهي نتيجة تنسجم مع مقاربته القائلة إن الشرائح الاجتماعية الضعيفة، كشريحة الفلاحين، تندمج وتنصهر بصورة عامة بالشرائح الأقوى منها، وهو ما سيحل مجدداً بالفلاحين الفلسطينيين (أحفاد اليهود القدماء) مع تعزز الاستيطان اليهودي.[4] كذلك، أشار المربي يتسحاق إبشتاين (Yitzhak Epstein) في معرض إحدى محاضراته (في سنة 1905) إلى الأصل الإثني الواحد لسكان فلسطين واليهود.[5] وجاء عند أرثور روبين (Arthur Ruppin) تكهّنه بأنه خلال جيل واحد "ستتشكل عملية انصهار ستفضي إلى طمس الفروقات كلياً بين العرب واليهود"،[6] وأصداء هذا الادعاء ستتكرر لدى دبلوماسيين وسياسيين، كالخبير الزراعي شموئيل تولكوفسكي (Shmuel Tolkowsky,1886-1965)، مساعد حاييم وايزمان في إنجلترا، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والذي أعلن بُعيد نشر وعد بلفور أننا "سنشهد حملة تبشيرية يهودية تسعى لتهويد عرب أرض إسرائيل"، لأن الدماء اليهودية تجري في عروقهم.[7] كما حاجج يتسحاق بن – تسفي (Yitzhak Ben-Zvi) بأنه توصّل إلى هذه النتيجة قبل أن ينشرها بن - غوريون (في سنة 1917).[8]
أمّا الجديد في نصّ بن - غوريون، المنشور هنا، فهو عودته إلى بعض المستشرقين وعلماء الآثار الأوروبيين الذين توصلوا إلى هذه النتيجة، وأخذه عنهم كثيراً من "الحقائق"، وترجمته فقرات كاملة ووضعها ضمن نصّه من دون الإشارة إلى ذلك في بعض الحالات. لكن بعدما هدأت الأجواء في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وظهرت ملامح الحركة الوطنية الفلسطينية، اختفى هذا الطرح إلى حين، باستثناء عدد قليل من الإصدارات التي وجدت حاجة إلى نشر بعض ما نُشر سابقاً، وغالباً لضروريات توثيق كتابات رجال السياسة والناشطين (كنشر مقالة بن - غوريون ومقالة بلكيند ضمن مجموعات أعمالهما). وترى الباحثة أنيطا شابيرا أن هذه الفكرة اختفت تماماً بعد طرحها في أعقاب الاحتلال البريطاني لفلسطين.
ومع ذلك، لم يتابع بن - غوريون هذه الفكرة قط، فقد أدرك بُعيد لقاءاته مع أعضاء حزب العمال البريطاني وشخصيات من اليسار اليهودي، أن قضية العرب الفلسطينيين هي قضية دولية مهمة. وإذا كانت الحركة العمالية اليهودية تسعى لكسب الشرعية الدولية، فإنه سيتعين عليها حينها أن تقترح منظوراً اجتماعياً أو سياسياً بشأن المسألة العربية (لا منظوراً تاريخياً كهذا)، ولهذا رأى بن – غوريون ورفاقه أن من غير الحكمة الاشتباك في مرحلة تأسيس الاستيطان مع المسألة العربية.[9]
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه المسألة عادت لتتخذ منحى آخر، وبدأت تبرز ثانية بين الفينة والأُخرى، مثلما حدث في مطلع الخمسينيات حين طرح بن - غوريون فكرة "تهويد الفلسطينيين" الذين تسنّى لهم البقاء في بلداتهم في أعقاب النكبة. فقد قام بن - غوريون باستشارة "مختصين" وعسكريين ورجال استخبارات وشخصيات دينية، منهم الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي (شلومو غورن) آنذاك، في هذا الشأن، وتأكد عوزي بنزامين وعطا الله منصور من ذلك في أعقاب مقابلات أجرياها مع شخصيات إسرائيلية سياسية (في مطلع سنة 1990)، كانت شاهدة على هذا الطرح في حينه، منهم رئيس الدولة حاييم هيرتسوغ (الذي عمل في الاستخبارات العسكرية) وكان رجل الموساد ورئيس معهد فان لير في القدس في حينه.[10] كما يشير الكاتبان إلى ما دوّنه بن - غوريون نفسه في يومياته (يوم 31 كانون الثاني / يناير 1951)،[11] ونورد هنا بشكل كامل الفقرة الموجودة في اليوميات:
زارني [اليوم] أساف وسولومون، والأخير هو المفتش على المدارس العربية من طرف وزارة المعارف. هنالك 25,000 تلميذ عربي (ثلثهم تلميذات) في المدارس العربية، وأكثر من الثلثين هم من المسلمين. هناك 601 معلم في المدارس العربية، منهم 80 يهودياً (أغلبهم من العراقيين) والبقية من العرب، ومنهم أكثر من 150 معلمة عربية، مسلمات ومسيحيات، وأغلبيتهن من المسيحيات. وبدءاً من الصف الرابع يتعلم (التلاميذ) العبرية، لكن ليس هناك معلمون للعبرية. وتساءلتُ فيما إذا كان ممكناً لهؤلاء أن يتهودوا. ويعتقد أساف أن الشبيبة، وربما حتى جيل 30 من العمر، سينصهرون مع مرور الوقت، أمّا المسيحيون منهم، فلا، لأن رجال الدين المسيحيين سيحافظون عليهم.[12]
كذلك، يخبرنا الصحافي عطا الله منصور الذي أجرى لقاء مع بن - غوريون في تشرين الثاني / نوفمبر 1954 ونشره بالعبرية، أن بن - غوريون أخبره بالآتي: "يتعين على جميع العرب (الخاضعين للسلطة الإسرائيلية) أن يتهودوا." ويضيف منصور أن أحد قادة عصابة ليحي السابقين، يهوشع كوهين، أخبره لاحقاً أن بن - غوريون عرض أمامه هذا الطرح في معرض حديث شخصي بينهما بشأن الطريقة الأكثر كفاءة والأفضل لحل "مسألة الأقلية العربية".[13] وعليه، فقد ظهرت هذه المسألة مجدداً في هذه المرحلة بهدف "التخلص" من مشكلة وجود سكان عرب في الدولة اليهودية.
لكن سرعان ما اختفت هذه الفكرة مرة أُخرى، لتظهر مجدداً بعد بضعة عقود في الإعلام والأدبيات الإسرائيلية، ولا سيما الشعبية منها والقريبة من التيارات اليمينية، ومنذ الانتفاضة الثانية (2000). ويبدو أن الدافع الأساسي الذي يقف خلف هذا الظهور المتجدد للفكرة يتمثل في تعزيز طرح عدم "التخلي عن أجزاء من أرض إسرائيل" لأن سكانها هم في الأصل من اليهود.[14] أمّا هدف جيل المؤسسين المركزي، ولا سيما لدى شخصيات سياسية صهيونية كبن - غوريون، ويتسحاق بن - تسفي المهووس فعلاً بالبحث عن "أسباط اليهود العشرة" المفقودين، فيكمن مثلما يبدو، في تعزيز الطرح السياسي بشأن "تواصل الحضور اليهودي الدائم" في فلسطين، أي أن اليهود لم يهاجروا من فلسطين في قديم الزمان، ليس جميعهم على أقل تقدير، وإنما تمسكوا بها حتى لو كان بثمن تغيير ديانتهم من اليهودية فالمسيحية فالإسلام، الأمر الذي يشهد، في رأيهم، على أهمية الأرض المقدسة، والتي تفوق أهمية المعتقد الديني. أمّا الأهداف الأُخرى فتكمن في التنكر لوجود شعب فلسطيني، وللهوية العربية لفلسطين. وتجدر الإشارة هنا إلى شيوع طرح لاهوتي، ولا سيما بين غلاة المستوطنين وحاخاماتهم، بشأن التساؤل: "لماذا سمح الرب للعرب بالإقامة في أرض إسرائيل حتى بلغ الأمر أن ارتبطوا بها ويصعب اقتلاعهم منها؟" ويتلخص الجواب الجزئي بأن الرب أتاح لهم فعل ذلك ليحافظوا على الأرض كي لا تتصحر، فيقومون بتحضير البلد لاستقبال شعب إسرائيل عندما يحين وقت "عودته".[15]
ملحوظة بشأن الترجمة: بعد فترة طويلة من ترجمة هذا النص أخبرني صديقي الدكتور محمود محارب أنه قام بترجمته ونشره في مجلة مقدسية صدرت بين سنتَي 1989 و1991، وتكرّم مشكوراً وأرسل لي نسخة عنها، وقد قمت بالاستفادة منها في بعض الأماكن.[16]
***
عن استيضاح أصل الفلاحين[17]
ينقسم سكان أرض إسرائيل إلى ثلاثة مجموعات متنوعة تبعاً لأسلوب حياة، وملابس، ولهجات، ومصادر رزق كل واحدة منها: تتشكل المجموعة الأولى من رُحّل الصحراء، "سكان الخيام"، الذين يكسبون رزقهم بشكل رئيسي من تربية الأغنام والجمال - ويسمى هؤلاء بلسان أهل المكان "البدو" (تعود تسمية البدو باللغة العربية إلى البادية) أو "العرب"؛ تضم المجموعة الثانية سكان المدن الذين يعمل معظمهم في التجارة والحِرَف، ونسبة قليلة منهم تمارس العمل الزراعي، ولا سيما في غرس الأشجار، وتسمى هذه المجموعة "مدنية" نسبة إلى "المدينة"؛ أمّا المجموعة الثالثة، فهم المزارعون الذين يعملون في القرى، ويسمّون "الفلاحين" نسبة إلى فلاحة الأرض. وهذه المجموعة الأخيرة تتجاوز المجموعتين الأُخريين على صعيد التعداد السكاني والأهمية الاقتصادية، إذ يعيش داخل حدود بلدنا، من جبل الشيخ في الشمال إلى خليج العقبة (البحر الأحمر) في الجنوب، ومن البحر الكبير في الغرب إلى الصحراء السورية في الشرق، نحو مليون نسمة. وبين هؤلاء، يوجد نحو 100,000 من البدو، ونحو 400,000 متركزين في 25 مدينة، بينما تعيش في القرى البقيةُ التي تصل إلى أكثر من نصف مليون نسمة يتركز ثلثاهم، نحو 380,000 نسمة، في غربي نهر الأردن، في أرض كنعان القديمة، أمّا قرابة الثلث الباقي، نحو 160,000 نسمة، فيعيشون في الجانب الشرقي من نهر الأردن.
أبناء المجموعة الأولى الذين يسميهم السكان المحليين "عرباً"، ينتمون كاسمهم إلى العرب الأقحاح، أبناء الأمة التي احتلت بلدنا في القرن السابع للميلاد وفرضت عليها لغتها وديانتها حتى يومنا هذا. ومع أنهم ينقسمون إلى عدد كبير من القبائل تتقاتل فيما بينها، وتكنّ كل واحدة منها العداوة للأُخرى على مدى الأجيال، إلّا إنهم جميعاً يشكلون بحسب أصلهم وعرقهم مجموعة واحدة ليس فيها أي مكون أجنبي، وهم منذ آلاف السنين يتنقلون في صحاري شبه الجزيرة العربية وسورية وسهوب النقب في أرض يهودا، ولم يغيّروا تقريباً قط، لا عاداتهم ولا تقاليدهم وأنماط حياتهم، ولباسهم وأعمالهم، وتعاملاتهم بعضهم مع بعض، بل إن معاملاتهم الاقتصادية ما زالت منذ عهد أبينا إبراهيم حتى يومنا هذا.[18] فهم لا يزالون منذ الأزل يعيشون في "خيام قيدار" (الأعراب)[19] المصنوعة من وبر الجمال، ولباسهم الوحيد هو قميص خشن يغطي بشرتهم التي تلوحت بالشمس جرّاء رَعْيهم جمالهم وقطعان أغنامهم، كما أنهم من حين إلى آخر يخرجون معاً في مجموعة واحدة فيغزون جيرانهم وينهبون ويخطفون، ولا يعترفون بسلطة المَلِك، ولا يخضعون لأي سلطة حاكمة، فكل قبيلة هي حرّة وقائمة بذاتها، وتخضع لإمرة "الشيوخ" و"الأمراء"، أي الوجهاء وكبار القبيلة.
أبناء المجموعة الثانية، سكان المدن، مختلفون تماماً من النواحي القومية والدينية والعرقية، فهم مجموعة متنوعة ومتعددة الأصول، مكونة من خليط متعدد الأعراق، والأمم، واللغات والأديان، ومن الصعب العثور على مثيل لهذا الخليط خارج المدن الكبرى في العالم. ففي القدس مثلاً، وجد الباحثون في بداية القرن العشرين أن سكانها يتكلمون 50 لغة، بينما لا يوجد في المدن الأُخرى مثل هذا الخليط الكبير في اللغات، مع أنه حتى في شوارع يافا وحيفا والناصرة يمكن أن تصل إلى آذانك عشرات اللهجات المتنوعة، كما يمكن العثور هناك على نماذج كثيرة للأعراق والقوميات من أبناء سام وحام ويافث تتعايش معاً. أمّا اللغة المهيمنة فهي اللغة العربية، لكن ليس جميع الناطقين بالعربية ينتمون إلى أمّة واحدة، بل تستطيع أن تلتقي هناك بأشخاص من أصول مصرية، وجزائرية، وتونسية، ومغربية، وزنجبارية، ومدغشقرية - من أبناء القارة الأفريقية "المؤمنين" الذين قدموا لزيارة الأماكن المقدسة فاستقروا في مدن أرض إسرائيل بسبب افتقارهم إلى تكاليف السفر، أو لدواعٍ أُخرى، وبين هؤلاء عدد كبير جداً من الزنوج الذين "تعرّبوا". غير أن عدد العرب الأقحاح الذين ينتمون إلى عائلات المحتلين الذين جاؤوا إلى البلد في عهد الخلفاء الأوائل، يُعتبر ضئيلاً جداً.
إن جميع الديانات التي مصدرها اليهودية - أعني المسيحية والإسلام - وجميع الفرق التي تفرعت عنها على مر الأيام، لديها هنا ممثلون بأعداد كثيرة أو قليلة: من أتباع ديانة موسى لدينا هنا اليهود والقراؤون والسامريون؛ ومن المسلمين: السنّة من جميع المجموعات، والشيعة، والبهائيون؛ ومن المسيحيين: الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت؛ وثمة فرق أُخرى كثيرة موجودة في الشرق حصراً. وأغلبية البلدات الحضرية في البلد حديثة العهد، لكن مجموعة حضرية صغيرة واحدة يمكنها أن تتباهى بأنها تعيش هنا منذ عهد الأسر البابلي، وهي السامريون في نابلس الذين يبلغ عددهم نحو 180 نسمة. ولم تكن البلدات الحضرية قائمة في البلد قبل القرن السابع الميلادي، فالعديد من المدن مثل، عكا وحيفا ويافا وطبرية، كان على مدار القرون أماكن خَرِبَة تماماً، وفقط في القرنين الأخيرين جرى استيطانها مجدداً، وبطريقة تجعل البلدات الحضرية، في أغلبيتها، تبدو حديثة العهد. ولا يمكن العثور في مطلع القرن التاسع عشر في جميع المدن في أرض إسرائيل مجتمعة على 80,000 نسمة - وهو عدد سكان القدس فقط في السنة التي سبقت الحرب [لا يذكر الكاتب أي حرب هذه، لكن من الواضح أنه يريد الحرب العالمية الأولى] - فقد كانت القدس هي المدينة الوحيدة التي تجاوز عدد سكانها 10,000 نسمة، وحتى سنة 1875 لم يتجاوز عدد السكان في البلدات الحضرية 10,000 نسمة إذا استثنينا 4 مدن هي: الخليل، والقدس، وغزة، ونابلس. وفي سنة 1915، كان هناك 11 مدينة بلغ عدد سكان كل واحدة منها ما لا يقل عن 10,000 نسمة. ويختلف سكان المدن بعضهم عن بعض، ليس من حيث ديانتهم، وقوميتهم، وأعراقهم، ولغاتهم فحسب، بل من حيث استقرارهم واستيطانهم في البلد أيضاً. ولم يبقَ من البلدات العبرية القديمة، التي تعود إلى زمان حكم اليهود في بلدهم، أي أثر سوى أثر صغير نجا بأعجوبة، ويقع في مركز البلد على سفح جبل جرزيم – ويتمثل في طائفة السامريين الصغيرة.
أبناء المجموعة الثالثة - سكان القرى أو الفلاحون - هم أيضاً متنوعون ويختلف بعضهم عن بعض من حيث دياناتهم وأعراقهم، ولا سيما في شمال البلد، وفي الجليل غرب البلد، وفي الجولان وفي باشان التي تقع في الجانب الشرقي من نهر الأردن. ويمكن أن تعثر في كل منطقة وأُخرى على ثلاث أو أربع مجموعات دينية قومية تعيش كل واحدة منها في قرية خاصة ومستقلة، أو تعيش معاً في قرية واحدة، ففي منطقة حاصبيا مثلاً، بالقرب من جبل الشيخ، تجد 18 قرية، منها 3 قرى درزية، وقريتان مسيحيتان، وقرية واحدة للمسلمين - والباقي قرى مختلطة. ويسكن في بعض هذه القرى الدروز والمسيحيون، وفي البعض الآخر منها - المسيحيون والمسلمون. وفي منطقة صور، في الجليل الأعلى، والتي يبلغ عدد القرى فيها 121 قرية، هناك 58 قرية للمتاولة، أبناء فرقة شيعية من أصل فارسي، و46 قرية للمسلمين (السنّة)، و8 قرى للمسيحيين، وقريتان للدروز، والباقي قرى مختلطة. ويعيش في قرية البُقَيْعَة، بالقرب من صفد، مسلمون ودروز ويهود ومسيحيون معاً، كما أن ثمة بلدة مختلطة أُخرى كتلك القرية، وهي شفا عمرو. ولا يوجد على الإطلاق، في الجليل الأسفل والأعلى كليهما، ولا حتى منطقة واحدة لا تحتوي قراها على مكونات سكانية متنوعة. غير أن الخليط والارتباك الواضحين بين السكان القرويين في يهودا والسامرة، لا يُعتبران كبيرين قياساً بواقع الحال في شمال البلد. فعلى امتداد المساحة الصغيرة بين حيفا وقيسارية، على طول نحو 20 ميلاً، نجد بين السكان الفلاحين ما لا يقل عن 8 أعراق متنوعة هي: سوريون؛ يهود؛ شركس؛ عرب؛ سلاف (بوسنيون)؛ تركمان؛ ألمان؛ زنوج. ونجد أيضاً في حوران على الجانب الآخر من نهر الأردن، قرى لزنوج، وتركمان، ومسيحيين، وبدو، وموارنة، وشركس، إلّا إن الأغلبية العظمى من ساكني البلدات القروية هي من الناطقين باللغة العربية، ومن المسلمين السنّة، كما أن أكثر من ثلثي القرى في غرب أرض إسرائيل هو من هذا الصنف. فبين القرى الــ 900 الموجودة هنا، لا نجد إلّا 220 فقط لا يُعتبر سكانها من العرب المسلمين، منها نحو 80 للمتاولة، و50 لليهود، و20 للمسيحيين، و11 للدروز، و6 للألمان، و3 للشركس، وقرية واحدة للسلاف، و5 منها بلدات مختلطة. أمّا القرى الأُخرى - 680 قرية تقريباً - فجميع ساكنيها من النوع نفسه، فهم مسلمون يتحدثون اللغة العربية.
اعتاد السياح الأوروبيون الذين يكثرون من زياراتهم للبلد، على إطلاق اسم العرب على هؤلاء الفلاحين. كما أن الباحثين يستخدمون هذا الاسم أحياناً لوصف سكان البلد الفلاحين. وإذا كان المقصود بلقب "عرب" الإشارة إلى الدين واللغة، فإنه يلائم معظم البلدات القروية. لكن إذا ارتأينا أن نبحث في مسألة أصل ومصدر الفلاحين، ونفحص أنماط حياتهم الداخلية، وننقب في التقاليد القديمة التي تم الحفاظ عليها حتى يومنا هذا –فسنجد أنه لا وجود لأي قاسم مشترك تقريباً يجمع بينهم وبين العرب الحقيقيين، أبناء العرق العربي.
يميز الفلاحون جيداً بين أنفسهم وبين أبناء العرب، فهم يطلقون اسم "العرب" على البدو الرحّل فقط لا غير، ويطلقون على أنفسهم بكل بساطة اسم فلاحين.[20] فالفلاح يمقت البدوي ويخشاه، بينما يحتقر البدوي الفلاح لأنه يرى في نفسه شخصاً حرّاً يتمتع بالكرامة الذاتية، ويرى في الفلاح عبداً بائساً فهو عبد للعمل، مستعبد لأرضه ولجور الحكومة. هكذا يرى الأمور ابن الصحراء الحر المعفي من جور السلطة، والذي يعيش على قوسه وسيفه، ولذلك تراه يردد باعتزاز المقولة: "البدوي سلطان الدنيا، والفلاح حمار الدنيا." وتُعتبر علاقات العداء والاحتقار هذه قديمة، وقد نشأت في فترة الفتوحات العربية في القرن السابع للميلاد.
لم تدمر القبائل العربية التي سكنت أرض إسرائيل في عهد الخليفة عمر بن الخطاب القرى الزراعية التي وجدتها وقتذاك في البلد، لأن ذلك لم يكن مفيداً لها، كما أنك لا تجد مطلقاً بين العرب الذين احتلوا البلد أي شريحة من المزارعين تقريباً، فمثلما هي الحال عند البدو في زماننا، فإن العرب عملوا أساساً في المراعي والتجارة والغزوات. وعندما انطلقت جيوش النبي من شبه الجزيرة العربية لاحتلال أراضٍ جديدة لم يكن لها هدف استعماري - أي الاستيطان والاستقرار على الأرض ومزاولة العمل في الزراعة - وإنما سعى هؤلاء لنشر الدين الإسلامي وتوسيع مدى انتشاره وفرض الضرائب على الشعوب المستسلمة. ومثلما نرى في عصرنا الآن، فإن "العربي"، أي البدوي، ينتقل إلى العمل في الزراعة بصعوبة بالغة جداً وفي حالات نادرة فقط، على الرغم من جميع الجهود التي تبذلها الحكومة، والتي تسعى لربط أبناء الصحراء المتوحشين بالأرض، كي تفرض عليهم سلطتها من خلال ذلك. وعندما تغلّب جيش الخليفة عمر على حكم البيزنطيين في أرض إسرائيل، استولى المنتصرون على معظم الأراضي المزروعة، لكنهم لم ينهبوا بشكل كامل المزارعين الذين وجدوهم يعملون في أراضيهم. ولم يشأ مالكو الأرض الجدد زراعة أراضيهم، وإنما تركوا أصحاب الأرض السابقين ليزرعوا أرضهم، بعد أن فرضوا عليهم الضرائب بدلاً من عملية الاستئجار المتعارف عليها. لقد تم استبدال أصحاب الأرض فقط، وليس العاملين فيها. واستوطن معظم المنتصرين العرب الذين استقروا آنذاك في أرض إسرائيل، في المدن، أمّا سكان القرى الذين تحولوا إلى دافعي ضرائب، فكانوا أبناء البلد الذين سبقوا الاحتلال العربي، ثم تبنّوا لغة المنتصرين ودينهم فيما بعد.
إن الفلاحين في عصرنا هم، في معظمهم، أحفاد الفلاحين أنفسهم الذين وجدهم العرب في البلد في القرن السابع للميلاد. فمَن هم هؤلاء الفلاحين؟
من الواضح أنهم لم يكونوا يونانيين أو رومانيين، فهذان الشعبان لم يعتنيا بالعمل الزراعي في أرض إسرائيل، وإنما كانت المستوطنات اليونانية والرومانية الموجودة في أرض إسرائيل مستعمرات حضرية اشتغلت في التجارة البحرية في المدن الساحلية، أو في التجارة الداخلية في المدن كباعة متجولين. ولم يتكلم سكان البلد، مثلما يذكر جيروم في القرن الرابع، باللغة اليونانية أو اللاتينية، وإنما استخدموا الآرامية، لغة السواد الأعظم من الشعب اليهودي في أثناء خراب الهيكل (الأول) وبعده.[21]
يعتقد عالم الآثار الفرنسي تشارلز كليرمون - جانو (Charles Clermont-Ganneau, 1846-1923) أن الفلاحين الحاليين هم من أحفاد الكنعانيين القدماء الذين بقوا في أرض إسرائيل منذ عهد يهوشوع بن نون حتى الاحتلال العربي.[22] واعتقد بهذا الأمر أيضاً، الباحث الإنجليزي كلود رينيه كوندير (Claude Reignier Conder, 1848-1910)، وهو أبرز الباحثين في أرض إسرائيل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.[23] وكدليل على اعتقاده هذا يستشهد كليرمون - جانو ببقايا طقوس العبادة الكنعانية التي بقي الفلاحون محافظين عليها حتى يومنا هذا، وخصوصاً عادة تقديس الأضرحة المخصصة لذكرى الأنبياء والأولياء وأبطال التاريخ وما شابه ذلك. وهذه الأضرحة تنتشر في العديد من القرى، وتقع إلى جانبها شجرة عظيمة ومنعشة، غالباً ما تكون نخلة، ويطلق عليها اسم "الوليّ" أو "المقام". وقد سبق أن أشار إدوارد روبنسون (Edward Robinson, 1794-1863)[24] إلى التشابه بين تقديس "الوليّ" أو "المقام"، وتقديس "الأماكن" لدى الكنعانيين، مثلما جاء في التوراة: "تُخْرِبون جميع الأماكن حيث عبدَتِ الأممُ" (سفر التثنية 12: 2). ويذكّرنا تقديس الأشجار بعبادة عشتار بين سكان البلد القدامى، فكثير من الأضرحة المقدسة هو أضرحة نساء. ويعتبر كليرمون - جانو أن ذلك من بقايا عبادة الأشجار المعروفة منذ عصر الكنعانيين.[25]
يجب الإقرار بأن بعض الأعياد والتقاليد الرائجة بين الفلاحين، هو من بقايا طقوس العبادة الكنعانية - ولا شك في ذلك. ويُعتبر الإسلام الدين الرسمي للأغلبية العظمى من سكان القرى، مثلما ذكرنا أعلاه، لكن هذا الدين لم يعمّق جذوراً قوية وراسخة في قرى الفلاحين في أرض إسرائيل، ففي العشرات من القرى لا يوجد مكان للصلاة، والفلاحون، في معظمهم، لا يقيمون الصلاة مطلقاً، ولا يؤدون أيضاً فرائض الإسلام الرئيسية الأُخرى.[26] كذلك، فإن نساء الفلاحين لا يغطين وجوههن بالخمار، مثلما تفعل نساء المسلمين في المدن. وباستثناء بعض المعتقدات السخيفة، فإن الفلاح لا يعلم شيئاً تقريباً عن أركان الإسلام الرئيسية وفرائضه العملية، بل إنه يُكثر من القسم "بحياة النبي" و"بحياة الله"، لكنه يستهين بهذا القسم ولا يتورع عن تكراره بعد كل عمل باطل وقول زائف، غير أنه ينظر نظرة تبجيل إلى القَسَم الذي يقسمه بمقدسه المحلي فقط، فبالنسبة إليه هذا هو القسم الذي يجب الوثوق به.
ومع ذلك، فإن هذه الحقائق غير كافية كي نثبت أن هؤلاء هم أحفاد السكان الكنعانيين القدماء، ذلك بأن عبادة الأوثان الكنعانية كانت شائعة طوال فترة الهيكل الأول في أوساط السكان، وكذلك بين السكان اليهود أيضاً. وحتى لو سلّمنا بأن العادات الشائعة بين الفلاحين في عصرنا هي من بقايا الكنعانيين، ونستخلص من ذلك أن هؤلاء الفلاحين هم أحفاد الكنعانيين القدماء، فإنه لا يمكن لغاية الآن أن نحسم الأمر ونقول إن هؤلاء الفلاحين هم تحديداً ممثلو القبائل الإسرائيلية السابقة التي كانت تقيم في البلد عندما هاجر إليها الكنعانيون، والحثّيون، واليبوسيون، والأموريون، والفلسطينيون وغيرهم، لكن من الجائز أن يكون هؤلاء الفلاحون هم أحفاد العبرانيين أنفسهم، الذين كانت عبادة الأماكن شائعة بينهم، كعبادة المصطبات المرتفعة، وعشتار التي لا تزال بقاياها قائمة في أوساط القرى الزراعية الحالية. ويعتقد كليرمون - جانو أن الاستيطان العبري في أرض إسرائيل دُمّر بالكامل في حروب الإبادة التي اقترفتها ضد اليهود قيادات جيوش روما: فسبازيان، وابنه تيتوس، وتراينوس، وأدريان، كما أن اضطهاد الملوك المسيحيين لم يترك أي أثر للعرق اليهودي في وطنهم. لكن، ما مدى وجاهة هذا الافتراض للباحث الفرنسي؟ نصل هنا إلى النقطة المركزية للسؤال التالي: ماذا حل بالاستيطان الزراعي اليهودي القديم في النهاية؟ هل استؤصل بالكامل من على وجه الأرض؟
يكمن في جواب هذا السؤال المفتاح لحل الأسئلة التي أمامنا بشأن أصل الفلاحين. إن افتراض كليرمون – جانو بشأن زوال أي ذكر وأثر للاستيطان اليهودي في الوطن قبل الاحتلال العربي، ليس له أي أساس في تاريخ اليهود في أرض إسرائيل، وهو افتراض باطل من أساسه استناداً إلى الحقائق التاريخية المؤكدة التي ليس هناك أي شك في حقيقتها وصدقيتها. فبعد خراب الهيكل من طرف جيوش فسبازيان وتيتوس، كان الاستيطان العبري في البلد لا يزال ذا قوة كبيرة، إذ استطاع بعد مضي 65 عاماً أن ينظّم من جديد معسكراً يتألف من 200,000 شخص لقتال جحافل روما تحت راية بار كوخبا. وقد استولى المتمردون اليهود على نحو 50 حصناً وأكثر من 900 قرية، وسقط في هذه الحرب، وفقاً للمصادر التقليدية، نحو نصف مليون شخص يهودي، غير أن حتى هذه الخسارة الكبيرة لم تفتّ في عضد الاستيطان اليهودي بشكل كامل. فمع أن يهودا دُمّرت بأكملها تقريباً في حرب التحرير، إلّا إن الجليل بقي، مثلما كان قبل ذلك، منطقة يهودية بالكامل. ففي القرن الرابع، وبسبب أوامر القيصر قسطنطين العظيم (272 - 337م) الجائرة، اندلعت ثورة كبيرة مرة أُخرى، شاركت فيها جماهير غفيرة من اليهود في الجليل ويهودا، كما أنه حتى مطلع القرن السابع للميلاد، كان عدد اليهود في أرض إسرائيل كبيراً جداً إلى درجة أنهم تمكنوا من حشد جيش كبير، والتعاون مع الفُرْس لاحتلال القدس[27] التي قتلوا من سكانها، بحسب مصادر يهودية قديمة، 90,000 مسيحي. وعلاوة على ذلك، توجّه 20,000 جندي يهودي إلى صور أيضاً، وكان ذلك قبل 20 عاماً من الاحتلال العربي (وتحديداً في سنة 614م). وقد استقر في وسط البلد كثير من السامريين الذين شنّوا الحروب الضروس ضد أعدائهم المسيحيين في القرنين الخامس والسادس. واعتنق كثير من اليهود في أرض إسرائيل الديانة المسيحية، والبعض منهم فعل ذلك بدافع الإيمان الساذج والجهل، والبعض الآخر بسبب الأحكام الجائرة. وكان عدد هؤلاء المرتدين عن دينهم كبيراً، ولا سيما بين أوساط السامريين الذين عانوا أكثر من اليهود جرّاء وطأة العدو واضطهادات الحكام المسيحيين.
ليس هناك، إذاً، أي أساس لافتراض كليرمون - جانو أن اليهودية الإثنية استؤصلت من أرض إسرائيل قبل وقت طويل من وصول العرب إليها.
عمل يهود أرض إسرائيل في فلاحة الأرض أساساً، وفي بلاد المنفى فقط اشتهر الشعب العبري بكونه شعباً يعمل في مجال التجارة. فقد كان معظم اليهود في وطنهم شعباً من المزارعين، وكانت الفِلاحة بمختلف فروعها أساس اقتصاد اليهود في بلدهم. ونجد الوصف النموذجي للاقتصاد الزراعي العبري في أقوال حبقوق: "فمع أنه لا يُزهر التين، ولا يكون حَمْلٌ في الكروم، يكذب عملُ الزيتونة، والحقولُ لا تصنع طعاماً. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقرَ في المَذاود" (سفر حبقوق 3: 17). ونلمس هنا الفروع الثلاثة الرئيسية من فروع الاقتصاد التي كانت سائدة في أرض إسرائيل منذ العصور القديمة حتى عصرنا الحالي: غرس الأشجار والفلاحة وتربية الأغنام والبقر. ومن خلال العديد من الجمل التوراتية، والرسومات، والحكايات، والشهادات، والشرائع، ومصنفات المدراش، والملاحظات ونقاشات وجدالات السلف التي تشير إلى فلاحة الأرض وشيوع الاقتصاد الزراعي لليهود في أرض إسرائيل، والتي نعثر عليها في جميع آدابنا القديمة: العهد القديم، والأسفار المنحولة، والآداب اليهودية اليونانية والتلمودية، فإننا لا نكتشف عبر هذه الآداب حقيقة عامة تفيد بأن اليهود كانوا يسكنون في البلد فقط، بل يمكننا استناداً إليها أيضاً، رسم صورة واضحة ومتعددة الجوانب وأساسية بشأن حالة الزراعة العبرية وأشكال العمل في الأرض التي كانت معتمَدة خلال فترة الهيكلين الأول والثاني والقرون التي تلت خراب الهيكل الثاني. وفي كتاب "ضد أبيون" (Against Apion)،[28] يظهر في معرض كلام الكاتب يوسف بن متتياهو المعروف بيوسيفوس فلافيوس (Flavius Josephus)، ما يلي: "إننا نحن معشر اليهود لا نسكن المدن القريبة من البحر، ولا نتوق إلى أي عمل في فروع التجارة والبيع والشراء، ولا نخالط الأغيار الأجانب القادمين من تلك المدن، فمدننا بعيدة عن البحر، وأراضينا التي نقيم عليها خصبة ونكرّس اهتمامنا كله لزراعتها."[29] إن أحد الأجزاء الستة للمشناه مخصص بشكل خاص لشرائع الزراعة وفلاحة الأرض، وهو ما نجده أيضاً، في سائر أجزاء المشناه والتلمودَين ومصنفات المدراش، إذ يرد العديد من الشرائع والقضايا التي لا تُعدّ ولا تُحصى، والصادرة من رحم الاقتصاد الزراعي. إن الأعداد الكبيرة من اليهود الذين قاتلوا ضد الرومان والبيزنطيين منذ عصر يوحنان الجشّاوي (أحد قادة التمرد الكبير ضد الرومان، 66 - 74م، نشط في منتصف القرن الأول للميلاد)، حتى بنيامين الطبراني (المشارك في الثورة ضد هرقل في مطلع القرن السابع للميلاد)، كانوا في أغلبيتهم من المزارعين؛ وإذا افترضنا أن العاملين في فلاحة الأرض في أرض إسرائيل في تلك الفترة لم يكونوا يهوداً، وإنما كانوا كنعانيين مثلما يتضح من فرضية كليرمون – جانو، فإننا مرغمون على أن نصل إلى نتيجة فحواها أنه لم يكن هناك يهود في أرض إسرائيل قط. لكن ممّا لا شك فيه هو أن دماء كنعانية خالطت كثيراً أو قليلاً دماء يهود أرض إسرائيل، فالعهد القديم يخبرنا أن اليهود لم يرثوا في كثير من الأحيان التجمعات الكنعانية، وإنما سكنوا بين ظهرانيهم، ومن المستحيل ألّا يكون كثير من هؤلاء الكنعانيين قد اندمجوا مع مرور الوقت في أوساط الشعب المسيطر (اليهود). ولهذا، لا يمكن الافتراض أن المزارعين اليهود تحديداً هم مَن قُضي عليهم خلال الحروب، أو أنهم الذين غادروا وطنهم تحت ضغط العدو، بينما بقي جميع المزارعين أحفاد الكنعانيين في البلد.
إن حقيقة وجود طبقة المزارعين العبريين في أرض إسرائيل قبل خراب الهيكل الثاني - وهذه الحقيقة ليست موضع شكّ مثلما أنه ليس هناك شكّ في حضور شعب يهودي في أرض إسرائيل - تستوجب ضرورة الافتراض أن هذه الطبقة استمر وجودها بعد خراب الهيكل أيضاً، لأنه لم يُدمّر خلال الحرب سوى الجزء اليسير فقط من البلدات العبرية، فالمدراش والتلمودان - وبالذات التلمود المقدسي – تؤكد وجود بلدات زراعية عبرية بعد بضعة قرون من خراب الهيكل الثاني. وأغلبية البلدات التي دُمّرت خلال الاضطهاد وصدور الأحكام الجائرة واندلاع الاضطرابات والثورات ضد قسطنطين، كانت بلدات حضرية، مثل: جملة، ويودفات، وبيت يرح، ويافا، والقدس خلال الخراب، وبيتار خلال انهزام بار كوخبا، واللد، وصَفُّورْيَة.[30] وحتى اليهود الذين نزحوا عن بلدهم بسبب المضايقات، كانوا بصورة خاصة من أهل المدن، وكانوا تجاراً أصحاب حِرَف، خفيفي الحركة لا يفقدون تماماً مِهَنهم عندما يهاجرون من بلد إلى آخر. ويجب أن نتذكر أن أبناء المدن الموجود فيها مراكز المدارس الدينية اليهودية العليا، كانوا متنورين أكثر ومتمسكين بالدين، كما أن أحكام تغيير الدين الجائرة أثرت فيهم أكثر من تأثيرها في البسطاء، والفلاحين الأفظاظ من "العوام"، الذين لم يهتموا في جميع الأحوال بالشرائع والأحكام التي فرضها عليهم الحكماء. وبغضّ النظر عن ذلك، فإن الفلاح بطبعه ثقيل الحركة، لكنه مرتبط بقطعة أرضه التي ارتوت بعرق جبينه برباط لا ينفصم، وهو لن يترك أرضه مصدر حياته بسهولة، فهي الأرض التي انتقلت إليه بالوراثة من آبائه وأجداده.
إن الملاحقات على أساس الانتماء الديني، والتي أدت إلى تهجير كثير من أبناء المدن من وطنهم، لم تؤثر إذاً في وضع البلدات الزراعية التي اختارت أن تتحمل استفزازات العدو، وأحياناً تنكُّر أبنائها لانتماءاتهم الدينية - وهو الثمن الذي دفعه أبناء هذه البلدات لعدم انفصالهم عن أراضيهم.
إن الاستنتاج المنطقي الذي يمكن التوصل إليه استناداً إلى جميع ما ذُكر حتى الآن، هو أن البلدات الزراعية التي وجدها العرب في أرض إسرائيل في القرن السابع لم تكن سوى البلدات العبرية التي استمرت في الوجود في البلد على الرغم من المضايقات والاضطهادات والأحكام الجائرة من طرف قياصرة روما والبيزنطيين. وكان البعض قد اعتنق قبلاً الديانة المسيحية، ظاهرياً على الأقل، غير أن كثيرين منهم احتفظوا بدين آبائهم، وانتفضوا من حين إلى آخر، وقاتلوا الذين ناصبوهم العداء واضطهدوهم من المسيحيين.
في أعقاب الاحتلال العربي، سادت اللغة العربية، وانتشر الإسلام بالتدريج في أوساط السكان. وقد أثبت الدكتور جورج كامب مئير في مقالته بشأن "الأسماء القديمة في فلسطين وسورية في عصرنا"،[31] انطلاقاً من تحليل لغوي تاريخي، أن اللغتين الآرامية والعربية سادتا لفترة زمنية معلومة بين السكان في أرض إسرائيل، ثم جرى بالتدريج إقصاء الأولى على يد الثانية، لكننا نلمس حتى يومنا هذا أن الترسبات الآرامية لم تختفِ من لغة الفلاحين تماماً.
انتشرت الديانة الإسلامية في صفوف سكان هذه البلد، وكذلك اللغة العربية في الآن ذاته. وأدت أعباء الضرائب الباهظة التي فُرضت على "الكفار" الذين أصبحوا في "ذمّة" الإسلام - ضريبة الرؤوس وضريبة الأراضي ("الجزية" و"الخراج")، اللتان كان المؤمنون مُعفين منهما - إلى اعتناق السكان غير المسلمين الدين الجديد. كما ساهم توزيع أراضي الكفار باعتبارها غنائم حرب بين "الغزاة" (المسلمون المنتصرون) كثيراً في نشر الإسلام بين أصحاب الأراضي، إذ لم يرغب هؤلاء في خسارة أراضيهم فسارعوا إلى قبول الدين الذي أتى به النبي من مكة وانضموا إلى معسكر "المؤمنين".
وانتشرت الديانة الجديدة بسهولة أكثر في أوساط السكان اليهود الذين كانوا قد بدّلوا دينهم فعلاً، واعتنقوا المسيحية في السابق، ذلك بأن أركان الإسلام كانت أكثر قرباً إلى قلوب الجماهير اليهودية من أركان المسيحية. وساعدت أسس الأخوة وديمقراطية المجتمع الإسلامي بشكل كبير جداً أيضاً في نشر الإسلام، فالآية القرآنية {إنما المؤمنون إخوة} (سورة الحجرات: الآية 10) لم تبقَ مجرد قول من دون معنى، مثل عقيدة المحبة والأخوة في المسيحية. فكل مَن اعتنق المسيحية من السكان المحليين بقي مثلما كان في السابق مهاناً وحقيراً في نظر الحكام البيزنطيين، بينما، في المقابل، فإن مجرد النطق بالشهادتين مرة واحدة وعلانية "أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله"، يكفي كي تكون عضواً متساوياً وذا حقوق كاملة في المجتمع الإسلامي.
نجد في لغة الفلاحين المعاصرين وعاداتهم وتقاليدهم وآدابهم كثيراً من العلامات التي تدل على أصلهم العبري، ذلك بأن لهجة الفلاحين تختلف اختلافاً جلياً عن لهجة سكان المدينة، وكذلك عن لهجة البدو الرحّل. فبحسب رأي كوندير، تتميز لهجة الفلاحين بطابع آرامي، كما أنهم وحدهم دون سائر سكان البلد الآخرين، يستخدمون ألفاظاً عبرية للإشارة إلى أسماء الأماكن في البلد، مثل: فرزوت (مكان / بلد غير محصّنة)؛ طيرة (مكان / بلد محصّن)؛ رامة (مكان مرتفع)؛ عوفل (قلعة)؛ فلغ (جدول)؛ عروتس (جُرف الوادي).[32] وكثير من هذه الأسماء غير موجود في اللغة العربية، ومع ذلك يفهم الفلاحون معناها. وبمناسبة العمل الضخم لصندوق استكشاف فلسطين (بريطانيا) (Palestine Exploration Fund) الذي بحث ووضع القياسات على مدار خمسة أعوام غرب فلسطين، وجمع نحو 10,000 من أسماء القرى، والأنهار، والينابيع، والجبال، والتلال، والأغوار، والخِرَب والكهوف "من دان حتى بئر السبع"، اتضح أن أغلبية الأسماء التوراتية التي تشير إلى البلد، احتُفظ بها من دون تغيير كبير بين السكان الفلاحين. وكان كوندير، المشرف على أعمال الصندوق المذكور، قد لاحظ فعلاً، أن الأسماء القديمة في الأماكن التي يقيم عليها البدو اختفت، أمّا بلدات الفلاحين فاحتفظت بقائمة المسميات التوراتية. ومع أن العديد من الأماكن التي سُجلت في الخريطة الكبيرة لذلك الصندوق ليس له أي ذكر على الإطلاق في العهد القديم، إلّا إإن الفلاحين يطلقون عليها أسماء ليس لها أي معنى في اللغة العربية، والمفتاح لدلالتها موجود في اللغة العبرية، وفقط.
وتتميز في هذا السياق بصورة خاصة، أسماء القرى، فـ 25% من مجموع قرى الفلاحين في غرب فلسطين لا يزال يطلَق عليها حتى الآن الأسماء العبرية نفسها التي كانت تطلَق عليها في فترة يهوشع بن نون، والملك داود، وعزرا الكاتب، ويوسف بن متتياهو، والحاخام يهودا هنسي. وبين الـ 850 قرية الموجودة في غرب فلسطين (لم يؤخذ في الحسبان هنا المستوطنات العبرية الجديدة)، فإن ما لا يقل عن 210 قرى لها أسماء توراتية وتلمودية، وكثير منها لم يغير حرفاً واحداً من اسمه العبري القديم، مثل: أَشدود (أَسدود)؛ بَني بْراك (الخَيْرِيَّة المعروفة بين سكانها بقرية بَني بُرق، وابن البُرق، وابن بُراق)؛ بير زيت؛ جِمْزو؛ جَبَع؛ حَلَحوْل؛ يِبْنه [الكنعانية التي تقوم فوقها قرية يِبْنا حالياً]؛ مِخْماس؛ عاموس؛ كَفْر سابا، والعديد منها طرأ عليه تغييرات طفيفة موجودة بأحرف اللغتين الأختين، مثل: أ - ع، ل - ن، ج - ق، وما شابه ذلك.
وتُعتبر البلدات الزراعية شرقي نهر الأردن حديثة العهد تقريباً، فبسبب قربها من الصحراء والإهمال الحكومي كانت هذه البلدات تفتقر إلى الأمن والحماية، وكانت تتعرض للسلب والنهب من طرف القبائل البدوية التي كانت الحاكم المطلق في هذه المنطقة حتى خمسينيات القرن التاسع عشر. ولهذا السبب كانت هذه البلدات مهجورة وتُعتبر "خِرَب البلد".[33] وكان المزارعون يمتنعون من فلاحة أراضيهم خوفاً من البدو، ولم يستقر الفلاحون في قرى شرقي نهر الأردن إلّا في الفترة الأخيرة فقط. كما سُكنت جبال حوران في القرنين الأخيرين فقط من طرف الدروز الذين هاجروا إليها من جبال لبنان، أمّا في سائر الأجزاء من حوران فلم تنشأ البلدات إلّا في القرن التاسع عشر، وخصوصاً في النصف الثاني منه، بفضل تعزيز قوة الحكم العثماني. وقسم كبير من الفلاحين هنا هم شبه بدو تعلقوا بالأرض رويداً رويداً، واستقروا بشكل دائم في القرى الكثيرة التي كانت فارغة ومقفرة طوال مئات السنين. وخلافاً للفلاحين في غرب فلسطين، فإن الفلاحين في شرق الأردن افتقروا كلياً تقريباً، إلى السكن الزراعي القديم الذين كان قائماً من قبلُ في أرض باشان وغلعاد. وفي الواقع، فإننا نرى هنا أنه بين القرى الـ 500 الموجودة في شرقي نهر الأردن، فإن 25 قرية، أي 5% فقط، يطلَق عليها أسماء عبرية، في حين أن النسبة في غرب البلد هي 25%.
ولم يحتفظ الفلاحون الجاهلون الذين ليس لديهم أدنى فكرة عن الأدب العبري - والأدب بصورة عامة - بمئات الأسماء القديمة الموجودة في العهد القديم، والأسفار المخفية، ومؤلفات يوسف بن متتياهو والأدب التلمودي فقط، بل حافظوا أيضاً، على الأساطير والتقاليد المتعلقة بأبطال الأماكن كافة. أمّا "متسفيه" (المصفاة) حيث جمع النبي صموئيل بني إسرائيل كلهم (سفر صموئيل الأول 7)، فيطلق عليها الفلاحون حالياً اسم "النبي صموئيل"؛ ولا تزال تُسمع حتى وقتنا الراهن في محيط صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ موطن شمشون،[34] الكنيتان "شمشون الجبار" و"الشيخ أبو الجحم" (أبو الأسد)[35] وما شابه ذلك.
وبشأن صلة الفلاحين بالمستوطنة العبرية القديمة، فإنه يلفت انتباهنا الشبه المدهش الذي نجده بين الحياة اليومية للفلاحين المعاصرين وبين أوصاف معيشة اليهود القدماء مثلما احتُفظ بها في آدابنا القديمة - الكتاب المقدس والتلمود، بل يمكن تأليف كتاب كبير عن المقارنات وأوجه الشبه بين حياة الفلاحين في عصرنا وحياة اليهود القدماء. وهناك طبعاً، تأثير للمكان والمناخ، لكن من دون شك - وخصوصاً عندما ننتبه إلى سائر الأدلة التاريخية الأُخرى التي تطرقنا إليها أعلاه - فإننا نجد أن تقليداً حيّاً (تقاليد لا زالت قائمة) وتراث القدماء ما زالا موجودَين.
وليس جميع الفلاحين في عصرنا هم أحفاد سكان البلدات الزراعية القديمة التي كانت، في معظمها، يهودية، ذلك بأن المجتمع الزراعي في فلسطين استوعب طوال 12 قرناً التي تلت الاحتلال العربي كثيراً من العناصر الأجنبية. فترحال الشعوب الذي لم يتوقف في أرض إسرائيل منذ ما قبل دخول الساميين إلى أرض كنعان حتى أيامنا هذه، أدى أحياناً إلى خلط تركيبة السكان الإثنية في البلد، وأدخل إليها دماء جديدة. ومثلما أشرنا سابقاً، فإن البلدات الزراعية في شرقي نهر الأردن تُعتبر حديثة جداً، وقليل جداً من البلدات القديمة فقط تم الاحتفاظ بها في شمال البلد ووسطها. أمّا في غرب أرض إسرائيل، فقد التحق ببلداتها من حين إلى آخر، سكان جدد اندمجوا بمرور الوقت في البلدات الزراعية القديمة. ويطلق سكان القرى في عيمق يزراعيل (مرج ابن عامر) على أنفسهم اسم حوراني، أي بني حوران، فهم وفقاً لرواياتهم التي يعتمدونها، قدموا من شرقي نهر الأردن، كما أنهم بحسب لهجتهم، يشبهون حقاً سكان حوران. وتتميز البلدات في غور الأردن بكونها شبه بدوية، وجميعها يمثل عناصر عربية نقية اختلطت رويداً رويداً بالسكان الفلاحين أبناء البلد. وقد ازداد تدفّق الفُرس إلى فلسطين في عهد صلاح الدين (في القرن الثاني عشر)، ولا تزال آثار هذه الهجرة باقية حتى اليوم في شمال البلد، في الجليل الأعلى، إذ نرى كثيراً من المتاولة في جوار صور وصيدا. وحتى مَن قدموا في إبّان الحملات الصليبية، فإنهم تركوا بصماتهم على البلدات الزراعية في البلد. فبالقرب من الكرمل وفي عيمق هشرون (السهل الساحلي)، نشاهد كثيراً من القرويين الفلاحين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، الأمر الذي يدل على أن آباءهم قدموا إلى هنا قبل مئات السنين من شمال أوروبا. وتتميز قرية العنب (التي تسمى أيضاً أبو غوش[36] على اسم شيخ القرية) الواقعة على طريق يافا – القدس، بتقاليد تفيد بأن أصلهم من الشركس الذين استوطنوا جبال يهودا قبل عدة قرون. ويسكن بالقرب من القدس في قرية المالحة أحفاد الجورجيين الذين استوطنوا البلد في العصور القديمة، وقد نسوا فعلاً، لغة آبائهم وديانتهم، لكن هويتهم الأصلية ما زالت عالقة في أذهانهم، إذ لا يزالون يطلقون على أنفسهم اسم "جورجيين"، وهم يختلفون قليلاً في عاداتهم وزيّهم عن جيرانهم الفلاحين. وفي إبّان الحكم المصري (1832 - 1840)، عمل إبراهيم باشا على توطين فلاحين مصريين في أرض إسرائيل، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر جرى توطين مهاجرين من الجزائر في العديد من الأماكن في الجليل، ولا يزال فلاحون جزائريون يقيمون في البلدات التالية: مَعْذَر؛ حَدَثا؛ عَوْلَمْ؛ السَّجَرة؛ قرية سِكَّة؛[37] قرية سَمَخْ، وهي بلدات قريبة من المستوطنات اليهودية في الجليل الأسفل (قضاء طبرية).
لكن على الرغم من تعدد هذه الخلطات، فإن أحفاد وأبناء الفلاحين المسلمين في غرب أرض إسرائيل يبدون، في معظمهم، كأبناء عرق واحد ومجموعة إثنية واحدة، وليس هناك شك في أنه يجري في عروقهم كثير من الدم اليهودي - دم هؤلاء الفلاحين اليهود، "العوام"، الذين اختاروا في الأوقات العصيبة التنكر لدينهم فقط لضمان عدم اقتلاعهم من أرضهم.
نيويورك، صيف سنة 1917
* ترجمها عن العبرية وقدّم لها نبيه بشير.
المصادر:
[1] انظر: شموئيل ألموج، " 'الأرض لفلاحيها' وتهويد الفلاحين"، في: شموئيل ألموج، "النقطة اليهودية: اليهود بعيون أنفسهم وبعيون الآخرين - مقالات ودراسات" (تل أبيب: سفريات فوعاليم، 2002)، ص 83 – 92 (بالعبرية).
[2] في ضوء استمرار أعمال البطش والقتل ضد السكان اليهود في الأقاليم الجنوبية لروسيا (أُطلق على هذه الحملة اسم "عواصف في النقب" أو "عواصف في الجنوب")، دعا الطالب الجامعي يسرائيل بلكيند في سنته الدراسية الأولى، في كانون الثاني / يناير 1882، نحو 30 طالباً جامعياً لاجتماع في مدينة خاركيف (مدينة أوكرانية حالياً) من أجل مناقشة واقع السكان اليهود في روسيا ومستقبلهم. وبعد بضع ليالٍ أمضوها في النقاش، قرر المجتمعون إنشاء منظمة تسعى لنشر أفكار "النهضة القومية للشعب اليهودي"، والهجرة إلى فلسطين من أجل الاستيطان والعمل الزراعي في أرضها، وأصدروا بياناً تأسيسياً في أوديسا (في آذار / مارس 1882) وقّع عليه 40 شاباً. وأرسل هؤلاء البيان إلى عدة شخصيات ومؤسسات يهودية في أوروبا، فضلاً عن نشره في بعض الصحف اليهودية الصادرة باللغة العبرية في تلك الفترة. لكن عدداً كبيراً منهم لم يشأ اقتصار عمل الجمعية على الترويج للفكرة، وإنما بادروا إلى أن يكونوا مثالاً أعلى يُحتذى به، فهاجر منهم 14 عضواً إلى فلسطين، وأطلقوا على أنفسهم مجموعة "بيلو"، وهي الأحرف الأولى من إحدى الجمل التوراتية العبرية: "يا بيت يعقوب، هلُمَّ فنسلك في نور الرب" (سفر إشعياء 2: 5). أمّا الهدف الأكبر للحركة فنجده في صدر أنظمتها الداخلية ونصّه: "تهدف الحركة إلى الإحياء السياسي والاقتصادي والثقافي والروحي للشعب العبري في سورية وأرض إسرائيل" (حاييم حيسن، "من يوميات أحد البيلويّين (أعضاء حركة بيلو)"، ترجمه من الروسية إلى العبرية شلومو هربيرغ، إعداد وتحرير مردخاي ريخير، بتاح تكفا: بيت نيطع (هرفاز)، 1967، ص 15). وتجدر الإشارة إلى أن حركة بيلو تتميز من الحركات والمنظمات اليهودية الأُخرى السابقة التي دعت إلى الهجرة إلى فلسطين، بخطابها الثوري الذي أدخلته على الخطاب السياسي اليهودي منذ لحظة تأسيسها. وللاستزادة عن هذه الحركة، انظر: صبري جريس، "تاريخ الصهيونية (1862 - 1948)"، (رام الله: منظمة التحرير الفلسطينية – مركز الأبحاث، ط 2، 2015)، الجزء الأول، ص 115 - 123.
[3] انتشر مشافهة ما توصل إليه، وذُكر في الصحف اليهودية آنذاك (منذ سنة 1894)، لكنه عاد ونشر نتائجه في سنة 1921، كمقالة مخصصة لهذا الغرض. انظر: يسرائيل بلكيند، "أصل العرب في أرض إسرائيل"، "هشيلوح"، العدد 38 (1921)، ص 438 - 445. وقد أعاد نشرها مرة أُخرى في سنة 1928 ضمن كرّاسته: "العرب في أرض إسرائيل"؛ وكذلك في طبعة متأخرة للكرّاسة ضمت مقالة بن - غوريون أيضاً (تل أبيب: هحرمون، 1969).
[4] دوف بير بوروخوف، "عن مسألة صهيون والأرض" (1905)، و"برنامجنا" (1906)، في: بير بوروخوف، "كتابات مختارة" (تل أبيب: هكيبوتس همئوحاد وسفريات بوعاليم، 1955)، المجلد الأول، ص 36 - 39، 146 - 147، 202، 207 (بالعبرية)؛ متتياهو مينتس، "العرب في تشخيصات بير بوروخوف"، "مولد" (سلسلة جديدة بالعبرية)، العدد 23، المجلد 4 (1972)، ص 476 – 487.
[5] أُلقيت المحاضرة في جمعية "عبريا" على هامش المؤتمر الصهيوني السابع في سنة 1905، ونُشرت لاحقاً كمقالة. انظر: يتسحاق إبشتاين، "مسألة مخفية"، "هشيلوح"، السنة 17 (أيلول / سبتمبر - تشرين الأول / أكتوبر 1907)، ص 193 - 206. ولمعاينة الترجمة الإنجليزية، انظر:
Alan Dowty, “‘A Question That Outweighs All Others’: Yitzhak Epstein and Zionist Recognition of the Arab Issue”, Israel Studies, vol. 6, no. 1 (Spring 2001), pp. 34-54.
[6] انظر:
Arthur Ruppin, “Das Verhältniss der Juden zu den Arabern”, Der Jude, vol. 3 (1918/1919), p. 457.
وهذا النص مقتبس عند ألموج، مصدر سبق ذكره، ص 87.
[7] دبورا برزيلاي - يغير (محررة)، "شموئيل تولكوفسكي: يوميات صهيونية سياسية" (القدس: المكتبة الصهيونية التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية، 1981)، ص 84 (بالعبرية). (مقتبس عند ألموج، مصدر سبق ذكره، ص 87).
[8] انظر كذلك: عوزي بنزامين وعطا الله منصور، "مقيمون هامشيون: عرب إسرائيل، مكانتهم والسياسة المعتمدة تجاههم" (القدس: كيتر، 1992)، ص 51 (بالعبرية)؛
Nur Masalha, The Bible and Zionism: Invented Traditions, Archaeology and Post-Colonialism in Palestine-Israel (London: Zed Books, 2007), pp. 35-36; Shabtai Teveth, Ben-Gurion and the Palestinian Arabs: From Peace to War (Oxford and New York: Oxford University Press, 1985), pp. 30-32.
[9] انظر:
Anita Shapira, Ben-Gurion: Father of Modern Israel, translated by Anthony Berris (New Haven and London: Yale University Press, 2014), p. 83.
[10] بنزامين ومنصور، مصدر سبق ذكره.
[11] المصدر نفسه.
[12] يوميات هذا اليوم متاحة في أرشيف بن - غوريون الرقمي في جامعة بن - غوريون في النقب، ص 121. ويمكن معاينتها في الرابط الإلكتروني.
"أساف": المقصود به ميخائيل أساف (1896 - 1984)، وهو مستشرق يهودي بولندي وصحافي مهتم بالشؤون العربية، ولا سيما المجتمع الفلسطيني والعلاقات مع اليهود. أمّا سولومون فلم أنجح في الكشف عن هويته.
[13] عطا الله منصور، "بن - غوريون يكشف أهدافه بشأن منظمة الشبيبة العامة: زرت سديه بوكر"، "هعولام هزيه"، العدد 892 (18 تشرين الثاني / نوفمبر 1954)، ص 5 (بالعبرية).
[14] انظر التقرير الشامل لأبيبه لوري المنشور في صحيفة "هآرتس" في 27 آذار / مارس 2006؛ أمّا كتاب: تسفي مسيني، "صدّقوا لأنه قيل: مسألة أرض إسرائيل، جذورها وحلّها" (نتانيا: ليعد، 2006)، (بالعبرية)، والذي يستند، بين جملة الأمور، إلى شذرات من أبحاث إسرائيلية بشأن الجينات منشورة في بعض الدوريات العلمية، فيؤكد أن 85% من الفلسطينيين الذين يعيشون بين "النهر والبحر" هم من اليهود الذين دخلوا المسيحية بداية، وانتقلوا إلى الإسلام في أعقاب "الغزو" الإسلامي. وعن الأبحاث العلمية التي "صدّقت" على هذا الهوس المنتشر بين أوساط إسرائيلية، انظر، على سبيل المثال:
Almut Nebel, Dvora Filon, Deborah A. Weiss, Michael E. Weale, Marina Faerman, Ariella Oppenheim and Mark G. Thomas, “High-Resolution Y Chromosome Haplotypes of Israeli and Palestinian Arabs Reveal Geographic Substructure and Substantial Overlap with Haplotypes of Jews”, Human Genetics, vol. 107 (2000), pp. 630-641.
[15] لقد سمعت هذا الطرح كثيراً مشافهة، لكن للأسف لم أتمكن من الوصول إلى أي نص مكتوب يفيد هذا المعنى، كما أن الباحث آبي ساغي (Avi Sagi) المتخصص بالصهيونية الدينية، أكد لي خلال تواصل شخصي معه عبر البريد الإلكتروني، ندرة وجود هذه المسألة موثّقة كتابة على الرغم من شيوعها مشافهة. وهذا الطرح كله مستند إلى الجملة التوراتية التالية: "لا أَطْرُدهم من أمامك في سنة واحدة، لئلا تصير الأرض خَرِبَة، فتكثر عليك وحوش البرية"؛ "قليلاً قليلاً أَطْرُدهم من أمامك إلى أن تُثْمر وتَمْلِك الأرض" (سفر الخروج 23: 29 - 30). كذلك، في سياق الحديث عن علامات قدوم المسيح ابن داود والمصائب والمشاهد المرعبة التي ستحل كمخاض لقدومه، قال فقيها التلمود البابلي يوحنان وفافا أمرَين غير واضحين عن علاقتهما بالقضية المطروحة: "عائلة الرَّب السماوية (أي الملائكة) وعائلته الأرضية (أي شعب إسرائيل)، يقول الرَّب، هذه [الأمم] هم صنع يدَيّ، وكذلك هؤلاء (اليهود)؛ فكيف لي أن أُهلك هذه الأولى بسبب تلك الأخير؟!" وقال فافا: "هكذا يقول الرجال: عندما يجري الثور ويسقط، يوضع الحصان في زريبة (الثور)" (التلمود البابلي، السنهدرين 98 ب). وعلّق على ذلك أحد أكثر المفسرين قبولاً بين اليهود، وهو الراب شلومو يتسحاقي والمكنّى "راشي" اختصاراً، إذ قال: "الثور كان في الزريبة، لكن حين جُرح أُخرج منها لمعالجته، وفي تلك الأثناء وُضع الحصان مكانه في الزريبة إلى أن يتعافى الثور." ويعلّق أحد تلاميذ تسفي كوك، وهو الراب يهودا ليئون أشكنازي (المكنّى: منيطو) فيقول: "أقام شعب إسرائيل على أرض إسرائيل، لكنه ارتكب المعاصي وعوقب بالنفي وتشتيته بين الأمم. وبقيت البلد فارغة، ولهذا دفع الرَّب شعباً آخر ليقيم فيه، فأقام فيها العرب في تلك الأثناء." وقال الراب يوحنان: "أمّا في المستقبل، حين يتعافى شعب إسرائيل، فإنه يعود إلى أرض إسرائيل، لكن كان يقيم عليها في تلك الأثناء عرب، وسيكون من الصعب على الرَّب إخراجهم من أجل اليهود، فكلاهما خلقهما الرَّب، فكيف له أن يُهلك العرب بسبب اليهود؟! لهذا، لا وجود لحل لهذه المسألة." انظر: يهودا ليئون أشكنازي، "تفريغ دروس الراب يهودا ليئون أشكنازي بشأن كتابات الراب تسفي كوك" (عفرا: معهد منيطو، د.ت.)، ص 150 (بالعبرية).
[16] انظر: محمود محارب، "وثيقة حول الفلاحين الفلسطينيين"، "قضايا: مجلة فكرية لمعالجة القضية الفلسطينية وأحداثها وقضاياها المتعددة" (القدس)، العدد 8 (آب / أغسطس 1991)، ص 105 – 117، وتظهر في هذا النصّ ترجمة لتلك الوثيقة بعنوان: "لتوضيح أصل الفلاحين" (ص 106 - 117). كما نُشرت أجزاء صغيرة من هذه الوثيقة في: وئام بلعوم (إعداد وترجمة)، "بن - غوريون وهوس أصل الفلاحين"، مجلة "قضايا إسرائيلية"، العدد 73 (2019)، ص 79 – 81. انظر الرابط الإلكتروني.
[17] صدر هذا النص بداية في دورية ناطقة بالعبرية في نيويورك باسم "لوح أحيعيبر"، السنة الأولى (1918)، ص 118–127. وقد نُشر لاحقاً بتوسع أكبر وتحرير كبير (بعد إضافة قوائم لأعداد السكان وتوزّعهم في مختلف الأماكن والقرى) في منشورات أُخرى، منها كتاب: دافيد بن - غوريون ويتسحاق بن - تسفي، "أرض إسرائيل ماضياً وحاضراً"، ترجمه من الييديشية دافيد نيف (القدس: معهد بن - تسفي ومعهد تراث بن - غوريون، 1979)، ص 195 - 206؛ ونُشر ككرّاسة مستقلة في سنة 1931 (وأعيد نشره في سنة 1969)، كما نُشر ضمن كتاب بن – غوريون: "نحن وجيراننا" (1931). أمّا فيما يتعلق بكتاب دافيد بن - غوريون ويتسحاق بن – تسفي المذكور أعلاه، فتكمن أهميته البالغة في أنه أول كتاب يطرح تاريخ فلسطين وجغرافيتها من منظور صهيوني، وقد قمت بترجمة أجزاء من الكتاب ستُنشر قريباً ضمن أنثولوجيا "القارئة الصهيونية" التي ستصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[18] لقد استقى الكاتب هذه المعلومة من كتاب كلود رينيه كوندير (Claude Reignier Conder) الذي سنتوقف عنده لاحقاً، وهو كتاب اعتمد عليه كاتبنا في كثير من المواقع مثلما سنرى بصورة جلية، وبعض الفقرات يبدو منقولاً عنه حرفياً، بل حتى عنوان النص يبدو كذلك، الأمر الذي يعزز الاعتقاد أن كاتبنا لم يستقِ معلوماته من مشاهداته وقراءاته وتحليلاته الشخصية، وإنما نقلها بصورة انتقائية من مراجع أوروبية أُخرى، ولا سيما من كتاب كوندير التالي:
Claude Reignier Conder, Tent Work in Palestine: A Record of Discovery and Adventure (London: Richard Bentley & Son, 1879), vol. 2, p. 280.
وهذا الكتاب يضم فصلاً خاصاً (الفصل الثامن) بعنوان "أصل الفلاحين" (The Origin of the Fallahin).
[19] استخدم الكاتب هنا تعبير "خيام قيدار" الذي يرد كثيراً في التراث اليهودي، ولا سيما في العهد القديم ومصنفات رجال الدين اليهود، ويراد به سكان الخِيَم، أي الأعراب من ذرية قيدار (أحد أبناء إسماعيل، وفق التأريخ التوراتي). بشان أبناء إسماعيل وذرية قيدار، انظر: سفر التكوين 25: 13؛ سفر إشعياء 21: 17؛ 42: 11؛ 60: 7؛ سفر حزقيال 27: 21. وعن تعبير "خيام قيدار"، انظر: سفر المزامير 120: 5؛ سفر نشيد الأناشيد 1: 5.
[20] منقول حرفياً تقريباً من: Conder, op. cit., vol. 2, p. 271.
[21] جيروم هو أوسيبيوس سوفرونيوس إيرونيموس (347 - 420م، بيت لحم)، الراهب والمؤرخ والمترجم الشهير الذي اشتغل كثيراً في ترجمة العهدَين القديم والجديد من العبرية واليونانية إلى اللاتينية (وهذه الترجمة اشتهرت باسم ترجمة الفولغاتا (Vulgata)، أي الترجمة الشعبية)، والتي سرعان ما تحولت إلى الترجمة المعتمدة لدى الكنيسة الكاثوليكية. وإلى جانب هذه الترجمة كتب جيروم مصنفات أُخرى عديدة في التاريخ والتفسير، أشهرها تفاسيره لأجزاء من العهدين. وقد استقى بن - غوريون هذه المعلومة من:
Conder, op. cit., vol. 2, p. 214.
[22] يقصد الإشارة إلى كتاب:
Charles Clermont-Ganneau, La Palestine inconnue (Paris: Ernest Leroux Éditeur, 1876).
[23] كوندير هو رئيس بعثة صندوق دراسة فلسطين الإنجليزي، والتي وضعت خريطة فلسطين في سبعينيات القرن التاسع عشر. ويظهر هذا الاعتقاد في كتابه المذكور سابقاً. انظر:
Conder, op. cit., vol. 2, pp. 216-217.
[24] روبنسون هو رجل دين مسيحي أميركي وباحث في العهد القديم، ويُعتبر من أهم الباحثين في فلسطين في القرن التاسع عشر.
[25] كذلك يفعل كوندير مطولاً في كتابه: Conder, op. cit., vol. 2, p. 220f.
[26] منقول حرفياً تقريباً من: Ibid., vol. 2, p. 218.
[27] يريد الإشارة إلى تعاون اليهود الذين بلغ تعدادهم في فلسطين وبلاد الشام وفق بعض التقديرات التاريخية نحو 150,000 نسمة، مع القوات الساسانية ضد الحكم البيزنطي، وقد أفضى هذا التعاون إلى احتلال الساسانيين مدينة القدس. واشتهر هذه التعاون في التراث اليهودي باسم "الثورة ضد هرقل (ميرد هركوليوس)" واستمر أربعة أو خمسة أعوام (613 - 617م).
[28] "ضد أبيون" (Against Apion)، هو كتاب للمؤرخ والكاتب اليهودي الشهير يوسيفوس فلافيوس، كتبه باللغة اليونانية، ويردّ فيه على الكتابات المعادية لليهود، والتي تقول إن اليهود لا ماضيَ ولا أخلاق لهم ولا فضائل تجمعهم بسائر الشعوب، ولا سيما كتابات مؤرخين وفلاسفة من الإسكندرية، وعلى رأسهم المفكر والناقد الأدبي السكندري أفيون (نشط في النصف الأول من القرن الأول للميلاد)، والشهير بكنيته النحوي (Apion Grammarian). وقد تُرجم كتاب يوسيفوس إلى الإنجليزية، ونُشر ضمن الأعمال الكاملة للكاتب. انظر:
Flavius Josephus, “Against Apion”, in: The New Complete Works of Josephus, translated by William Whiston (Michigan: Kregel Publications, Revised & Expanded Edition, 1999), pp. 937-985.
[29] Ibid., vol. 1, paragraph 12, p. 941.
[30] جملة (في هضبة الجولان حالياً)؛ يودفات (بجوار سخنين حالياً من الجهة الغربية)؛ بيت يرح (في جوار طبرية)؛ بيتار (جنوبي غربي القدس)؛ صَفُّورْيَة (بجوار الناصرة).
[31] يقصد هنا المقالة المذكورة أدناه، والمنشورة على قسمين في عددين من إحدى الدوريات المتخصصة، وفيها يناقش الباحث تشابه أسماء المواقع والقرى الفلسطينية مع تلك الواردة في العهد القديم (نُشرت هذه المقالة أيضاً في كتاب يحمل العنوان نفسه، وصدرت في: Leipzig: Breitkopf & Härtel. 1892 انظر:
Georg Kampffmeyer, “Alte Namen im heutigen Palästina und Syrien”, Zeitschrift des Deutschen Palästina-Vereins/ZDPV, vol. 15 (1892), pp. 1-33, 65-116; vol. 16 (1893), pp. 1-71.
[32] "فرزوت" (مثلما يرد في سفر حزقيال 38: 11؛ سفر زكريا 2: 8؛ سفر إستير 9: 19)؛ "طيرة" تعني توراتياً جداراً، أو سوراً، أو معسكراً محاطاً بسور، (مثلما يرد في: سفر التكوين 26: 16؛ سفر العدد 31: 10؛ سفر حزقيال 25: 4؛ سفر المزامير 69: 26). والاسم "طيرة" يُطلق على أكثر من بلدة فلسطينية واحدة، ويبدو أنه يقصد هنا طيرة حيفا؛ "رامة" تعني توراتياً المكان المرتفع لتقديم الأضاحي للآلهة (مثلما يرد في سفر حزقيال 16: 24، 25، 31، 39)، ويبدو أنه يقصد قريبة الرامة الجليلية؛ "عوفل" – بمعنى قلعة - مكان مرتفع ومحصّن (مثلما يرد في سفر إشعياء 32: 14)، وهو كنية لبرج محصّن يقع شرقي جنوبي الحرم القدسي (مثلما يرد في سفر نحميا 3: 26، 27؛ 11: 21؛ سفر أخبار الأيام الثاني 27: 3؛ 33: 14)، وربما يستقيم هذا إذا كان المشار إليه هو قرية الفولة التي بُنيت على أراضيها مدينة العفولة في سهل ابن عامر لأنها احتضنت برجاً محصّناً، وإذا صحّ هذا فربما المراد هو ما ذُكر في سفر الملوك الثاني 5: 24 (زئيف فلنئي، "أسماء مستوطنات يهودية اعتماداً على أسماء عربية للبلدات"، "دفار"، 8 نيسان / أبريل 1938)؛ "فلغ" بمعنى جدول مياه (مثلما يرد في سفر إشعياء 30: 25؛ 32: 2؛ سفر المزامير 1: 3؛ 65: 10؛ 119: 136 وغيره)؛ "عروتس" جُرف الوادي، الشّق في الأرض (مثلما يرد في سفر أيوب 30: 6). وبشأن "فرزوت" و"فلغ" و"عروتس"، فإنني لم أنجح في تحديد الكلمات بلهجة الفلاحين التي يقصدها. وقد جاء عند كوندير أن الألفاظ التوراتية التي تشير إلى الصخور والسيول وبرك المياه والينابيع، لا تزال كلها مستخدمة تقريباً بين الفلاحين في فلسطين، لكنه لم يضرب أمثلة لها، وإنما ضرب ثلاثة أمثلة لأسماء قرى: "طيرة"، و"بيرة"، و"رامة" (Conder, op. cit., vol. 2, p. 215). أمّا "بيراه" (بحسب رسم نطقها) فبين معانيها في التوراة المدينة المحصنة (مثلما يرد في سفر إستير 1: 2، 5؛ 2: 3، 5، 8؛ 3: 15؛ 8: 14؛ 9: 6، 11، 12؛ سفر دانيال 8: 2؛ سفر نحميا 1: 1). أمّا اسم "بيرة" فالمقصود هو اسم القرية الفلسطينية المهجّرة "البيرة" التي تقع في محاذاة بيسان.
[33] استناداً إلى سفر زكريا 7: 14 – "وأَعْصِفُهُم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم. فخربت الأرض وراءهم، لا ذاهبَ ولا آئبَ، فجعلوا الأرض البهجة خراباً." ومن اللافت جداً توظيف هذه العبارة التوراتية المميزة "الأرض المقفرة" (הארץ נשמה)، والتي تظهر في موقعين آخرين فقط بصيغة المفرد في العهد القديم (سفر حزقيال 36: 34، 35)؛ ومرتين بصيغة الجمع (سفر حزقيال 29: 12؛ 30: 7)؛ ومنسوبة مرتين إلى المدن (سفر إشعياء 54: 3؛ سفر عاموس 9: 14؛ سفر حزقيال 36: 35). إذ بينما تحولت البلد (فلسطين) إلى خربة عقاباً لبني إسرائيل على آثامهم، فإنها ترد في سفر حزقيال في سياق أن الرب سيعيد تعمير وإخصاب البلد الخَرِبَة بعد أن يُطهّر بني إسرائيل من آثامهم: "هكذا قال السيد الرب: في يوم تطهيري إياكم من كل آثامكم، أُسكنكم في المدن، فتُبنى الخِرَبُ؛ وتُفلَح الأرضُ الخَرِبَة عوضاً عن كونها خَرِبَةً أمام عينَي كل عابر؛ فيقولون: هذه الأرض الخَرِبَة صارت كجنة عدن، والمدن الخَرِبَة والمقفرة والمنهدمة محصّنة معمورة؛ فتعلمُ الأمم الذين تُركوا حولكم أني أنا الرب، بنيتُ المنهدمة وغرستُ المقفرة، أنا الرب تكلمتُ وسأفعل؛ [....] فتكون المدن الخَرِبَة ملآنةً غَنَمَ أُناسٍ، فيعلمون أني أنا الرب" (سفر حزقيال 36: 33 - 36، 38).
[34] استناداً إلى ما جاء في سفر القضاة 13: 24 - 25: " فولدت المرأة ابناً ودعت اسمه شمشون، فكبر الصبي وباركه الرب؛ وابتدأ روح الرب يحركه في محلةِ دانٍ بين صُرْعَة وأَشْتَأُول." وبحسب الجغرافيا التوراتية، فان موقع صُرْعَة هي البلدة الفلسطينية المهجرة صَرْعَة، بين الرملة والقدس. وتذكر المصادر أن مقاماً موجوداً في الجهة الجنوبية من القرية يطلق عليه اسم "مقام النبي سامات" (أو النبي صامت)، الذي يعتبره البعض، ولا سيما التراث اليهودي، مقام شمشون الجبار (مثلما جاء في كتاب وليد الخالدي، "كي لا ننسى"). وانظر: كليرمون - جانو، مصدر سبق ذكره، ص 58.
[35] لا أعرف اسماً للأسد بهذا اللفظ، ويبدو أن هناك خطأ ما وقع في كيفية رسم الاسم (جحم)، لكن اللفظ الأقرب من حيث الشكل هو "جهم"، ويسمّى الأسد جهماً بسبب وجهه الغليظ المكفهر. كما ذُكر تعبير "الشيخ أبو الجحم" في الصيغة الأُخرى للنصّ. انظر: بن - غوريون وبن - تسفي، مصدر سبق ذكره، ص 205. أمّا العلاقة بين شمشون الجبار وبين الأسد فمرتبطة بقصة قتل شمشون الأسد، وصنع النحل العسل في جوفه (سفر القضاة 14). أمّا كليرمون – جانو فيذكر الاسمين: الأول، "أبو ميزار"، والثاني: المكنّى "أبو العزم" (أو: أبو العظم). انظر:
Clermont Ganneau, op.cit. p 58.
[36] ورد اسم أبو غوش في نصّ بن - غوريون على أنه أبو حاش.
[37] فيما يتعلق بقرية السَّجَرة / الشجرة، فقد أورد الكاتب الاسم "شعرة" وهو اسم عبري أُطلق على القرية وضواحيها. أمّا "سِكَّة" فلم أنجح في تحديد القرية التي يقصدها.