فلسطين في سينما 2022: الأفلام موضوع جماهيري
النص الكامل: 

ظلت السينما الفلسطينية لأعوام طويلة، شأناً ثقافياً نخبوياً، ونادراً ما كانت موضوعاً يهمّ عامة المواطنين، أو شأناً يمسّ قطاعات جماهيرية متنوعة تسعى جاهدة للبحث عن نتاجاتها، وراغبة في عرضها وتناولها وتكوين موقف منها، حتى في تلك اللحظات التي كانت هذه السينما تتناول موضوعات تتعلق بقضايا مثيرة للجدل من وجهة نظر الجماهير، مثل تناولها موضوعات الاستشهاديين أو الأسرى أو العلاقة مع الاحتلال.

لكن يبدو أن ذلك تغير خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً العام الماضي الذي حمل عنواناً مهماً لهذه السينما هو عنوان ثنائية الاحتفاء والرفض، والتي عملت على خلق حالة من الاهتمام بنتاجات فلسطين وحضورها في السينما العربية، بغضّ النظر عن تعريفات وجدل هوية الفيلم الفلسطيني وجنسيته.

نحن هنا إزاء مجموعة من الأفلام التي تناولت شأناً فلسطينياً في الصميم، بغضّ النظر عن هوية المخرجين (فيلم "أميرة" الذي حمل توقيع المخرج المصري محمد دياب)، أو الجهات المنتجة (فيلم "صالون هدى" بصفته إنتاجاً مشتركاً بين مصر وهولندا وفلسطين)، فالإخراج والإنتاج يُعتبران محدِّدَين في هوية أي فيلم، إلى جانب موضوعه والقضية التي يتناولها ويعالجها، وكلها مسائل تجعل من مقاربة ثلاثة أفلام فلسطينية أو تتحدث عن فلسطين مسألة أكثر تعقيداً، وتحديداً في حاضر تحولت فيه الأفلام غير الفلسطينية، والتي تتحدث عن فلسطين، إلى مسألة فلسطينية وشأناً داخلياً أصبح يتطلب مواقف ورؤى وتقييمات وتنديداً ورفضاً ومقاطعات ومطالبات بوقف العرض.

في العام الماضي تحولت فلسطين في السينما إلى قضية رأي عام في ثلاثة أفلام على الأقل، هي: "أميرة"، و"صالون هدى"، و"فرحة، والتي كانت فلسطين وقضاياها موضوعاً فيها.

قبل هذه الأفلام، عُرض في سنة 2017، فيلم "قضية رقم 23" (بالفرنسية: L'insulte، ويُترجم حرفياً بـ "الإهانة")‏، وهو عمل درامي فرنسي - لبناني، من إخراج زياد دويري، وبطولة عادل كرم، و‌كامل الباشا، وقد أثار جدلاً تسبب بوقف عرضه في ختام فاعليات مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" بعد انتقادات حادة لموضوعه وموقفه من الفلسطينيين ونضالهم، على الرغم من مشاركته في البرمجة الرئيسية في مهرجان البندقية السينمائي، إلى جانب حصول الممثل الفلسطيني كامل الباشا فيه على جائزة "كأس فولبي كأفضل ممثل"، وترشّحه لنيل جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل توزيع جوائز الأوسكار التسعين.

هذا الجدل الصاخب رافق أيضاً فيلم "الجنة الآن" (2005) عندما تحول عمل هاني أبو أسعد، والذي تم تصويره في مدينة نابلس، إلى أكبر قضية فنية مثيرة للجدل نتج منها أن توقف تصوير العمل لأيام لمحاولته التعامل الفني مع قضية الاستشهاديين من خلال قصة حب وقبلة، إلى جانب رغبة أحد الاستشهاديين في تنفيذ عملية بهدف محو عار والده المتهم بالعمالة. وفي السياق نفسه أيضاً، يحضر فيلم المخرجة نجوى النجار "المرّ والرمان" (2010) الذي أثار الجدل بسبب قبلة من خلف قضبان السجن بين معتقل فلسطيني وزوجته المشتاقة.

هنا يمكننا القول إن الأفلام الفلسطينية أو تلك عن تتحدث عن فلسطين، والتي لو عُرضت في الضفة الغربية، أو ظهرت في ظروف معينة، لكانت على قائمة الأفلام التي تثير الجدل بكل تأكيد. نذكر على سبيل المثال لا الحصر فيلم "ديغراديه / dégradé" (2015) وهو من إخراج الأخوين عرب وطرزان ناصر من قطاع غزة، و"حب وسرقة وأشياء أُخرى" للمخرج المقدسي مؤيد عليان، و"بونبونة" (Bonboné) للمخرج الفلسطيني ركان مياسي، والقائمة تطول.

ومع ذلك، فإن الجدل بشأن فيلم "الجنة الآن" لا يقارن بالجدل المتعلق بفيلم "صالون هدى" (المخرج نفسه)، وكذلك فيلم "القضية 23" بفيلم "أميرة". ولفهم ذلك لا بد من تحليل يمكن أن يُسعف الرؤية التي تقول إن الانغماس في وسائط التلقي، ودخول منصات التواصل الاجتماعي على خط مشهد الفرجة العام، أديا دوراً كبيراً في تعزيز ومضاعفة الجدل الذي كان جزءاً منه جدلاً شعبوياً.

لكن الأمر الذي أصبح يمثل تحدياً لصنّاع الأفلام، هو دخول عامل الرقمية (digitalization) على الإنتاج السينمائي، مثل شركة "نتفليكس" التي عرضت 32 فيلماً تتناول قصصاً فلسطينية، لبعض أفضل صانعي الأفلام في العالم في سنة 2021. أمّا الجانب الآخر الذي يمكن من خلاله تفسير الحالة الحاضرة، فمردّه هو ظهور أفلام تحمل خطاباً صادماً في معالجة القضية الفلسطينية ومكوناتها، وهي حالة يمكن أن تفسَّر عبر زيادة التداخل العميق بين التوجه إلى الجمهور الغربي بصفته جهة تُستهدف أساساً من جانب كبير من هذه النتاجات، وبين جهات الإنتاج التي تموّل تلك الأعمال، وهو أمر نحن في غنى عن الحديث عن أثره في مضامين الأفلام، فالذي يموّل يتحكم في المحتوى. وإلى جانب ذلك حدوث تحولات سياسية ضربت المنطقة العربية بفعل بروز مشاريع التطبيع العربي التي أصبحت تنظر إلى القضية على أنها عبء سياسي على المنطقة، وهو ما أفقدها هالة القداسة المعتادة، وجعلها قابلة للتجاوز وحتى الدوس عليها، الأمر الذي انسحب على بعض خطابات الأفلام ومضامينها.

ومع ذلك كنا نفضل، لو كان الأمر في يدنا، أن تُبنى علاقة الفلسطينيين عامة بأفلام تتناول قضيتهم من باب أوسع وأكثر رحابة، وليس من مدخل الرفض والغضب ومطالب المنع، وهي حالة تعزز الرؤية التي تربط الأفلام بتصورات ذهنية نمطية وسلبية. لكن والحال على هذا النحو، فإن علينا أن نسلّم بضرورة تعزيز الوعي بالأفلام ومراقبتها عن كثب، فليس شرطاً أن تكون مواقف الجمهور صحيحة في ظل فهمنا لطرق تشكُّل حالة الرأي العام بشأنها على المنصات الرقمية بكل ما يمور به عالمها من توجيه واحتفاء أو انتقاد. 

"أميرة" ذبيحة الاحتلال والمقاومة

أول الأفلام التي أثارت جدلاً كان فيلم "أميرة" (من إنتاج مشترك لمصر والأردن والإمارات والسعودية)، بإمضاء المخرج وكاتب السيناريو المصري محمد دياب، وهو من بطولة صبا مبارك وعلي سليمان وتارا عبود، والذي أثار غضباً فلسطينياً وعربياً كبيراً قادت مفاعيله إلى وقف عرضه.

لقد استحق هذا الفيلم الغضب كونه حالة رفض سطحية وتساهل في تناول قضايا وموضوعات لها حساسيتها لدى جمهور معين، فالسطحية التي حملتها معالجة القضية، وضعف التمثيل الذي بُني على ضعف السيناريو، يجعلانه مثالياً كي يدرسه طلبة الجامعات ودارسو السينما. فالفيلم حافل بالمعالجة الركيكة التي حملها سيناريو ضعيف، وسط غياب أي إشارات إلى مشاهد أو تحولات درامية تحمل دلالات ورمزيات تجعل الفيلم يذهب بنا بعيداً، إلّا من باب الإساءة إلى الفلسطيني، كما أنه يرتكز على فكرة خيالية، ويستسلم للتنميط والصور الذهنية عن هذا الشعب بنسائه ومقاوميه وأسراه وأفراده كافة.

ومَن يشاهد الفيلم الذي يدور موضوعه على نطفة مهربة من أسير فلسطيني قام سجان إسرائيلي بتبديلها بنطفة تخصه وقادت إلى أن تنجب زوجة هذا الأسير فتاة تحمل اسم "أميرة" (أي من أم فلسطينية وأب إسرائيلي)، سيتبيّن له أن ذلك حدثاً هامشياً مقارنة بما تبع ذلك من موضوعات.

لن أقول إن موضوع تهريب النطفة عبر وسيط السجان ليس موضوعاً مهماً، لكن يصبح الأمر أكثر أهمية أمام تقديمه صوراً للمجتمع الفلسطيني عمادها العدوانية والشك وعدم التسامح والعنف. فالتوقف عند موضوع تهريب النطف، والذي يعلن البعض رفضه تناوله على قاعدة أنه لا يجوز أن يُقدَّم الأمر مع أي احتمال للخطأ في عملية التهريب، أمر يسير.

لا يسعى هذا الفيلم لإدانة الواقع الذي يعيشه الأسرى كونهم ضحايا السياسات الأمنية الإسرائيلية، وإنما لإدانة الفلسطينيين. فالفيلم يقدم "أميرة"، الفتاة الهجينة، على أنها ضحية الفلسطينيين الذين رفضوها ولم يتمكنوا من التعامل معها بإنسانية تستحقها (فقد تلقت عدوانية وتنمراً ورفضاً من الفتيات صديقاتها في المدرسة، ونظرات مشمئزة في الشارع، وصولاً إلى مهاجمة محل التصوير الذي تعمل فيه، وتوقع الخطر على حياتها مع شكوك "المقاومة الفلسطينية" في كونها جاسوسة).

المشكلة هي أن كل ما أوردناه أعلاه، يحضر بسذاجة تامة، وهو أمر سيقود البطلة أميرة إلى التفكير في الانتقام من دون أن تمتلك أي مقومات نضالية (يسألها المقاوم حبيبها: بتعرفي تطخي؟ فترد: طخيت مرة، بدبر حالي)، فتعطيها المقاومة المسلحة مسدساً وترمي بها إلى الحدود بغباء شديد وجهل، بعد أن أعطتها ورقة صغيرة عليها اسم الجندي الإسرائيلي (السجان صاحب النطفة) لتقتله.

تجلس أميرة خائفة في أسفل نفق مليء بالمياه الآسنة، وتقوم بالبحث عن الجندي الإسرائيلي على محرك "غوغل" عبر جوّالها، في ركاكة لا مثيل لها، لتكتشف أن عائلة الجندي جميلة، وذلك من خلال صوره المبهجة برفقة عائلته. هنا تحديداً، ولا ندري إن كانت لحظة خوف أو إحساس بدفء حضن الوالد / العدو، تقرر رمي المسدس والعودة من حيث جاءت. لكن المخرج لا يرضى بهذه النهاية، فيقرر أن الجنود يجب أن يكتشفوا أمرها، فيطلبوا منها الوقوف، لكنها شرعت تركض مسرعة نحو موتها، وأمام التحذيرات بضرورة الوقوف وإلّا "بنطخك" يطلق الجندي النار فيرديها قتيلة.

أمام هذه الحالة الميلودرامية لم يبقَ أمام المخرج سوى أن يُحضر الجندي السجان الذي شارك في اللعبة ونسي أمرها، ليعاين ابنته التي لا يعرفها. ينظر الجندي السابق إلى الجثمان الممدد في المشرحة من دون أي ملامح، لكن الضابط الإسرائيلي يشرح له القصة لتخرج دمعة من عينيه تأخذنا إلى يافطة معلقة بالسماء مكتوب عليها الشهيدة أميرة مع أغنية دينية تشير إلى أنها المسيح ابن مريم العذراء.

تؤكد حبكة الفيلم أن المخرج تعامل مع موضوع فيلمه على أنه "لعبة" من دون أي امتلاك لمقوماتها، انطلاقاً من أن القضية الفلسطينية ليست حكراً على الفلسطينيين، أو أنه يعي تماماً ما يريد قوله عن ذلك الفلسطيني الضحية والعاجز جنسياً، والعنيف الذي يفتقد القدرة على التسامح أو الشفقة.

هنا ينتهي الفيلم بجملة الغموض التي تشير إلى أن "طُرق تهريب النطف تظل غامضة"، لكن الجميع تأكد من صحة النسب. وهذا الغموض الذي يقابله تأكيد صحة النسب، تلك الصحة التي لا تعني الفيلم ولا مخرجه إطلاقاً، يظل جملة منحت المخرج وفريق العمل ما يوفر لهما راحة غسل أيديهما من هذه القضية.

وفي خلاصة الفيلم تبدو أميرة الجميلة ضحية طرفين، "إسرائيل" وفلسطين، والطرف الأخير هو مَن دفعها إلى حتفها. فأميرة ذات الزرع الإسرائيلي أصبحت وردة شقراء وفتاة جميلة، لكنها بين أيدي الفلسطينيين، فماذا فعلوا بها؟ عماهم الحقد والكراهية وعدم القدرة على المسامحة، فذهبوا بها إلى "انتحارها / الانتقام" بدلاً من نحرها مباشرة. 

"صالون هدى": تعرية الجسد الفلسطيني المخدر

في منتصف آذار / مارس 2022، وبعد أشهر قليلة على فيلم "أميرة"، انفجر الجدل على فيلم "صالون هدى" للمخرج هاني أبو أسعد، وهو من بطولة منال عوض (صاحبة الصالون)، ميساء عبد الهادي (الضحية) علي سليمان (المقاوم).

هذا الفيلم ذو الإنتاج المشترك (مصر وهولندا وفلسطين)، يأخذ من الصالون فضاء لأحداث رئيسية توجد فيه نساء نصف عاريات يشرحن واقع القطاع تحت حكم حركة "حماس".

لقد انصبّ مصدر الغضب الفلسطيني على تضمّن "صالون هدى" مشهداً طويلاً نسبياً وُصف بـ "المُخلّ"، حاول المخرج من خلاله تصوير عملية تحويل الفلسطينيات إلى جاسوسات بالطريقة الأكثر كلاسيكية وتقليدية، وهي ثنائية التعري والتصوير لتحقيق فعل الابتزاز. ولأجل ذلك قدم أبو أسعد مشهداً حسّياً طويلاً، لكنه ليس المشهد أو الموضوع الأكثر أهمية من وجهة نظرنا.

فالفيلم الذي صُوّر في مدينة بيت لحم وبمشاركة ممثلين فلسطينيين وعُرض في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة في سنة 2022، ورُشّح للأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية، يحكي قصة سيدة تدعى "هدى" جندتها الاستخبارات الإسرائيلية، وباتت تعمل في صالون الحلاقة خاصتها على إسقاط الفتيات الفلسطينيات، عبر تصويرهن في الصالون وهنّ عرايا و / أو خلال تعاطيهن المخدرات، بغرض ابتزازهن، مستثمرة مشكلاتهن الاجتماعية. والفيلم في تطرّقه إلى هذا الجانب المعتم عليه فلسطينياً، يستحق إشادة، لكن طريقة تقديمه للمقابل الرمزي للفئة العميلة، أي المقاومة الفلسطينية، يتضمن ما يستحق الغضب، لإمعانه في تشويه المقاومين الذين بدوا أكثر عنفاً وفاقدين للمنطق والحجة في مقابل شخصية "هدى".

في الفيلم جملة تقولها "هدى" في تبرير وفائدة العمالة للاحتلال لنساء تم ابتزازهن بصورهن العارية: "إن العمل مع المخابرات الإسرائيلية جعلهن أقوياء أمام أزواجهن."

يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا لا نرى في فيلم فلسطيني، وبغضّ النظر عن أي سياق، جملة على لسان بطل أو بطلة مضمونها هو التالي: "إن عمل النساء الفلسطينيات مع المقاومة الفلسطينية يجعلهن قويات في الحياة وقويات في مواجهة أزواجهن؟" أليست هذه نتيجة منطقية ومتوقعة أيضاً؟

وهنا لا يمكن إطلاقاً تجاهل قضية العمالة، ولا تلك الطريقة البشعة التي يمارس فيها الاحتلال طرق تحطيم الذين يحتلهم واستهدافهم وقتل مقاوميه واعتقالهم، فهذه القضية، وإن كانت مغيّبة في الإعلام الفلسطيني، غير أنها حاضرة من خلال خسارات الفلسطينيين اليومية. لكن هذا الفيلم لا يزوّدك إلّا بكل ما يدفعك إلى رؤية مقاومة فلسطينية متعثرة ومجنونة ومريضة، تُبنى مواقفها على أحداث ماضية أساسها تأنيب الضمير وليس القناعات الراسخة.

هذا السياق، من وجهة نظرنا، ليس إلّا نتيجة ارتباط هذه الأفلام بمنظومة عربية وعالمية، وهي حالة تجعل جانباً كبيراً من معالجاتها "غير وطنية"، أو للدقة، لا تنحاز إلى خيارات المقاومة على براحها وتنوع خياراتها. فقائد المقاومة، عملياً، هو مَن قام بتعرية أجساد النساء اللواتي تم إسقاطهن عبر عرض الصور في أثناء جلسات التحقيق والتمعن فيها، بينما صائدة النساء ومُسقطتهن كانت حريصة أشد الحرص على صورهن.

لقد أتقن الفيلم تقديم مجموعة من المعالجات البعيدة عن "نحن / الفلسطينيين"، وليس مهماً الشتائم التي تضمّنها، ولا مشاهد العري أو حتى القبلات، فهذه أمور ثانوية، فالمهم هو سياق هذه المعالجات التي تحمل المقولات والأفكار والرؤى أيضاً.

ويعتبر أبو أسعد في تصريح أن "المهمة الأساسية للسينمائي هي توجيه الأسئلة أكثر من إيجاد الإجابات"، وأن "التحدي الكبير الذي طرحه الفيلم هو عدم تحديد مَن تكون الضحية ومَن هو الجلاد"، وأن من الممكن "أن مَن تعتبره جلاداً، هو في الوقت نفسه الضحية."

سنتفق مع تصريحات أبو أسعد، فالأفلام يمكنها أن تطرح الأسئلة من دون تقديم الإجابات، لكن مَن قال إن طرح الأسئلة مسألة محايدة ولا تعكس انحيازات ورؤى لكل من المخرجين أو المنتجين أو حتى أماكن العرض؟

في هذا الفيلم سيدرك المتابع والمدقق، بعيداً عن المشهد الذي أثار حفيظة المواطنين، أننا شعب نتعرض لحالة ضخمة من سلخ جلدنا، ومن التعرية وسلبنا أي تفوق أخلاقي أو وطني، وهنا تماماً تصبح مقولة المخرج: "إن مَن تعتبره جلاداً، هو في الوقت نفسه الضحية" تعبيراً دالاً على ذلك.

هذا النوع من الأفلام يؤكد أنه يجب عدم النظر إلى المشكلة من خلال مشهد (ربما جاء مغازلة لجمهور غربي وإرضاء لتوجهات سينمائية، أو قد يكون تعميقاً لمسألة استهداف أجساد النساء عبر تخديرهن كمدخل إلى السقوط في وحل العمالة)، فالمهم هو الرؤية والمعالجة ككل. وأمام معالجات من هذا النوع يبدو أن علينا الاعتراف بأن الفلسطيني أصبح غريباً عن سينماه، فهذه الغربة لا تُقدّم إلّا نماذج متخلفة من الأزواج والمقاومين الذين يقتلهم الحقد والكره والرغبة في الانتقام، ومن عملاء أكثر ثقة وإقناعاً.

هل لنا أن نتخيل مثلاً أن يُعرض فيلم في المهرجانات الغربية عن قصة فيلم فرنسي يتناول ممارسات الاستخبارات الروسية في إسقاط الأوكرانيات بهدف تحطيم مقاومتهن، بينما الحديث في الفيلم هو عن تحول الجلاد الروسي والمتعاملات معه إلى ضحايا؟ 

"فرحة": العودة إلى الحدث التكويني الأول

يمكن النظر إلى فيلم "فرحة" للمخرجة الأردنية دارين سلام على أنه الفيلم الذي أعاد إلى الفلسطينيين ثقتهم بالسينما هذا العام. فهذا الفيلم، علاوة على موضوعه، عزز ردة الفعل الإسرائيلية الهستيرية منه، والمطالِبة بوقف عرضه على شبكة "نتفليكس" الدولية، كما أنه استعاد النكبة بصفتها الحدث الفلسطيني الأبرز. فالفيلم يخالف الفيلمين السابقين وكثيراً غيرهما من الأفلام في كونه ترك اللحظة الراهنة، أو التاريخ القريب، وذهب إلى أساس القضية الفلسطينية وجوهرها، إلى بدايات رحلة التهجير والطرد والتشتت في المنافي عبر تكثيف حكاية النكبة بشكل عام، من فتحة في غرفة صغيرة، ومن خلال حكاية شخصية عاشتها الفتاة فرحة.

تنطلق أحداث الفيلم في جزئه الأول من "نوستالجيا" البلد والحنين إليه، حيث قرية خضراء وادعة هي معادل لتصور جنة الله على الأرض، يعيش ناسها حياة انبساط ودفء، وتدور فيها حوارات فرحة وصديقتها وأحلامها بالذهاب إلى المدينة من أجل تحصيل العلم. غير أن بساطة القرية ورضا أهلها لم يجعلانها تعلم ما ينتظرها من مصير عشية هجوم العصابات الصهيونية واحتلال أجزاء من فلسطين أو تدميرها، وهو الحدث المزلزل الذي أوقف مشروع المدنية الفلسطينية.

الجزء الثاني من الفيلم جاء بعد الدقيقة الـ 22، مع قدوم الأغيار الصهيونيين الذين جلبوا الموت والدمار، وقلبوا حياة القرية التي تعادل فلسطين التاريخية، رأساً على عقب، فلم يعد من عمل للنساء والأطفال سوى ترك كل شيء والركض هرباً من الموت، بينما مجموعات الرجال تحاول توحيد صفوفها للمقاومة.

الجزء الثالث من الفيلم تخصصه المخرجة ليكون جوهرة التاج، ونقصد به مشاهد حبس واحتجاز "فرحة" من طرف الدها الخائف على حياتها داخل غرفة المؤن الصغيرة.

ومن داخل الغرفة تعاين الطفلة فرحة جرائم الاحتلال عبر دقائق طويلة من الخوف والحياة داخل العتمة، وقد تمكنت المخرجة دارين في عملها الطويل الأول من بناء عالم حقيقي وضاغط من الخوف والترقب، مروراً بأزمات تمر بها الفتاة في الغرفة المعتمة، ومن ذلك تبوّلها على الأرض، والدم الناجم عن دورتها الشهرية.

وعبر الفتحة الصغيرة في جدار حبسها ترى فرحة المشهد الذي أغضب الاحتلال، وهو إعدام عائلة فلسطينية على يد أفراد من القوات الصهيونية، والمشهد الذي أزعج بعض الفلسطينيين، بإظهاره جندياً يعصي أوامر قائده برفضه قتل طفل العائلة الصغير الذي ولد للتو.

وتبقى نقطة القوة في هذا العمل في تمكّنه باقتدار من بناء عالم بصري متكامل يقابله رمزيات قابلة للتعميم على حالة فلسطين بفعل حدث النكبة، وهي حالة ابتعدت عن الشعارات والخطابية التقليدية والميلودراما، وقدمت محاولات الفلسطيني للبقاء في قيد الحياة في عز لحظات الموت والانكسار وبطش القوة.

لقد أبدع فيلم "فرحة" في تقديم تجربة تقطع الأنفاس، كما أبرز البعد الإنساني في مرحلة الخوف والهرب والرغبة في البقاء والمقاومة عبر خط درامي واحد؛ إنه خط النكبة، ذلك الحدث الهائل الذي رُصد من ثقب في جدار غرفة صغيرة.

وفي تحليله للهجوم الإسرائيلي الشرس على الفيلم، تساءل الكاتب الفلسطيني علاء حليحل عن سبب الموقف الإسرائيلي من فيلم "فرحة" الذي كشف عن نسبة قليلة وعيّنة غير تمثيلية عن الأهوال التي اقترفتها الصهيونية ضد الفلسطينيين. وإذا كان هذا الغَيْض يرعبهم إلى هذه الدرجة، فماذا لو أتى الفَيْض مستقبلاً؟ وهي الفكرة نفسها التي ركزت عليها مخرجة العمل في أكثر من مقابلة صحافية.

يبدو الفيلم تجسيداً لرؤية الناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم الذي رد ذات مرة على سؤال: "هل يمكن استعادة القضية الفلسطينية و'النكبة' إلى جوهر الاهتمام؟"، إذ قال: "هذا هو السؤال، وأظن أن السينما مثلما هي متأثرة ومنفعلة بهذا السؤال، فإنها قادرة أيضاً على المساهمة في الإجابة التاريخية عنه، من خلال الأفلام التي يصرّ صانعوها على إنجازها، على الرغم من كل ما يبعث على الأسى والإحباط."

نختم المقالة بسرد حادثة حقيقية: فقبل أعوام، عندما كان في مدينة جنين سينما تحمل اسمها، وفي أثناء عرض فيلم المخرجة الفلسطينية ميس دروزة الوثائقي البديع "حبيبي بيستناني عند البحر"، طرح أحد الحضور على مخرجة العمل مداخلة عن أهمية أن نفكر في الجمهور الغربي عندما ننتج أفلامنا السينمائية، بصفته الجمهور الذي يستحق أن يُستهدف بكثير من الأعمال، وكانت المفاجأة عندما انفجرت دروزة قائلة: "طز في الجمهور الغربي."

وأكملت دروزه كمنتصرة: "لن نصل إلى هذا الجمهور إطلاقاً إذا أنتجنا سينمانا كي يشاهدونا، فكيف الحال لو كانت على مقاييسهم؟" وختمت أنها تنتج أفلامها لأبناء شعبها وأبناء الشعوب العربية، وفي حال وصلتهم ومسّتهم، فإنها وبلا أدنى شك، ستصل وستمسّ الجمهور الغربي أيضاً. لقد بدت دروزة كأنها تقول إن ما دون ذلك يعني أننا نخون سينمانا وقضيتنا.

السيرة الشخصية: 

سعيد أبو معلّا: محاضر في الإعلام الحديث في الجامعة العربية الأميركية – رام الله.