أعادت عملية "طوفان الأقصى"، وثبات الفصائل المقاومة في قطاع غزة في وجه الإبادة الإسرائيلية، طرح القضية الفلسطينية بقوة، كما فضحت زيف إسرائيل، وبلورت وعياً شعبياً عالمياً في مقابل الدعم اللامحدود لإسرائيل من طرف حكومات الولايات المتحدة والدول الغربية.
لا شك في أن القرن الواحد والعشرين حمل معه سلسلة من الوقائع والاكتشافات الاجتماعية والعلمية المتواترة التي فجّرت أسئلة دقيقة وحاسمة، اضطرت سكان العالم إلى مراجعة المسار، وإلى التساؤل عن المآل في ظل اختلال الموازين وتدهور البيئة، واستفحال الحروب واستغلال الأقوياء للضعفاء ضمن ميزان للقوى لم يعد يراعي القيم الكونية ولا حكمة المنظمات العالمية للعدالة وحقوق الإنسان. وتتصدر هذه الاختلالاتِ ظاهرةٌ واحدة لاستمرار الاستعمار وتجلياته من خلال سجن وتعذيب وقتل المستعمَرين طوال ما يزيد على 70 عاماً، مثلما يتجلى في احتلال إسرائيل لأرض الفلسطينيين، بمساندة من الولايات المتحدة وبعض دول الغرب. وإذا كان كفاح الفلسطينيين من أجل حريتهم وبناء دولتهم لم يتوقف، فإن مخططات دولة إسرائيل الاستعمارية تمادت في الكشف عن مطامعها اللاهوتية وأساليبها الوحشية كي تزيد في توسّعها واحتلالها أراضي يسكنها فلسطينيون. وضمن هذا المخطط، عمدت إلى تطويق سكان غزة الفلسطينية فيما يشبه سجناً محاصراً من جميع الحدود، ضمن مساحة ضيقة مفتوحة على السماء فقط. غير أن هذه الشروط القاسية واللاإنسانية لم تمنع الغزّيين من مواصلة النضال ضد الاستعمار الإسرائيلي الهمجي، على الرغم من التفوق الكبير لإسرائيل في مجال السلاح والخبرة اللوجستية. والغريب واللافت في تجربة غزة المحاصرة والمحرومة من شروط العيش الأولية، هو أن العالم "الديمقراطي" حارس القيم الكونية والناطق باسمها، لم يسعَ جدياً لفرض حلّ عادل لقضية فلسطين يحمي أهلها من طغيان إسرائيل، ويفك الحصار عن مليونين ونصف مليون من سكان غزة المحاصرة ضمن شروط مزرية.
انطلاقاً من هذا التذكير بوضعية غزة الفلسطينية، يمكن أن نتفهم لماذا غزة مهيأة، من خلال مقاومتها الفذة والمتميزة، لأن تدق ناقوس الخطر كي تنبّه العالم إلى سيرورة تدمير تلك القيم الإنسانية الكونية التي كانت تجعل التعايش ممكناً بين سكان الأرض. فمبادرة المقاومة في غزة إلى ابتداع شكل جريء وجديد للمقاومة، منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، نجحت فعلاً في أن توقظ العالم من غفوته، وأن تدفعه إلى طرح أسئلة جوهرية من ضمنها وفي مقدمها، ضرورة وضع حدّ للاستعمار، وإعادة تحديد القيم الإنسانية الكونية من منظور يجعلها فاعلة ومُلزمة. فالكَيْل بمكيالين، وإعطاء الأسبقية للمصالح الجيو - سياسية، أتاحا لإسرائيل أن تعتبر نفسها دولة فوق القانون، يجوز لها أن تضرب عرض الحائط بجميع المبادىء والتوصيات في سبيل تبرير وضعها الاستعماري والإمعان في اعتقال الفلسطينيين من دون وجه حقّ، وهدم البيوت وقتل الشباب... إن ردة فعل الجيش الإسرائيلي على عملية حماس في 7 تشرين الأول / أكتوبر، كشفت مخططات حكومة إسرائيل لإبادة الفلسطينيين وتضييق الخناق على غزة والضفة الغربية، من دون تمييز بين أطفال وشيوخ، وهو ما تأكد من حصيلة الشهداء التي وصلت حتى 18 شباط / فبراير إلى 28,985 شهيداً و68,883 جريحاً، ونحو 10,000 مفقود وفق ما نشرته وزارة الصحة في غزة في صفحتها في موقع فيسبوك، وأكثر من نصف هؤلاء هم من الأطفال والنساء، إلى جانب تدمير العمران بشكل كلي، ومواصلة الحصار على الغذاء والدواء والبنزين... وهذه الوقائع كلها مسجلة وموثقة بالصورة والصوت، الأمر الذي يفضح نيات دولة إسرائيل وأهدافها، ويعرّي زيف شعاراتها "الحضارية" مثلما تجلى من خلال مطالبة أحد وزرائها باستعمال القنبلة الذرية لسحق الفلسطينيين.
لكنْ، يبدو لي أن الأهم في هذه التجربة الرائعة التي تجسدها المقاومة الفلسطينية بجميع تفريعاتها العقائدية وتضحياتها، هو ما أثارته من ردات فعل مؤيدة لها، لدى آلاف الشباب عبر العالم، بمَن فيهم شباب أميركا وأوروبا، أي تلك القوى الصاعدة التي أدركت بالملموس أن "هزيمة الغرب" التي يتحدث عنها الباحثون والأكاديميون هي حقيقة تأخذ بعضاً من تجلياتها في سياسة إسرائيل وسلوكها العدواني، وفي ذلك التأييد الذي أعلنه رؤساء الدول المؤيدة لإسرائيل، إذ هرعوا مباشرة بعد عملية 7 تشرين الأول / أكتوبر إلى تل أبيب ليُعربوا عن مساندتهم المادية والمعنوية لمشروع حكومة إسرائيل الرامي إلى حصار وتقتيل سكان غزة الذين جهروا بمقاومة المحتل. والواقع أن ردات الفعل من جانب رعاة إسرائيل وحُماتها كانت تبعث على الاستغراب، إذ بدوا كأنما يكتشفون أن صراع الفلسطينيين من أجل حريتهم لم يبدأ إلّا في سنة 2023.
ومن هذا المنظور، يجوز القول إن حرب إسرائيل الاستعمارية على غّزة المقاومة، لا تنحصر نتائجها الإيجابية في فضح زيف إسرائيل وفتح الطريق لتحرير فلسطين، بل تتعدى ذلك أيضاً إلى بلورة وعي كوني جديد يمحّص القيم والمواقف على ضوء السلوك الملموس والصريح للدول وحكوماتها؛ ويمهّد الطريق لاختبار السياسات في ترابط مع ما يتطلع إليه شباب العالم من حرية وديمقراطية وعدالة.
وفي هذا الاتجاه، يمكن القول أيضاً إن محكمة العدل الدولية لم تكن مخطئة عندما أبرزت مخاطر الإبادة التي تمارسها حكومة إسرائيل المتطرفة ضد سكان غزة وأطفالها منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.
وما يبدو جلياً الآن، والمقاومة لا تزال مستمرة في غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني، هو أن إعلان الحرب على غزة الفلسطينية جعل منها مرآة بلورية كاشفة لجميع الوقائع الواضحة والمستترة التي تميز بين مَن يراهنون على قيم الحرية والعدالة، والذين يجبنون عن مناصرة ذويهم وشركائهم في العروبة والملّة والمصير.
لذلك، كم يبدو ذوو القربى بؤساء وجبناء وهم يتوارون وراء ستار التطبيع القائم على غير أساس. ولولا أن أغلبية شعوب الأنظمة العربية المطبّعة جهرت بالتضامن مع غزة الفلسطينية، لظننا أن النبض العربي تلاشى واندثر إلى الأبد.
لأجل ذلك أقول إننا ممتنّون لغزة وشعبها ومقاومتها وتضحياتها، إذ بفضلها نستطيع، في وضح النهار ومن بين الأنقاض والأشلاء، أن نتبيّن معالم البعث والتجديد وهي تتخلّق كي تبلور ملامح ذلك النهوض الذي كثيراً ما سعى له العرب وأخفقوا. ولذلك أيضاً ستظل غزة مقترنة بتجديد الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي، لأنها أخرجت قضية شعب فلسطين من دهاليز المفاوضات السرية والتسويات العرجاء إلى المطالبة الصريحة بتصحيح القيم الإنسانية وتصفية الاستعمار إلى غير رجعة.