استخدمت غزة جميع الأسلحة التي تملكها للردّ على حرب الإبادة التي تشنّها عليها إسرائيل، وثبت حتى الآن أن الأسلحة كلها لم تستطع أن توقف العدوان. فالعدوان يتجاوز الأسلحة والقوى العسكرية ليمتد إلى الروح. إنها حرب تدمير شامل هدفها تحطيم روح المقاومة التي صارت اليوم هي روح المدينة. لكن كيف تردّ غزة على هذا النوع من الحرب؟
لقد برهن الإسرائيليون أن حربهم بلا أهداف سياسية، فهم رفضوا جميع المشاريع السياسية التي قُدّمت إليهم من طرف أصدقائهم الأميركيين والعرب، إلى أن وصل بنا المطاف إلى المرفأ العائم الذي يريد الأميركيون بناءه من أجل إنجاز عملية تجويع غزة وإذلالها.
لسنا أمام حرب كلاسيكية أو غير كلاسيكية، نحن أمام هجمة وحشية هدفها الوحيد هو إزالة الخصم من الوجود. وهذا ما تثبته كل يوم مجموعة من التصرفات الإسرائيلية: القصف الوحشي؛ جرف البشر أحياء وأمواتاً؛ قتل الأطفال وتقطيعهم؛ طرد الناس من بيوتهم ومنعهم من العودة إلى المناطق التي طُردوا منها؛ الرقص فوق الدبابات؛ سرقة البيوت وأخذ الصور الإباحية مع ثياب النساء الداخلية.
إنه كرنفال الموت. لقد صنع الإسرائيليون كرنفالاً خاصاً بالشعب الذي تسلّطوا عليه وهو كرنفال ممتد منذ 75 عاماً، وتشكل غزة اليوم التعبير الأقصى عن العنف الذي يصاحب هذا الاحتفال الدموي. فكيف تردّ غزة على استباحتها؟
يجب أن نعرف أولاً أن 80% من سكان غزة هم من اللاجئين الذين طُردوا من بيوتهم في يافا ومحيطها. يافا التي كانت عروس المدن الفلسطينية تحولت مع الاحتلال إلى مدينة شبه مهجورة ومرتع للمخدرات. هكذا عاقب الاحتلال مدينة البرتقال التي لا يزال يطبع اسمها على البرتقال الفلسطيني المُصدَّر إلى الخارج.
لم يبقَ من البرتقال سوى الفاكهة التي تُصدَّر بعد أن نُزعت عنها رائحة الأيدي التي زرعتها. فسكان غزة هم هؤلاء العمال والفلاحون اليافاويون الذين يجدون أنفسهم اليوم مهددين بالطرد من جديد، وبإقفال أبواب العودة في وجوههم. لكن مَن اختبر ذل اللجوء في سنة 1948 لن يغادر بلده حتى لو صار جزءاً من أنقاضها. وهنا يقع المأزق الإسرائيلي.
يريد الإسرائيليون من هذا الكرنفال الذين يقيمونه في غزة إقناع الفلسطينيين بالهجرة إلى سيناء، وبعة ستة أشهر من الإبادة الوحشية لم يغادر غزة أحد. النكبة الكبرى لن تتكرر، وهو ما جعل الإسرائيليين يلجأون إلى تحويل النكبة إلى مسار من مجموعة نكبات صغرى احتلت الحياة الفلسطينية منذ سبعة عقود. غير أن غزة تشكل استثناء، ربما لأن الإسرائيليين يريدون تحويلها إلى نموذج فلسطين المقبل.
كل فلسطين هي غزة، يقول الإسرائيليون. ونحن نقول قولهم، غير أن هذا قول واحد يعني شيئين متعاكسين: كل فلسطين غزة بالنسبة إلى إسرائيل تعني تحويل فلسطين إلى حطام، وكل فلسطين هي غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تعني أن فلسطين أرض مقاومة.
هذا هو جوهر الصراع الذي يدور اليوم. فإسرائيل وحلفاؤها من حثالات الأنظمة العربية يريدون هذه المعركة لحسم الصراع بشكل نهائي، وتحويل فلسطين إلى ذاكرة منسية، وهذا ما أثبته العرب بعد إقفال اليمن البحر الأحمر في وجه السفن الإسرائيلية، حين تطوعت الأردن والإمارات والسعودية لوضع أرضهم في خدمة كسر الحصار عن الاحتلال. وبعدما عجزت مصر عن فتح معبر رفح لنقل المساعدات إلى الفلسطينيين، قامت بمدّ جسر بري مع إسرائيل لنقل البضائع إليها.
قمة الوقاحة كانت في رمي المساعدات والطحين من الطائرات، فكان اللاجئون يتنافسون مع الأسماك على طعامهم الذي كان يذوب في الماء قبل أن يصل إلى أيديهم. هذا هو الإنجار العربي الأكبر في حرب غزة: تحويل الطعام إلى سراب، والسراب إلى نمط حياة كي تشارك الأنظمة العربية "بجدارة" في هذه المذبحة.
ماذا تبقّى لفلسطين؟ في زمن مضى كتب غسان كنفاني مجموعة قصصية بعنوان "عالم ليس لنا" ليستنتج أن ما تبقّى لنا هو حساب الخسارة. فهذا العالم الذي جبله لنا الإسرائيليون بالدم والخسائر تحول إلى عالم بدايات لا تنتهي.
غير أن هناك إنجازاً عربياً آخر ينافس إنجارات إسرائيل، وهو المساهمة في حرب الإبادة على الثقافة الفلسطينية. فعندما يصبح الاسم الفلسطيني تهمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعندما تصبح العودة إلى الرموز الثقافية الفلسطينية وصمة عار وجزءاً من اللاسامية، نكون أمام احتمالات العتمة الشاملة. وهذه العتمة لا تعمّ فلسطين وحدها، بل بدأت تعم العالم بأسره أيضاً، كأن الفلسطينوفوبيا صارت هي الموضة في الغرب
من الغريب أن يُتّهم فلسطيني ذاق مرارات النكبة باللاسامية، وأن يطاح بنتاج فكري صار جزءاً من دراسات التروما في العالم، وهو ما يجري مع عالمة الإجرام الفلسطينية نادرة شلهوب – كيفوركيان، الأستاذة في الجامعة العبرية. فعالمة الإجرام التي تُعتبر اختصاصية في مجالها، وطليعية في دراسات الطفولة، تُتّهم بارتكاب جريمة لحظة أن انتقدت جرائم إسرائيل.
مَن ينتقد إسرائيل مجرم، أمّا المجرم الإسرائيلي الذي يقتل الناس بشكل أساسي فهو المدافع عن القيم الغربية. هل فهمتم الآن لماذا ماتت القيم وظل العالم في هذا الفراغ القاتل؟
لا خيار أمام الفلسطينيين في غزة وفي الضفة والقدس سوى العودة إلى الأول. ففي الأول تبدأ الأشياء جديدة وتحمل نكهة الحرية. ففلسطين هي أول العرب وتأويل العرب، وأول القيم وتأويل القيم. ففيها تعلمنا معنى الحرية والمقاومة والحب، ورأينا أمامنا أفقاً لن يستطيع أحد إقفاله في وجوهنا.