فلسطين و"الشارع" الغربي
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
عدد الصفحات: 
9

أحدثت الحرب الدائرة في غزة انقساماً حاداً داخل المجتمع الغربي، فقد واظبت أكثر الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على إعلان تأييدها للحرب التي تشنها إسرائيل في غزة، بحجة أن الهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر يستلزم مثل هذا الرد الإسرائيلي. ولم تُعر هذه الحكومات سوى القليل من الاهتمام، في ما خلا التصريحات اللفظية، بشأن عواقب الحرب الكارثية على حياة المدنيين الفلسطينيين. لكن في الوقت عينه، هناك شريحة متنامية من الرأي العام في الغرب تأخذ هذه العواقب على محمل الجد، وقد خرجت هذه الشريحة لتعبّر عن معارضتها للحرب، وتأييدها للوقف الفوري لإطلاق النار، وتأييدها بصورة عامة التوصل إلى حل عادل لقضية فلسطين. إن هذه الازدواجية المتمثلة في التجاهل شبه التام لمخاوف الفلسطينيين من جانب شخصيات الدولة وإداراتها ومؤسساتها، إلى جانب الدعم المستمر والمؤكد لتلك المخاوف نفسها من جانب جزء كبير من الرأي العام، هي سمة رئيسية للبيئة الغربية الحديثة عندما يتعلق الأمر بفلسطين والفلسطينيين.

سنترك لغيرنا تحليل السياسات الحكومية، فنحن مهتمون بالدرجة الأولى بالجانب الآخر لهذه الصورة المزدوجة: الشريحة المعارضة من الرأي العام الغربي، أو ما يمكن تسميته "الشارع" الغربي، قياساً على ما يُسمى "الشارع العربي". ويعود الدافع وراء هذه التسمية جزئياً إلى تظاهرات الشوارع العارمة حالياً في الغرب (وأماكن أُخرى)، وإلى الاقتراح القائل بأن استعارة الشارع بمعناها السياسي تشير إلى "الرأي العام الذي يتشكل خارج الأطر الرسمية أو خارج آليات السلطة."[1] إن الشارع الذي عُرِّف على هذا النحو لا يمثل بالطبع سوى جزء من الرأي العام الغربي الذي يرتبط قسم كبير منه عل نحو وثيق بوجهات النظر الحكومية الغربية - لكن وجود الشارع الغربي حقيقي ومحسوس. لقد كتبنا سابقاً[2] عن عبارة "الشارع العربي"، ونحن ندرك تماماً الاستخدام المستخف والمهين لهذا المصطلح في الغرب في كثير من الأحيان. لهذه الأسباب، ترددنا قليلاً في تطبيق استعارة "الشارع" على شريحة من الرأي العام الغربي التي تُهمَّش آراؤها وتُشوَّه سمعتها في أروقة السلطة. لكن باستخدام تعبيرَي "الشارع الغربي" و"الشارع الأميركي"، فإننا نعني تقويض الربط المعتاد بين "الشارع" وموقف يتسم بازدراء "الجموع" والاستخفاف بهم، ونعتزم استرجاع مصطلح استُخدم في كثير من الأحيان بهدف السخرية وإعادة الاعتبار له. وبهذا المعنى، نشعر أن الأمر متناسب مع ما نقصد: فالشارع الغربي غالباً ما يُنظر إليه نظرة سلبية. لكنه، مثل الشارع العربي، ينظر إلى نفسه على نحو مختلف تماماً: بصفته قوة معارضة شرعية ومبدئية. وفي نهاية المطاف، فإن المبدأ الأساسي المتمثل في أن حياة الإنسان ثمينة، وأن المدنيين بصورة خاصة لا بد أن يتمتعوا بالحماية، ينطبق بغض النظر عما إذا كان المدنيون المعنيون إسرائيليين، أو فلسطينيين، أو ينتمون إلى فئة أُخرى.

إن وجود اتجاهات معارضة معاكسة للتيار السائد في الرأي العام الغربي فيما يتعلق بالشرق الأوسط ليس بالأمر الجديد طبعاً. ومع ذلك، تبدو الأمور مختلفة نوعياً هذه المرة. أمّا الجديد فهو فداحة الوضع، وعدد الضحايا الهائل، وحجم الرعب، والسرعة غير المتوقعة التي تغير خلالها الوضع السياسي، سواء في الشرق الأوسط أو في الغرب. هناك أمر آخر يبدو جديداً ومهماً، وقد سلط عليه الضوء مؤخراً توني كارون ودانييل ليفي: "في جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي مدن الغرب، تحتل فلسطين الآن مكاناً رمزياً باعتبارها تجسيداً للتمرد ضد النفاق الغربي وضد نظام ما بعد استعماري ظالم."[3] وبالتالي، ليس جديداً أن تكون هناك احتجاجات. وليس جديداً أن يتعلق الأمر بقضية فلسطين. ما قد يكون جديداً هو المركزية الرمزية الواضحة للقضية الفلسطينية بالنسبة إلى مجموعة أكبر من الاهتمامات داخل الغرب وخارجه. نحاول هنا تتبع كيف وصلت الأمور إلى هذه النقطة: كيف أصبحت القضية الفلسطينية تحتل موقعاً بارزاً داخل الحركات المعارضة أو المناهضة للتيار السائد داخل الغرب وخارجه. سنجادل بأن بوادر هذا الوضع يمكن إرجاعها إلى أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين على الأقل، وأن هذا التطور هو جزء من تحول ثقافي أكثر عمومية في وجهات النظر تجاه فلسطين والفلسطينيين في الغرب الناطق باللغة الإنكليزية على مدى العقدين الماضيين.

ونظراً إلى جسامة الأحداث التي شهدتها الأشهر القليلة الماضية، وصرامة الموقف المزدوج الذي رسمناه أعلاه وحساسيته، فقد يكون من السهل التغاضي عن أن النمط نفسه من التوجه المزدوج كان موجوداً قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر. فحتى تموز/يوليو 2023، قيل إن "آراء الجمهور الأميركي بشأن إسرائيل تمر بتحول عميق. واشنطن لم تلحق بالركب".[4] وجاء في عنوان رئيسي في أيار/مايو 2021: "عشرات الآلاف يشاركون في أكبر مسيرة مؤيدة لفلسطين في التاريخ البريطاني."[5] ومن الصحيح أيضاً القول استناداً إلى ما يتم تداوله، إنه على مدى السنوات القليلة الماضية، هناك أمور ذُكرت وتُذكر بانتظام عن قضية فلسطين في الخطاب غير الحكومي (مثلاً الأكاديمي) لم يكن من الممكن قولها قبل بضعة عقود. تشمل الأمثلة الإشارة المتزايدة إلى النكبة، وتدمير المجتمع الفلسطيني في فلسطين سنة 1948، وإلى سياسة الفصل العنصري (الأبارتايد) الإسرائيلية. وتشير هذه التغييرات في الخطاب واستخدام اللغة إلى حدوث تغيير في الثقافة الناطقة باللغة الإنكليزية، نحو موقف أكثر انفتاحاً (إلى حد ما) على وجهات النظر الفلسطينية وتقبلها. وفي الوقت نفسه فإن المواقف الحكومية الأميركية لا توحي بأي انفتاح من هذا القبيل. ومع ذلك، فإن الازدواجية أفضل من التصوير السلبي الأحادي الجانب الذي نتذكره منذ وقت ليس ببعيد. وهنا نسأل: ما الذي تغير بالضبط ثقافياً؟ ومتى بدأ هذا التغيير؟ وكيف تطور؟ وما الذي أوصلنا إلى هذه اللحظة الثقافية الازدواجية؟

نقطة البداية الطبيعية هي الوعي الأميركي بالنكبة. ويمكن تأكيد ذلك من خلال التحقق من قاعدة بيانات كبيرة لاستخدام اللغة على مدى التاريخ، مثل مجموعة كتب غوغل،[6] والتي تعتمد على نصوص ملايين الكتب المنشورة بعدة لغات من القرن السادس عشر حتى سنة 2019. لا يوجد في الأساس أي ذكر للنكبة يستخدم هذه العبارة العربية ("The Nakba") في هذه المجموعة إلى ما بعد مرور 50 عاماً عليها، في سنة 1998 - ويزداد استخدامها بشكل كبير بعد ذلك، وخصوصاً في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأواخره. وقد أظهر تحليل سابق[7] أن هذه الزيادة في استخدام كلمة "النكبة" (أي "the Nakba") ترتبط بزيادة في استخدام الكلمات المرتبطة بالإنترنت (مثل "موقع الويب"، "غوغل")، وفي استخدام الكلمات المرتبطة بما يُسمى "الحرب على الإرهاب" - مما يقترح (ولا يبرهن بالطبع) سبباً محتملاً لهذه الزيادة الاهتمامَ المتزايدَ بالشرق الأوسط بصورة عامة، إلى جانب الوصول إلى مجموعة واسعة من المعلومات على شبكة الإنترنت، بحيث بدأت وجهات النظر المهمشة سابقاً تظهر، أو تكون حاضرة في النقاشات والوسائط العامة أكثر من قبل.

إذا كان تحوّل كهذا في الخطاب الناطق باللغة الإنكليزية حول فلسطين قد حدث على مدى العقود القليلة الماضية، فيجب أن نتوقع أن ينظر الشباب، وخصوصاً أولئك مَن هم في العشرينات والثلاثينات من العمر، والذين تشكل وعيهم خلال هذه الفترة، إلى قضية فلسطين على نحو مختلف عن الأجيال الأكبر سناً. وهذا على وجه التحديد ما تشهد عليه استطلاعات الرأي والاستبيانات الأخيرة، والتي يُظهِر العديد منها فجوة واسعة بين الأجيال بشأن هذه القضية. ففي استطلاع أجرته صحيفة نيويورك تايمز/ كلية سيينا[8] في كانون الأول/ديسمبر 2023 سُئل الناخبون الأميركيون عما إذا كانوا يتعاطفون أكثر مع إسرائيل أو الفلسطينيين، وبينما قال 46% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً إنهم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، قال 13% فقط ممن تزيد أعمارهم عن 45 عاماً إنهم يتعاطفون أكثر مع الفلسطينيين. وفي الاستطلاع نفسه، قال 74% من المشاركين الأصغر سناً إن إسرائيل لا تتخذ الاحتياطات الكافية لتجنب سقوط ضحايا مدنيين في حربها على غزة، في حين قال نحو نصف هذا العدد الشيء نفسه في فئة من هم فوق 65 عاماً. الفجوة بين الأجيال واضحة أيضاً بين اليهود الأميركيين. وفي استطلاع للناخبين اليهود المسجلين في الولايات المتحدة أُجري في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2021، وافق 38% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً على عبارة "إسرائيل دولة فصل عنصري" (مقارنة مع 13% من أولئك الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً فما فوق)، ووافق 33% في هذه الفئة العمرية على أن "إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين" (مقارنة مع 15% ممن تبلغ أعمارهم 65 عاماً فما فوق).[9] وكان ذلك قبل سنتين من اندلاع الحرب الدائرة في غزة.

إذاً، ما الذي يفسر التحول في الخطاب وما يصاحبه من اختلاف في المواقف بين الأميركيين الشباب وكبار السن؟ لماذا ينظر "الشارع الأميركي" إلى فلسطين على نحو مختلف تماماً عن "قادة ومدراء المؤسسات الأميركية"؟ لقد ألمحنا بالفعل إلى بعض الأسباب المساهِمة في ذلك، لكننا نعتقد أن ثلاثة من هذه العوامل هي الأكثر أهمية بينها. الأول هو الميل المتزايد داخل الحركات الاحتجاجية، التي يهيمن عليها الشباب، للتأكيد على التقاطعات والقواسم المشتركة بين مختلف النضالات. بطبيعة الحال، يجدر بنا التأكيد على أن مشاعر الترابط والتآخي القوية بين المجموعات الراديكالية ليست ظاهرة جديدة، وقد احتضنت القضيةَ الفلسطينية مجموعةٌ متنوعة من الحركات التقدمية في الغرب وأماكن أُخرى من العالم منذ سنة 1948 على الأقل. لكن في العقود القليلة الماضية، تعمق التضامن بين الحركات النسوية والمناهضة للعنصرية وغيرها من الحركات المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وازداد الوعي بأوجه التشابه البنيوية والروابط المادية بين هذه الحركات. عندما يتعلق الأمر بتأييد قضية فلسطين ومناصرتها، يُنظر في أكثر الأحيان إلى صيف سنة 2014 على أنه نقطة تحول.[10] ففي خضم تزامن حملة القمع الوحشية التي شنتها الشرطة في فيرغسون بولاية ميزوري والهجوم العسكري الباطش على المدنيين في غزة، كان هناك إدراك متزايد لأوجه التشابه بين حالة الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي المحتلة ووضع الأميركيين السود، ناهيك عن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام جيم كرو في الولايات المتحدة الأميركية ]نظام من القوانين والتقاليد التمييزية والعنصرية التي كان معمولاً بها في الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً في الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين[. فضلاً عن ذلك، لم تكن الروابط المعززة هيكلية فحسب، بل كانت مادية أيضاً، نظراً إلى مستويات التعاون والتواطؤ بين الولايات المتحدة وإسرائيل عندما يتعلق الأمر بآليات الشرطة والمراقبة ومجمل أساليب القمع.[11] مجال التضامن الآخر المهم والطبيعي مع فلسطين داخل الولايات المتحدة وكندا هو بين الأميركيين الأصليين. فهناك تاريخ طويل من التضامن ثنائي الاتجاه بين الفلسطينيين والأميركيين الأصليين،[12] وهو تضامن متجذر في تجربتهم المشتركة، بصفتهم سكاناً أصليين يعيشون تجربة الاستعمار الاستيطاني. وقد استمر هذا التضامن خلال حرب غزة الحالية، وهو ما تجسد في تجمع شروق الشمس الأخير للشعوب الأصلية في جزيرة الكاتراز في خليج سان فرانسيسكو، والذي أكد أوجه التشابه[13] بين تجارب الأميركيين الأصليين والفلسطينيين.

ويتعلق العامل الثاني بقوة الإنترنت، وتحديداً انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة واتساع ظاهرة صحافة المواطن. إن صورة إسرائيل باعتبارها معقلاً للديمقراطية الليبرالية ومعقلاً للتنوير والحضارة وسط بحر من التعصب والتعنت، كانت هي الصورة السائدة في الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة منذ سنة 1948، وكان من الصعب تغيير هذه الصورة على الرغم من كثرة الأدلة التي تنفيها، إذ كان من الصعب في كثير من الأحيان الوصول إلى هذه الأدلة، وحتى عندما يكون الوصول إليها ممكناً كان من السهل تجاهلها لأنها لا تتوافق على نحو مريح مع التصورات السائدة عن إسرائيل. ومع ذلك، على حد تعبير المصور الفلسطيني الأميركي آدم روحانا، "تتخطى وسائل التواصل الاجتماعي التدفقات التقليدية للمعلومات وتوفر المجال لتكوين تصورات أكثر دقة في الخيال الغربي".[14] وعلى الرغم من الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي في بعض الأحيان كتفسير شامل لأي ظاهرة ثقافية واجتماعية في القرن الحادي والعشرين، فإنه من الواضح أن وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر (إكس) ومؤخراً إنستغرام وتيك توك كان لها دور فعال في نشر المعلومات من المناطق الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي على الرغم من التحديات. مثل هذه المعلومات تعذر الوصول إليها في الماضي، أو اعتبرت وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب التطرق إليها مسألة "حساسة". وبما أن القيود التي تفرضها إسرائيل على الصحافيين وحتى قتل العاملين في المجال الإعلامي[15] صارت شائعة في الأراضي المحتلة، فقد نجح المغامرون الفلسطينيون بهواتفهم المحمولة وعبر الاتصال بالإنترنت في تعميم صور العنف الوحشي، وهدم المنازل ومصادرة الأراضي وصور القهر اليومي وإيصالها إلى الجمهور الغربي الذي اعتاد رؤية إسرائيل على أنها "الرجل الطيب". وغني عن القول إن مستهلكي هذه المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي هم، على نحو ملفت للنظر، من الشباب الذين يميلون إلى تجنب وسائل الإعلام التقليدية التي يفضلها الأكبر سناً، مثل صحيفة نيويورك تايمز، أو الإذاعة الوطنية العامة، أو قناة فوكس نيوز.

السبب الثالث للهوة القائمة بين الأجيال في الموقف من قضية فلسطين، والذي قد يكون مرتبطاً بشكل مباشر أكثر بالبيانات الموجودة في مجموعة كتب غوغل، يتعلق بتغير طبيعة الخطاب الأكاديمي حول هذه المسألة. ابتداءً من التسعينيات أو نحو ذلك، لا جدال في أن الكتابة الأكاديمية في موضوعي إسرائيل وفلسطين شهدت تحولاً كبيراً. باختصار، لقد شكلتها النكبة: حصل إدراك متأخر للظلم التاريخي الذي تمثله حملة التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني وسلبه أملاكه التي أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948. فعلى الرغم من أن حقيقة النكبة كانت معروفة جيداً في بعض الأوساط الأكاديمية منذ وقوعها، ووثق تفاصيلها المؤرخون الفلسطينيون وغيرهم، فقد عُممت في الخطاب الأكاديمي بعد موجة من الأبحاث التي أجراها من يُسمَون "المؤرخون الجدد" الإسرائيليون[16] في أواخر الثمانينيات والتسعينيات. وعلى الرغم من أن الأعمال السابقة للمؤرخين الفلسطينيين كانت قد لفتت الانتباه إلى التطهير العرقي المتعمد للفلسطينيين، فإن هذه الأعمال غُيِّبت على نطاق واسع، في مثال كلاسيكي على "الظلم المعرفي". وعلى النقيض من ذلك، فإن الأعمال اللاحقة للباحثين الإسرائيليين والتي عرَّت الأساطير المؤسِّسة لدولة إسرائيل المستندة جزئياً إلى مواد أرشيفية إسرائيلية أُتيحت حديثاُ، جعلت مقاومة الأساطير المعتادة حول إسرائيل والفلسطينيين مقبولة على نحو أكبر لدى الباحثين الغربيين. ونتيجة ذلك، فإن الغربيين الذين ذهبوا إلى الجامعات في العقود القليلة الماضية، درسوا عن شرق أوسط مختلف عن ذاك الذي درس عنه آباؤهم وأجدادهم. ولا ينظر العديد منهم إلى إسرائيل من حيث أنها تمثل العودة المظفرة لشعب عريق إلى وطنه، بل باعتبارها مشروعاً استعمارياً استيطانياً جرَّد أصحاب الأرض الأصليين من الأرض التي ينتمون إليها.

إن العصر الذي نعيش فيه يمثل جزئياً قطيعة مع الماضي القريب. لم يسبق أن حدث شيء مماثل لهجوم "حماس" في7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في السياق الإسرائيلي - الفلسطيني، ولم يسبق أن حدث شيء بحجم الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة. وبالمثل، لم تكن التداعيات الدولية من قبل خطرة وواسعة النطاق إلى هذا الحد، بدءاً من احتجاجات الشوارع في العديد من المدن في جميع أنحاء العالم، إلى إرغام إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد تهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة لاهاي، إلى المناخ غير المستقر والمضطرب في مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة، إلى انعكاساتها على توازن القوى العالمي. لكن، وعلى الرغم من الطابع المفاجئ للأمور وخطورتها والشعور العام بأننا دخلنا حقبة جديدة بصورة أساسية، فإن هذه اللحظة لها جذور واضحة في ماضينا القريب. لقد جادلنا بأن الازدواجية التي تميز عصرنا الحالي والتضامن مع فلسطين الذي يتجلى على نحو متزايد في "الشارع" الغربي، يتواصلان مع الاتجاهات التي ازدادت في أوساط الغرب على مدى العقدين الماضيين. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى اللحظة الثقافية الحالية في الغرب فيما يتعلق بفلسطين على أنها تضخيم مفاجئ للاتجاهات الموجودة مسبقاً والتي كانت تنمو ببطء وإنما بثبات.

 

[1] حسب الدكتور لاربي شويخة، انظر: "’الشارع العربي‘ مصطلح علمي!"، جريدة "الأخبار" ، 17/11/2006.

[2] Terry Regier and Muhammad Ali Khalidi, “The Arab Street: Tracking a Political Metaphor,” Middle East Journal, vol. 63, no. 1 (Winter 2009), pp. 11-29.

[3] Tony Karon and Daniel Levy, “Israel is Losing this War,” The Nation, December 8, 2023.

[4] Yasmeen Serhan, "The American Public’s Views on Israel Are Undergoing a Profound Shift. Washington Hasn’t Caught Up,” Time, July 19, 2023.

[5] Areeb Ullah, Tens of thousands attend largest pro-Palestine march in British historyMiddle East Eye, May 22, 2021.

[6] Google storage.

[7] Terry Regier, “Perceptions of Palestine: The View from Large Linguistic Datasets,” Journal of Palestine Studies, vol. xlv, no. 2 (Winter 2016), pp. 41-54.

[8] “Cross-Tabs: December 2023 Times/Siena Poll of Registered Voters Naionwide”. The New York Times, December 19, 2023.

[9]  Jewish Electorate Institute: National Survey of Jewish Voters, June 28 – July 1, 2021.

[10] Noura Erakat, Marc Lamont Hill, “Black-Palestinian Transnational Solidarity: Renewals, Returns, and Practice,” Journal of Palestine Studies, vol. xlviii, no. 4 (Summer 2019).

[11] انظر: حملة "التبادل المميت" لمنظمة الصوت اليهودي من أجل السلام. “Deadly Exchange”.

[12] Marion Kawas, “Solidarity between Palestinians and Indigenous Activists has Deep Roots,” The Palestine Chronicle, February 18, 2020.

[13] Jonah Owen Lamb, “Indigenous sunrise gathering on Alcatraz links Native American struggles and the Palestinian story,” The San Francisco Standard, November 23, 2023.

[14] Adam Rouhana, “The Subversive Act of Photographing Palestinian Life,” New York Times, January 19, 2024.

[15] “Journalist casualties in the Israel-Gaza war,” CPJ, March 21, 2024.

[16] Ilan Pape, “Fifty Years Through the Eyes of 'New Historians' in Israel” MERIP, (Summer 1998).

1
عن المؤلف: 

تيري ريجير: هو أستاذ اللغويات في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. يقوم بالتدريس والنشر في المقام الأول حول العلاقة بين اللغة والإدراك، كما كتب أيضًا عن اللغة السياسية في سياق قضية فلسطين والعالم العربي بشكل عام.

محمد علي الخالدي: يشغل منصب استاذ رئاسي في الفلسفة في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيو يورك، وقد اجرى ابحاثاً حول الجوانب الفلسفية للقضية الفلسطينية، بما في ذلك حقوق اللاجئين، حق تقرير المصير، واخلاقية الحرب. وهو عضو مجلس امناء المؤسسة ورئيس لجنة الابحاث فيها.