شهادات أطفال نازحين
التاريخ: 
11/03/2024
المؤلف: 

حبيبة أبو معيلق/8 سنوات،

نازحة من مخيم المغازي

تدوّن حبيبة قصصها على دفتر المدرسة، فترسم وتكتب رسائلها إلى صديقاتها، منتظرة، ككل المدينة، انتهاء الحرب لتعود إلى حياتها ومدرستها وأصدقائها.

 

 

ترسم حبيبة شخصيتها المتخيَلة، وتطلق عليها اسم "فيروز"؛ فتفتح فيروز ذراعَيها لتحتضن الحياة بأكملها، وتضع على رأسها التاج مبتسمة وهي تركض إلى حضن أمها.

تقول حبيبة: "كنت بجري على ماما وأنا جاية من المدرسة، جايبة علامة كاملة في الامتحان، وماما انبسطت عليّا كثير، هادا اليوم أجمل يوم عندي، رسمت، غنيت، قعدت، لعبت، مشتاقة لمعلمتي، ومديرتي وصحباتي سوار ورهف."

 

 

سوار أبو غزال هي صديقة حبيبة في المدرسة، وجارتها في السكن. تقول حبيبة: "سوار صاحبتي، ما بعرف وين هي! بيتهم مدمر، شفت لعبة من ألعابها وشنطة المدرسة تبعيتها. بكيت بس شفتهم، وندمت، عشان صاحبتي المفضلة، وهي أكثر حاجة غالية في الحياة، كنا ندرس مع بعضنا خاصة بس تحكي المعلمة تشارك بين الأصحاب، نلعب مع بعض، نروح مع بعض’نعود إلى منازلنا سوياً‘، ونشتري شيبس جبنة. من فترة وهي بعيدة عني. اشتقت للمدرسة عشان أشوفها، بس إذا كانت ماتت في الحرب، الله يرحمها."

لا تعرف حبيبة أي خبر عن صديقتها سوار من بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، إنما كل ما تعرفه هو ركام منزلها، فقد انقطع التواصل في أثناء العدوان.

وتواصل حبيبة البحث تحت ركام بيت صديقتها، لعلها تجد أصدقاءها، أو بقايا ذكرياتهن، فتجد زي المدرسة الخاص بصديقتها رهف. وفي هذا الصدد، تقول حبيبة:

"لقيت مريولها تحت الردم، فغسلته، وعلقته في الخزانة، واحتفظت فيه. رهف كانت كل ما نلعب أصالحها لو الكل حاربها، وكل يوم ننزل نلعب في أغراضها.

كنا نرسم ونلعب أنا وياها، وعملنا أشياء كثير؛ في رسمة محتفظة فيها عندي، رسمة ونحن ماسكين إيدينا، رهف بالصف الثاني وأنا بالصف الثالث - أكبر منها - بس بحبها كثير. هي بتحبني وأنا بحبها أكثر من حبها إلي، ولسه بحبها.

لقيت ألعابها، فضليت أحفر في الردم لحد ما لقيت مريولها وكتابها في المدرسة. ولقيت كروسة العروس ’لعبة رهف‘ يلي أبوها جايبها قبل بيوم من الحرب."

تشعر حبيبة بالندم، وفي السؤال عن سبب شعورها بذلك، تقول:

"ندمانة على اللي صار فيها. كل ما بعمل حاجة بتروح؛ عملت في البيت دفتر، فرسمت وكتبت فيه قصة حياة حبيبة، وراحت، وهَيْ رجعت أكتب قصة حياة حبيبة. يارب ما تروح، بس بالآخر كله بروح."

تضرر بيت حبيبة الواقع في حي المغازي، لتفقد في الثامنة من عمرها، غرفتها المفضلة؛ ألعابها، وملابسها، وأصدقائها. إن هذه الطفلة تتعلم معنى الفقد في عمر يصنع فيه الطفل ذكرياته، لتدرك معنى آخر للحياة؛ "بس بالآخر، كله بروح."! 

سوار بسيوني/13 سنة،

نازحة من شمال غزة

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تستيقظ سوار صباحاً للذهاب إلى المدرسة، وقبل أن تكمل تحضير حقيبتها المدرسية، كان عليها أن تفكر في تحضير حقيبة النزوح؛ فمفهوم "الحقيبة" لا يعني أن تحمل كتبك الصفّية ودفاتر الواجبات المدرسية.

تقول سوار: "أول يوم قضيناه في البيت، ما قدرنا نطلع والقصف شغال في كل مكان، وثاني يوم طلعنا الساعة ثمانية الصبح، ووصلنا منطقة الزرقة، فارتحنا شوية، وبعدها رحنا ’توجهنا‘ على جباليا، وبعدها على المدرسة."

 سوار التي كانت من المفترض أن تذهب إلى مدرستها بحقيبة تحمل الكتب والدفاتر، وكراسة الرسم والألوان، تذهب مع أسرتها إلى مدرسة غير مدرستها، وتحمل حقيبة النزوح؛ فيها قطعة ملابس، وطعام يسندها في أثناء الطريق!

 سوار: "بعد ستة أيام وصلنا المدرسة في شيخ رضوان."

لم تكن الشيخ رضوان أكثر أماناً من جباليا، وحتى إن كنتَ نازحاً في المدرسة، والتي تُعرف عند الاحتلال بـ "مراكز إيواء"، علماً بأن المدارس لا تحمل مقومات استيعاب العائلات النازحة، وهي غير مخصصة لأن تكون ملاجئ آمنة!

استمر القصف الجنوني على شمال قطاع غزة، وفي تلك الأثناء، أرسل جيش الاحتلال الإسرائيلي رسائل إلى المواطنين المدنيين بضرورة توجههم إلى جنوب وادي قطاع غزة، وأجبرهم على النزوح.

 تقول سوار: "في العصر رحنا على الجنوب في موكب كبير، وكان في قبلنا ثلاث سيارات. قصفوا السيارات قدامنا، ورحنا على شارع، فقصفوا الشارع، وجنبنا بناية، قصفوها.

أبويا وقتها تصاوب وأمي قالت ’أبوكِ مات‘، فحكتلها ’بدي أموت معه‘، فطلعت عليه أجري جراي، ولقيته عايش وبتنفس، فسحبته من الرصيف ودخلته في الحاصل يلي كنا متحامين فيه.

وبعد ما سحبته، قصفوا كمان مرة، فمات يلي جنبه، وشردنا، يعني لو تأخرت دقيقة كان هو كمان مات. ضليت ألفّ شال والحافات على الجرحى، ويلي مات أغطيه بأي إشي."

كان طريق سوار مليء بالجرحى والموتى جرّاء القصف المستمر على قطاع غزة، وسوار، التي تبلغ الثالثة عشرة من عمرها، تصبح المنقذة، فتسعف والدها والجرحى في الطريق. وكان من الممكن أن تكون في حصة العلوم تدرس وظائف الجهاز التنفسي، لكن الحياة وهبتها درساً آخر تتعلم فيه كيف تكون نَفَسَ عائلتها لتنجو بهم نحو الجنوب الذي يدّعي الاحتلال أنه آمن.

وتكمل سوار طريق النزوح قائلة: "مشينا على القزاز ونحن حافين وماما حافية، لحد ما وصلنا المدرسة في الجنوب.

 طلعنا من صلاح الدين لهان ’دير البلح‘ مشي، ورفعنا الهواية، واليهود قدامنا، والجثث حولينا مقطعين، وما بنقدر نطلع يمين وشمال، بس ماشيين."

 هل تعرف سوار المسافة التي يجب عليها أن تقطعها مع عائلتها لتنجو من حرب الإبادة الجماعية؟

"بس ماشين."

 

ألما عابد/7 أشهر،

نازحة من قطاع غزة

 

 

صغيرتنا ألما،

 حبيبتي الصغيرة،

أكتب إليك الآن ونحن نبعد عن بعضنا مسافة 20 دقيقة في السيارة، مع مراعاة زحمة السير العادية في أيام لا حرب فيها، وعن مسافة حرب كاملة تطول فيها المسافة لوقف إطلاق نار أو هدنة! صغيرتنا الجميلة، نعدّ أصابعك الصغيرة الناعمة ونقبّلها في كل مرة نراكِ فيها بخير. كنتِ تذهليننا بكل شيء تفعلينه، كقدرتك على استفزاز ماما هبة، والبكاء المستمر من دون توقُف، وأكثر شيء يذهلنا سرعة استيقاظك من النوم، وكنا نحن نتحمل مسؤولية استيقاظك. ونعدك أن نتحملها دوماً إذا ما سربت إلينا ابتسامتك الخبيثة بعد وصلة البكاء، ليتسرب معها أمل نتعلق به وسط المشانق المعلقة لنا. أتعرفين يا صغيرتنا الجميلة كم انتظرنا حضورك؟ ذلك اليوم الذي أخبرتنا ماما فيه أنها حامل بك؛ حينها حملتنا الدنيا معها نحو سحابات من الأحلام، وقمنا باجتماعات صغيرة للبحث عن اسم لك، لأتذكر أغنية فيروزة "أسامينا... شو تعبوا أهالينا"؛ فكان والداك يومياً يبحثان عن اسم لك، فنأتي بقائمة من الأسماء مع معنى كل اسم، ليتم التصويت بيننا على أفضل اسم لك. أمّا أنت، فتركتِنا نبحث عن فلسفة الأسماء، ووقع المعنى على الصفات، واخترتِ أن تكوني ألما دوناً عن كل الأسماء المقترحة؛ أيلول، إيلياء، إيلين، إيلا، لمى... حينها، وعدتْك أمك بحياة جميلة، كونك الأميرة المنتظرة بعد أربعة أولاد. وكان صديقنا زياد يأتي بِـبكل الشعر لك، وكنا نتخيل شعرك الناعم يغطي جبينك، واشترت صديقتنا فداء أول حذاء لك، واخترنا ملابسك، وحضّرنا قائمة الأغاني لحضورك، ووضعنا أول لعبة على سريرك لتحرس أحلامك القادمة معك، ثم انتظرنا بكل شوق حضورك. وطوال مدة الانتظار تخيلنا شكلك وملامحك ووضعنا كثيراً من التوقعات. وحين تواصل معي والدك في 16 آب/أغسطس ليخبرني بحضورك! فأتيت كنسمة باردة، وأتى ربيع من العمر تحملينه إلى والدَيك بين يديك. كنت أرى كيف يعدك صديقنا عائد بأن يكون أفضل الآباء، بينما تحملك أمك هبة بين ذراعيها كأن قلبها بين يديها. أمّا بالنسبة إلينا، وهنا أقصد نحن الأصدقاء؛ زياد، وأحمد "أبو عاصم"، وفداء، وغسان، فأنت أول بنات مدينتنا، فنتصارع على حملك، وتتسارع دقات قلبنا حين تناغين لنا. كانت ماما هبة تُحضر إليك حياة كاملة من السعادة، وتخطط لمستقبلك وكأنها لم تنجب من قبل، وكنا نتخيل حاضرك ومستقبلك. والآن يا صغيرتنا المفضلة، تكبرين في الحرب، ولا أعرف إن كنت تعرفين معنى الحرب! لكن هذه فترة نموك التي كنا في انتظارها أصبحت مسافة وقف إطلاق نار! تكبرين بين خوف أمك وبحث أبيك عن الأمان. حرب واحدة كانت قادرة على قلب حياتنا، وفي عالم وردي وضعناك فيه، ليلة واحدة كانت قد سرقت منا كل الألوان، لتشعر أمك بذنب أنها أنجبتك في دنيا غير آمنة، فتسأل نفسها إن كانت أنانية إلى درجة أنها أحضرتك إلى الدنيا لحبها لك! صغيرتنا المفضلة ألما، نحن لن نعطيك وعوداً بعد الآن، لكن يكفي أن تكبري فوق دمار مدينتنا لتطل علينا كزهر الرمان، ونحن سنظل محاولين أن نكون حولك كعوسج البلاد، وإن كانت المسافة بيننا حرباً ووقف إطلاق نار.

عن المؤلف: 

بيسان نتيل: كاتبة وشاعرة من غزة.

A man picks up a Lebanese flag from the rubble after an Israeli airstrike on an apartment block, on October 3, 2024 in Beirut, Lebanon. (Photo by Carl Court/Getty Images)
مايا ك.