آثار العدوان الإسرائيلي في الأمن الغذائي في قطاع غزة
تأليف: 
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
عدد الصفحات: 
12

مقدمة

جاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ليعمق الأزمة الإنسانية بفعل الحصار المفروض عليه منذ سنة 2007، إذ أدى إلى استشهاد وجرح آلاف البشر، وتدمير وحشي للبنية التحتية، وتراجع غير مسبوق في مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي لكل السكان، ليصبحوا مهددين بالجوع. ومن هنا، فإن هذه الورقة ستركز على تأثيرات العدوان الإسرائيلي في الأمن الغذائي في قطاع غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وتستند الورقة إلى التعريف الذي حدده مؤتمر القمة العالمي للأغذية، والذي عُقد في روما سنة 1996، والمعتمَد دولياً للأمن الغذائي، وهو: "يتحقق الأمن الغذائي عندما يتمتع جميع الناس، في جميع الأوقات، بإمكان الوصول المادي والاقتصادي إلى أغذية كافية وآمنة ومغذية تلبي حاجاتهم التغذوية وأفضلياتهم الغذائية من أجل حياة نشيطة وصحية."[1]  وتستند الورقة في تحليل واقع الأمن الغذائي في قطاع غزة إلى تحليل الأبعاد الأربعة للأمن الغذائي التي تم تحديدها لتندرج تحت هذا التعريف، وهي: توفُر الغذاء، وإمكان الوصول إلى الغذاء، واستخدام الغذاء، واستقرار الغذاء، وسنتطرق إليها لاحقاً بشيء من التفصيل بشأن واقعها في قطاع غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

لقد عانى قطاع غزة جرّاء تدني مستويات المعيشة وارتفاع معدل انعدام الأمن الغذائي بفعل الحصار المفروض عليه منذ سنة 2007؛ إذ بلغ معدل انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة، في سنة 2020، 63% من السكان.[2]  وقد وقفت عدة عوامل وراء انعدام الأمن الغذائي، منها انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بسبب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، حيث بلغت نسبة الفقر في قطاع غزة 67.7%، في سنة 2017، ونسبة الفقر المدقع 33.8%،[3]  وبلغ معدل البطالة 46% في الربع الأول من سنة 2023،[4]  وضمنها أيضاً تأتي القدرة المحدودة على إنتاج الغذاء وتخزينه نتيجة التدمير المتكرر للأراضي والمنشآت الزراعية والبنية الأساسية للمياه والطاقة، والتي نتجت من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، وما تبعها من قيود على إعادة الإعمار وإصلاح الأضرار، بالإضافة إلى القيود التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على صيد الأسماك، وعلى الوصول إلى الأراضي الزراعية، وإلى مدخلات الإنتاج ومصادر المياه، وهو ما جعل فلسطين تعتمد على الأسواق الإسرائيلية والدولية، إذ تستورد 91% من القمح و95% من الزيوت النباتية من حاجتها للاستهلاك المحلي.[5]  

معدلات خطِرة لانعدام الأمن الغذائي ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023

نتيجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وصل انعدام الأمن الغذائي هناك إلى معدلات خطِرة وغير مسبوقة، وبدأت تظهر مظاهر انتشار المجاعة في بعض المناطق، وخصوصاً في مناطق الشمال، فبحسب تقديرات مجموعة الشركاء العالميين للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي،[6]  فقد تم تصنيف جميع سكان قطاع غزة (نحو 2.2 مليون شخص) في المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل (مرحلة الأزمة أو ما هو أسوأ) في الفترة 8 كانون الأول/ديسمبر 2023 - 7 شباط/فبراير 2024. وهذه هي أعلى نسبة من الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد التي صنفتها مبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي على الإطلاق في أي منطقة أو بلد، ومن هؤلاء، يعيش نحو 50% من السكان (1.17 مليون شخص) في حالة طوارئ (المرحلة الرابعة من التصنيف)، وتواجه واحدة، على الأقل، من كل أربع أُسر (أكثر من نصف مليون شخص) أوضاعاً كارثية (المرحلة الخامسة من التصنيف: الكارثة)، وهي الأُسر التي تعاني جرّاء نقص شديد في الغذاء، والجوع، واستنفاد قدرات التكيف. وعلى الرغم من أن مستويات سوء التغذية الحاد والوفيات غير المرتبطة بالصدمات ربما لم تتجاوز بعد عتبات المجاعة، فإن هذه عادة ما تكون نتاج فجوات طويلة وشديدة في استهلاك الغذاء. ويشكل الضعف التغذوي المتزايد لدى الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات وكبار السن مصدراً للقلق بصورة خاصة.[7] 

ونتيجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد برزت مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذه الزيادة الكبيرة في مستويات انعدام الأمن الغذائي، وهي:

أولاً، انقطاع توزيع المواد الغذائية نتيجة توقف تدفق السلع التجارية، ونقص الوقود، وتضرر البنية التحتية.

ثانياً، انخفاض فرص الحصول على الغذاء بسبب محدودية الإمدادات وارتفاع الأسعار وتعطُل سبل العيش؛ فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار دقيق القمح بنسبة 50% منذ بداية الصراع، بينما ارتفعت أسعار الخضروات بنسبة 200%، والوقود بأكثر من 500%، وتوقفت مطاحن الدقيق الخمس في غزة عن العمل بسبب نقص الوقود.

ثالثاً، عدم الاستقرار الاقتصادي وتزايُد الفقر، فمع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما رافقه من نزوح لنسبة عالية من السكان، وتعطُل لسبل العيش، تضاءلت القوة الشرائية للأُسر بصورة كبيرة، ومع انزلاق مزيد من الأُسر إلى الفقر واستمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فإن كثيراً من السكان غير قادرين على تحمُل تكاليف الغذاء القليل المتوفر في الأسواق.

رابعاً، محدودية تدفقات المساعدات الإنسانية بسبب القيود المفروضة على معابر قطاع غزة.

خامساً، عدم الحصول على خدمات الرعاية الصحية؛ فمع تدمير النظام الصحي في غزة، والنقص الحاد في الإمدادات الطبية والأضرار الواسعة النطاق التي لحقت بالمستشفيات والعيادات، وبالتالي عدم قدرة الناس على الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية لعلاج الإصابة أو المرض، تأثرت قدرة الناس على الاستخدام الفعال للأغذية المستهلكة.[8]  ويمكن إضافة عامل آخر مرتبط بقطع إمدادات المياه عن قطاع غزة، والذي كان له أثره الكبير في انعدام الأمن الغذائي لدى النسبة الأكبر من السكان.

وفي الأجزاء اللاحقة، تتناول الورقة، بالتحليل، مكونات الأمن الغذائي الأربعة، للوقوف على تأثيرات العدوان الإسرائيلي في كل منها بشيء من التفصيل، والتي كان لها أثرها في وصول مستويات انعدام الأمن الغذائي إلى الدرجة التي عرضناها أعلاه.

توفر الغذاء

يُقصد بتوفر الغذاء توفر كميات كافية من الغذاء ذي الجودة الملائمة، وذلك عن طريق الإنتاج المحلي أو الاستيراد (بما في ذلك المساعدات الغذائية). ويقاس توفر الغذاء عبر مجموعة من المؤشرات التي تدلل عليه، وهي الإنتاج، والأغذية البرّية، واحتياط الغذاء، والأسواق، والنقل. وقد تأثرت هذه المؤشرات كلها سلباً بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وفقاً للمراجعة الاستراتيجية للأمن الغذائي في فلسطين، والتي صدرت عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) سنة 2017، فإن انعدام الأمن الغذائي في فلسطين كان يرتبط، في المقام الأول، بعدم القدرة الاقتصادية على الوصول إلى الغذاء الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقر، على الرغم من أن عدم كفاية الإمدادات الغذائية وعدم استقرارها يمكن أن يشكل أيضاً خطراً كبيراً في أوقات معينة بسبب آثار الاحتلال الإسرائيلي والحصار المفروض على قطاع غزة والقيود على الحركة، ففي معظم الأحيان، تتمتع الأسواق بالقدرة على تلبية الطلب على الغذاء، أي أن هناك درجة من الأمن الغذائي الوطني على المستوى الكلي (أي على مستوى توفر الغذاء) مقارنة بانعدام الأمن الغذائي الأُسري الواضح على المستوى الجزئي، والذي يرتبط بالقيود المفروضة على الوصول إلى الغذاء باعتباره مجموعة فرعية من فقر الاستهلاك.[9] 

لم يعد هذا واقع الحال بعد بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إذ إن عدم توفر الإمدادات الغذائية الكافية لقطاع غزة، وتعطُل الإنتاج الزراعي المحلي، أصبحا عاملَين أساسيَين في وصول حالة انعدام الأمن الغذائي إلى درجة غير مسبوقة، وليصبح جميع المواطنين، تقريباً، في قطاع غزة يعانون جرّاء انعدام الأمن الغذائي. فبحسب الأونروا، فإن طُرُق الإمداد (المعابر) لا تزال غير مستقرة، وتشهد تذبذباً في عدد شاحنات المساعدات التي تدخل يومياً بسبب القيود الأمنية والإغلاقات المتكررة. وقد شهد شهر شباط/فبراير 2024 دخول قليل من المساعدات قطاع غزة، إذ دخل ما يقارب 98 شاحنة يومياً في المتوسط، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 50% في الإمدادات التي تدخل غزة مقارنة بشهر كانون الثاني/يناير 2024. ولا يزال عدد الشاحنات التي تدخل غزة أقل كثيراً من الهدف المحدد، وهو 500 شاحنة في اليوم.[10]  

ومع تراجُع الإنتاج الزراعي، فإن العدد المطلوب للشاحنات التي يجب أن تدخل قطاع غزة يمكن أن يتجاوز الهدف المحدد من جانب الجهات ذات العلاقة، إذ إن 500 شاحنة يومياً كان العدد الذي يدخل القطاع قبل بداية العدوان الحالي، ومع انهيار النشاطات الزراعية، سواء المتعلقة بتربية الثروة الحيوانية أم بإنتاج المحاصيل الزراعية، وتوقف صيد الأسماك بعد تدمير ميناء الصيد، وما رافق ذلك من توقف للصناعات الغذائية، فإن المطلوب هو عدد أكبر من الشاحنات اللازمة للإيفاء بحاجات المواطنين.

وبحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، فقد لحق بالمنشآت الزراعية، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كثير من الأضرار، إذ دمر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حتى 15 شباط/فبراير 2024، 42.6% من إجمالي الأراضي الزراعية، و26.6% من أراضي الدفيئات الزراعية، ولحق الدمار بالمنشآت الزراعية على اختلاف أنواعها، كما هو مبيَن في الجدول أدناه:[11] 

 

نوع المنشأة الزراعية

عدد المنشآت المدمرة لغاية 15 شباط/فبراير 2024

نوع المنشأة الزراعية

عدد المنشآت المدمرة لغاية 15 شباط/فبراير 2024

بئر زراعي

626

مزارع دجاج لاحم

235

برك زراعية

47

مزارع أغنام

203

حظائر منزلية

307

مزارع أرانب

11

مستودعات زراعية

100

مزارع ألبان

26

مخازن زراعية

46

مزارع حبش

7

ميناء صيد

1

مزارع ماشية

5

مأوى حيوانات

119

مزارع حمام وطيور أُخرى

42

موردون زراعيون

7

 

 

 

القدرة على الوصول إلى الغذاء

يُقصد بالقدرة على الوصول إلى الغذاء تمتُع الأفراد بإمكان الوصول إلى الموارد الكافية للحصول على الغذاء المناسب لنظام غذائي صحي. وتُقاس القدرة على الوصول إلى الغذاء عبر عدد من المؤشرات، وهي القدرة على الوصول مادياً، ومالياً، واجتماعياً، وقد تأثرت هذه المؤشرات جميعها سلباً بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؛ فعلى الصعيد المادي، حالت عمليات القصف المتواصلة دون قدرة الناس على الوصول إلى الأسواق والمزارع، وصيد الأسماك. ومن ناحية الوصول اجتماعياً، والذي يعني قدرة الناس على الوصول إلى الأغذية عبر الشبكات الاجتماعية، فقد تراجعت بصورة كبيرة في قطاع غزة، وهذا بسبب أن جميع الأُسر أصبحت في حاجة إلى المساعدات الغذائية.

وكان الأكثر تأثُّراً هو مؤشر القدرة على الوصول إلى الغذاء مالياً، إذ أدى العدوان إلى إضعاف القدرة الاقتصادية لدى الأُسر على الوصول إلى الغذاء، إذ فَقَدَ معظم الأُسر مصادر دخلهم وسبل عيشهم، بما في ذلك العاملون في سوق العمل الإسرائيلي، والصيادون، ونسبة عالية من المزارعين، والذين لحقت بمنشآتهم وأعمالهم الزراعية أضرار كبيرة نتيجة العدوان. ووفقاً لتقديرات اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنه من المتوقع أن يرتفع معدل الفقر بصورة حادة، بنسبة تتراوح بين 20% و45%، وذلك اعتماداً على مدة الحرب.[12] 

وبما أن هذه كانت هي التقديرات حتى 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ومع استمرار العدوان إلى غاية اليوم، فإنه من المتوقع أن نسبة الفقر قد ازدادت بالحد الأعلى من هذه التقديرات، وهو ما يعني تجاوُز معدلات الفقر حاجز 90% من السكان. ويدلل على ذلك انخفاض إجمالي الاستهلاك في قطاع غزة، إذ تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى انخفاضه بنسبة 80% خلال الربع الرابع من سنة 2023 مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2022، وهو ما زاد من معدلات الفقر فيه بصورة غير مسبوقة. وقد ترافق هذا مع ارتفاع حاد في معدلات البطالة في قطاع غزة لتتجاوز 74% خلال الربع الرابع لسنة 2023، بعد أن كانت 45% في الربع الثالث للسنة نفسها، كما ترافق أيضاً مع ارتفاع الأسعار، إذ أدى العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة إلى ارتفاع الأسعار فيه بنسبة تجاوزت 30% خلال الربع الرابع لسنة 2023.[13] 

وبهذا، فإن القدرة على الوصول إلى الغذاء، كأحد مكونات الأمن الغذائي، قد تراجعت كثيراً، وهو ما يعني وقوع نسبة كبيرة من المواطنين في تصنيف انعدام الأمن الغذائي.

استخدام الغذاء (استفادة الأُسر المعيشية من الغذاء)

يُقصد باستخدام الغذاء الاستفادة منه عبر نظام غذائي مناسب، والمياه النظيفة، والصرف الصحي، والرعاية الصحية للوصول إلى حالة من الرفاه الغذائي، حيث تتم تلبية جميع الحاجات الفسيولوجية، وهذا يسلط الضوء على أهمية المدخلات غير الغذائية في تحقيق الأمن الغذائي. ويُقاس استخدام الغذاء بمجموعة من المؤشرات، وهي: التفضيلات الغذائية، وتحضير الغذاء، وممارسات التغذية، وتخزين الغذاء، وسلامة الغذاء، وإمكان الوصول إلى المياه. وقد تأثرت كل هذه المؤشرات سلباً نتيجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

لم يعد في إمكان الأُسر في قطاع غزة اتّباع حمية غذائية مفضلة لديها بسبب شح المواد الغذائية، إنما أصبحت مكرهة على استهلاك ما هو متوفر من الغذاء. ولم يعد تحضير الغذاء، وخصوصاً الوجبات الساخنة، متوفراً بصورة واسعة في قطاع غزة، نظراً إلى توقف إمدادات الطاقة، بما في ذلك عدم القدرة على الوصول إلى أخشاب الأشجار، فتضطر الأُسر إلى تناوُل ما هو متوفر من الغذاء البارد، كالمعلبات وغيرها. وفيما يخص ممارسات التغذية، فإنه بسبب النقص في كميات الدقيق، اضطر المواطنون، وخصوصاً في شمال قطاع غزة، إلى استخدام أعلاف الحيوانات لصناعة الخبز، بما تحمله من مخاطر صحية، وخصوصاً لدى الأطفال.

وفيما يخص التخزين، فإن تدمير المنشآت، وانقطاع الكهرباء عن القطاع، عطّل إمكان تخزين الأغذية، ليعتمد الناس في غذائهم على ما يتوفر لهم يومياً، وقد انعكس هذا في سلامة الغذاء، إذ إن انقطاع إمدادات الكهرباء كان له أثره في سلامة الأغذية المتوفرة نتيجة عدم القدرة على التخزين السليم. أمّا بالنسبة إلى إمكان الوصول إلى المياه، فإنه كان المؤشر الأكثر تراجعاً، إذ أوقف الاحتلال الإسرائيلي إمدادات المياه إلى قطاع غزة بالكامل. وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد تراجعت حصة الفرد من المياه إلى أقل من لترَين يومياً، في مقابل 150 لتراً يومياً هو الحد الأدنى الموصى به من منظمة الصحة العالمية،[14]  وهذا له انعكاسات صحية خطِرة، سواء من حيث الاستهلاك الصحي للمياه، أم من حيث توفر المياه اللازمة للنظافة، وهو ما ينعكس في انتشار الأمراض والأوبئة.

بصورة عامة، أدت الاستخدامات غير الصحية للغذاء بعد بداية العدوان على قطاع غزة، وتراجع مدى استفادة الأُسر المعيشية من الغذاء، إلى تعمق حالة انعدام الأمن الغذائي، ليصل إلى الدرجة غير المسبوقة التي تطرّقنا إليها سابقاً.

استقرار الغذاء

يُقصد باستقرار الغذاء أنه كي يكون الغذاء آمناً، فيجب أن يحصل السكان أو الأُسرة أو الفرد على ما يكفي من الغذاء في جميع الأوقات، ولا ينبغي لهم أن يخاطروا بفقدان إمكان الحصول عليه نتيجة الصدمات المفاجئة، سواء أكانت كوارث طبيعية أم أزمات اقتصادية أم نزاعات. ولذلك، فإن مفهوم الاستقرار يمكن أن يشير إلى بُعدَي توافر الغذاء وإمكان الوصول إليه، أي أن استقرار الغذاء يشمل الأبعاد الثلاثة السابقة، والتي تأثرت جميعها سلباً بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وقد أدى العدوان إلى تراجُع الإنتاج الغذائي المحلي في قطاع غزة بصورة كبيرة، وتوقفت نشاطات صيد الأسماك، وأدت التقييدات على المعابر الواصلة إلى القطاع إلى انقطاع إمدادات الغذاء الكافية لسد حاجات السكان. وترافقت هذه الأمور مع تراجع القدرة الاقتصادية للسكان على الوصول إلى الغذاء، إذ ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وارتفعت الأسعار، بالتوازي مع محدودية إمكان وصول المساعدات. ومع انقطاع إمدادات المياه والطاقة، وتدمير البنية التحتية، فقد تراجعت مؤشرات قدرة الأُسر الفلسطينية في قطاع غزة على الاستفادة من الغذاء، وبهذا، فإن استقرار الغذاء لم يعد متوفراً.

وبحسب تقديرات مجموعة الشركاء العالميين للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، فإن جميع الأُسر في قطاع غزة تقريباً تتخطى وجبات الطعام يومياً؛ فمن مجموع كل خمس أُسر، في المحافظات الشمالية، توجد أربع أُسر، بالإضافة إلى نصف الأسر النازحة في المحافظات الجنوبية، يقضي أفرادها أياماً ولياليَ كاملة من دون تناوُل الطعام، ويعاني العديد من البالغين جرّاء الجوع كي يتمكنوا من إطعام أطفالهم. وقد أصبحت الآن المساعدات الغذائية الإنسانية، التي كانت تدعم أكثر من ثلثَي السكان قبل تصاعُد العدوان، غير كافية مطلقاً لتغطية الحاجات المتزايدة بسرعة، والتي تهدد الحياة، كما أن كميات السلع، بما في ذلك المواد الغذائية المسموح بدخولها القطاع، غير كافية إلى حد كبير، وفي معظم الأيام، لا تصل إلاّ إلى جزء من سكان محافظة رفح. أمّا في المحافظات الشمالية، وكذلك دير البلح وأجزاء من خان يونس، فيمنع العدوان المستمر أو الحصار الجزئي نسبة كبيرة من السكان من الوصول إلى المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية (الغذاء والمياه والصرف الصحي والرعاية الصحية).[15] 

خاتمة

لقد أدت المساعدات الإنسانية، وحتى الآن، دوراً مهماً في الحد من انتشار انعدام الأمن الغذائي والجوع الشديد في قطاع غزة، ومع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وصلت معدلات انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات خطِرة، بلغت حد انتشار الجوع الشديد، وبروز مظاهر المجاعة، وخصوصاً في مناطق شمال القطاع. ومع استمرار العدوان، فإنه يُتوقع أن تستمر حالة الأمن الغذائي في التردي، كنتيجة للقيود المفروضة على وصول المساعدات، وضعف قدرة الناس على الوصول إلى الغذاء، اقتصادياً وفيزيائياً، وتوقُف النشاط الاقتصادي، وخصوصاً النشاطات المرتبطة بإنتاج الغذاء، واستمرار انقطاع خدمات المياه والطاقة، وتراجُع الخدمات الصحية بصورة كبيرة. وتؤكد المؤسسات الدولية أن منع أزمة الأمن الغذائي في قطاع غزة يمكن تجنُبها عبر وقف إطلاق النار، ورفع الحصار، وإعادة تزويد قطاع غزة بإمدادات المياه والطاقة، واستعادة الخدمات الأساسية، وخصوصاً الصحية.

ومن هنا، فإن التعامل مع خطورة حالة انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة تتطلب استراتيجيات متعددة من حيث المدى الزمني؛ فعلى المدى الآني (القصير)، ولتفادي انتشار المجاعة ومنع الوفيات الناتجة منها، فإنه لا بديل من توفير المساعدات الإنسانية، وخصوصاً الغذائية منها، وتوفير المياه، لمواجهة انعدام الأمن الغذائي وخطر المجاعة. ولهذا، فلا بد من تضافر الجهود الفلسطينية والدولية للضغط على الجهات ذات العلاقة للسماح بوصول المساعدات الكافية إلى مختلف مناطق قطاع غزة. إن الإرادة السياسية القوية للسماح بوصول المساعدات الإنسانية بصورة أكبر إلى السكان المحتاجين في غزة، فضلاً عن زيادة الاستثمارات في المساعدات الغذائية، ستكون حاسمة لمنع انتشار المجاعة والوفيات. وكذلك، فإنه لا بد من القيام بمبادرات في الضفة الغربية، رسمية وشعبية، لجمع التبرعات والمساعدات الغذائية لإرسالها إلى قطاع غزة، بالتنسيق مع المؤسسات العاملة في المجال الإنساني، الدولية والمحلية، أسوة بالمبادرات التي حدثت في إثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2021.

أمّا على المدى المتوسط، فإنه لا بد من تقديم الدعم إلى قطاع الزارعة لتعزيز الإنتاج المحلي للغذاء، عبر دعم الاستثمار في البنية التحتية الزراعية، كأنظمة الري والدفيئات الزراعية والآبار الزراعية، وتزويد المزارعين بمدخلات الإنتاج الزراعي، ودعم مبادرات المشاريع الصغيرة لمساعدة الأُسر على توليد الدخل. كما لا بد من العمل على دعم إعادة بناء المنشآت الزراعية المدمَرة، وإعادة بناء ميناء الصيد، ودعم الصيادين بإعادة ترميم مراكبهم، وهو ما سيوفر مصدراً للرزق للصيادين، ويساهم في توفير الأسماك الطازجة للسوق المحلي.

أمّا على المدى الطويل، فقد أصبح من البديهي القول إن تعزيز حالة الأمن الغذائي في قطاع غزة، وفي الأرض الفلسطينية المحتلة بصورة عامة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بزوال الاحتلال؛ إذ إن تحقيق الأمن الغذائي لأي دولة هو جزء من عملية تنمية أشمل، ترتبط بحق تقرير المصير، والحق في التنمية بما يشمله من تعزيز الرفاه الاجتماعي والنمو الاقتصادي، والسيطرة على المعابر والحدود وحرية التبادل التجاري، بما فيها السلع الغذائية، والسيطرة على الموارد الطبيعية، بما فيها الأرض والمياه والطاقة، كمقومات أساسية لإنتاج الغذاء.

وختاماً، لقد شارك العديد من الجهات الفاعلة المحلية والدولية في خدمة الأمن الغذائي في فلسطين لأعوام عديدة. وعلى الرغم من أهمية دور هذه المؤسسات في دعم الأُسر والأفراد الأكثر ضعفاً، وتوفير حاجاتهم الأساسية، فإن ما تقوم به هذه المؤسسات يبقى في إطار الأثر المحدود لموجهة انعدام الأمن الغذائي ولإخراج الأُسر والأفراد من الفقر بطريقة مستدامة. ويبقى زوال الاحتلال، وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم هو العامل الأساسي في تحسين حالة الأمن الغذائي كجزء من عملية تنموية أشمل.

 

[1] “World Food Summit: Rome Declaration on World Food Security and World Food Summit Plan of Action”, Rome: FAO, 1996.

[2]2022 Multi-Sector Needs Assessment: Key Cross-Sectoral Findings”, OCHA, 2022.

[3] "النتائج الرئيسية لمستويات المعيشة في فلسطين (الإنفاق والاستهلاك والفقر)"، رام الله - فلسطين: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2018.

[4] "النتائج الأساسية لمسح القوى العاملة للربع الأول دورة (كانون الثاني – آذار، 2023)"، رام الله - فلسطين: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2023.

[5] "الحرب على غزة: عندما يستخدم الوصول إلى المياه والطاقة والغذاء سلاحاً"، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا (إسكوا)، 2023.

[6] التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي هو عبارة عن مجموعة من الأدوات والإجراءات لتصنيف شدة وخصائص الأزمات الغذائية والتغذوية الحادة، وكذلك انعدام الأمن الغذائي المزمن بناءً على المعايير الدولية. وفقاً لهذا التصنيف، يتم تعريف انعدام الأمن الغذائي الحاد بأنه أي مظهر من مظاهر انعدام الأمن الغذائي الموجود في منطقة محددة في وقت محدد من الخطورة التي تهدد الأرواح أو سبل العيش، أو كليهما، بغض النظر عن الأسباب أو السياق أو المدة. وهو سريع التأثر بالتغيُر ويمكن أن يحدث ويظهر في مجتمع عبر فترة زمنية قصيرة، نتيجة تغيرات أو صدمات مفاجئة تؤثر سلباً في محددات انعدام الأمن الغذائي. ويشمل التصنيف 5 مراحل من الشدة؛ المرحلة الأولى (الحد الأدنى/منعدمة): الأُسر قادرة على تلبية الحاجات الغذائية وغير الغذائية الأساسية من دون الانخراط في استراتيجيات غير نمطية وغير مستدامة للحصول على الغذاء والدخل. المرحلة الثانية (الشدة): تتمتع الأسر بالحد الأدنى من الاستهلاك الغذائي الكافي، لكنها غير قادرة على تحمُل بعض النفقات الأساسية غير الغذائية من دون الانخراط في استراتيجيات التكيف مع الأزمات. المرحلة الثالثة (الأزمة): تعاني الأسر جرّاء فجوات في استهلاك الغذاء تنعكس في سوء التغذية الحاد المرتفع أو فوق المعتاد، أو تكون قادرة بصورة هامشية على تلبية الحد الأدنى من الحاجات الغذائية لكن فقط عن طريق استنفاد الأصول الأساسية لسبل العيش، أو عبر استراتيجيات التكيف مع الأزمات. المرحلة الرابعة (الطوارئ): تعاني الأسر جرّاء فجوات كبيرة في استهلاك الغذاء تنعكس في ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد والوفيات الزائدة، أو تكون قادرة على التخفيف من الفجوات الكبيرة في استهلاك الغذاء، لكن فقط عبر استخدام استراتيجيات سبل العيش في حالات الطوارئ وتصفية الأصول. المرحلة الخامسة (الكارثة/ المجاعة): تعاني الأسر جرّاء نقص شديد في الغذاء و/أو الحاجات الأساسية الأُخرى حتى بعد التوظيف الكامل لاستراتيجيات التكيف. ومستويات المجاعة والوفيات والعوز وسوء التغذية الحاد واضحة للغاية.

[7]GAZA STRIP: IPC Acute Food Insecurity│ November 2023 - February 2024”, Integrated Food Security Phase Classification (IPC), 21/12/2023.

[8] Sediqa Zaki and Sara Gustafson, “Crisis in Gaza: The Nexus of Conflict and Food Insecurity”, Food Security Portal, 19/12/2023. 

[9]“Strategic Review of Food and Nutrition Security in Palestine, 2017”, Palestine Economic Policy Research Institute (MAS), December, 2017:

 20171812120902-1-1640017281-pdf.pdf

[10] "تقرير الأونروا رقم 82 حول الوضع في قطاع غزة والضفة الغربية، التي تشمل القدس الشرقية"، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (UNRWA)، 26/2/2024.

[11]Overview of the damage to agricultural land and infrastructure due to the conflict in the Gaza Strip as of 15 February 2024”, Food and Agriculture Organization of the United Nations (FAO).

[12]Gaza war: Expected Socioeconomic Impacts on the State of Palestine- Preliminary Estimations Until 5 November 202”, ESCWA and UNDP. 

[13] "الحصاد الاقتصادي لعام 2023 والتنبؤات الاقتصادية لعام 2024"، رام الله - فلسطين: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، مؤتمر صحفي بتاريخ 30/12/2023.

[14] المصدر نفسه.

[15]GAZA STRIP…” op. cit.

 

1
عن المؤلف: 

ياسر شلبي: حاصل على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، وماجستير في الدراسات الدولية، وبكالوريوس في علم الاجتماع. يعمل باحثاً ومستشاراً مستقلاً في مجالات تنموية متعددة. عمل لدى عدة مؤسسات دولية ومحلية في مجالات الأبحاث الاجتماعية - الاقتصادية، والسياسات الاجتماعية، والتنمية، والتخطيط، وعمل كأستاذ غير متفرغ في جامعة بيرزيت في برنامج ماجستير دراسات الهجرة الدولية واللجوء، وفي دائرتَي العلوم الاجتماعية والسلوكية والفلسفة والدراسات الثقافية.