إن هدف الدولة الإسرائيلية الطويل الأمد المتمثل في إلغاء حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وهو إحدى قضايا الوضع النهائي، دفع دولة الفصل العنصري الاستعمارية الاستيطانية إلى تكثيف هجماتها على وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا. وبصفتها أكبر هيئة للمساعدات الإنسانية في غزة، كانت الأونروا بمثابة شريان الحياة للغزيين من خلال تقديم المساعدة لنحو مليوني فلسطيني منذ أن شنت إسرائيل حرب الإبادة الجماعية في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وطوال الأشهر الخمسة الماضية، استهدفت إسرائيل، على نحو منهجي، عمل الوكالة وعملياتها وقدراتها وتسليم مساعداتها وكذلك موظفيها (من خلال قتلهم أو حرمانهم من تأشيرات الدخول).[1] واليوم، أضحت الأونروا على حافة الانهيار بعد أن تعرضت لأعنف الهجمات، منذ إنشائها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 (د-4) في عام 1949، في أعقاب النكبة، عندما تعرض 750,000 فلسطيني للتطهير العرقي وصاروا لاجئين. في غضون ساعات من صدور حكم محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/ يناير 2024، والذي خلص إلى وجود ما يدعو، على نحو معقول، إلى الاعتقاد بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية، زعمت إسرائيل أن 12 موظفاً من موظفي الأونروا في غزة شاركوا في عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي الإثر، علقت 18 دولة على الفور تمويلها للوكالة، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تمثل 75% من ميزانية الأونروا البالغة 1.16 مليار دولار، أي نحو 865 مليون دولار.[2] ومع ذلك، أكد العديد من وسائل الإعلام ومصادر استخباراتية أميركية أنه لم يكن هناك أي دليل مباشر على ادعاءات إسرائيل، بعد أن فحصوا ملفاً من ست صفحات بشأن مزاعمها قدمته إسرائيل للدول المانحة للأونروا.[3]
وتتعارض عواقب قطع التمويل مع التدابير الموقتة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية، بالإضافة إلى كونها ذات تأثير كارثي في الفلسطينيين الذين يواجه أكثر من 1.2 مليون منهم حالياً الجوع والمجاعة وأوبئة تسببها أمراض معدية. وتطالب هذه التدابير إسرائيل بتمكين "توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها" للسكان المدنيين في غزة، والكف عن الأعمال التي تندرج تحت المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية،[4] بما في ذلك قتل المدنيين الفلسطينيين، وموظفي الأمم المتحدة، واستهداف قوافل المساعدات الإنسانية، وقصف منشآت الأونروا ومرافقها التي تؤوي آلاف الفلسطينيين النازحين داخلياً. علاوة على ذلك، تشير تدابير محكمة العدل الدولية إلى منع التهجير القسري، الذي صار الآن وشيكاً، نظراً إلى خطط إسرائيل لتنفيذ هجوم بري واسع النطاق على مدينة رفح التي لجأ إليها أكثر من مليون فلسطيني. ووفقاً لمدير شؤون الأونروا في غزة توم وايت، من شأن الهجوم على رفح أن يعطل تماماً قدرات الأونروا،[5] وهو ما حدث بالفعل في شمال غزة، حيث لم تسمح السلطات الإسرائيلية بدخول قوافل المساعدات لأسابيع. وبعد أسبوع من حكم محكمة العدل الدولية، حذرت مجموعة من خبراء الأمم المتحدة من أن وقف تمويل عمليات الإغاثة في غزة خلال الحرب الحالية سيكون بمثابة انتهاك لاتفاقية الإبادة الجماعية.[6]
إن قرار وقف تمويل الأونروا هو شكل من أشكال العقاب الجماعي الذي يؤثر في جميع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأمم المتحدة في مناطق عمليات الأونروا؛ هناك اليوم 5.9 مليون لاجئ فلسطيني مؤهلون للاستفادة من خدمات الأونروا، يعيش ثلثهم في 58 مخيماً للاجئين الفلسطينيين معترفاً بها في الأردن ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية المحتلة (القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة).[7] والوكالة هي أكثر من مجرد هيئة إغاثة، فهي بمثابة هيئة شبه حكومية، من حيث أنها توفر التعليم، والتدريب المهني، والخدمات الصحية، والإغاثة، وخدمات الاستجابة لحالات الطوارئ، وخطط تحسين البنية التحتية، وبرامج العمل. وإذا لم يُستأنف صرف التمويل للأونروا على الفور، فسيكون لقطع المساعدات المقدمة للوكالة تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية لا يمكن تخيلها في جميع أنحاء المنطقة، وخصوصاً في غزة، حيث وصلت الأزمة الإنسانية إلى مستويات كارثية.
التطهير العرقي من خلال الإبادة الجماعية
إن الهجمات غير المسبوقة على الأونروا هي جزء من استراتيجية إسرائيل الاستعمارية المستمرة للقضاء على الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في العودة الذي نصت عليه مختلف قرارات الأمم المتحدة، وعلى وجه التحديد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم194 . وبصفتها مشروعاً استعمارياً استيطانياً، لا تستطيع الصهيونية تحقيق طموحاتها الإقليمية والسياسية ما دام الفلسطينيون باقين على أرضهم أو متمسكين بمطالباتهم بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم التي طُردوا منها.[8] فحق العودة يهدد هدف الصهيونية الأساسي المتمثل في إنشاء دولة قومية يهودية حصرية، ويشكك في استدامة المستعمرة الاستيطانية في شكلها العرقي القومي الحالي. وقد كانت اللازمة الإسرائيلية المتكررة طوال السنوات الخمس والسبعين الماضية هي "إلغاء" حق العودة وبالتالي "حل" قضية اللاجئين.
يعيش الفلسطينيون، ولا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في "حالة استثناء" دائمة،[9] ما يعني أنهم عرضة للطرد من نطاق القانون، ومحرومون فعلياً من الحق في التمتع بأية حقوق. لقد جرى تطبيع حالة الاستثناء في فلسطين لدرجة أنها أدت إلى تطبيع العنف الاستعماري والإمبريالي الاستثنائي، وأدى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم والمبررات الأمنية الإسرائيلية[10] إلى تكثيف حالة الاستثناء المستمرة، ما سهل ارتكاب الإبادة الجماعية الحالية في ظل الإفلات من العقاب؛ مثلما تفوه وزير الزراعة الإسرائيلي آفي ديختر متباهياً بقوله إن إسرائيل بدأت بتنفيذ "نكبة غزة"، وهو يعني بذلك التطهير العرقي كجزء من عملية الإبادة الجماعية التي تمولها الإمبريالية الأميركية.[11] إن تجاهل التدابير الموقتة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية هو مظهر آخر من مظاهر حالة الاستثناء التي تتجاهل عبرها إسرائيل مرة أُخرى القواعد القانونية الدولية، وبالتالي تعلقها عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، وتؤكد السيادة الاستعمارية الصهيونية وتفرُّدها للتصرف وفق ما يخدم مصالحها بغض النظر عن الالتزامات القانونية الدولية.
ضم غزة إلى إسرائيل من خلال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي
سُربت وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية التي تتضمن خطط التطهير العرقي والتهجير القسري الجماعي للفلسطينيين من غزة إلى صحراء سيناء المصرية، بعد ستة أيام فقط من عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.[12] وبعد عشرة أيام من ذلك، أصدر معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية ورقة بحثية تشير إلى أن هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر وفر "فرصة فريدة ونادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله بالتنسيق مع الحكومة المصرية"،[13] مضيفاً أنه "من غير الواضح متى ستأتي مثل هذه الفرصة مرة أُخرى، إن أتت."[14] وتكشف هاتان الوثيقتان بوضوح عن نية التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية وعرقية ودينية وعنصرية محمية – وهو التعريف الحرفي للإبادة الجماعية. ويحمل التطهير العرقي الذي تحدثتا عنه أوجه تشابه مشؤومة مع عنف الميليشيات الصهيونية التي طردت آلاف الفلسطينيين خلال نكبة عام 1948، وقد عبر العديد من السياسيين الإسرائيليين بوضوح عن الرغبة في حدوث كارثة مماثلة؛ فقد كتب عضو الكنيست الإسرائيلي أريئيل كالنر على وسائل التواصل الاجتماعي بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر: "في الوقت الحالي، هناك هدف واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 48"،[15] في حين قال نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري: "نكبة! اطردوهم جميعاً. إذا كان المصريون يهتمون لأمرهم إلى هذا الحد، فمرحباً بهم، سنغلفهم بالسلوفان ونربطهم بشريط أخضر."[16]
إن طرد سكان غزة إلى سيناء هو جزء من الاستمرارية الاستعمارية للتوسع وقضم مزيد من الأراضي، وسيخلص إسرائيل أيضاً من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وهذا يشكل "إبادة جماعية هيكلية" تتمثل في ممارسة العنف المنهجي تجاه السكان الأصليين وسلب أملاكهم، وهو ما يتم تنفيذه باستخدام آليات تتراوح بين الإبادة الجسدية والنقل القسري، إلى سرقة الأراضي، والمحو الثقافي، وتدمير أساليب ومقومات الحياة.[17] وكان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قدمت مقترحات لإعادة توطين الفلسطينيين في سيناء المصرية، ففي الفترة 2004-2005، عشية ما يُسمى فك الارتباط الإسرائيلي بقطاع غزة، وضع الجنرال غيئورا آيلاند خطة لنقل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء المصرية لقاء إعفاء مصر من الديون، وتقديم حزم مساعدات مالية أُخرى لها، من شأنها أن تساعد في تخفيف أزمتها المالية، وكان الاقتراح، المعروف باسم خطة آيلاند، يتطلب من مصر التخلي عن سيطرتها على منطقة تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مساحة غزة و"تعويضها" بأرض في جنوب شرق إسرائيل تسمح ببناء نفق للسيارات بين مصر والأردن.[18] رفضت مصر الاقتراح، كما فعلت دول عربية أُخرى، ومع ذلك، يبدو أن النظام المصري الحالي بصدد تغيير موقفه؛ فقد أفادت تقارير بأنه يُجري محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة قروض بمليارات الدولارات لمساعدته على تجاوز أزمته الاقتصادية الأكثر حدة حتى الآن (تعمق أزمة الديون، وارتفاع التضخم، وانخفاض قيمة الجنيه المصري، وهروب رؤوس الأموال)، بينما تستعد البلاد للترحيل القسري والتهجير الجماعي لسكان غزة.[19] وتكشف صور التقطت بالأقمار الاصطناعية ومقاطع فيديو نشرتها مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان أن شركات بناء مصرية تعمل على بناء منطقة مغلقة، محاطة بجدران خرسانية بارتفاع سبعة أمتار، على طول طريق الشيخ زويد رفح في صحراء سيناء، بالقرب من غزة، كجزء من خطة منسقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل لإنشاء "منطقة عازلة" يمكن أن "تدفع" إسرائيل الفلسطينيين إليها - وبعبارة أُخرى: تطهير غزة عرقياً.[20]
دَفْعُ فلسطينيي غزة إلى شمال سيناء مطروح منذ فترة طويلة، ويعود إلى خمسينيات القرن الماضي؛ فبعد وقت قصير من إنشاء الأونروا، ضغطت الدولة الإسرائيلية على الأمم المتحدة لحل الأونروا قائلة إن الوكالة "تديم قضية اللاجئين".[21] ومضى جون بلاندفورد، المدير الثاني للأونروا في ذلك الوقت، في وضع خطط التكامل الاقتصادي للاجئين الفلسطينيين بالقرب من الحدود بين غزة ومصر، والتي تضمنت خططاً لإعادة التوطين، وبرامجاً للتنمية الزراعية في سيناء.[22] ورداً على ذلك، تحرك الفلسطينيون في غزة لمقاومة الاستعاضة عن حقهم في العودة بإعادة التأهيل الاقتصادي، وفي عام 1955، أطلقوا هبّة الأول من مارس (آذار)، وهي انتفاضة غير مسلحة تدعو إلى حل سياسي لمعالجة محنة اللاجئين الفلسطينيين، كما وصفها بوضوح أشهر شعراء غزة، معين بسيسو، في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان "النزول إلى الماء". لقد دفعت المقاومة الفلسطينية ضد ما سُمي بإعادة التأهيل الاقتصادي، والتي نظمها الشيوعيون الفلسطينيون في غزة على وجه التحديد، الأونروا إلى تغيير مسارها، فتخلى خليفة بلاندفورد، هنري ريتشاردسون لابويس، عن برامج الإدماج الاقتصادي، واعترف بأن محنة اللاجئين الفلسطينيين لا يمكن معالجتها إلاّ من خلال الحل السياسي،[23] مؤكداً أن الفلسطينيين شعب وأمة لها الحق في الحكم الذاتي. كما أن فشل جهود إسرائيل الدبلوماسية للتخلص من الأونروا دفعها (أي إسرائيل) إلى تغيير تكتيكاتها، وبعد ذلك، ستعمل الدولة الاستعمارية الاستيطانية على تقويض حق الفلسطينيين في العودة من خلال استخدام خطاب الإرهاب بشكل متكرر، واتهام الأونروا بدعم "الإرهاب" ومهاجمتها على هذا الأساس.
وتتماشى المحاولات الدبلوماسية الإسرائيلية الأخيرة لإقناع الحكومات الأجنبية بوقف تمويل الأونروا مع الخطابات الاستشراقية والعنصرية عن الإرهاب والأمن، التي غذت التطلعات الاستعمارية الصهيونية لاجتياح الأراضي الفلسطينية والعربية، والاستيلاء عليها منذ أكثر من 75 عاماً. منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، عبّر المسؤولون الإسرائيليون علناً عن وجهة نظرهم حيال الأونروا التي يرون فيها تهديداً استراتيجياً لأهداف الصهيونية التوسعية والسياسية؛ فقالت نوغا أربيل، المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي ترأس الآن مؤسسة كوهيليت اليمينية، أمام الكنيست الإسرائيلي في 4 كانون الثاني/ يناير 2024: "سيكون من المستحيل الفوز في هذه الحرب إذا لم ندمر الأونروا، ويجب أن يبدأ هذا التدمير على الفور."[24] وصورت أربيل، مثل المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين، الأونروا ووجود اللاجئين الفلسطينيين، على وجه التحديد، على أنهما عقبة استراتيجية أمام السيادة الاستيطانية الصهيونية والدولة اليهودية حصرياً. فالنظام الصهيوني الحالي يرى أن "الانتصار" يعني عمليات نقل جماعية للسكان، وإبطال قرار الأمم المتحدة رقم 194، من بين قرارات أُخرى للأمم المتحدة تتعلق بحق العودة للفلسطينيين، بصورة نهائية.
محاولات إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين عبر التاريخ
بدأ العمل على إلغاء أي حق فلسطيني في العودة كهدف سياسي خلال النكبة، حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل أو الأونروا؛ فقد أوضح فولك برنادوت، الدبلوماسي السويدي المعين وسيطاً للأمم المتحدة لفلسطين، في تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة في عام 1948، الحاجة إلى حق العودة لأن الفلسطينيين "متجذرون في الأرض منذ عدة قرون".[25] واغتيل برنادوت في القدس في 17 أيلول/سبتمبر 1948 على يد مسلحي ليحي (عصابة شتيرن) الذين عارضوا خطة السلام التي اقترحها، وتضمنت حق العودة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم وأراضيهم.[26]
كان العديد من قادة الصهاينة، بمن فيهم ديفيد بن غوريون وغولدا مئير، ومناحم بيغن، وموشيه شاريت، والجماعات العسكرية، مثل الإرغون والهاغاناه وعصابة شتيرن، فضلاً عن المنظمات الصهيونية، مثل الوكالة اليهودية، واضحين في معارضتهم المطلقة لعودة الفلسطينيين بعد طردهم من أراضيهم ومنازلهم فيما تم توثيقه على نطاق واسع على أنه تطهير عرقي خلال نكبة عام 1948. لقد كانوا يخشون أن يؤدي حق العودة إلى إعادة تشكيل التركيبة السكانية للدولة الإسرائيلية ليصير اليهود أقلية، ومن ثم رأوا في عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم تهديداً أمنياً للمستوطنين المتدفقين على البلاد. وهكذا جُرِّم حق العودة بحكم الأمر الواقع.
في 16 حزيران/ يونيو 1948، خلال اجتماع حكومة دولة إسرائيل بعد وقت قليل من قيامها، حصل رئيس الوزراء بن - غوريون على الموافقة على سياسة حرمت الفلسطينيين فعلياً من أي إمكانية للعودة[27] من خلال تدمير القرى والبلدات الفلسطينية، بالطريقة نفسها التي دمر وفقها الجيش الإسرائيلي أكثر من 70% من المناطق السكنية والمباني والبنية التحتية في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي السنوات التي تلت النكبة، حُولت المناطق الفلسطينية المدمرة، بشكل منظم، إلى مستوطنات يهودية أو غابات وطنية. واستعداداً لـ "الخطوة التالية" المألوفة تماماً، حددت شركة العقارات الإسرائيلية هاري زهاف، بالفعل، الخطوط العريضة لمشروع رأسمالي إمبريالي لخطط بناء مستوطنات في شمال غزة بعد انتهاء إراقة الدماء، على الرغم من أن المستوطنات ما زالت تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي.[28] كما منحت وزارة الطاقة الإسرائيلية ستة تراخيص للتنقيب عن الغاز لشركات إسرائيلية ودولية داخل مناطق غزة البحرية التي أُعلنت مناطق اقتصادية فلسطينية خالصة،[29] تمهيداً لاحتلال المنطقة الساحلية بعد التطهير العرقي عبر الإبادة الجماعية.
طُبقت سياسة الحرمان من العودة عسكرياً وقانونياً. وخلال النكبة ونكسة عام 1967، أقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي حواجز تفتيش ونقاط تفتيش حدودية وغيرها من الحواجز لمنع الفلسطينيين الذين هُجروا من العودة، وأولئك الذين حاولوا الرجوع تعرضوا لإطلاق النار، وهو ما وثقته جيداً مئات الشهادات. وبالأسلوب نفسه، يُطلق النار على الفلسطينيين ويُقتلون بإجراءات موجزة عند نقاط التفتيش الإسرائيلية في غزة، أو يتم اختطافهم واحتجازهم وتعذيبهم والاعتداء عليهم جنسياً في أثناء محاولتهم الفرار بحثاً عن مكان آمن. على الصعيد القانوني، اعتمدت دولة إسرائيل الجديدة قانون أملاك الغائبين (الذي بموجبه تستطيع الدولة الاستيلاء على أي عقار صاحبه غائب، حتى لو تمكن من إثبات أنه لم يغادر أراضي فلسطين تحت الانتداب) وقانون الجنسية (المعروف أيضاً باسم قانون العودة الذي يسمح لليهود من أي مكان في العالم بالمجيء إلى إسرائيل وطلب الجنسية الإسرائيلية) في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك لإضفاء الشرعية على السرقة الاستعمارية للممتلكات الفلسطينية وتقييد حقوق الفلسطينيين اللاجئين. وبهدف تسهيل السرقة الاستعمارية لمزيد من الأراضي في غزة خلال الحرب الحالية وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم في منازلهم وممتلكاتهم، عمدت القوات الإسرائيلية إلى تدمير الأرشيف المركزي في غزة،[30] حيث يتم تخزين جميع الوثائق القانونية، بما في ذلك سندات الأراضي، وسجلات الملكية، وسجلات التخطيط والتطوير العقاري، وتراخيص البناء، والسجلات الإدارية، والسجلات التاريخية، بالإضافة إلى المخطوطات التاريخية، والمراسلات بين الوكالات الحكومية والأحزاب السياسية، وعدد كبير من مواد التراث الثقافي الفلسطيني. ويعدُّ إلغاء حق العودة محورياً حتى يتمكن المجتمع الاستيطاني من الحلول محل الشعب الفلسطيني وفق مشروعه الاستعماري لبناء الدولة، ويكشف بوضوح طبيعة الإبادة الجماعية التي ينفذها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
هجوم إسرائيل على الأونروا هو جزء من منطقها الإقصائي
تسعى إسرائيل إلى وقف كل عمليات الأونروا لإسقاط حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف، مثل حق عودة اللاجئين. ومنذ بداية الهجوم الحالي على غزة، قُتل أكثر من 158 من موظفي الأمم المتحدة في غارات جوية إسرائيلية، وهو أكبر عدد يُقتل من موظفي الإغاثة في تاريخ الأمم المتحدة.[31]
استهدفت الغارات والقصف نحو 180 منشأة تابعة للأونروا، بما في ذلك مدارس تديرها الوكالة، في حين تم التبليغ عن تضرر 153 منشأة، وسُجلت أكثر من 320 حادثة أثرت على مباني الأونروا، بما في ذلك 45 حادثة استخدم فيها الجيش المنشآت أو تدخل في هذه المواقع.[32] وتقدر الوكالة أنه تمت تصفية ما يقرب من 400 نازح لجأوا إلى مباني الأونروا، وأصيب 1383 شخصاً بجروح خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحرب.[33] واستهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي، بشكل منهجي، البنية التحتية التعليمية بأكملها في غزة، بما في ذلك جميع الجامعات والمدارس الحكومية و84 مدرسة تابعة للأونروا، تشكل 44% من إجمالي مدارس غزة. وصيغ مصطلح "الإبادة المدرسية" scholasticide للإشارة إلى السياسة الاستعمارية الإسرائيلية المتمثلة في الإبادة المنهجية والشاملة لنظام التعليم الفلسطيني وأنظمة المعرفة الفلسطينية، وخصوصاً خلال حرب الإبادة الجماعية الجارية.[34]
ومثلما استمرت النكبة على مر السينين، كذلك استمرت الهجمات الإسرائيلية على الأونروا؛ فقد مرت الأونروا بإحدى أحلك فترات تاريخها في عام 1982 عندما أمر وزير الدفاع الإسرائيلي أريئيل شارون بتنفيذ مذبحة استهدفت اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا اللذين تديرهما الوكالة الأممية في لبنان،[35] حين حاصرت ميليشيات الكتائب اليمينية اللبنانية المخيمين، وبوحشية ذبحت واغتصبت وشوهت آلاف اللاجئين الفلسطينيين والمدنيين اللبنانيين في الفترة من 16 إلى 18 أيلول/ سبتمبر 1982، وهو ما اعتبرته الأمم المتحدة عملاً من أعمال الإبادة الجماعية. وخلال العملية الأولى ضد غزة في الفترة 2008-2009، قصفت القوات الإسرائيلية مستودعات ومدارس الأونروا بالفوسفور الأبيض، ما أسفر عن مقتل وجرح العشرات من المدنيين الذين لجأوا إليها،[36] كما استهدفت المرافق الصحية والمدارس التابعة للأونروا خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى في الفترة 2018-2019، ومرة أُخرى خلال القصف الإسرائيلي الذي استمر 11 يوماً للقطاع المحاصر في عام 2021. وبالمثل، لم تبدأ محاولات وقف تمويل الأونروا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ ففي عام 2018، خفضت إدارة ترامب تمويل الوكالة من 365 مليون دولار إلى 125 مليوناً في محاولة من التحالف الأميركي الإسرائيلي لـ "الانتهاء" من وضع تفاصيل التسوية النهائية على أساس فكرة أن قضية اللاجئين تغذي "الصراع" الإسرائيلي - الفلسطيني.[37] وخلافاً لنصيحة الأجهزة العسكرية والاستخباراتية، كان الدعم الإمبريالي الأميركي حاسماً للهدف الصهيوني السياسي المتمثل في القضاء على أحد أهم ركائز النضال الفلسطيني، وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين.
إنهاء نكبة الإبادة الجماعية
تشير فترة الإبادة الجماعية التي شهدتها النكبة إلى البنية الزمنية التي نُفّذت من خلالها أعمال العنف المرتكبة في عام 1948، والتي بنت الحاضر. لقد كانت النكبة وما زالت نتيجة لهدف الصهيونية المتمثل في التوسع والاستحواذ على جميع الأراضي والسيطرة وفرض السيادة الاستيطانية، على أساس القضاء على الشعب الفلسطيني كلياً أو جزئياً، مع كون اللاجئين الفلسطينيين هدفاً مركزياً في كل ذلك. ويقع على عاتق الدول التي وقعت اتفاقية الإبادة الجماعية واجب منع مثل هذه الإبادة، من خلال نزع سلاح دولة الاستعمار والفصل العنصري وتجميد تمويلها ومعاقبتها لممارستها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي من خلال الإبادة الجماعية، أي نكبة 2023/2024. إن الحل السياسي بدلاً من العقاب الجماعي هو أمر حاسم وعاجل، وعلى أقل تقدير وقف إطلاق النار وإنهاء حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار على غزة، فما دام العنف الإمبريالي الاستعماري مستمراً، ستستمر أيضاً تطلعات اللاجئين الفلسطينيين إلى التحرر ونيل حقوقهم في المقاومة والعودة.
[1] https://www.unrwa.org/newsroom/official-statements/letter-commissioner-general-president-general-assembly
[2] https://news.un.org/en/story/2024/02/1146867
https://unwatch.org/updated-list-of-countries-suspending-unwra-funding/
[3] https://www.theguardian.com/world/2024/feb/22/us-intelligence-unrwa-hamas
[4] https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/192/192-20240126-ord-01-00-en.pdf
[5] https://www.unrwa.org/resources/reports/unrwa-situation-report-76-situation-gaza-strip-and-west-bank-including-east-Jerusalem#:~:text=The%20Director%20of%20UNRWA%20Affairs,assault%20from%20the%20Israeli%20army
[6] https://www.un.org/unispal/document/states-must-reinstate-and-strengthen-support-to-unrwa-amid-unfolding-genocide-in-gaza-un-experts-un-human-rights-office-2feb-2024/
[7] https://www.unrwa.org/palestine-refugees
[8]https://www.freedomarchives.org/Documents/Finder/DOC12_scans/12.zionist.colonialism.palestine.1965.pdf
[9] https://www.sup.org/books/title/?id=2003
[10] https://www.palestine-studies.org/en/node/1655200
[11] https://www.haaretz.com/israel-news/2023-11-12/ty-article/israeli-security-cabinet-member-calls-north-gaza-evacuation-nakba-2023/0000018b-c2be-dea2-a9bf-d2be7b670000
[12] https://www.cbc.ca/news/world/israel-gaza-palestinians-concept-paper-1.7015576
[13] https://www.madamasr.com/en/2023/10/25/feature/politics/the-sinai-solution-reimagining-gaza-in-the-post-oslo-period/
[14] https://mondoweiss.net/2023/10/israeli-think-tank-lays-out-a-blueprint-for-the-complete-ethnic-cleansing-of-gaza/
[15] https://www.middleeastmonitor.com/20231009-israel-mk-calls-for-a-second-nakba-in-gaza/
[16] https://www.mei.edu/publications/five-scenarios-gaza-and-how-international-community-can-shape-its-future
[17] https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/14623520601056240
[18] https://www.madamasr.com/en/2023/10/25/feature/politics/the-sinai-solution-reimagining-gaza-in-the-post-oslo-period/
[19] https://thecradle.co/articles-id/23572
[20] https://www.aljazeera.com/news/2024/2/16/satellite-photos-show-egypt-building-gaza-buffer-zone-as-rafah-push-looms
[21] https://www.middleeastmonitor.com/20240201-what-is-unrwa-and-why-is-israel-trying-to-have-it-closed-down/
[22] https://carnegieendowment.org/sada/90869
[23] https://newlinesmag.com/essays/how-plans-to-move-palestinians-to-egypt-backfired/
[24] https://www.middleeastmonitor.com/20240129-former-israeli-official-noga-arbell-urges-for-destruction-of-unrwa-in-parliamentary-discussion/
[25] https://www.unrwa.org/newsroom/official-statements/bernadotte-his-legacy-palestine-refugees
[26] Ibid.
[27] https://yplus.ps/wp-content/uploads/2021/01/Pappe-Ilan-The-Ethnic-Cleansing-of-Palestine.pdf
[28] https://www.middleeastmonitor.com/20231218-as-genocide-unfolds-israel-settlers-plan-dream-beach-house-in-gaza/
[29] https://www.alhaq.org/advocacy/22619.html
[30] https://librarianswithpalestine.org/gaza-report-2024/
[31] https://www.unrwa.org/resources/reports/unrwa-situation-report-79-situation-gaza-strip-and-west-bank-including-east-Jerusalem
[32] Ibid
[33] Ibid
[34] https://theconversation.com/the-war-in-gaza-is-wiping-out-palestines-education-and-knowledge-systems-222055
[35] https://www.jstor.org/stable/j.ctt18fs4j6
[36] https://www.middleeastmonitor.com/20240201-what-is-unrwa-and-why-is-israel-trying-to-have-it-closed-down/
[37] https://www.dohainstitute.org/en/PoliticalStudies/Pages/Why-Trump-Administration-Suspended-UNRWA-Funding.aspx