فتحي غبن الرحيل المؤلم
التاريخ: 
29/02/2024
المؤلف: 

وُلد الفنان الفلسطيني فتحي غبن سنة 1947، وشهد صرخته الأولى في هربيا. وفي النكبة، تهجرت عائلته إلى قطاع غزة، حيث ترعرع في مخيم جباليا. ومن قطاع غزة، غادر غبن الحياة، يوم السبت 24 شباط/فبراير، بعد فشل كل المحاولات لإخراجه من قطاع غزة لاستكمال علاجه؛ إذ كان يعاني جرّاء مشكلات حادة في الصدر والرئتين.

واسمه الحقيقي فتحي إسماعيل أبو غبن، لكنه اشتهر باسم فتحي غبن. كان طلبه الأخير والوحيد هو أنفاسه، إذ ظهر على تلفزيون "العربي" إلى جوار ابنته وهي تشرح حالته الصحية، وكيف تدهورت جرّاء استنشاقه الغبار، والفوسفور المنبعث من القنابل المحرمة دولياً التي قذفها الاحتلال، وبينما كانت تطالب "كل الجهات المعنية"، فيما يبدو، بإخراجه للعلاج، قاطعها قائلاً: "أنا بطالب بنفَسي"، وكررها مضيفاً، "بديش حاجة، بدي أتنفس بس، مخنوق بدي أتنفس." هذه كانت الأمنية الوحيدة للفنان الفلسطيني، وربما هي أمنية كثير من الغزيين اليوم، وتُضاف إليها أمنية الحصول على الطعام في ظل الإبادة والعقاب الجماعي الممارَس على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

 

امرأة تحمل فأس وجرة ماء
للفنان فتحي غبن عام 1982
الناشر: مؤسسة ابن رشد للنشر، من موقع الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية

 

وقد فقد غبن في هذه الحرب على قطاع غزة ابنه وحفيده، كما دمر القصف بيته وأعماله الفنية. ومن أجل خروجه من قطاع غزة، قام عدد من الفنانين الفلسطينيين بحملة، على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي، للضغط على الاحتلال من أجل تأمين خروجه من قطاع غزة إلى قطر للعلاج، إلاّ إن هذه الجهود لم تتم، وجاء في النداء الذي أطلقوه، وهو ممهور بتوقيع الفنان الفلسطيني عيسى ديبي، ما يلي:

"نحن، الفنانين الفلسطينيين داخل فلسطين والشتات، ندعو بشكل عاجل إلى التدخل من أجل إنقاذ حياة الفنان الفلسطيني فتحي غبن. كرس فتحي غبن، الذي يبجَل باسم 'فان جوخ في غزة'، حياته للفن الذي يعكس مرونة وروح الشعب الفلسطيني. [...] ويواجه اليوم أزمة صحية رهيبة تفاقمت بسبب عدم كفاية الموارد الطبية والخسارة العميقة لابنه وأفراد الأسرة الآخرين. في هذه اللحظة من الحاجة الملحة، نسعى للحصول على دعمكم. عملنا الجماعي ضروري لتأمين الإخلاء الطبي الطارئ والرعاية التي يمكن أن تنقذ حياة فتحي غبن. [...] يمثل المجتمع الفني الدولي شبكة هائلة من الرحمة والتضامن. لم تثرِ مساهمات فتحي غبن نسيجنا الثقافي فحسب، بل سلطت الضوء أيضاً على السعي الدائم لتحقيق الكرامة والسلام. لقد حان الوقت للتجمع لدعم فنان قدم الكثير من خلال عمل حياته."

في بداية اللجوء سنة 1948، سكن في منطقة العواميد (حي الزيتون الآن)، ودرس الابتدائية في مخيم جباليا، ولم يكمل دراسته، فوصل إلى الصف السادس، واضطر إلى ترك المدرسة لمساعدة والده في مصاريف الأسرة. ولاحقاً، التحق بمعهد الأزهر، ودرس فيه لمدة عامين، وغادره مجدداً من دون أن يكمل تعليمه للمساهمة في إعالة الأسرة اللاجئة في قطاع غزة.

وانتبه إلى موهبته في المخيم، وكان فقر الحال الذي كان يسيطر على أحوال الناس آنذاك قد جعلهم يطبخون على النار الموقدة بالحطب، فكان لغبن ما يفعله بهذا الفحم بعد انتهاء دوره في إعداد الطعام، فكان يستخدمه للرسم على الجدران، ولاقت رسوماته اهتماماً من اللاجئين حينها، وباتوا يطلبونه للرسم على جدرانهم لتزيينها. وفي مقابلة معه، قال إن الأهالي في المخيم كانوا يتقبلون الفن ويحبونه، كما أضاف في مقابلة أُخرى، أنه في مرحلة أُخرى، رسم على "الصواني" التي كانت تصدأ؛ إذ كان يأخذها، ويلونها، ويعيدها إلى الناس كلوحة. وفي سنة 1956، مع احتلال القطاع لمدة قصيرة، رسم قوات الطوارئ الدولية كما قال، فأخذ اللوحة إلى المدرسة، ونالت إعجاب المعلمين والمدير، وبالتالي، نال من اهتمامهم كثيراً.

من المعروف أن الفنان فتحي غبن فنان فطري، إذا صح التعبير، فلم يتعلم الرسم في المدارس والجامعات، إنما اكتشف موهبته وطورها، وفي بداياته، لم يطّلع على تجارب فنانين آخرين كما يقول، لكن شغفه بالسينما ساعده كثيراً في فهم التكوينات، فكان يحب مشاهدة فيلم "طرزان" الذي كان يعود ويرسمه، ويقول عن هذا الفيلم والمشاهد التي فيه إنها ساعدته في تطوير خبرته وإمكاناته التقنية، كما صقل عن طريق السينما قدرته على إضفاء الحركة في اللوحة.

بعد احتلال قطاع غزة سنة 1967، وتحديداً سنة 1968، هدأت الأوضاع قليلاً، لكن الأوضاع الاقتصادية لم تكن جيدة أيضاً، فبدأ الرسم على الفخار ليعتاش، ويؤمّن مسكناً لنفسه، إذ كان بيت العائلة مكتظاً بساكنيه، وليس فيه مجال له ليرسم ويفرّغ موهبته، فنجح، بعمله في الرسم التجاري، في شراء البيت.

وفي سنة 1978، رسم لوحته الأولى، كما قال في مقابلة معه ضمن فيلم "هوية" للمخرجة نسرين حمّاد، وسمّى هذه اللوحة "مأساة فلسطين" التي ذكر أن قصتها تعود إلى سنة 1967، إلى مشهد قال إنه "ما زال بعشش في صدري"، فبينما كان يسمع نداء قوات الاحتلال لتجمع الناس في مكان، كان يسمع صراخاً خافتاً، ولما تتبع الصوت حتى وصل إليه، تبيّن أنه لطفل صغير، وفي هذا الشأن قال: "زحت أكوام الزينكو، فشاهدت هذا الطفل الصغير اللي بيرضع من ثدي أمه وهي جثة هامدة." بعد هذه اللوحة، استُدعي أكثر من مرة للتحقيق، وبدأت المضايقات له، وخلال التحقيقات، دار بين غبن والحاكم العسكري الحوار التالي:

الحاكم العسكري: ليش بتحرض ضدنا؟

فتحي غبن: هاي اللوحة هي "مأساة الشعوب".

الحاكم العسكري: لا هذه "مأساة فلسطين".

فتحي غبن: أنت شو عرفك، أنت فنان يعني؟

الحاكم العسكري: لا، اللبس، الزي بيدل [يدلّ] [يقصد على فلسطين].

فتحي غبن: أنت إيش بتتوقع مني، هاي اللوحة "مأساة الشعوب" وكل شعوب العالم، عانت أحداث الحرب العالمية الأولى والثانية. أنا أعطيت اللوحة "الزي الفلسطيني" لأني مش متعمق في أزياء الشعوب الأُخرى.

فاستُفز منه الحاكم العسكري، وقام يرقص أمامه، فقال له غبن: "مش حتفرح، حتكون إسرائيل في وضع مخجل، مش حتترقى أكثر من هيك، وبتشوف."

وتكرر اعتقاله هذا عدة مرات، منها مرة في أواسط الثمانينيات (1983-1984) للتهمة ذاتها، وتحديداً بسبب لوحة "هوية"، وهذا الاعتقال أيضاً لاقى ردات فعل كبيرة في الوسط الفني الفلسطيني، فأُقيم أكثر من اعتصام من أجله، وأيام تضامنية معه، كالذي حدث في 1 حزيران/يونيو 1984، بتنظيم من التشكيليين الفلسطينيين في الضفة والقطاع المحتلَين، في مسرح "الحكواتي" في القدس المحتلة. فعُرضت لوحات لغبن، وأيضاً رسم الفنانون في ذلك اليوم عدة لوحات بيعت إلى الجمهور، ليعود ريعها إلى عائلة الفنان المعتقل.

وكُرّم غبن في حياته من الرئاسة الفلسطينية، وذلك بمنحه "وسام الثقافة والعلوم والفنون مستوى الإبداع"، لكن ما أثار حفيظة النقاد والصحافة في ذلك التكريم هو مقطع الفيديو الذي نشرته "الرئاسة" عبر القنوات الرسمية، والذي أظهر لوحات الفنان المكرَّم على الأرض مسنودة على جدران أحد ممرات "المقاطعة"، بدلاً من تعليقها على الجدران.

كما أن غبن عمل مستشاراً في وزارة الثقافة، وحصل على وسام "هيروشيما"، ووسام اتحاد الجمعيات العالمي في طوكيو، وعلى لقب "فنان فلسطين" سنة 1993، ووسام "سيف كنعان" من إدارة التوجيه الوطني والسياسي الفلسطيني، كما تم تكريمه من ممثل الاتحاد الأوروبي بعد حصوله على جائزة بيت الصحافة التقديرية الفلسطينية لسنة 2023. وهو أحد مؤسسي جمعية التشكيليين في قطاع غزة، ورابطة التشكيليين الفلسطينيين في الضفة والقطاع.

وقد نعتْه وزارة الثقافة الفلسطينية في بيان قالت فيه: "إن رحيل غبن يشكّل خسارة للفن الفلسطيني الذي شهد على يده انتقالات مهمة تجاه تجسيد الحياة الفلسطينية واللجوء الفلسطيني والمخيم وتقاليد الحياة في البلاد التي نذر حياته لتخليدها في فنه." وبدوره، قال وزير الثقافة الفلسطيني الدكتور عاطف أبو سيف إن "غبن الذي يُعتبر من الرواد في الفن التشكيلي الفلسطيني بعد النكبة، عاش حياة المخيم بكل تفاصيلها، ورسمها بدقة لامتناهية وخلّد حياة القرية الفلسطينية التي أرادت النكبة أن تمحوها." وأضاف: "كانت فلسطين دائماً حاضرة بكل تفاصيلها في أعمال غبن الذي حمل معه حياة القرية الفلسطينية والمخيم واللجوء إلى العالم عبر ريشته البارعة. وفتحي الذي عاش سنته الأولى بعد أن تنفس الحياة في خيمة على رمال شمال غزة في مخيم جباليا قُدّر له أن يرحل بسبب منع الاحتلال سفره إلى مصر. عاش فتحي حياته في خيمة ومات في خيمة. إن الخيمة ليست قدر الفلسطيني لكنها تعني أن الاحتلال أيضاً سيزول كما ستزول الخيمة." 

في ختام هذه المادة، التي تتناول سريعاً حياة الفنان الفلسطيني فتحي غبن ورحيله، أقتبس ما قاله الشاعر الراحل أحمد دحبور عنه: "يمتلك أكثر من ریشة، وأكثر من فرشاة، بمعنى أنه متعدد الاختبارات، جوال بين المدارس الفنية. تقوده اللوحة بزخمها وتفاعلها إلى مساحاتها وإيقاع ألوانها. وإلى ذلك فثمة حبل سري يربط بين أعماله، ويعلن عن شخصيته حتى لو لم يمهر اللوحة بتوقيعه، وهو صانع من غير افتعال، تلقائي من غير سذاجة، صاحب موضوع، ولكن الكلمة الأخيرة عنده لجسم اللوحة في وضعها الأخير. إنه فنان لا يعرف النهايات، فأنت أمام أعماله مشتبك مع لحظة درامية متصلة، وتلك كلمة السر عنده، من شأنه أن ينشر أسراره على الملأ فيزيد غموضاً وسحراً، بقدر ما تزداد منه اقتراباً وكشفاً."

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.