قدمت هذه المداخلة شفوياً في 11 شباط/فبراير 2024، ضمن ندوة عامة بعنوان "تحديات إعادة الإعمار في غزة بعد العدوان"، وشارك فيها كل من غسان الكحلوت وعلي الزعتري.
وعُقدت المحاضرة ضمن فعاليات منتدى فلسطين السنوي في دورته الثانية في الدوحة، في قطر، خلال الفترة 10 - 12 شباط/فبراير، والذي ينظمه كل من مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
هناك مفهوم اسمه المحيط الحيوي للحرب، وهو مبني على فكرة أنه من شدة طول الحروب القاسية وإجرامها - وهذه الحرب التي تجري حالياً في غزة هي من أكثر الحروب التي شهدها العالم قسوةً، وأشد وطأة من الحرب العالمية الثانية - فإنها تشكّل محيطاً حيوياً يقطن فيه سكان المنطقة لعقود بعد الحرب، وهذا المحيط يصنع أدوات وطرقاً لإعادة رسم صحة السكان، وإعادة أذيتهم بطرق متعددة. وكون هذه الحرب هي الأقسى منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تحول قطاع غزة إلى المحيط الحيوي الأكثر شمولاً للحرب، ويقارب ما وصفه المفكر، أشيل مبمبي، بعالم الموت.
هناك حاجة ماسة إلى فهم ترابُط أجزاء المحيط الحيوي للحرب؛ فإذا بدأنا من التدمير المنهجي لنظام الصرف الصحي والمياه، فنحن نتحدث عن تدمير 5 مراكز لتكرير الصرف الصحي، و65 محطة ضخ للصرف الصحي، و70% من السكن، فضلاً عن تدمير شامل للرعاية الصحية للولادة، بالإضافة إلى سوء التغذية. كل هذه العوامل مشتركة تؤدي إلى إبقاء ضحايا هذه الحرب والسكان في غزة في حالة ضعف صحي، أو أذى صحي، حتى بعد انتهاء الحرب. أضف إلى ذلك أن هناك 10,000 جثمان لشهيد تحت الردم، تتحلل أجسادهم، ويصبحون جزءاً من أزمة التلوث البيئي، كما أن هناك 70,000 جريح، إذا أُجريت لهم عملية واحدة - وقليل من الجرحى في إصابات الحروب يحتاجون إلى عملية واحدة - فإنهم سيحتاجون إلى زيارة إلى عيادة لتضميد الجروح كل 3 أيام على مدى 6 أسابيع، ولكم أن تتخيلوا 70,000 جريج، كحد أدنى؛ كم من العناية الطبية سيحتاجون إليها؟ خلال مسيرات العودة التي أُصيب فيها 8000 شاب بقناصة الجيش الإسرائيلي، استغرقت إعادة ترميمهم 4 سنوت؛ بمعدل 9 عمليات، وكان لدى كل هؤلاء إصابة واحدة بالقنص في الأطراف. ولكم أن تتخيلوا هذه الأرقام: إعادة ترميم 70,000 جريح بعمليات ترميمية، وإعادة تأهيلهم بالعلاج الطبيعي، وبين 5000 و6000 طفل أُجريت لهم عملية بتر لأحد الأطراف، ونحن نعرف عبر الأدبيات والأبحاث التي أجراها ماتس جلبيرت بعد حرب 2009 أن أي طفل يتعرض لبتر في الحروب يحتاج إلى ما بين 8 عمليات و12 عملية إلى حين بلوغ سن الرشد أو البلوغ. وقبل الحرب، كان هناك 183 طفلاً، في غزة وحدها، يحتاجون إلى عملية بتر. ولكم أن تتخيلوا كم سيحتاج كل هؤلاء الأطفال لتغيير أطرافهم الصناعية؛ لأن الطفل في مرحلة نمو، ويحتاج إلى طرف صناعي جديد كل 6 أشهر، وكذا الحال بالنسبة إلى 5000 طفل.
ويشمل المحيط الحيوي للحرب أيضاً الأذى المستمر من القذائف غير المتفجرة، والتي تشكّل تقريباً ثلث القذائف التي أُلقيت على المنطقة في أي حرب. كما يؤدي التدمير الكامل للاقتصاد إلى الإفقار وسوء التغذية والصحة على المدى البعيد، بالإضافة إلى الانهيار الكامل لمنظومة الطبابة للأمراض المزمنة غير المعدية، كالسكري، وأمراض القلب، وأمراض الكلى. ولا ننسى النتيجة المترتبة للقتل المتعمد لـ 340 طبيباً وممرضاً، كالدكتور الشهيد همام اللوح رحمه الله، إذ استغرق تدريبه إلى مستوى استشاري 18 عاماً، فتخرّج كاستشاري في أمراض الكلى من إحدى جامعات الأردن، وعندما نتكلم عن 340 اختصاصياً واستشارياً يصلون إلى المستوى الذي كانوا فيه قبل استهدافهم في عدد السنوات، فإن النتيجة ستكون قاسية جداً وطويلة.
إن أحد أهم مظاهر التغيير الكامل للمحيط الحيوي للحرب هي ظاهرة البكتيريا المعاندة للمضادات الحيوية، والتي تشتكي منها حالياً المستشفيات الإسرائيلية التي تعالج الجنود الإسرائيليين العائدين من غزة، وأحد أسباب تحوُل البكتيريا من غير معاندة إلى معاندة هي المعادن الثقيلة الموجودة في الأسلحة، كالكوبالت، والسيلينوم، والتنغستنوم، وهي معادن تتواجد في الغشاء الخارجي للقنبلة، وعندما تنفجر، فإنها تتحول إلى رذاذ في البيئة، وتعمل على تغيير في جينات البكتيريا، وتحوّلها إلى بكتيريا معاندة. وسعر علبة المضاد الحيوي الفعال للبكتيريا العادية هو 5 دولارات، أمّا سعر العلبة (للجرعة الواحدة) للبكتيريا المعاندة، فهو 300 دولار.
يجب تفكيك هذه البيئة الحيوية والمحيط الحيوي كي لا يستمر، وإذا لم يتم تفكيكه، فسيستمر إلى عقود، وقد شاهدنا ذلك في لاوس والعراق وكمبوديا؛ إذ بعد عقود من انتهاء الحروب، لا تزال هذه البيئة الحيوية هي المحدد الأساسي لحياة السكان وصحتهم في تلك المناطق. وتكمن أهمية أن يكون هناك نظام صحي فلسطيني لا طبابي فلسطيني في تفكيك المحيط الحيوي أو الإيكولوجي للحرب، وتفكيك كل طرق إصابة الصحة. لكن الأهم هو إفشال الهدف الأساسي لهذا التدمير المنهجي؛ وهو تحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة. إن هذا المحيط الحيوي الذي سنواجهه في يوم وقف إطلاق النار هو محيط غير قابل للحياة، وإذا أردنا ألاّ تحقق إسرائيل في السِلم ما لم تحققه في الحرب، وهي دائماً تحاول فعل ذلك، فعلينا أن ننشئ نظاماً صحياً قادراً على تفكيك هذا المحيط الحيوي الذي شكّلتْه الحرب.
وفي الجزء الثاني من هذه المحاضرة، سأتحدث عن وجود تميُّز في مسيرة التحرر الفلسطينية عبر السنوات، وخصوصاً في الخمسينيات وحتى اليوم، عبّر إنشاء نظام صحي، أو نضال صحي، شكّل جزءاً أساسياً من النضال التحرري الفلسطيني، بطريقة لا نراها في المؤتمر الوطني الأفريقي ولا في أميركا اللاتينية، بدءاً بعيادة الشعب في مخيم الوحدات في الخمسينيات، وتجربة الهلال الأحمر في لبنان، وملحمة تل الزعتر والأطباء الذين تواجدوا هناك في أثناء حصار بيروت، وصولاً إلى تجربة لجان الإغاثة الطبية ولجان العمل الصحي خلال الانتفاضة الأولى.
هناك أهمية بالغة لإنشاء نظام صحي يعبّر عن حركة تحرر، لأن هذا النهج يبني تضامناً وتلاحماً، وهو كذلك تعبوي يضفي تعاضداً بين الشعب الواحد، ويحفز حركة التحرر بطريقة لا نجدها، في رأيي، في كثير من حركات التحرر الموجودة. ومن هنا، أرى أنه عندما حاولت السلطة الفلسطينية، خلال فترة أوسلو، أن تفصل النظام الصحي عن المجتمع الفلسطيني، وتنشئ نظام طبابة، بدأ النظام الصحي يتدهور تدهوراً حاداً، فالهدف من إنشاء هذا النظام هو حماية النضال الصحي الفلسطيني، وخصوصاً بعد كل هذه التضحيات. وبالتالي، فإنه يجب التفكير استراتيجياً كي لا نعود إلى نقطة الصفر، وكي يتحول قطاع غزة من منطقة محاصرة إلى منطقة محررة، وتختلف المنطقة المحاصرة عن المنطقة المحررة؛ إذ إن المنطقة المحررة تكون دائماً منصة للتحرر في بقية الوطن، أمّا المنطقة المحاصرة، فهي جزء من ضحايا الحرب الاستعمارية.
إن التحول الحاد في الصحة داخل قطاع غزة يحتّم علينا أن نبني قطاعاً صحياً جديداً من حيث الأولويات، وجديداً من حيث طرق التعاطي مع الصحة، ويشمل الطبابة، لكنه غير محصور داخلها.