مقدمة
لم تحمل السياسات الإسرائيلية المتبعة تجاه الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم بعد نكبة 1948، تحولاً جوهرياً خلال حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، لكنها بلا شك حملت تصعيداً حاداً ومجاهرة في العداء تجاههم. وفي مقابل هذا التصعيد برز عدم تناسب الفعل السياسي لهذه المجموعة من الفلسطينيين، والذي من غير الممكن فهمه بدون التوقف عند ما سبقه من تراكم لسياسات القمع والترهيب والاستهداف الممنهج لهذه المجموعة بهدف تفكيك بنيتها التحتية الجماعية. فقد تزامنت حرب الإبادة على غزة، 2023، مع معاناة فلسطينيي الداخل جراء حالة جماعية وفردية مأزومة للغاية، وذلك عقب عقد استهدفت فيه دولة إسرائيل، بشدة، مكامن قوتهم الاجتماعية والسياسية، فشكل هذا الظرف أرضية خصبة سهّلت استهدافهم وترهيبهم.
عقد من محاولات التفكيك الاجتماعي وازدياد في الضعف السياسي
على الصعيد الاجتماعي، شهدت السنوات الأخيرة تصعيداً نوعياً في آفة الجريمة المنظمة، والتي تشكل تهديداً جدياً للأمان الفردي، وأيضاً للنسيج الاجتماعي، وقد سقط في الفترة 2019 - 2023 ما يقارب الـ 700 قتيل،[1] بينهم 247 قتيلاً في عام 2023. ويبدو أنه، وفي السنوات الأخيرة، وفي ظل غياب أي رادع حقيقي، تتجاوز هذه الجرائم الحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية، حتى تلك التي تميز منظمات الجريمة في أماكن أُخرى في العالم. ففي ظل تقاعس مؤسساتي صارخ، وفي ضوء عدم جدية دولة إسرائيل في مكافحة هذه الآفة، تمادت منظمات الإجرام ليستهدف السلاح الأطفال وبيوت العزاء، وأيضاً مراكز المدن والأحياء السكنية في التجمعات العربية.[2]
ولم يكن المشهد السياسي أفضل حالاً من الحالة الاجتماعية، إذ تزامنت الحرب مع وجود الأحزاب السياسية في حالة من الهشاشة والوهن والتفكك، الأمر الذي انعكس في عدم قدرتها على التصدي للسياسات القمعية التي مورست بشراسة في حق فلسطينيي 48. ولطالما شكل التمثيل السياسي للفلسطينيين تحدياً كبيراً لدولة إسرائيل تماشياً مع تعاملها مع الفلسطينيين حاملي المواطنة الإسرائيلية كدخلاء غير مرغوب فيهم في الدولة اليهودية. إلاّ إن تشكيل القائمة المشتركة في عام 2015، والالتفاف الجماهيري الكبير حولها، واحتمال تعاظم تأثير التمثيل السياسي للفلسطينيين من خلال إطار سياسي جامع، كلها أمور شكلت تهديداً أكثر جدية للدولة اليهودية؛ من ناحية، كثفت المؤسسة الإسرائيلية في العقد الأخير استهداف القيادة السياسية وملاحقتها،[3] ومن ناحية أُخرى عززت من دور السلطات المحلية ورؤسائها، هادفة إلى التخفيف من قوة القيادة القطرية، وتحقيق سياسة تشتيت القوة السياسية الفلسطينية لتثبيت سياسة فرّق تسد. في المقابل، فإن عدم قدرة مختلف التيارات السياسية على التعالي على الخلافات السياسية والفكرية، وعلى تجاوز الصراع فيما بينها على ترؤس القائمة المشتركة وتقاسم الأدوار فيها، أضعف قدرة القيادة السياسية على التصدي لهذه المحاولات، الأمر الذي أفضى إلى تفكيك القائمة المشتركة، وتثبيت الصراعات والخلافات السياسية بين مركّباتها، ما أدى إلى إضعاف التمثيل السياسي الفلسطيني. ووصلت ذروة التفكك والخلافات بين التيارات المختلفة إلى زعزعة ثوابت قواعد انخراط الفلسطينيين في إسرائيل في السياسة الإسرائيلية، متمثلة، على سبيل المثال، في توصية الأحزاب العربية بمرشح لتشكيل الحكومة، ودخول حزب عربي (القائمة العربية الممثلة للحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي) في الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى منذ النكبة. وساهمت هذه التطورات في تعزيز الانقسام داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل من ناحية، وفي انكماش التفاعل مع السياسة التمثيلية من ناحية أُخرى.
وعلى صعيد آخر، شهد العقد الأخير استهدافاً لمكامن القوة السياسية والاجتماعية غير الرسمية للفلسطينيين في الداخل. وتمثل هذا في سن قوانين تستهدف الحقل الثقافي والنشاط الجماهيري المتعلق بإحياء ذكرى النكبة، وأيضاً بالملاحقة السياسية، ومحاولات تطويع المشهد الثقافي- السياسي. واستغلت إسرائيل الاحتجاجات المتتابعة لاستهداف الجيل الفلسطيني الشاب الذي خرج إلى الشوارع للتظاهر، أو لتنظيم فعاليات سياسية.[4]
هبّة الكرامة، أيار/مايو 2021
وصلت ذروة العداء تجاه فلسطينيي 48 إلى قمتها، خلال هبّة الكرامة في أيار/مايو 2021 وما بعدها. وتزامن هذا العداء مع تنامي قوة الصهيونية المتدينة وتوليها مناصب حكومية وفي مؤسسات الدولة، حينها تعاملت المؤسسة الإسرائيلية بعنف شديد إزاء التظاهرات في أيار/مايو 2021، في مقابل تسامحها ومساندتها للمستوطنين خلال اعتداءاتهم على بيوت وأحياء الفلسطينيين، وخصوصاً في المدن الفلسطينية التاريخية، والتي راح ضحيتها موسى حسونة برصاص المستوطنين في اللد. ولم يختلف تعامل الشرطة والنظام القضائي مع المعتقلين والمعتقلات في التهم التي وُجهت إليهم والأحكام التي تلتها.
انطلقت شرارة هبّة الكرامة في أيار/مايو 2021 نتيجة تراكم وامتداد وتطور ما سبقها من هبّات،[5] وجاءت كردّ مباشر على محاولات التهجير القسري لأحياء في مدينة القدس، وعلى التصعيد في عنف المستوطنين في القدس والأراضي المحتلة عام 1967، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى. وامتدت الهبّة إلى كل أرجاء فلسطين، وشملت الداخل ومخيمات اللجوء والعديد من دول العالم.[6] ويشير مركز عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، في تقاريره المختلفة حول هبّة أيار/مايو إلى تعرض الفلسطينيين، وضمنهم الفلسطينيون في إسرائيل، إلى اعتداءات وحشية وانتهاكات حقوقية مهولة، تشمل الملاحقات السياسية والرقمية وفرض رقابة شديدة على المحتوى الفلسطيني؛[7] فقد فرضت السلطات الإسرائيلية وسائل قمع عسكرية، شاركت فيها قوات الشرطة، وحرس الحدود، ووحدات عسكرية خاصة، وجهاز الشاباك، بالإضافة إلى المستوطنين،[8] فجرى قمع التظاهرات والتنكيل بالمتظاهرين، واستعملت الشرطة الرصاص الحي الذي أدى إلى استشهاد محمد كيوان في مدينة أم الفحم.[9]
وبحسب تقرير عدالة، برزت خلال الهبّة حملات اعتقال مكثفة في كل المدن والقرى الفلسطينية، نفذت بعضها وحدات المستعربين (وهي عبارة عن وحدات شرطية بزي مدني)، وشملت اعتقال القاصرين وانتهاك حقوقهم، واقتحامات ومداهمات للبيوت، واجتياحات تعسفية، واستعمالاً مفرطاً للقوة. كما شهدت مراكز الشرطة اعتقالات، واستخداماً مفرطاً للعنف، فيما وصفته عدالة بـ "غرف التعذيب"، حيث مورس العنف المفرط وتكررت الإهانات الجسدية واللفظية للمعتقلين، الذين تعمدت قوات الشرطة التنكيل بهم وإذلالهم. كما قام الشاباك باستخدام وتطبيق كل الأدوات الاستخباراتية لجمع المعلومات، ونفّذ جزءاً كبيراً من الاعتقالات.
شكلت النيابة العامة ذراعاً إضافية لإحكام القبضة على الفلسطينيين، وتعاملت معهم بحكم "العدو من الداخل" في زمن تخوض فيه الدولة حرباً مع "العدو من الخارج"، بحسب ما جاء في المقدمة التي افتتحت فيها النيابة العامة لوائح الاتهام التي قُدمت ضمن الهبّة.[10] وتجلى تأطير الأحداث في بعد أمني، أيضاً، في لوائح الاتهام التي وظفت فيها بنوداً من قانون مكافحة الإرهاب، الأمر الذي انعكس في مضاعفة الأحكام التي فرضتها المحاكم، إذ تبنت المحاكم سياسة فرض أقسى العقوبات التي تمثلت في السجن لسنوات عديدة، وصلت في بعض الأحيان الى أكثر من 10 سنوات، بالإضافة إلى فرض غرامات مالية وتعويضات بمبالغ طائلة.[11]
وفي ظل عجز القيادة القطرية والسياسة التمثيلية عن مواكبة هذه التحديات، وخصوصاً العنف والتنكيل المتزايد تجاه الفلسطينيين في إسرائيل، في هبّة الكرامة وما بعدها، أخذت مبادرات محلية زمام المبادرة لمحاولة تعبئة الفراغ، فتشكلت لجان شعبية متعددة التخصصات وفي مختلف الأحياء والبلدات العربية.[12] ولم تنجُ هذه المبادرات والحراكات الشبابية، وخصوصاً الناشطون غير المنخرطين في الأحزاب السياسية، من سياسات القمع،[13] فكثفت دولة إسرائيل من ملاحقتهم ومحاولات ترهيبهم مستهدفة مصدر قوة آخر في المجتمع الفلسطيني. وهكذا تُركت عشرات العائلات الفلسطينية في إسرائيل وحيدة تصارع أجهزة الدولة والقضاء مع أبنائها الذين زُجوا في السجون أو حُوِّلوا إلى السجن البيتي لمدة طويلة، وتعاني جراء وطأة الديون بسبب تكاليف توكيل المحامين، ودفع الغرامات المالية.
ما بعد السابع من أكتوبر: فلسطينيو الداخل "جبهة عدو داخلية"
الترهيب، والتفكيك، والوهن السياسي، والمجاهرة بالعداء،[14] إلى جانب غياب الأمن الشخصي والجماعي، والمحاولات الحثيثة لتغيير مفتعل ومقصود للنخب الفلسطينية في الداخل، كانت الأرضية التي أنتجتها السياسات الإسرائيلية، وهي ذاتها التي استغلتها دولة إسرائيل في حربها التي شنتها على "العدو من الداخل" مع بداية حرب الإبادة على غزة وخلالها.
لم تختلق دولة إسرائيل أدوات جديدة في حربها على الفلسطينيين في الداخل، وإنما مارست، بمزيد من العنف والشدة، وسائلها العسكرية والبوليسية والاستخباراتية المجربة والمختبرة على مدى سنوات، مستندة إلى جهاز تعقب وقمع متمكن ومشحون بعداء كبير، بهدف كم الأفواه والترهيب ومنع أي تعبير عن مواقف معارضة للحرب أو مسانِدة لأهل غزة.
فمنذ الأيام الأولى من الحرب، استهدفت المؤسسة الإسرائيلية، متسلحة بدعم مكثف وعلني من المجتمع الإسرائيلي، أي تعبير مرئي مصور أو مكتوب في مواقع التواصل الاجتماعي، أو في أماكن التعليم والعمل، أو في وقفات احتجاجية، عن موقف معارض للحرب أو عن مواقف متضامنة مع غزة وأهلها.
وتُرجم هذا الاستهداف في تعرض الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية لملاحقات متنوعة، سواء أكانت جنائية أو ملاحقات في أماكن العمل والتعليم. وتفاوتت هذه الإجراءات، بين اعتقال، واستدعاء إلى تحقيق، وتقديم لوائح اتهام وطلبات اعتقال، وغيرها من الإجراءات القانونية، بتهم خطرة مثل "دعم الإرهاب"، وذلك بحجة نشر تغريدات داعمة أو متعاطفة مع غزة. طالت هذه الحملة جميع الشرائح، من الكوادر الطبية والمعلمات وأئمة الجوامع وموظفين في أماكن العمل.
كما وُضع طلاب وطالبات الجامعات تحت المجهر، واتخذت الجامعات الإسرائيلية، بناء على وشايات من زملاء وزميلات مقاعد الدراسة، إجراءات تعسفية بحق الطلاب والطالبات العرب؛ فقد عمدت هذه الجامعات، منذ السابع من أكتوبر، إلى فصل عشرات الطلاب، بشكل دائم أو موقت، بسبب منشورات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وقامت بعض المؤسسات الأكاديمية بإصدار أوامر إخلاء فوري لبعض الطلاب والطالبات من مساكنهم. ووصلت درجة تواطؤ الجامعات الإسرائيلية إلى الوشاية بالطلاب للشرطة، وتزويدها بأدلة تمكّنها من التقدم في إجراءات قانونية بحق الطلاب بتهم "دعم الإرهاب" أو "التعاطف مع تنظيمات إرهابية".[15]
وفي تقرير نشرته الهيئة المشتركة للكتل الطلابية تعمل تحت مظلة اللجنة العربية للطوارئ، جاء أن هناك أكثر من 100 طالب وطالبة في المؤسسات الأكاديمية جرى تحويلهم إلى لجان طاعة، بالإضافة إلى مئات المنشورات التحريضية على الطلبة. وقد تم الاعتداء على مساكن الطلبة في كلية نتانيا في 28/10/2023، إذ تجمهرت جماعات عنصرية بأعداد كبيرة مُحاوِلة اقتحام المبنى، وهاتفة بعبارة "الموت للعرب"، وبشعارات عنصرية أُخرى، وطالبت بتفريغ مساكن الطلبة من الطلاب العرب.[16]
وفي تقرير لمركز عدالة، بالتعاون مع هيئة الطوارئ العربية، جرى، خلال الأسابيع الخمسة الأولى من الحرب (7 تشرين الأول/أكتوبر 2023- 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) توثيق 251 حالة اعتقال، وتحقيق، أو "محادثات تحذيرية" تقع معظمها، بحسب التقرير، في إطار حرية التعبير عن الرأي.[17] في حين قُدمت 76 لائحة اتهام على خلفية الأحداث (لا تشمل شرطة لواء القدس).
وفي خطوة ترهيب تذكّر باعتداءات المستوطنين على الأحياء والبلدات العربية في أيار/مايو 2021، وفي استعراض لقوة الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، وكامتداد لتسلّمها وزارات مهمة في حكومة نتنياهو ومجاهرتها في التعبير عن العداء والكراهية للفلسطينيين[18] وفي ملاحقة ممنهجة للفلسطينيين، كانت الحرب على غزة فرصة لتنفيذ، وعلى وجه السرعة، المنظومة الأمنية التي تطورت بناء على استنتاجات لاحقة لأحداث "هبّة الكرامة" في أيار/مايو 2012، وعلى رأسها شرعنة متدحرجة لما يعرف بـ "الحرس القومي".[19] لقد تشكلت هذه الميليشيا كقوة مساندة لحرس الحدود رسمياً في حزيران/يونيو 2022، بمبادرة من رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت (حزب يمينا، من الصهيونية الدينية)، ووزير الأمن الداخلي السابق عومر بار ليف (عن حزب العمل)، ومفتش الشرطة العام كوبي شبتاي، إلاّ إنها ظاهرة سابقة لهذه اللحظة؛ ذلك بأن عسكرة المدنيين الإسرائيليين هي عملية متدحرجة برزت ونشطت، بصورة خاصة، في الأراضي المحتلة عام 1967، كما في مناطق معينة داخل إسرائيل، مثل منطقة النقب، هذا وقد تمت شرعنة وجودها في الاتفاقيات الائتلافية بين حزب "قوة يهودية" وحكومة نتنياهو.[20] وقد استغل بن غفير حالة الحرب والطوارئ لإنفاذ سياساته من دون عوائق؛ فمع بداية الحرب، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، وأمام الكاميرات بث حزب "قوة يهودية" على قناته في يوتيوب[21] فيديو يقوم فيه وزير الأمن القومي بتوزيع 10 آلاف بندقية رشاش على "وحدات الحماية" في البلدات الإسرائيلية، كما قام بتعيين ضابط لتنظيم "وحدات محاربة مدنية".[22]
كذلك عملت الشرطة، مدعومة بالمؤسسة الإسرائيلية، على قمع أي تظاهرة أو تجمع في الحيز العام، كما حدث في التظاهرات في حيفا وأم الفحم والطيبة، حين قامت قوات الشرطة مصحوبة بقوات "حرس الحدود" بالاعتداء على المتظاهرات/ين واعتقال العشرات منهم.[23]
هذا وأصدرت المحاكم قرارات غير مسبوقة قانونياً بحق معتقلي هذه التظاهرات،[24] وبينهم المحامي أحمد خليفة الذي بقي رهن الاعتقال نحو أربعة أشهر، خرج بعدها بشروط مقيّدة بعد الاستئناف لدى محكمة العدل العليا.[25] وتجدر الإشارة إلى أن المحامي خليفة هو أحد مؤسسي حراك الشباب الفحماوي، وهو ائتلاف وحّد كل الحراكات الشبابية في أم الفحم، وكان قد برز في التظاهرات الكبيرة التي شهدتها المدينة على خلفية جرائم القتل التي تُتهم الشرطة بالتواطؤ فيها، بالإضافة إلى نشاطه في مساندة المعتقلين، وفي إحياء الفعاليات الوطنية.[26]
إن الحملة الشرسة ضد المحامي أحمد خليفة، وظروف الاعتقال الصعبة التي عاشها وآخرون،[27] تتماشى مع سياسة استهداف مجموعات شبابية قيادية أو/ وشخصيات مؤثرة في المجتمع الفلسطيني، بهدف زيادة الردع، وأيضاً حصار مكامن القوة الاجتماعية لفلسطينيي 48 ومحاولة تفكيكها. وفي إشارة إلى هذه السياسات، برز بشكل خاص استهداف فنانات مشهورات، كما في حالة الممثلة ميساء عبد الهادي والمغنية دلال أبو آمنه، هذا وعمدت الشرطة إلى تعميم خبر اعتقالهما، ونشرت صور الاعتقال وفي خلفيتها علم إسرائيل.
حالة الطوارئ: اقتراح قوانين وتعديلات في تعليمات الاعتقال ومنع التظاهرات
أقرت النيابة العامة تعديل التعليمات والإجراءات لتسهيل عمليات التوقيف والاعتقال، فمع بداية الحرب، ألغت النيابة العامة شرط موافقة النائب العام أو أحد نائبيه لتنفيذ اعتقال بتهم التحريض، كما كان متَّبعاً قبل الحرب. وفي 24 تشرين الأول/ أكتوبر فعّلت الشرطة والنيابة العامة أنظمة الطوارئ التي تسمح باتخاذ إجراءات مشددة بحق المعتقلين، تشمل تمديد احتجاز المعتقلين لفترات طويلة، ومنعهم من الالتقاء بمحاميهم لمدة قد تصل إلى 90 يوماً.[28] هذا وقد أعلنت الشرطة تعليمات تنص على منع المصادقة للمواطنين الفلسطينيين على تنظيم تظاهرات.[29]
كما أقرت الهيئة العامة للكنيست، في 25 تشرين الأول/أكتوبر، بالقراءة الأولى أمراً موقتاً ينص على تعديل مشروع "قانون مكافحة الإرهاب" الذي يجرّم استهلاك مضامين "إرهابية" مع عقوبة قد تصل إلى السجن.[30]
القيادة السياسية والاجتماعية لفلسطينيي 48
تضمنت الحملة الشرسة على الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية القيادات القطرية، وشملت اعتقالات استباقية لشخصيات قيادية، مثل رئيس لجنة المتابعة وأعضاء كنيست سابقين عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي، كانت في طريقها إلى عقد وقفة احتجاجية في الناصرة، والتي لا تحتاج إلى ترخيص من الشرطة.[31]
وفي خطوة تأديبية، وفي مساع تطويعية مستمرة، أبعدت لجنة سلوكيات الكنيست كل من النائبة عايدة توما والنائبة إيمان خطيب ياسين، وتم حرمانهما من أجرهما لمدة أسبوعين. وجاء هذا القرار في ضوء تصريحات للنائبتين لا تتبنى بشكل كامل الخطاب الإسرائيلي بشأن الحرب على غزة.[32]
حاولت القيادة الفلسطينية في الداخل المراوغة، في الحد الأدنى الذي تسمح به مكانتها السياسية في إسرائيل، من دون أن تخاطر حتى في الحصانة البرلمانية التي تمنحها لها عضوية الكنيست. فالتمست القيادات لدى كل من المستشار القضائي، والمفوض العام للشرطة، وقائد شرطة الناصرة،[33] وأيضاً لدى المحكمة العليا لإقامة تظاهرة ضد الحرب في حيفا، وفعلاً أقيمت تظاهرة يهودية-عربية في حيفا بعدد محدود من 700 شخص،[34] كما أقامت "لجان طوارئ وطنية" لمواجهة الوضع الراهن، وحضر الاجتماع التنسيقي ممثلون عن جهات مختلفة، ضمنهم رئيس لجنة المتابعة للجماهير العربية.[35]
هذا ومع مرور أكثر من أربعة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، ما زالت النخبة السياسية عاجزة عن تنظيم احتجاجات جماهيرية واسعة. في المقابل، تحاول جمعيات ومؤسسات إعلامية المناورة على كم الأفواه من خلال تنظيم ندوات مثل تلك التي عقدها مركز مدى الكرمل في حيفا، وتوفير منصات للكتابة مثل مجلة "فسحة". ويبرز في الآونة الأخيرة عقد اجتماعات تشاورية في غرف مغلقة لا تصل إلى الجمهور العام.
خاتمة
تتميز ردة فعل المؤسسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية، منذ السابع من أكتوبر، بتشديد القبضة، وإحكام السيطرة، وتكثيف محاولات التطويع من خلال الترهيب وكم الأفواه. إن هذه الحملة، كانت وما زالت تتم بتنسيق كبير بين مختلف أذرع دولة إسرائيل. ويبدو أن مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، استفادت من الدروس والعبر من الاحتجاجات الصدامية السابقة، إذ درست مكامن القوة المتمثلة في الحراكات الشبابية، وسارعت إلى تطويقها وحصارها، كما استهدفت واستغلت ضعف القيادة الفلسطينية السياسية الرسمية.
وفي مقابل هذا التنسيق، وتراكمية المعرفة حول المجتمع الفلسطيني، والاستفادة منها في محاولات تفكيك لُحمة المجتمع، وأيضاً في تنصيب نخب تصب في مصلحة سياسات الدولة، كما في حالة الجريمة المنظمة التي باتت تبسط هيمنتها، لم ترتق ردة فعل القيادة السياسية لفلسطينيي 48 إلى حجم خطورة الوضع؛ فقد لجأت هذه القيادة، مع النخب الأكاديمية والاجتماعية التقليدية، إلى الاحتماء بالمواطنة، معولين على ديمقراطية مؤسسات الدولة الإسرائيلية التي أثبتت، مرة بعد أُخرى، هشاشتها في ظل تقويض متزايد من هامش الممارسة السياسية التي انتزعها الفلسطينيون من النظام الاستعماري الاستيطاني على مدار سنوات طويلة منذ النكبة.
وعلى الرغم من محاولات النخب التحايل على القمع، في ظل ما يسمح به وهم المواطنة، فإن تزايد الخوف، وشعور العجز، وأيضاً شعور الخجل من عدم القدرة على التعبير عن التضامن مع أهل عزة، لدى الكثير من فلسطينيي 48، تبقى هي السائدة.
وعلى ما يبدو نحن أمام مرحلة جديدة في غاية الخطورة، تساهم فيها الظروف أعلاه عبر تغليب الخلاص الفردي على حساب الفعل الجماعي، فالفعل السياسي الرسمي مرتهن للدولة ومؤسساتها، وكل فعل سياسي فلسطيني عليه أن يكون مقروناً بحراك يهودي-عربي مشترك. وهذا واقع يذكّر بأيام ما بعد أوسلو حين حاولت المؤسسة احتواء هذا الجزء من الفلسطينيين والتعامل معهم كأمر سياسي إسرائيلي داخلي، لكن محاولات التطويع هذه محكومة اليوم بالخوف والترهيب، كما في سنوات الحكم العسكري. والدمج بين هذه العوامل يجعل هذه المرحلة شديدة الصعوبة، ومن غير المستبعد أن تكون هذه السياسات تجاه فلسطينيي الداخل جزءاً من مشروع إسرائيل للقضاء على القضية الفلسطينية.
[1] مركز أمان – المركز العربي للمجتمع الآمن.
[2] عرين هواري، "الفلسطينيون في إسرائيل: تفكك ʾالمشتركة" وتفاقم القمع القوميʿ وتصاعد نوعي في الجريمة"، في تقرير مدار الاستراتيجي 2023، تحرير: هنيدة غانم (رام الله: مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2023).
[3] للمزيد يرجى مراجعة: همت زعبي، "الفلسطينيون في إسرائيل"، في: "دليل إسرائيل 2020"، تحرير: منير فخر الدين وآخرون (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021).
[4] همت زعبي، "احتجاجات فلسطيني 48 وتأثيرها في السياسة الإسرائيلية"، في "مراجعة السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية"، تحرير: منير فخر الدين وآخرون (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)؛ علي مواسي، "مشكلات الكمون: فلسطينيو 1948 والحرب الإسرائيلية على غزة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).
[5] أحمد عز الدين أسعد، "محو المحو: تأملات في هبة القدس ومداراتها"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 127 (صيف 2021).
[6] رازي النابلسي، "عام على هبة الكرامة: إسرائيل تتجهز بمليشيات"، مدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 14/6/2022.
[7] مواسي مصدر سبق ذكره.
[8] علا طه وآخرون، "عامان على هبّة الكرامة (2021): سياسات القمع والفصل العنصري" (حيفا: عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، 2023).
[9] الأمم المتحدة، لجنة حقوق الإنسان، "لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالتحقيق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وإسرائيل".
[10] طه وآخرون، مصدر سبق ذكره.
[11] "ميزان مختل...قضاء يكيل بمكيالين: أحكام قاسية بحق شبان هبّة الكرامة"، موقع "عرب 48"، 3/12/2022.
[12] طه وآخرون، مصدر سبق ذكره؛ جنان عبده، "حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطة، والمحكمة/شهادة"، موقع "فسحة"، 25/5/2021.
[13] جنان عبده، "ملاحقة إسرائيل المرأة الفلسطينية ومحاولة تقييد نشاطها الوطني والسياسي"، "العربي الجديد"، 30/10/2022.
[14] يذكر أنه في عام 2023، قتل 10 فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية على يد أفراد من الشرطة. للمزيد انظر: "رسالة: يد الشرطة خفيفة على الزناد"، مركز أمان.
[15] "المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية تلاحق الطلاب الفلسطينيين بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل العدوان على غزة"، مركز عدالة، 26/10/2023.
[16]"عدالة يتوجه باسم الهيئة الطلابية للمطالبة بفتح تحقيق حول الاعتداء على الطلاب العرب في نتانيا"، مركز عدالة، 2/11/2023.
[17] "معطيات منذ 7/10/2023، حول التحقيقات، الاعتقالات ولوائح الاتهام لفلسطينيي الداخل"، مركز عدالة، تشرين الثاني /نوفمبر 2023.
[18] يوناتان اينجلندر، سموتريتش "يخاف العربَ المثقفين – هم ليسوا البضاعة التي يسهل بيعها للناخب" (بالعبرية)، "هآرتس"، 9/8/2023.
[19] وليد حباس، "خطة بن غفير لمواجهة الفلسطينيين في القدس وداخل إسرائيل: عسكرة المدنيين، إنشاء ميليشيات مسلحة، وإعادة هيكلة حرس الحدود!"، مركز مدار، 30/1/2023.
[20] المصدر نفسه.
[21] "وزير الأمن الداخلي، بن عفير، في موقع توزيع الأسلحة"، قناة القوة اليهودية على يوتيوب (بالعبرية)، 12/10/2023.
[22] "الحرب على غزة: سياسة الإخراس والترهيب والملاحقة تجاه الفلسطينيين في إسرائيل"، ورقة موقف وحدة السياسات، مدى الكرمل - المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
[23] "الشرطة تقمع محتجين ضد العدوان على غزة في حيفا والطيبة: 8 معتقلين بينهم متظاهرات...ومصاب"، "عرب 48"، 18/10/2023.
"احتجاجات في حيفا وام الفحم تنديداً بعدوان الاحتلال على غزة"، "عرب 48"، 5/11/2023.
[24] القرارات الصادرة بحق معتقلي مظاهرة ام الفحم: ظاهرة غير مسبوقة قانونيا، عدالة ١٦ يناير ٢٠٢٤.
[25] "بعد أربعة أشهر من الاعتقال بحجة هتافات ʾمحرضةʿ في مظاهرة خرجت منددة بالحرب على غزة، المحكمة العليا أفرجت بشروط مقيدة عن المحامي أحمد خليفة"، مركز عدالة، 9/2/2023.
[26] "الحراك الفحماوي الموحد..حين يقود الشبان المسيرة"، موقع "الجرمق"، 7/6/2021.
[27] عبير بكر، "الأسرى الفلسطينيون وحالة الطوارئ الإسرائيلية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2023).
[28] "عدالة يطالب بإلغاء تعديلات أنظمة الطوارئ التي تسمح بتمديد مدة منع المعتقلين من مقابلة محاميهم"، مركز عدالة، 30/10/2023.
[29] "عدالة تطالب المفوض العام للشرطة بالتراجع عن تعليماته بمنع التظاهر والاحتجاج"، مركز عدالة، 18/10/2023.
[30] "تعديل جديد على قانون ʾمكافحة الإرهابʿ يجرم استهلاك مضامين ʾإرهابيةʿ – يمر في القراءة الأولى"، مركز عدالة، 25/10/2023.
"تفاقم حملات الترهيب الإسرائيلية لفلسطينيي الداخل.. وتعديل قانون لتجريمهم على أفكارهم ونواياهم"، "القدس العربي"، 26/10/2023.
[31] "اعتقال جماعي للقيادات منعاً لوقفة ضد العدوان وʾعدالةʿ يستأنف"، مركز عدالة، 9/11/2023.
[32] قرارات لجنة السلوكيات في الكنيست بشأن موضوع تصريحات عضوَي الكنيست عايدة توما سليمان وإيمان خطيب ياسين. القرار يشمل إبعاد عضو الكنيست إيمان خطيب عن جلسات الكنيست والهيئة العامة لفترة شهر، وحرمانها من أجرها لمدة أسبوعين. أخبار الكنيست عن موقع الكنيست، 15/11/2023.
[33] "بأساليب غير مشروعة ومخالفة للقانون: الشرطة تلاحق رئيس لجنة المتابعة العليا لإصراره على الحق في الاحتجاج ضد الحرب على غزة - بركة، لن ترهبونا"، مركز عدالة، 27/12/2023.
[34] "بعد التماسنا: العليا تسمح بإقامة مظاهرة عربية يهودية في حيفا يوم السبت 20.1.2024"، جمعية حقوق المواطن، 18/1/2024.
[35] "إقامة لجان طوارئ الوطنية لمواجهة الوضع الراهن"، مركز عدالة، تشرين الأول/أكتوبر 2023.