حكايات حاجز
التاريخ: 
20/02/2024

إذا أردت أن تتنقل بين جغرافيات المتاهة في الضفة الغربية، فلا بد لك من أن تشترك في تطبيقات متابعة الطرق أولاً بأول، وتحفظ عن ظهر قلب التعبيرات اللفظية المستخدمة لوصف أحوال الطرق؛ "عطارة سالك على الداخل مغلق على الخارج"، "أزمة مرورية خانقة على حاجز دير شرف"، "حاجز عورتا مغلق بالاتجاهين"، "الكونتينر سالك بصعوبة"... الخ.

لم تعد الضفة الغربية عبارة عن كانتونات كما يحب أن يصفها بعض الأشخاص خلال بحثهم المحموم في لعبة القياسات بين تجربة الاستعمار الصهيوني ونماذج استعمارية أُخرى، ويمكن أن تتقاطع معها ماكينة الاستعمار الإسرائيلي، التي حولت الجغرافيا والمكان الفلسطيني إلى استحالات متعددة تتجاوز هذه السياسات العقابية، التي اصطُلح في الإشارة إليها مسمى "التمييز العنصري" ضد الفلسطينيين، إلى سياسات أكثر إبادية، تهدف إلى قتل الجسد في علاقته بالمكان وتهشيم ذاكرته المكانية. وتتوالد التقسيمات حتى تصبح لامتناهية في الصغر، حتى إن التحرك على الطرق الالتفافية المزروعة بأبراج المراقبة والمتابعة، ومئات البوابات المنتشرة، والسواتر الترابية على مداخل القرى والمدن، ومستعمرات استيطانية منتشرة على التلال، كلها أوقفت الحياة الفلسطينية على الحافة بين الموت والحياة، معلَقة بين ساتر ترابي وبوابة حديدية وحاجز سريع ومفاجئ "طيار"، بحسب القاموس الفلسطيني المشهور، بمعنى أنه ليس ثابتاً. وأصبح التحرك في متاهة الجغرافيات تلك يشبه لعبة الروليت الروسية؛ إذ إن المرور بالحواجز والنجاة منها أصبح لعبة حظ مميتة، يمكن أن تكلفك حياتك في أسوء الأحوال، وفي أحسنها تكلفك اعتقالاً وإهانة وبهدلة لساعات طويلة!

هناك مجموعات على التليغرام تقوم بعمل جبار في رصد حواجز الاحتلال المتحركة، ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة، ولحظة بلحظة، فمن عاش في فلسطين المحتلة وتقسيماتها الجغرافية التي لا تكف عن التوالد، يدرك أن الجغرافيا فعل انشطاري لا ينتهي، حتى إن الضفة الغربية كلها تتحول إلى نقطة تفتيش متحركة، نَمَتْ بعد الانتفاضة الثانية كالفطريات هادفة إلى تهشيم الجغرافيا ومنع تواصلها، ومن نافلة القول أن الحواجز الإسرائيلية لم تكن وليدة 7 تشرين الأول/أكتوبر، إنما هي امتداد في بنية إدارة إسرائيل للمكان والزمان وضبطهما والسيطرة عليهما، ضمن سياسات إخضاع الجسد الفلسطيني وتذريره وتهشيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية، عبر قطع الطرق ومنع الحركة، كي تصبح الحياة غير ممكنة، مع ابتكار أدوات عقابية تحوّل لحظة الفلسطيني ومكانه إلى جحيم لا يطاق، وتحولهما إلى سجن لامتناهٍ في الصغر. وتفقس تلك الحواجز في دفيئة إسرائيل، التي أتقنت قطع الطريق، وأحالت الضفة الغربية إلى نقطة تفتيش كبيرة.

سيارات بأجنحة

أنا أنتمي إلى جيل وقف على طوابير الانتظار إبان الانتفاضة الثانية وما بعدها، وعاينها بجلده وسمعه وبصره حتى أصبح حلمه المستحيل أن يسير على طرقات مفتوحة، ولساعات طويلة من دون عوائق وحواجز، وهو ما يشبه ما ذهب إليه فرانز فانون، في كتابه "معذبو الأرض"، عندما شرح أحلام المقموعين بأن أول شيء يتعلمه السكان الأصليون على يد المستعمِر أنهم أناس محجوزون في المكان، وممنوعون من تجاوُز الحدود، لذلك، فقد كانت أحلامهم "عضلية"، وأحلام فعل وهجوم؛ إذ تحلم حينها أنك تركض وتتسلق وتتشقلب وتضحك، ولا تحضر شرطة التفتيش والقمع، فيتحرر الأصلاني ويتحرك في كل الاتجاهات، وبأرجل طويلة، كما تحلم وأنت على الحاجز أن للسيارت أجنحة تتجاوز تلك الفوضى العارمة؛ "نقطة التفتيش"!

وفي الانتفاضة الثانية، فإن مَن عايش حاجز سردا ودير بزيع على حدود رام الله وقتها؛ حين فُصلت المدينة عن ريفها، فضلاً عن فصلها في داخلها بحواجز كـ "الجوال" على سبيل المثال، يرى كيف يحيل المستعمِر الزمان إلى شظايا متقطعة، فتبدأ بزمن الحاجز وتنتهي بالخلاص منه، حتى ابتكر الفلسطيني طرقاً بديلة وجغرافيا أُخرى؛ فالتف - إذا جاز التعبير - على الطرق الالتفافية، والحواجز، وكل أشكال المراقبة لدولة تفيض بمجساتها وكاميراتها، وكل أشكال طائرات التجسس والرصد. في تلك الأيام، رأينا سيارات النقل العام "الفرود" تتحرك بين الصخور، وعلى التلال، وبين الحواكير والجنائن المعلقة، حتى إنك كنت تسلّم نفسك طواعية إلى سائقي الباصات الصغيرة، وتعلم أنك ستصل في نهاية المطاف إلى تلك "البروليتاريا الرثة". فشكلت هذه المجموعات الفلسطينية، بخبرتها المتمرسة في خرق قوانين المستعمِر، شبكة حماية وأمان، عبر إنشاء شبكة طرق رديفة تعيد لملمة ما تشظى من علاقات اجتماعية واقتصادية، بعدما لم تعد كل الطرق تؤدي إلى رام الله آنذاك. والسؤال المتكرر على لسان الركاب هو: "بالك بنوصل؟"، ليجيب سائق الأجرة الواثق من فطنته: "رح نوصل مادام ’هالمبروكة‘ (السيارة) بتمشي!" وتعيد إسرائيل بين الفينة والأُخرى توزيع الحواجز من باب التغيير، فلعلها تخشى أن تصدأ قبضتها الحديدية، فتعيد نشر حواجزها مرة بعد مرة، على مر الأعوام الممتدة على مداخل القرى والمدن، وكأننا في زمن دائري. تلك الدولة مسكونة بتوزيع اقتصاد القمع، والذي أصبح يُسمى بعد اتفاقية أوسلو وقيام السلطة بـ "إعادة الانتشار"، تلطيفاً لكلمة الاحتلال، عبر سياسات إعادة توزيع شبكات السيطرة وعلاقات القوى والهيمنة الاستعمارية لمصلحة إسرائيل.

الزمن الدائري

تمرست الماكينة الاستعمارية الإسرائيلية في تقطيع أوصال الأرض والمكان، حتى أصبح الفلسطيني يعاني جرّاء "متلازمة بؤس الجغرافيا"، ولم تكن لتنتهي هذه الماكينة حتى تبدأ من جديد، وتعيد الفلسطيني دائماً إلى أول الطريق، وإلى لحظاته الحرجة في تاريخه التراجيدي من تقسيمات جغرافية كبرى بين فلسطين المستعمَرة سنة 1948، وفلسطين المستعمَرة سنة 1967، وإلى مخيمات الشتات، وما بينها من تقسيمات لامتناهية في الصغر، وهذه الأمور طبعت الفلسطيني بطابعها الثقافي والاجتماعي والسياسي والقانوني، وصولاً إلى حربها على غزة الأكثر من إبادية، وتقسيمها للقطاع إلى "مربعات آمنة وغير آمنة"، وآخر ما تفتق عنه العقل الاستعماري الإبادي الذي يتعامل مع الفلسطيني كـ "مشكلة حسابية" تحاول أن تعيده دائماً إلى صفر الوجود!

في زمن الإعادة والاستعادة المتكرر والدائري لقدرة إسرائيل التدميرية، تناسلت الحواجز ونقاط التفتيش وأدواته، كما أدوات المراقبة، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، معيدة كل جيل فلسطيني إلى ما عايشه من سياسات التقسيم تلك التي حوّلت الذاكرة الفلسطينية الموشومة ببؤس المكان والتحويل اليومي المعاش إلى لحظات مكثفة من المعاناة إلى ثقوب سوداء، كما تُذكّر الفلسطيني دائماً بأن هناك شبحاً جاثماً فوق صدره، يضرب علاقته بالمكان.

على حاجز "تل" العسكري - الذي أصبح طريقاً بديلاً لبلدة حوارة المنكوبة والمغلقة بعد أحداث طوفان الأقصى، والتي كانت تربط نابلس بالوسط والجنوب - تقف طوابير من السيارات على مد البصر؛ إذ يقف جندي نزق يتسلى بالمارة، ففي ماكينة العذاب تلك يقرر أن يذكّرنا بأنه السيد هنا؛ فيغلق الحاجز، وتتكدس طوابير السيارات على المسارب كافة، فتبدأ الفوضى العارمة باجتياح المكان. من مهمات الحاجز الأولى أيضاً أن يحوّل أُلفة المكان إلى فوضى متعددة المستويات، تبدأ السيارات فيها بالتجاوز في عكس السير إلى أن تغلق الطرق من كل الاتجاهات، فيغيب الجندي خلف أرتال من السيارات وأصوات الزمامير والصراخ وسيل من الشتائم من فوق الزنار ومن تحته، فيصاب الجميع بتوتر عضلي وتشنجات في أسفل المعدة، ويتأهب كل واحد للوثوب كي لا يتعدى على دوره أحد في تقدُمه نحو الحاجز ببطء ممل. وهذا الجندي الذي نتحدث عنه - بعد السيناريو المذكور - أغلق الحاجز مرةً بعد أن أمر المارة باحترام النظام! فسرحتُ في البعض ممن "قبض كلامه على الساغ" كما يقال، وصدّقه، فبدأ بإرجاع السيارت والصراخ على الناس، فقلتُ في نفسي: "يا حبيبي! هناك من يستعد دائماً للعب دور الوكيل!" وقالت عجوز أُنهِكت روحها، تجلس في جواري: "ما ظايل على الخُم غير ممعوط الذنب"، وغطت فمها بطرف منديلها، وبدأت تطلق تعويذاتها على أولاد الميتة، فقلتُ في نفسي: "هذه أخمام للدجاج! لقد حولت هذه الدولة أمكنتنا إلى أخمام!" فقطع حبل أفكاري صراخ أحدهم، وتحول الصراخ إلى شجار وتدافُع، فالعضلات متوترة ومتوثبة. كل شيء هنا يخالف المنطق للوهلة الأولى؛ فالجندي يغلق الحاجز كعقاب جماعي، ثم يركل بعض المحتجزين بعضهم الآخر، لأن أحدهم أراد أن يتجاوز سيارة أُخرى، فتذكرتُ فانون مرة أُخرى في تشريحه لسلوك المضطهَدين؛ عندما تكلم عن السلوك الهروبي التي يعمي عن رؤية العدو الحقيقي عندما تُفرَّغ العضلات المستفَزة ضد بعضها! أي سريالية هذه؟! وقرر الجندي أن يفتح الحاجز بعد أن متّع ناظرَيه بحفلة المرمطة تلك، فحمل جهازه النقال هو وجنود يقفون إلى جانبه، وبدأوا يلتقطون صوراً ويتضاحكون ويتغامزون لسيل السيارات العالق والمتدافع من الاتجاهات كافة! فنهضت العجوز من غفوتها الطويلة، وسألتْني: "شكلنا مرقنا؟"، فقلتُ لها: "صحيح"، ثم رفعتْ يدَيْها إلى السماء، وتمتمت دعوة على الجنود، فضحكتُ من هول الدعوة، وفكرتُ في حياتنا العالقة في أزمة خانقة تُسمى إسرائيل؛ حين تقف على حاجز تل العسكري، ويعود إلى ذاكرتك حاجز سردا. أي حياة هذه التي تعود فيها دائماً إلى نقطة الصفر مع ماكينة تبدأ دائماً من البداية؟ لعلنا نبدأ نحن أيضاً من البداية في مقاومة هذه الدولة.

عن المؤلف: 

عدي البرغوثي: باحث حاصل على ماجستير في الدراسات العربية المعاصرة من جامعة بيرزيت.

image courtesy of ARIJ website.
Emma Bainbridge
نازحين فلسطينين عند محيط مستشفى الشفاء، 1 ابريل/نيسان 2024، قطاع غزة/فلسطين" تصوير "خالد داود، عبر apaimages
نيللي المصري