مرت 4 أشهر على بداية حرب الإبادة على قطاع غزة وأهله، الذين يتعرضون لما لم يتعرض له شعب آخر في التاريخ المعاصر، وبهذه الكثافة. وانطلاقاً من هذا الوضع، وبعد رأي عام عالمي، وحراكات واحتجاجات وتظاهرات ومقاطعات، لم يسبق أن كانت بهذا الزخم والاستمرارية، وبعد تقارير أممية وحقوقية، ومرافعات لمحكمة العدل الدولية، وصور وحقائق قادمة من القطاع، بصورة أساسية، وغير ذلك مما يدل على حجم الكارثة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي هناك، أمكن لأحدنا أن يرجح أن الهياج والترهيب الغربيَين في كل ما خص التضامن مع الفلسطينيين، كشعب يعيش تحت الاحتلال، وله الحق كما لغيره في مقاومة محتله بشتى الوسائل، سيرتدع، أو على الأقل سيخف.
وقد فاض التهديد والتربص الإعلامي والحكومي، خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر، على كل من حاول بعقل وموضوعية فهم ما حدث في السابع من ذلك الشهر قائلاً إن تاريخ القضية الفلسطينية لم يبدأ يومها، ولو استهل المتكلم الحديث بإدانة صارت عرفاً في أي كلام عمومي غربياً، محاولاً الاتزان على مسافة واحدة من المستعمِر والمستعمَر؛ الظالم والمظلوم، كما فعل الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجيك، في معرض فرانكفورت،[1] فنال نصيبه من الصياح، ولحق ذلك إلغاء مؤتمر صحافي له كان سيلحق كلمته. كما فاض التهديد، وعمّ طوفان الإلغاء كل ما هو فلسطيني أو كل مناصر له أو حتى كل متفهّم لحقوقه، وهناك أمثلة كثيرة تحضر لهذه المكارثية، وهذه المقالة مخصصة للحديث عن 3 أحداث شهدتها الأيام الأخيرة.
ربما يظن أحدنا أن ذلك هيجان غربي أبيض عاطفي تجاه ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأنه سيخف مع الوقت، وستعود الأمور إلى "طبيعتها"، وأن التضييقات والإلغاءات لما هو فلسطيني ستكون أقل تطرفاً وتماهياً مع القوة الظالمة، والصديقة لأصحاب القرار في أوروبا وأميركا الشمالية، لكارثية المرتكَب على الغزّيين. وقد زاد كل من الحرب الإبادية، وما تبعها من تضامُن أممي وحقوقي مع الضحايا في القطاع، من اعتقاد أحدنا أن التعبير التضامني مع هؤلاء سينال مساحة أكبر من التي كان مسموحاً بها قبل تشرين الأول/أكتوبر، باعتبار أنه لن يستطيع أحد إدانة المطالبات بوقف حرب، أياًّ تكن، وبإعانة الضحايا، بغض النظر عن هويتهم، حتى لو لم يكونوا أوروبيين بيضاً من طبقة متوسطة أو أعلى.
وتبيَّن أخيراً أن الموقف تجاه الفلسطينيين هو ذاته، سواء أكانوا مقاومين أم ضحايا، مقاتلين أم مدنيين. فلم يكن الترهيب لأي متضامن مع الضحايا الفلسطينيين، أو لأي شخص يحاول أن يفهم "لماذا قامت ’حماس‘ بما قامت به؟" موجوداً في أوائل الحرب فقط – إذ كانت وقتها "النسبية" و"السياقية" تهمة تعني التماهي مع الحركة الإسلامية والتبرير لطوفانها – بل أيضاً امتد إلى يومنا هذا.
وشاعت في فرنسا – البلد الذي لا يكف عن التنظير في حرية التعبير – تهمة "التبرير للإرهاب" في أي حديث لا يكون "كما يجب" في المسألة الفلسطينية. ولهذا الانحدار الأخلاقي كله استمرارية، بعد 4 أشهر ظن فيها أحدنا، خطأً، أن تعاطُف المستعمِر القديم مع المستعمِر الجديد مسألة هيجان عاطفي، أو نوستالجيا ربما، سرعان ما سيهدأ مع الصور والحقائق الكارثية الواصلة من قطاع غزة، وحتى الضفة الغربية.
وهناك 3 أمثلة سريعة، ومتزامنة، تفيد بأن الظن كان فعلاً خطأً، وأن حالات الإلغاء، التي طالت حتى إيلان بابيه، الذي سحبت[2] دار النشر الفرنسية "فيارد" كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" من الأسواق على الرغم من ازدياد حجم الطلب عليه، ليست استثناءً، أو مجرد تطرف آنيّ، إنما هي ممارسة ممنهجة وجدت سياقاً للتطرف في المراحل الأولى من الحرب، وبقيت، ولو بفجاجة أقل وترهيب أخف، مستمرة.
أولاً: الناشطة الحقوقية الفلسطينية الفرنسية ريما حسن: كانت قد اختارتها مجلة "فوربس"[3] ضمن 40 امرأة فرنسية كان لهن "أثر مشعٌّ" لفرنسا في العالم، وقد خرجت حملات منظمة وعشوائية في فرنسا، تفشت قبل أيام احتجاجاً على ذلك، بسبب الصوت العالي لها في فضح الإبادة التي يتعرض لها الغزّيون، لتقوم بعد ذلك المجلة بإلغاء الحفل التكريمي للنساء الـ 40.
ثانياً: الرياضية السنغالية الفرنسية، إميلي غوميز:[4] خسرت منصبها كسفيرة للألعاب الأولمبية في فرنسا، وتم استدعاؤها قبل أيام، والتحقيق معها، بموازاة حملة تشهير شعبوية كذلك، بسبب نشرها في تشرين الأول/أكتوبر صورة لخريطة فرنسا مع علم إسرائيل يتفشى كالوَرم فيها، ضمن مراحل تاريخية، كتلك التي تشير إلى مراحل استعمار إسرائيل لفلسطين على الخرائط منذ سنة 1948 حتى اليوم، مع تعليق لها، تسأل فيه: "ما الذي كنتم ستفعلونه في فرنسا؟"
ثالثاً: جمعية "تسيديك - التجمع اليهودي ضد الاستعمار"[5] الحاضرة في التظاهرات والفعاليات التضامنية مع الفلسطينيين: وقد اضطرت إلى إلغاء عرض فيلم "منطقة الاهتمام"، والذي يحكي عن ضابط نازي يبني بيتاً وحديقة عند معسكر أوشفيتز، أمّا سبب الإلغاء، فهو امتناع أحد المدعوين، وهو باحث في النازية، من الحضور بعد اكتشاف أن للجمعية مواقف مساندة لحق الفلسطينيين في المقاومة، ثم إلغاء صالة السينما الحدث بالكامل بعد امتناعها من استضافة الباحثة الأخرى المختصة بالمحرقة والنكبة، والمتضامنة مع الفلسطينيين.
هذه الأحداث الـ 3 تداعت منذ أول شباط/فبراير حتى اليوم، وأُضيف إليها بيان من الفيلسوفة جوديث بتلر،[6] حكت فيه عن الندوة التي كان يُفترض أن تُقام لها في باريس عن اللاسامية والصهيونية، ثم ألغتها بلدية المدينة، فقالت بتلر، ساخرةً من البلدية وقرارها، إنه إلغاء لها شخصياً، وإنها كانت ساذجة لأنها لم تتخيل أن رئيسة بلدية باريس يمكن أن تلغي فعالية كهذه.
إن الممارسة الإلغائية والقمعية، بصفتها استمرارية لحالة ترهيب فكري يتعرض له كل مؤيد للحقوق الفلسطينية، أو حتى متضامن مع ضحايا غزة، استهدفت، في الدرجة الأولى، الحق الفلسطيني في الوجود والحياة والحرّية، كما استهدفت أي بواعث إنسانية وأخلاقية حالت دون أن يبقى أي فرنسي صامتاً أمام الظلم المريع وتواطؤ الحكومة الفرنسية في هذه الحرب الإبادية، كما تصدح التظاهرات الفرنسية في أكثر شعاراتها تردداً. والمفارقة في رياء الطبقة الحاكمة في فرنسا، والمتحكمة بالمؤسسات الإعلامية والأكاديمية وغيرها، تكمن في أن الضحايا المباشرين لكتم الصوت الفلسطيني هم بنسبة عالية يهود؛ يهود في مواجهة الصهيونية، وهم إيلان بابيه، وجوديث بتلر، وجمعية "تسيديك".
[1] Saeed Saeed, “Slavoj Zizek brands Frankfurt Book Fair ‘scandalous’ for cancelling Palestinian's award”, The Nation, 18/10/2023.
[2] Hocine Bouhadjera, “Fayard éclipse en catimini un de ses ouvrages sur la Palestine”, Actualitte, 12/8/2023.
[3] “CLASSEMENT | 40 FEMMES FORBES | Rima Hassan”, Forbe, 22/8/2023.
[4] “Emilie Gomis quitte son rôle d’ambassadrice des JO 2024, après un post Instagram polémique sur Israël”, Le Monde, 10/1/2024.
[5] Zineb Dryef, “Une projection de ‘La Zone d’intérêt’ présentée par un collectif de militants juifs antisionistes suscite la controverse”, Le Monde, 5/2/2024.
[6] Judith Butler, “Naïve and instrumentalized? Judith Butler on the Mayor of Paris's Cancellation of the Meeting Against Antisemitism and Its Instrumentalization”, Verso, 1/2/2024: