يعتبر قرار الحرب من القرارات المهمة والصعبة في النظام السياسي الإسرائيلي، لذلك لا تطلق الحكومة الإسرائيلية على كل مواجهة صفة الحرب، فالحرب تتطلب مسوغات قانونية وقراراً حكومياً رسمياً، بينما تخضع العمليات العسكرية، حتى لو تطورت إلى مواجهات عسكرية، إلى قرارات ومسارات مختلفة.
قرار الحرب وإدارتها في إسرائيل يتبعان مسارين مهمين هما: المسار القانوني الرسمي والمسار غير الرسمي الذي تم التعارف عليه تاريخياً، أو تفرضه الظروف القتالية والسياسية. يملك رئيس الحكومة صلاحية إقرار عمليات عسكرية من دون حرب، وعادة ما يلجأ إلى موافقة المجلس الوزاري المصغر، بينما يتطلب قرار الحرب موافقة الحكومة عليه. هذا من الناحية القانونية الدستورية، لكن عملياً، فإن رئيس الحكومة يستطيع فرض قرار الحرب على الحكومة، فهو المسؤول عن الأجهزة الأمنية الاستخباراتية، الموساد وجهاز الأمن العام (الشاباك)، وهي أجهزة تابعة لمكتب رئيس الحكومة، لذا فهو يملك أهم مورد مقارنة بباقي أعضاء الحكومة، وهو مورد المعلومات التي يستطيع الانفراد بها لنفسه. وبحسب البند 40 (أ) من قانون أساس الحكومة، فإن الحكومة هي المخولة اتخاذ القرار بالحرب، وبحسب البند 40 (أ1) فإن الحكومة تستطيع تخويل المجلس الوزاري المصغر اتخاذ قرار الحرب، إمّا بشكل دائم خلال ولاية الحكومة، وإمّا لمرة واحدة في سياق تصعيد عسكري معين. وبالتالي، فإن إعلان حالة حرب ليس من صلاحية رئيس الحكومة وحده، ولا من صلاحية الجيش أو وزير الدفاع، وإنما من صلاحية الحكومة. ففي عام 2018 أُدخل تعديل على قانون أساس الحكومة يخول المجلس الوزاري المصغر إعلان حالة الحرب من دون الحاجة إلى قرار من الحكومة، وقد جاء هذا التعديل لتفادي التسريبات من الحكومة، إلاّ إنه لم يمنع استمرار التسريبات إلى وسائل الإعلام من المجلس الوزاري المصغر أيضاً، كما حدث خلال الحرب على غزة عام 2014 عندما تم تسريب معلومات من داخل المجلس تفيد بعدد الخسائر التي سوف يتكبدها الجيش الإسرائيلي إذا قام بعملية برية في القطاع.
بعد إعلان الحكومة حالة الحرب، يلقي رئيس الحكومة خطاباً في الكنيست يعلن فيه للسلطة التشريعية مسوغات إعلان الحرب. فالقانون الإسرائيلي لا يعرّف مفهوم الحرب، إذ يخضع التعريف لقرار سياسي من الحكومة، التي تعلن حالة الحرب.[1] وفي هذا الصدد، لا يوجد تعريف قانوني للحرب في إسرائيل، لكنْ هناك تعريف لمعنى الصراع أو المواجهة كحالة حرب، مثل فرض قوانين الطوارئ، والقدرة على إغلاق مناطق مدنية واعتبارها مناطق عسكرية، وغيرها من الإجراءات. علاوة على ذلك، فإن إعلان حالة الحرب يمنح الحكومة سلطة إقرار عمليات عسكرية واستهداف منشآت حيوية بصورة شاملة ومكثفة.
إدارة الحرب: بين الفردي والجماعي
إدارة الحرب في إسرائيل كانت تعتمد على قوة وهيمنة رئيس الحكومة أو وزير الدفاع، ولم يكن هناك منظومة تنظم هذه المسألة بشكل واضح، وظلت حالة الضبابية وتآكل الحدود بين مختلف السلطات تفرض قواعد مختلفة لإدارة الحرب. ففي عام 1948، أدار دافيد بن غوريون الحرب بشكل منفرد تقريباً، فهو وضع الأهداف الكبرى والصغرى للعمليات العسكرية، وتدخل أحياناً في عمليات عسكرية صغيرة، وكان عملياً قائد هذه الحرب من الناحية العسكرية، على الرغم من أنه لم يكن يملك سجلاً عسكرياً كبيراً، ورفض تشكيل مجلس حرب، وكذلك الأمر كانت مركزيته في حرب العدوان الثلاثي على مصر، فقد رفض تنظيم قرار الخروج إلى حرب أو تنظيم عمليات عسكرية، تاركاً الأمر برمته له، فقرار شن الحرب على مصر جاء إلى الحكومة قبل يوم واحد من شنها، وبعد الاتفاق مع بريطانيا وفرنسا بشأنها.[2]
عشية حرب حزيران/يونيو 1967، اتخذ رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول نهجاً مختلفاً عن بن - غوريون المركزي والسلطوي، فقد أشرك إشكول اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي في التشاور بشأن الوضع العسكري ثلاثة أسابيع قبل اندلاع الحرب، وعقد عشر جلسات للجنة قبل اندلاع الحرب، وخمس مرات انعقدت الحكومة للتداول في الوضع العسكري مع مصر. ومع ذلك كان إلى جانب إشكول وزير دفاع قوي وذو شعبية عالية، ويملك سجلاً عسكرياً كبيراً، هو موشيه ديان الذي اتخذ القرار في التاسع من حزيران/يونيو بشن هجوم على سورية من دون تبليغ الحكومة أو حتى إشكول نفسه. أمّا غولدا مئير فقد كان لديها مطبخ حرب، وكان ديان جزءاً مركزياً من هذا المطبخ، وقد اتُخذت القرارات العسكرية خلال حرب أكتوبر 1973 من خلال المطبخ الحربي، وكانت القرارات المهمة تُؤخذ في المطبخ الحربي، أمّا اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي فكانت تُعقد رسمياً من دون أن يكون لها تأثير في القرارات العسكرية للحرب. ولا شك في أن فكرة المطبخ الحربي للحرب الحالية على غزة مستوحاة من المطبخ الحربي في حرب أكتوبر 1973، مع الفرق أن المطبخ الحربي الحالي أقل هيمنة من مطبخ مئير، إذ ليس لديه مطلق الصلاحية والتأثير، ويحتاج إلى إقرار المجلس الوزاري المصغر لقراراته.
في حرب لبنان 1982، كان أريئيل شارون، وزير الدفاع في حكومة مناحيم بيغن الثانية، رجلاً مهيمناً على العمليات العسكرية، لا بل إن مصادر إسرائيلية موثوقة تشير إلى أن تجاوز القوات الإسرائيلية لخط 40 كيلومتراً كان قراراً منفرداً لشارون، ولم يعلم به بيغن. فقد تدخل شارون في تفاصيل العمليات العسكرية على الرغم من أن رئيس هيئة الأركان كان حينها رفائيل إيتان، وهو شخصية لديها نزعة تمرد، لكنه توافق مع شارون على أهداف الحرب واحتلال بيروت.
في عام 1992 تم تعديل قانون أساس الحكومة، والذي بموجبه تم تنظيم عملية إعلان الحرب، بحيث نص القانون على أن الحكومة هي الجهة المخولة إعلان حالة الحرب. وكانت حرب لبنان الثانية 2006، هي الحدث العسكري المركزي الأول الذي حدث خلال التعديل الجديد للقانون؛ فقد خرجت إسرائيل إلى عملية عسكرية ضد حزب الله في تموز/يوليو 2006 من دون إعلان حالة حرب، وإنما اعتبرت الحدث عبارة عن عمليات عسكرية ضد حزب الله. وقدم وزير الخارجية السابق يوسي بيلين التماساً إلى المحكمة العليا يطالب فيه الحكومة إعلان حالة الحرب بسبب كثافة العمليات العسكرية والخسائر الكبيرة التي تتكبدها إسرائيل جراء عمليات حزب الله. وكان رد المحكمة أنه لا يوجد تعريف محدد لمعنى الحرب، أو تعريف يفرض إعلان الحرب، وهذا يعني ويؤكد أن إعلان حالة الحرب هو قرار سياسي، وليس موضوعاً يتكئ على معطيات وعوامل محددة.
المجلس الوزاري المصغر
استندت فكرة تشكيل المجلس الوزاري المصغر إلى قرار الحكومة عام 2001. ويمثل الكابينت اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي،[3] وقد أقرت الحكومة الحالية تركيبة اللجنة في القرار رقم 6 بتاريخ 3/1/2023. ويتكون الكابينت من عضوية كل من:
رئيس الحكومة- رئيس اللجنة، تعيين حسب القانون.
وزير الأمن- حسب القانون.
وزير القضاء- حسب القانون.
وزير الخارجية- حسب القانون.
وزير الأمن القومي- حسب القانون.
وزير المالية- حسب القانون.
وقد انضم إلى الكابينت، بناء على قرار الحكومة، 4 وزراء آخرين لم يحددهم القانون وهم: آفي ديختر، ويسرائيل كاتس وزير الطاقة، ورون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية، وميري ريغف وزيرة المواصلات.
وقد أقرت الحكومة صلاحيات الكابينت التي تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، وهو المخول اتخاذ قرار الخروج إلى الحرب أو القيام بعمليات عسكرية مهمة تؤدي إلى اندلاع الحرب. وقد خول قرار الحكومة رئيس الحكومة نتنياهو حصر قرار الحرب أو قضايا الأمن في إطار الكابينت في حال تطلّب أمن الدولة أو علاقاتها الخارجية ذلك، أو من أجل الحفاظ على سرية القرارات. كما أن الكابينت لديه الصلاحيات والمسؤولية على الأجهزة الأمنية وسياساتها وعلاقات إسرائيل الخارجية والتسلح. وخوّل القرار مجلس الأمن القومي إدارة شؤون لجنة الأمن القومي بالتنسيق مع سكرتارية الحكومة.
بناء على ذلك، فإن المجلس الوزاري المصغر هو الجسم المسؤول عن إدارة الحرب، وإقرار العمليات العسكرية، أو اتخاذ القرار باحتلال أراض أُخرى، وتحديد أهداف الحرب العسكرية والاستراتيجية، وفي هذه الحالة يكون الجيش هو الذراع التنفيذية لقرارات الحكومة. فقد حدد قانون أساس الجيش (البند 2أ) أن الجيش يخضع لسلطة الحكومة، وفي هذا الصدد، فإن المستشار القضائي للحكومة يشارك في جلسات المجلس الوزاري خلال الحرب، ويفحص كل قرار من منظار القانون الإسرائيلي، والحفاظ على المسار القانوني لاتخاذ القرارات، كما نصت عليه قوانين الحكومة والجيش والسلطة التشريعية.
دور المؤسسة العسكرية والأمنية
تاريخياً، كانت المؤسسة العسكرية والأمنية تؤدي دوراً محورياً في قرارات الحرب، فهي المخولة من الناحية المهنية تقديم التقديرات العسكرية بناء على المعلومات الاستخباراتية للسلطة السياسية، فامتلاك المؤسسة العسكرية للمعلومات هو مورد مهم يجعلها عاملاً مؤثراً في قرار الحرب. وإلى جانب تقديرات الربح والخسارة في الميدان، وتقدير الخسائر، وحتى تقديم تصورات للتداعيات الاستراتيجية للحرب، يكون دور المؤسسة العسكرية والأمنية كبيراً كلما كانت الحكومة تفتقر إلى الخبرات العسكرية المتمثلة في وجود عسكريين وأمنيين سابقين في الحكومة، وتقل كلما كان تواجد هؤلاء أكثر. وتتضاءل قدرة المؤسسة العسكرية والأمنية على المناورة في الحكومة كلما كان أعضاؤها أصحاب خبرة عسكرية سابقة، وخصوصاً في المجلس الوزاري المُصغر، وعادة تحرص الحكومات على إدراج هؤلاء ضمن المجلس الوزاري في مكانة مراقبين إذا لم يتقلدوا مناصب وزارية تؤهلهم لعضوية كاملة قانونية في المجلس.
بقيت هذه القاعدة أو المعادلة سارية المفعول في معظم مراحل تاريخ إسرائيل، فعلى سبيل المثال، في عهد حكومات رابين كان دور الأخير مركزياً في القرارات العسكرية، إذ كان يحرص على تقلد منصب وزير الدفاع إلى جانب رئاسة الحكومة، وقد اتخذ رابين قرارات عديدة ذات طابع استراتيجي بخلاف موقف المؤسسة العسكرية. كذلك الأمر بالنسبة إلى حكومة شارون، الذي وضع ثقله في القرارات العسكرية والأمنية، فكان يتابع شخصياً سياسة الاغتيالات في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إذ لدى كل منهما خلفية عسكرية كبيرة، وكانا بمثابة أستاذين بالنسبة إلى الضباط الذين كانوا يعملون تحت إمرتهما في المؤسسة العسكرية والأمنية.
بقيت هذه القاعدة سارية حتى السنوات الأخيرة، فقد قوّض اليمين من تأثير المؤسسة العسكرية والأمنية في القرارات الأمنية، وذلك تماشياً مع توجهاته الأيديولوجية، وحدث اهتراء غير مسبوق في تأثير المؤسسة العسكرية والأمنية في قرار الحكومة بصورة عامة، والمجلس الوزاري المصغر بصورة خاصة، على الرغم من أن أغلبية حكومات اليمين في السنوات السابقة كانت تفتقر إلى حد كبير إلى جنرالات سابقين؛ ففي حكومة نتنياهو الأخيرة أوكل الأخير وزارة الدفاع إلى يوآف غالانت، وهو الوحيد الذي يملك سجلاً عسكرياً "كاملاً"، بالإضافة إلى آفي ديختر رئيس الشاباك السابق الذي عيّنه نتنياهو كعضو مراقب في المجلس الوزاري.
اتخاذ القرارات العسكرية في الحرب على غزة
لا يعتبر مجلس الحرب الذي تشكل مع بداية الحرب على غزة مجلساً قانونياً دستورياً، فالمجلس القانوني المخول اتخاذ القرارات العسكرية هو المجلس الوزاري المصغر، وجاء تشكيل مجلس الحرب كشرط لانضمام حزب المعسكر الرسمي برئاسة بني غانتس إلى الحكومة. وجرى استبعاد الكثير من الوزراء في المجلس الحالي، والذين وصل عددهم إلى عشرة، ومنهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الخارجية إيلي كوهن، وزير القضاء ياريف لفين.
تعود فكرة تشكيل حكومة طوارئ في وقت الحرب إلى عام 1967، حين انضم مناحم بيغين، رئيس حزب "حيروت" (لاحقاً حزب الليكود) إلى حكومة حزب العمل برئاسة ليفي إشكول عشية اندلاع حرب حزيران/يونيو، وقد استمرت هذه الحكومة طوال فترة الحرب، ومن ثم خرج منها بيغن مرة أُخرى إلى صفوف المعارضة. وقد تأسس مجلس حرب مصغر (مطبخ عسكري) في إسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973، وضم أربعة أعضاء اتخذوا القرارات المتعلقة بسير العمليات العسكرية من دون الرجوع إلى الحكومة، التي أقرت قرارات "المطبخ" بأثر رجعي. ومن هذه التجربة، على ما يبدو، استوحى المعسكر الرسمي فكرة "المطبخ الحربي" الضيق التي طرحها على نتنياهو.
تختلف حكومة الطوارئ عن حكومة الوحدة الوطنية، فالأخيرة يتم فيها توزيع حقائب وزارية بين مركبات الحكومة، وتستمر في العمل كحكومة عادية حتى إجراء انتخابات جديدة، أمّا حكومة الطوارئ فإنها تعمل وقت الحرب بدون توزيع حقائب وزارية فعلية على الأعضاء الجدد فيها، ولا تعتبر قرارات مجلس الحرب ملزمة من الناحية القانونية، إذ عليها أن تُقر في المجلس الوزاري المصغر كي تأخذ طابعاً قانونياً.
ويقوم مجلس الحرب بدور مركزي في إدارة العلميات العسكرية في غزة، وعلى الرغم من كونه مجلساً غير قانوني، وتحتاج قراراته إلى إقرار المجلس الوزاري المصغر، فإنه عملياً هو من يدير الحرب، ويقّر المجلس الوزاري معظم توصيات/قرارات مجلس الحرب. كما أن للجيش دوراً في اتخاذ القرارات العسكرية، التي تخضع لاعتبارات سياسية وعسكرية وشخصية، بحيث لا يمكن الفصل بين هذه الاعتبارات.
وقد كان لهذه الحرب في بدايتها ثلاثة أهداف: هدفان معلنان وثالث غير معلن؛ فالهدف المعلن الأول تمثل في القضاء على حركة "حماس"، وبعد فترة تم إدراج الهدف الثاني وهو استعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين. وقد اتخذ الهدف الأول معانيَ كثيرة مع إطالة أمد الحرب وعدم تحقيقه، فأصبح يدور الحديث تارة عن القضاء على البنية العسكرية والحكومية لـ "حماس"، وتارة عن اغتيال قياداتها في غزة والخارج، ولا شك في أن إطالة الحرب كانت لتحقيق هذا الهدف الذي يردده أغلبية وزراء الحكومة، وعلى رأسهم نتنياهو. أمّا هدف استعادة الأسرى والرهائن فهو الذي شكل الإخفاق الكبير لهذه الحرب، إذ كان التعويل أن الضغط العسكري سيدفع "حماس" إلى إطلاق سراحهم، أو إلى تخفيف حدة شروطها في اتفاق الهدنة الأول ومقترح التهدئة الثاني.
وبالنسبة إلى الهدف الثالث غير المعلن فكان تهجير سكان قطاع غزة من خلال الضغط العسكري، وإجبارهم على النزوح إلى الجنوب، ومنه إلى سيناء، وهو هدف فشلوا في تحقيقه بشكل كبير.
وتتعلق مسألة إطالة أمد الحرب من جانب إسرائيل بالعوامل التالية:
-
سعي الجيش لإعادة الاعتبار إلى مكانته العسكرية وهيبته أمام الجمهور الإسرائيلي من جهة، وأمام البيئة الإقليمية من جهة أُخرى، لذلك فإن المؤسسة العسكرية هي عامل مركزي في إطالة الحرب، بالإضافة إلى حجم الدمار الكبير الذي تلحقه بالقطاع وعشرات آلاف الشهداء.
-
سعي نتنياهو لإعادة ترميم صورته السياسية الداخلية، ويدخل في هذا العامل مجموعة من المتغيرات التي لا بد من الإشارة إليها: أولاً، الصورة الذاتية لنتنياهو عن نفسه بأنه هو المنقذ/ المخلص للشعب اليهودي، وبالتالي فإن إخفاق السابع من أكتوبر هو نقيض لهذه الصورة الذاتية، وللصورة التي عمل على بنائها لعقود. ثانياً، المصلحة السياسية الداخلية، فهذا الإخفاق من شأنه أن يُنهي حياة نتنياهو السياسية، لذلك لديه مصلحة واضحة في إطالة الحرب عله يستطيع تقديم إنجاز يعيد من خلاله ترميم مكانته السياسية، ذلك بأن بقاءه وحكومته بات منوطاً باستمرار الحرب وإطالتها، وهذا ينعكس على استمرار العمليات العسكرية، حتى لو لم تشمل تحقيق أهداف سياسية واضحة.
-
اليمين الإسرائيلي، يسعى اليمين إلى مقاربة الحرب أيديولوجياً باعتبارها فرصة تاريخية لن تتكرر من أجل تهجير سكان قطاع غزة وبناء مستوطنات، أو على الأقل إعادة بناء مستوطنات غوش قطيف التي انتهت مع خطة فك الارتباط عن قطاع غزة عام 2005. لذلك يرفض اليمين الإسرائيلي إيقاف الحرب، أو حتى الذهاب إلى تهدئة أو هدنة أو إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع من أجل تحقيق مساعيه الأيديولوجية من الحرب.
لا تخلو قرارات الحرب الحالية من عوامل مؤثرة فيها، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
-
اتساع الجبهات القتالية، فقد صرح غادي أيزنكوت، عضو مراقب في مجلس الحرب، بأنه حال دون فتح جبهة عسكرية شاملة مع حزب الله، وهو ما كان سيمثل خطأ استراتيجياً، ومن الواضح أن عدم الذهاب إلى جبهة شاملة في الشمال كان نتيجة الأعطاب التي ظهرت في جهوزية الجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، وعلى ما يبدو فإن التصريحات النارية ضد حزب الله من قادة سياسيين كان هدفها التخويف، لكنها لم تترجم إلى قرارات عسكرية، وخصوصاً مع بداية الحرب على غزة.
-
العامل الاجتماعي، ويتعلق بقدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمل خسائر الحرب من الناحية البشرية. فعلى الرغم من أن هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها وخصوصاً منذ عام 1982، فإن سياق السابع من أكتوبر جعل المجتمع أكثر استعداداً لتحمل الخسائر، لكن هذا لا يعني أن ذلك لا يؤثر على اتخاذ القرارات العسكرية، إذ إن الحرص على عدم سقوط الجنود في الحرب يُبقي التأييد الشعبي للحرب كبيراً، وهذا ما يفسر أن أحد أسباب التوحش الإسرائيلي في الحرب ضد المناطق المدنية هو محاولة منع سقوط أعداد كبيرة من الجنود. يضاف إلى العامل الاجتماعي موضوع الأسرى والرهائن الإسرائيليين الذي تحول إلى قضية اجتماعية، وهو عامل يؤثر في القرارات العسكرية، وبالتالي أدى إلى التوصل إلى الهدنة الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وشكل عامل ضغط على الحكومة فيما يتعلق بتطورات العمليات العسكرية.
-
العامل الاقتصادي، إن للعامل الاقتصادي دوراً مؤثراً في الحرب، وخصوصاً أن إسرائيل استدعت حوالي 300 ألف جندي احتياط، وهو العدد الأكبر منذ أكتوبر 1973. وهؤلاء الجنود هم عمال، وموظفون، وأصحاب مصالح تجارية، وتجنيدهم لوقت طويل في الحرب يمسهم شخصياً على المستوى الاقتصادي، ويُعطل عجلة الحركة التجارية والاقتصادية في إسرائيل، لذلك فإن تسريح جزء كبير منهم مع بداية شهر كانون الأول/ديسمبر كان دافعه العامل الاقتصادي الشخصي والعام، ومحاولة لتخفيف حالة الطوارئ في المجتمع في حرب طويلة. ففي حساب أولي أجرته وزارة المالية لفحص تكاليف الحرب على خزينة الدولة، قدرت الوزارة أن تصل تكاليف الحرب إلى 200 مليار شيقل (ما يعادل 55 مليار دولار)، وهذا التقدير لا يأخذ بعين الاعتبار احتمال اندلاع حرب على الجبهة الشمالية، وتشكل هذه التكاليف ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإسرائيلي.[4] ومن أجل المقارنة، فإن التكاليف النهائية لحرب لبنان الثانية (2006)، التي استمرت 34 يوماً، وصلت إلى 9.5 مليار شيقل، وتكاليف الحرب على غزة 2014، التي استمرت 50 يوماً، وصلت إلى حوالي 7 مليار شيقل،[5] في حين تكلف الحرب الحالية 10 مليارات شيقل كل أسبوع.
-
العامل الدولي، والذي له دور مؤثر في القرارات العسكرية في الحرب، وبناء عليه تشغّل إسرائيل جيشاً من الدعائيين الرسميين وغير الرسميين لتسويق سرديتها للحرب. وتعتبر إسرائيل أن العامل الدولي الذي يعطي عملياتها العسكرية شرعية هو عامل مهم من أجل إطالة الحرب واستمرارها، وهو يؤثر في قراراتها العسكرية. وقد أثر العامل الدولي في دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، على الرغم من القرار الإسرائيلي بمنع دخول الدواء والماء والغذاء إلى القطاع في بداية الحرب، وإعلان نتنياهو مؤخراً أنه لا يهدف إلى تهجير سكان قطاع غزة، أو التنصل من بعض تصريحات وزرائه بسبب قرار محكمة العدل الدولية، على الرغم من أن هدف التهجير كان غير معلن كما ذكرنا آنفاً.
خلاصة
على الرغم من أن عملية إعلان الحرب واتخاذ القرارات السياسية في الشأن العسكري قد مرت بعملية قوننة دستورية من خلال قانون أساس الحكومة، فإن على أرض الواقع تخضع هذه المسارات لعوامل عديدة تؤثر فيها، مثل العوامل الاجتماعية، والدولية، والاقتصادية، والشخصية. فإعلان الحرب وإدارتها ليسا عبارة عن عملية جامدة، وإنما تقوم الفواعل السياسية البشرية بالدور الأساسي فيها، ولا سيما رئيس الحكومة القادر على تمرير ما يريده في الأطر الرسمية المتعددة، بحيث تتحول المنظومة القانونية الرسمية إلى حالة رمزية فقط. ويتعلق الأمر بقوة رئيس الحكومة، وشعبيته، واستقرار حكومته، والسجل العسكري الذي يملكه، وطبيعة السياسيين حوله. علاوة على ذلك، تؤدي المؤسسة العسكرية والأمنية دوراً رئيسياً في قرار إعلان الحرب، وإقرار العمليات العسكرية وأنماطها بين خيارات متعددة، فهي التي تقدم التقديرات العسكرية للحكومة من حيث المعلومات والقدرات والجهوزية، الأمر الذي يؤثر في قرارات الحكومة، التي تنسج قراراتها في معظم الأحيان مع مطالب المؤسسة العسكرية.
[1] عميحاي كوهن وآخرون، "حرب السيوف الحديدية، كل ما يجب معرفته عن اعلان حرب في إسرائيل. معهد دراسات الأمن القومي"، 9/10/2023 (بالعبرية)، انظر الرابط.
[2] عميحاي كوهن وليرون ليبمان، "تنظيم القرار على تنفيذ عمليات عسكرية، القدس: المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، 2019، ص 11-12 (بالعبرية).
[3] مكتب رئيس الحكومة، اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي (بالعبرية)، انظر الرابط.
[4] أدريان بيلوت، "تقييم أولي لوزارة المالية، تكاليف الحرب قد تصل إلى 200 مليار شيقل"، "كالكاليست"، 5/11/2023 (بالعبرية)، انظر الرابط.
[5] كارنيت بلوغ ويعقوب فرنكل، "حرب على البيت، هنالك حاجة لتعزيز الأرضية الاقتصادية للمناعة الوطنية"، المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، 31/10/2023 (بالعبرية)، انظر الرابط.